الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقل الفقهي وتنصيص الواقع

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2014 / 5 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ليس صحيحاً أن العقل الفقهي عقلاً تنظيرياً تجريدياً. في الحقيقة هو موغل في المحسوسية الواقعية إلى درجة لا تصدق. ما يجعله يبدو ظاهرياً مشتغلاً بفقه وتفسير وتأويل النص النظري أكثر من استقراء وتحليل وإعادة بناء الواقع الوضعي هو إيمانه بالعجز المدقع إزاء الواقع. هذا الشعور اليقيني بعجز العقل البشري، ومنه العقل الفقهي بالتأكيد، هو بالضبط ما يجعل الأخير ينكص إلى عالم التنصيص، حيث يستطيع بسهولة أكبر استقراء وتحليل وإعادة بناء الواقع الوضعي باستعمال نصوص ومفاهيم ونظريات طيعة ولينة بمعزل عن حقائق الواقع المجهدة والصلبة. العقل الفقهي، في قول آخر، هو عقل قد انهزم في المواجهة مع الواقع الوضعي المحسوس لكنه مع ذلك لا زال يعتقد في قدرته على سحق هذا الواقع- ليس على أراضي الواقع لكن فوق متون النصوص.

لماذا يهرب العقل الفقهي من مجابهة حقائق الواقع ويفضل بدلاً أن يحتمي وراء كلمات النصوص؟

أولاً، ثمة فرق هائل بين التعامل مع الحقائق الواقعية المحسوسة وكلمات النصوص النظرية. هذا الفرق الشاسع يتضح، مثلاً، من مقارنة بسيطة بين الجهد اللازم لبناء بيت بالمسلح الحقيقي والمحسوس من غرفتين وصالة وتشطيبه وفرشه على أرض الواقع، والجهد اللازم لبناء قصر مشيد من لبنات كلامية فوق متون النصوص النظرية. فضلاً عن سهولة البناء المطلقة في العالم الافتراضي مقارنة بالآخر الواقعي، لا يواجه العقل الفقهي أيضاً صعوبة تذكر في تكييف وإعادة بناء أبنية عالمه النصي الافتراضي عبر شرح وتفسير وتأويل النص في ضوء إشكاليات واقعية مستحدثة لا مهرب منها.

ثانياً، العقل الفقهي لم ينهزم في المواجهة مع الواقع المادي فقط؛ لكنه، وهو الأخطر، قد سلم تسليماً تاماً دون شرط أو قيد بالهزيمة. هذا الإيمان الانهزامي تحديداً قد حول العقل الفقهي إلى عبد، لا ند أو سيد، للواقع المادي نفسه الذي قد سلم عقله وجسده له. من ناحية أخرى، هذا الواقع الذي قد انهزم العقل الفقهي أمامه وسلم بعبوديته التامة له ليس كأي واقع، أو هكذا على الأقل يحاول أن يصوره العقل الفقهي المنهزم لنفسه ولجمهوره. ففي نفس وقت الإقرار بالهزيمة والتسليم أمام واقع معين، والقبول بالطاعة والعبودية التامة لهذا الواقع، يعمل العقل الفقهي فوراً على إضفاء قداسة أو شرعية من نوع أو آخر على الواقع المنتصر كنوع من التعويض والتبرير اللاشعوري لمرارة الهزيمة والعبودية.

وحيث أن الكلمات والنصوص هي في النهاية رموز تمثيلية ومفهومية دقيقة أو محرفة لوقائع فعلية ومحسوسة محددة، عندما يشتغل العقل الفقهي بالكلمات والنصوص هو بالضرورة يضع صوب عينه واقعاً معيناً سواء في صورة صحيحة أو مشوهة- بالتحديد الواقع الذي قد انهزم وسلم له بالعبودية. لكنه الآن، عبر النصوص والكلمات، يحاول الثأر لهزيمته. تكون النتيجة نظرية مسخ غير قابلة للتطبيق لعالم مضى وانتهي ولم يبقى له وجود في الواقع. هكذا يصبح عمل الفقيه مثل ملاكمة في الهواء بعدما حسمت هزيمته وانصرف الخصم والحكم والجمهور وأطفأت الأنوار.

في مثال توضيحي، كان ثمة واقع حقيقي جديد ملموس قد بدأ يتأسس في عهد النبوة وصدر الإسلام، وكاد يخلو من أي نصوص أو تنصيص سوى ما ندر جداً لضمان الاتصال والوحدة بين مكوناته. في ذلك العالم الوضعي الحقيقي البكر، ما كان القرآن قد نصص في الكتاب الكريم وما كانت الأحاديث والسنن قد دونت في متون الصحاح الشريفة بعد. هذا التنصيص هو وظيفة الفقهاء، الذين سوف يشرعون في تأديتها بكل تفاني وإخلاص لكن بعد الإقرار بهزيمتهم والتسليم بعبوديتهم لهذا الواقع النبوي الفعلي الجديد، وتمويهيه بما يكفي من القداسة والشرعية لتعويض وتبرير هزيمتهم وعبوديتهم له. النبي محمد هو فقط مؤسس لواقع جديد، بينما الفقهاء المسلمين فيما بعد هم الذين قد أسسوا ’التنصيص‘ النظري الافتراضي لنفس هذا الواقع الفعلي المحسوس. في قول آخر مفجع، النبي محمد لم يؤسس سوى واقع سياسي/اجتماعي جديد على الأرض بينما العقل الفقهي الإسلامي هو الذي قد تكفل بتأسيس التراث النظري الافتراضي من القرآن والحديث والسنة والمذاهب الفقهية...الخ، في محاولة فاشلة لإعادة إنتاج نفس الواقع النبوي بعدما سلموا بقدسيته وعبوديتهم له.

في هذا السياق، لا يكون النبي محمد أكثر من رمز مجسد لواقع فعلي كان هو نفسه رائده وزعيمه المؤسس. وبما أنه كان يعيش ويؤسس واقعاً جديداً بالفعل في مواجهة شجاعة وخلاقة، فإنه لم يجد الوقت ولا الحاجة للتنظير أو البناء في العالم الافتراضي. هذا بالضبط هو ما قد تكفل به العقل الفقهي فيما بعد، بعد مئات السنين من وفاة النبي نفسه. في الحقيقة، دولة الإسلام الواقعية الأولى قد تأسست من غبار الغزوات والمعارك الطاحنة ولم تؤسس من أي كتب أو سنن، ولا حتى من القرآن ذاته. في الواقع، الدولة الإسلامية الأولى قد سبقت القرآن وسبقت الأحاديث النبوية وسبقت المذاهب الفقهية، وبمئات السنين أحياناً. لكن فيما بعد- بعد نشأة العقل الفقهي- سوف تصبح وسائل تنظيرية مثل القرآن والحديث والسنة ضرورية لإعادة بناء دولة إسلامية افتراضية من لبنات الكلمات والنصوص النظرية- داخل جمجمة الفقيه وليس على أرض الواقع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 1 - 17:03 )
يقول الكاتب : (الدولة الإسلامية الأولى قد سبقت القرآن وسبقت الأحاديث النبوية) .
أقول : أعطني دليلك على ما تقوله؟... نريد دليل و ليس كلام مرسل , و بعد أن تأتي بالدليل , سنناقشك فيه , فهل عند الكاتب شجاعه ليأتي بالدليل؟... لننتظر .


2 - الدليل
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي ( 2014 / 5 / 1 - 18:36 )
عزيزي عبد الله خلف،
اذكر وعلل: متى جمع القرآن في كتاب مصحف واحد وصنف في آيات وسور بآسماء محددة، ثم خضع للتشكيل والإعراب والتفسير بمعاني محددة، ومن هم الذين قد تولوا هذه المهام؟
متى دونت الأحاديث النبوية في متون الصحائح، ومن هم الذين تولوا هذه المهمة ثم ضبط إسنادها ومعانيها فيما بعد؟
متى وضعت المذاهب الفقهية الأربعة المالكية والشافعية والحنبلية والحنفية ومن هم الذين قد تعهدوا صيانتها وتطبيقها في الواقع، إلى اليوم الحاضر؟
في الإجابة تجد الدليل.
تقبل التحية،
عبد المجيد الشهاوي


3 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 1 - 23:09 )
أولاً : القرآن الكريم محفوظ , راجع :
1- شبهات حول ضياع القرآن :
http://antishubohat.wordpress.com/tag/شبهات-حول-ضياع-القرآن/
2- الرد على الشبهات المثارة حول القرآن الكريم :
https://antishubohat.wordpress.com/.الرد-على-الشبهات-.
3- الرد على شبهة , قد ذهب منه قرآن كثير :
https://antishubohat.wordpress.com/tag/قد-ذهب-منه-قرآن-كثير/
4- كشف أكاذيب قناة الحياة حول سند القرآن :
- الجزء الأول :
http://www.youtube.com/watch?v=45JDi7g0IaA
- الجزء الثاني :
http://www.youtube.com/watch?v=kfD1dkDaIuk
- الجزء الثالث :
http://www.youtube.com/watch?v=Sc3GSnnBZEM
و هنا :
حفظ كتاب الله (القرآن الكريم) من الزياده و النقصان , الفيديوهات :
https://www.youtube.com/watch?v=WkfboJpzIbI
https://www.youtube.com/watch?v=RKOVK4KZJ_o
https://www.youtube.com/watch?v=dDcVePinGMw
ثانياً : 1- الإسلام وثّق ما نُقل إليه , فأصبح المسلم يعيش ضامن أن ما وصله قد وصله سالِما من التحريف , راجع :
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=239274806276768&id=100007576123622¬if_t=like


4 - جهادهم وجهاد المفكرين
عدلي جندي ( 2014 / 5 / 1 - 23:25 )
عزيزي الاستاذ عبد المجيد انهم يجيدون جهاد السيف ولم يتمكنوا بعد من جهاد العقل ولذا لن يعاود خلف مراجعتك حيث انه من اتباع فقه التنصيص وحضرتك اثبت له ان دولة. الاسلام سابقة عن كتب وفقه الاسلام
انهم مجاهدون في سبيل فقه وزمن توقف عنده فكرهم ولم يتمكنوا بعد من ممارسة جهاد عرفته البشرية منذ زمن وتبلور سريعا بفضل الثورة الصناعية


5 - هربت
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي ( 2014 / 5 / 1 - 23:26 )
عزيزي عبد الله خلف،
قد فضلت الهرب ولم تجب على أي من الأسئلة أعلاه رغم كون الإجابات محددة زمنياً ومتاحة للكافة ببحث بسيط عبر جوجل.
تحياتي،
عبد المجيد الشهاوي


6 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 2 - 00:06 )
تابع الفيديوهات , ففيها ما يغنيك , و لكن , أنت لا تريد أن تسمع , و هذا هو هوى النفس .

اخر الافلام

.. غارة إسرائيلية تقتل 3 عناصر من -حزب الله- في جنوب لبنان


.. عملية -نور شمس-.. إسرائيل تعلن قتل 10 فلسطينيين




.. تباعد في المفاوضات.. مفاوضات «هدنة غزة» إلى «مصير مجهول»


.. رفح تترقب الاجتياح البري.. -أين المفر؟-




.. قصف الاحتلال منزلا في حي السلام شرق رفح