الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنطولوجيا القصيدة الشومانية

مهدي بندق

2014 / 5 / 1
الادب والفن




أنطولوجيا القصيدة الشومانية
قراءة في ديوان " اكتبوا تحت الضلام بكرة "

مهدي بندق

في القرن الرابع الهجري كتب قدامة بن جعفر يقول : الشعر هو الكلام الموزون المقفى الدال على معنى ، فظل هذا التعريف معتمَداً لدى الشعراء والنقاد طوال العصور التالية ، اللهم من بعض المماحكات اللفظية العابرة . والحق أن دعاة التجديد في عصرنا الحديث لم يرضهم هذا التحديد القاطع الباتر خاصة بعد ظهور الشعر الحر وشعر التفعيلة والقصيدة النثرية ، فكثرت التنظيرات الباحثة عن جوهر الشعر بعيداً عن تعريف قدامة ، أهمها أن النظم (ألفية بن مالك مثالا ) رغم احتوائه على معنى ليس بشعر لخلوه من الإحساس والشعور، كذلك لو أنك استغنيت عن الوزن والقافية لتعيد كتابة بيت عمرو بن كلثم الشهير هكذا ( تخر الجبارةُ ساجدين للرضيع منا إذا بلغ الفطام ) لظل سؤال الشعر مطروحا لا يزال .
لكنني أزعم أن أحداً لم يلتفت إلى " بنية " هذا التعريف ذاته وما تجر إليه من مشكلات فلسفية عويصة ، لأن هذه البنية توهم بأن إنتاج المعنى سببه وجود الوزن والقافية ، أقول " تُوهم " في حين أن الأمر ليس كذلك لانتفاء رابطة السببية بين الشكل والمضمون ، بيد أن الطرح اللغوي بهذا الأسلوب لا ريب يؤكد وجود رابطة ما بينهما ، فما هي تلك الرابطة ؟ أهي السير على التوازي ؟ أم الملاحقة الزمنية ؟ بالطبع سوف تأخذنا تلك الأسئلة إلى نظرية اللغة ، وربما تمضي إلى ما هو أبعد لتسبح في بحر فلسفة العقل . من أين يأتي المعنى ؟ هل تنتجه الخلايا العصبية المتصلة بالمخ كما يرى الماديون ؟ أم أن المعنى منتَجٌ أصيلٌ للعقل الذي تفصل ما بينه وبين المخ فجوةٌ كما قد يقول ديكارت ؟ وفي هذه الحالة الأخيرة كيف يمكن تفسير الفجوة ما لم نسلم بثنائية لا دليلاً إمبريقياً عليها ؟
للإجابة عن كل هاتيك الأسئلة لا مندوحة من اللجوء إلى الانطولوجيا Ontology بوصفها علم الموجود من حيث هو موجود كما يحددها أرسطو ، أو هي الأمور العامة بتعريفات الجرجاني حيث تحيط بكل موجود لا بصفته فرداً في جماعة بل بصفته كائناً في الكون ، وليس المهم هنا تجنب الفكرة الثنائية بحجة عدم وجود دليل مادي عليه ، ما دامت هذه الفكرة ( الثنائية ) موجودة في توجهات العقل .
ومع ذلك فلقد تسعفنا الفيزياء الحديثة التي تؤكد أن للضوء طبيعيتين : طبيعة جسمية وطبيعة موجية . ومن جانبه فإن هيدجر يفرق بين " الأنطولوجي " 0ntologic الذي هو أولاني مؤسس ، وبين " الأونطي " Onitic أي الوجود الزائف ( نسميه بالعامية أوَنْطَة ) وليكن ذلك هو مدخلنا لقراءة شعر مسعود شومان .
حين تقع عيناك على شخص خليع بذئ المظهر والسلوك غالبا ما تسأل نفسك : هل هذا رجل ؟ لكنك لا تسأل أبدا نفسك هذا السؤال حين ترى شخصاً كريم الخلق شجاعاً شهماً ، لأنك تكون للتو قد سجلته في وعيك رجلاً كامل الرجولة . كذلك حين تجابه بما يشبه الشعر وإن خلا من كينونته الأنطولوجية، مثلا :
أتته الخلافةُ منقادةً
إليه تجرجر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
هنا سوف تسأل مستنكراً : أهذا شعر؟ وستجد نفسك مجيباً : بالقطع لا ، بل هو نفاق صريح .
وبالمقابل فإنك سوف تسلّم من الوهلة الأولى بأن ما يقدمه إليك مسعود شومان إنما هو شعر مؤكد لما سوف يحدثه بك من آثار " شعورية " مروعة. ولعلك سوف تنسى تعريف قدامة بن جعفر وغيره من النقاد الذين صنعوا سريراً سابق التجهيز يرقدون فيه القصائد ، فما كان مطابقاً أقروه ، وما طال عن السرير حزوا له رأسه أو بتروا قدميه ، وأما ما رأوه أقصر مطّوه ليطابق سريرهم ! لكن مسعوداً يصنع لنفسه سريراً خاصاً به وحده ، يمكن أن نسميه سرير " القصيدة الشومانية " والحق أنه ليس سريراً جُهِّز للنوم ، بل للحكم على عالم ينهار . وأنا أعني هنا بكلمة الحكم Judgment وليس Rule فسريره ليس سرير الحكم والتسلط ، بل منصة القضاء العادل الذي يحكم على الزيف بأنه زيف ، وعلى الباطل بالبطلان ، والحق أن هذه المنصة لا توجد في محكمة فيها مقاعد وقفص اتهام وممثلو إدعاء وشهود ، لا شئ من هذا ملحق بمحكمته وإنما الشعر وحده . الشعر هو الإدعاء والشهود والقاضي ، وجميع هؤلاء يتبعون خطوات الشاعر وهو يعبر من ميدان التحرير إلى محمد محمود إلى ماسبيرو إلى المشرحة وغرف العمليات ، حيث الشهداء والجرحى ، وحيث يهرب من المشهد حتى صمويل بيكيت فاقداً أمله في مجئ " جودو " في لحظة هي أكبر من خيال مريض ، لتحل محل جودو " دودة شايلة جبل ، وشجر بيجره ديل تعبان ، وولد في الميدان بطنه مشقوقة بسيف الجهل والبهتان "
هكذا ينتقل الشاعر في ديوانه القصيدة من أقصى آفاق الأمل إلى أقصى حدود اليأس ، وخلال رحلته تلك يدفع بالأسئلة الوجودية تخترق اللحم والعظم . لنقرأ معه هذا المقطع :
طب انت طير ولا جمل ولا غيط برسيم
شجرة عفية ولا ميه ولا روح بتهيم
طال السؤال بس الإجابة نصها في الغيم
مطر مطر والورد لسه بعافية
والأصل في الدنيا البكا والحزن
وبقدر ما تتجاوز الأسئلة الإجابات ( القابع نصفها في الغيوم ) بقدر ما تتجاوز القصيدة الشومانيةُ الشكلَ التقليدي للشعر قديمه وحديثه . فهي لا تكتب على مكتب أو منضدة ، وإنما تُكتب والشاعر يخب في الشوارع ، تُكتب وهو صاح ونائم ، وهو يواجه الموت في كل لحظة تطارده الحياة ولا يطاردها . وفيم العيش والأصدقاء قد رحلوا ، والصحاب قد خفروا عهودهم
" ياللي اشتريتوا الخيبة م الدكان / أنا زيكو مَليت بها عِبي / على إيه أراهن والصحاب خانوا ؟ "
كيف خان الصحاب العهود ؟ ذلك حدث لأن
" الحدادي استعمرت كل الشجر / والورق أصبح وشاية "
لقد رأى الشاعر رؤيا العين أن الثورة التي كانت على مرمى حجر ، لم تؤت ثمارها قط ؟ كيف ؟ لأنها
" طلعت زهور بيضا وبجرحها عارفة
داسوها بلا رأفة "
السؤال نثري والإجابة شعرية لا يعكر عليها تحليل سياسي فظ . قد يقول البعض إنه لا مجال هنا لسؤال الشاعر من هؤلاء الذين داسوا الثورة بلا رحمة ؟ فذلك أمر متروك لمفكري علم الاجتماع السياسي ، لا سيما أصحاب نظرية التفسير المادي التاريخي الذين سيعيدون المسألة برمتها إلى جمود التطور الإنتاجي " النمط الآسيوي للإنتاج " وتأثيره على صقل الواقع الطبقي في مصر .
نعم لندع هذا التفسير وغيره لدارسيه ، ولكن لابد للشعر أن يكون واحداً من الأدلاء الذين يكشفون لأولئك الدارسين عن علامات الأميال الشعورية . ومن جانب آخر لابد للشعر نفسه أن يتسلح بأدوات البحث التاريخي ليعيد تمثيل رؤيته بأدواته هو الخاصة ؟ فالعلاقة بين اللونين علاقة تضايف Correlation مثل علاقة الوالدية بالبنوة . ولو أنه فعل – وظني أنه سيفعل – لأخرج الفعل من أرض القول حقيقةً لا غش فيها ، ولصح قوله في نهاية القصيدة الشومانية :
شيلوا التراب من ع الوشوش
واكتبوا تحت الضلام بكرة
الخوف صبح ذكرى
والقهر شايل عفشه ومروّح
ذلك ما يتعلق بالاتصال المفترض بين الشعر والوقائع الاجتماعية ، وهو اتصال قد يحدث وقد لا يحدث ، لكن الجوهري في الأمر هو المعطى المعبر عن الوعي Consciousness الأنطولوجي للشاعر نفسه ، فإذا كان يونج محقاً حين نحت – بخلاف فرويد - تعبير اللاوعي الجمعي Collective unconscious ليربط ما بين الفرد والجماعة ، فإن تعبير الوعي الجمعي لا غرو أن يكون خطأً واضحاً ، فاللا وعي يقصد به الميمات الثقافية ( الميمات وليس الجينات ) التي يمكن اعتبارها جزء من الموروث الثقافي شرط نشأة الفرد في نفس البيئة المجتمعية ، بينما " الوعي " غير قابل للتوريث بحال من الأحوال بما هو عليه من ذاتية وشخصانية . ويترتب على ذلك أن يكون الشاعر معنيا ً بوجوده الشخصي جنباً إلى جنب وجوده الاجتماعي ، وهو ما نلحظه بكل وضوح في التكوينات الشعورية ، من حزن لا يضاهى ، ومن آلام لا تحتمل ، ومن غضب لا يُرد له موجٌ في بحا النفس الشاعرة . فلتكن الثورة مطلباً لا غناء عنه ، ولكن ماذا عن النفس ذاتها ؟ ماذا لو أن الثورة لم تحقق أغراضها ؟ أليس في الشعر ذاته ما يمكن أن يكون إشارة إلى تحقق الشاعر ؟ ذلك بالضبط ما فعله مسعود شومان في هذا الديوان القصيدة . وهو في تقديري مكسب للشعر ، ومفتتح لحياة أكثر عمقاً وثراءً على مستوى الفرد الإنساني .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني