الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استذكارات ... كراج النهضة ح3

سعدي عباس العبد

2014 / 5 / 2
الادب والفن


** كراج النهضة ح3

استذكارات : مشهد للشاعر : محمد راضي فرج في صوّرة بعيدة

_____________________________________

** كراج النهضة في ذلك الليل البعيد من عام 1980 .. كان روح .. روح تنمو في
مساحة مشغولة .. مساحة من ارواح الجنود .. الجنود المتأهبين لصناعة تاريخ الطاغية
وتاريخهم المشحون بالامحاء
الجنود اللذين كانوا على أهبّة الوجع .. يغادرون الآن .. يغادرون , ابواب الماضي التي اغلقت وراءهم
كان صوت الآذان يتصاعد في ليل الكراج .. صوت محمول على تاريخ طويل من الشجن
صوت تحفر نبراته في الروح . تاريخ طويل من الخوف والحرمان ..كان الصوت يتدفق من
مسجد .. , ما . على مقربة من كراج النهضة .. ظل ذلك الصوت يتردد في فضاء الكراج لسنوات طويلة ,
في فضاء الروح ..ظل الآذان يتسع ويتناسل ويغدو روحا تنمو في اللامكان .. كنت اسمعه يتردّد
هناك في تموجات شجية وهو يمخر عباب الليل .. ليل الملاجىء والقذائف
كان الجنود يتبارون في جري محموم صوب الحافلات الشحيحة
يتبارون في مجرى من الزحام والزمان .. كانوا جنودا او بشرا فائضين عن الحياة .. فائضين عن حاجات
البلاد .. كان صوت الآذان هو الاخر يجري ناحية الوقت الذي يعقب ذلك الهزيع الاخير من الليل ..
صوت الآذان يختلط في التحام حميم مع اصوات باعة السجاير ولفات البيض والفلافل والكرزات
والمناديل ومنبّهات الحافلات .. كانت الحافلة الصاعدة لاحدى محافظات الجنوب ..او القاطع الجنوبي
حيث عبادان هناك تنتظر محمد راضي فرج الجندي الاوّل سائق الدبابة .. كان سائق الحافلة يهتف
بصوت عال يعلن عن حاجته لنفر واحد .. .. كانت الوقت ملبّد بالهواجس والقسوة
وطلائع الفجر على وشك الحلول .. والجنود غابة من عظام ..غابة تجري ناحية الحطاب او
الحافلات لا فرق .. فكلاهما يؤدي إلى اجتثاث الجذور .. جذور الحياة والاحلام .. كان محمد متردّدا
في الصعود او الركوب داخل الحافلة المتوجه للقاطع الجنوبي او عبادان حيث وحدته او كتيبة الدبابات
المنتسب اليها ..كانت الحافلة جاثمة كتابوت عملاق .. ومن شق في التابوت الرمزي او المستعار
من الزمن .. زمن الغياب الذي ينتظر محمد هناك .. كان اّيلسائق يطل برأسه المتلفع كوفية ذات
نقط حمر.. وهو يتدفق بالمنادات : نفر واحد ... نفر واحد .. واحد . واحد . واحد .. كان السائق ادات قدرّية
محايدة ..او همزة وصل بين مقبرتين مختلفتين في الملامح والمكان , غير انهما يؤديان لذات الجادة
جادة اللاعود .. مكّثنا ننتظر مقتعدين إحدى مصاطب الكراج الاسمنتية .. كان صاحبي يتطلع ناحية الحافلة
او التابوت الذي سيقله في زمن لاحق نحو الجبهة الابدية التي تخلو من كلّ شيء , عدا الصمت .. حيث
سيتحلّل في الصمت ..يتحلّل مع احلامه , ومع ذلك الطفل الذي كانه ذات وقت ما . وقت شديد
الدهشة والبراءة النسبية ..يتحلّل مع قصائدهِ في الديوان الشعري الوحيد واليتيم .. الديوان
الذي عجز عن حمل جثة صاحبي .. الذي عجز عن حمل ذكراه لزمن اطول .. حيث اثر الرحيل
والتحلّل مع منتجه ..وقبل انّ تغادر الحافلة بغابة العظام حيث سيتم التحطيب هناك ..تصاعدت
..من داخل التابوت او الحافلة ومن الركن الذي يقتعده السائق . او ناقل الموتى المؤجلين او المجمّدين في
علب الزمان .. علب من الاحلام والمشاريع , .. علب سيمرّ عليها الزمان في خطواته المتلاحقة
وسوف يترك آثاره الصدىء , تنمو على رفوف من العظام ..رفوف لم تزل معلّقة على جدار القدرّ
القدر ضيف ثقيل الوقع والخوف , لاسيما عندما يلمّح عن حضوره .. قدوّمه للغابة ..
غابة العظام .. او الحطب او وقود مواقد عبادان ..تصاعدت : هي يا سعد ياجدنا ..والتي حورها العقل
الشعبي فيما بعد الى انشودة ساخره تتهكم بالقائد الضرورة .. غادرت الحافلة وبقي الكراج شاخصا
قائما بذاته .. غني عن كلّ الموجودات .. ينشر اشرعته الخافقه في رياح ذلك الفجر .. الفجر الذي بات
محض ذكرى بعيدة ..وبقي محمد مقتعدا المصطبة .. بقي جالسا لسنوات طوال دون حراك . كأثر من اثار
المكان .. كجزء حميم من علامات الكراج .. بقي علامة غير منظورة ..بقي محنّطا في ملامح السنين
.. ماثلا في ذاكرة النسيان .. تلاشى صوت المؤذن وظلت تتردد في فضاء الكراج اصداء ..: هي ياسعد
ياجدنا .. كانت الانشودة تستغيث حيث لا مغيث .. في الحقيقة كانت الارواح او مشاريع الموت المؤجلة .
هي من
تستغيث فلا تغاث .. تستغيث من الحطاب الضرورة .. مرّ على مقربة منا جندي ثمل . وهو يصدح
بانشودة هي الاخرى ثملة !! شاطرنا المصطبة كانت رائحة العرق تضوع من كامل بدنه .. اخرج من
حقيبته بطل عرق ودس فم الزجاجة في فمّه وكرع جرعة طويلة ..عقبها حدث انفجار الزلزال .. فجعل
الجندي يطلق بالونات من الشتائم , بالونات معبأة بالسخط والتذمر ..كانت شتائم مثخنّة بالثمالة .
فكانت تخرج متمدّدة متباطئة فاترة في الهواء البارد .. لم يدم الامر طويلا , فسرعان ما فرش الجندي
السكران بدنه على الارض غارقا في مجرى من الغياب ..تناول محمد الزجاجة او البطل الذي تركه الجندي

فوق المصطبة عند الطرف البعيد وراح يرتشف من رأس البطل على مهل ,, فيما كان الجندي يغط في
نوم ثمل ثقيل ..نوم تمهيدي لنومهِ الاخير القادم في الطريق ... كان وهو فارش بدنه على الارض. كما لو انه
يتدرّب على نومتهِ الاخير التي ستحدث هناك .. نوم مابعده نوم ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا