الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضع ملاحظات على أسلوب الالتفات في القرآن

محمد علي عبد الجليل

2014 / 5 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كانَ العربُ الأميون (الوثنيون الذين لا كِتابَ "مقدَّساً" لهم) يشعرون بعقدةِ نقصٍ من تعيير اليهود والنصارى لهم بأنَّ الوثنيين لا كتابَ لهم ولا رسول. وكان هذا نوعاً من الطعن بهُوية العرب الوثنيين. وعندما جاء مِنهم مَنْ يضعُ لهم كِتاباً يُــعَــبِّر عن هُويتهم الدينية ويشبه صرخةَ وجود ("هوَ الذي بعثَ في الأُميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِه ويزكِّيهم ويُعلِّمهم الكِتابَ والحكمة" [سورة الجمعة، 2])، لم يكادوا يُصدِّقون هذا الإنجازَ الذي أعطاهم نوعاً من الثقة بالنفس فــ"التفتوا" إلى القرآن يقدِّسونه ويعضُّون عليه بالنواجذ ويدافِعون عنه بما أوتوا من قوة مادية وفكرية. ولكنْ عندما جمعَ المؤلِّفون القرآنَ من كلِّ وادٍ هراوةً لم يُرَكِّزوا على التفاصيل فيه، إذْ كان همُّهم هو بناء سقفٍ فكري يحمي رؤوسَهم من سِهام المستهزئين وسخريتهم، فخرجَ كِتابٌ مليءٌ بالتناقضات والأخطاء ولكنه لبَّى على العموم حاجتَهم الاجتماعية والسياسية آنذاك.

و"التفَتَ" نحويو المسلمين ومفسِّروهم فيما بعدُ إلى اختراع أساليبَ تأخذُ مظهرَ العلوم لتبرير عيوب اللغة القرآنية، ومِن هذه الأساليبِ ما يسمَّى بــ"الالتفات" أو "تحويل الخِطاب" أو "العدول" أو "الرجوع". وعرَّفوه بأنه "الانتقال من الغيبة [صيغة الغائب] إلى الخِطاب [صيغة المخاطَب] أو من الخِطاب إلى الغيبة".

حتى ولو سلَّمنا جدلاً بأنَّ "الالتفات" هو من أساليب الكلام في العربية، فإنَّ هناك عدةَ نقاط حول هذا الأسلوب ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- لماذا لا نجد "الالتفات" إلَّا في القرآن، حتى إنه يُـــعَــــدُّ مبحثاً قرآنياً وأسلوباً خاصاً بلغة القرآن؟ وإنْ وُجِدَت أمثلةٌ عليه من شِعر ما قبل الإسلام فهي نادرة جداً؛ بمعنى أنَّ هذا الاستخدامَ لم يكنْ أسلوباً بقدر ما كان استثناءً على القاعدة. وبالتالي فإنَّ إكثار الكاتب من الاستثناءات ليس بلاغةً بل ضعفٌ. وربما كان يُــنظَــر إلى "الالتفات"، إنْ وُجِدَ، مثلما كان يُــنظَر إلى "الإقواء" في الشعر من ناحية قلة تكراره في لغة العرب واستثنائيته ومن ناحية اعتباره عيباً؛ حيثُ كان "الإقواء" يُـعتبَر عيباً من عيوب القافية (أيْ: نشاز وخلل في الجرس). كذلك فإنَّ "الالتفات" يُــعَـــــدُّ خللاً في العائدية (مرجعية الضمائر)، إلَّا في حالات نادرة. ويحاولُ بعضُ النحاةِ أنْ يجِدوا أمثلةً في شعرِ ما قبلَ الإسلام فيستشهدونَ مثلاً بقول النابغة الذبياني: "-يا دارَ مَــيَّةَ بالعلياءِ فالسَّنَدِ / أقوَتْ وطالَ عليها سالفُ الأمَدِ." والشاهدُ هنا هو أنَّ الشاعر انتقلَ من المخاطب ("يا دارَ مَــيَّةَ" [أنتِ]) إلى الغائب ("أقوتْ [هي]). ونسيَ هؤلاءِ النُّحاةُ المبرِّرون أنَّ مِثلَ هذا الأسلوب كان نادراً أولاً وكان يَلجأ إليه الشاعرُ لضرورة الوزن ثانياً، إذْ لا يمكنُ للشاعر موسيقياً أنْ يقولَ: "أقويتِ وطالَ عليكِ سالفُ الأمدِ". بينما لا يوجد في القرآن كنص منثور ضروراتٌ تُـــلزِم واضِعَه على الانتقال بين الضمائر خبطَ عشواء كيفما اتَّفق.

2- إنَّ تعريف "الالتفات" أساساً هو "انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة ومن المخاطبة إلى الإخبار" (المعجم المفصل في علوم البلاغة، إنعام عكاوي، مراجعة أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1992، ص 208) (أيْ: "العدول عن الغيبة الى الخطاب أو العكس"). مثال: قولُ عبد يغوث بن وقاص الحارثي: "-وتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَـبْـــشَــمِــيّةٌ / كَأنْ لَمْ تَرَيْ قَــبْــلي أسِيراً يَمانِيا". فانتقل الشاعرُ من الإخبار ("لم تضحكْ [هي]") إلى المخاطبة ("لم ترَيْ [أنتِ]"). وبالتالي فإنَّ الآيات التي تنتقل من المتكلم الجمع [نحن] إلى المتكلم المفرد [أنا] هي عيب بلاغي وليست "التفاتاً"، وخاصةً إذا تكرَّر كثيراً في الخطاب. وهذا العيب مستخدَم في القرآن. مثال: "وإذْ بَـــوَّأْنا لإبراهيمَ مَكانَ البيتِ أنْ لا تُــشْرِكْ بِي شيئاً وطهِّـــرْ بيتيَ" (الحج، 26)، حيث انتقلَ القرآنُ من المتكلم الجمع ("بوَّأْنا") إلى المتكلم المفرد ("بي"، "بيتي"). وهذه الآية تُشبِه الجملةَ: "أسكَــنَّــا [نحن] إبراهيمَ [هو] البيتَ أنْ نظِّفْ [أنتَ] بيتي [أنا]". هذا ليس التفاتاً، بل خلطٌ وفوضى. ينبغي أنْ تكونَ الجملة السليمة هكذا: "أسكَــنْـتُ إبراهيمَ البيتَ وقلتُ له: "نظِّفْ بيتي"." كما يُــعَـــدُّ، بناءً على تعريف "الالتفات" (الانتقال من الغائب إلى المخاطَب)، مِنَ العيبِ الانتقالُ من الغائب ("خَلَقَ ... وأَنزلَ") إلى المتكلم ("فأَنبَتْنا") ثم إلى الغائب ("أإلهٌ مع اللهِ") في الآية التي أشار إليها الأخ سامي الذيب: "أَمَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ وأَنزلَ لكم مِنَ السَّماءِ ماءً فأَنْـــبَـــتْــــنا به حدائقَ ذاتَ بهْجةٍ ما كانَ لكم أنْ تُــنْبِتوا شَجرَها أئِلَهٌ مع اللهِ بل همْ قومٌ يَعْدِلُون" (سورة النمل 60). والمشكلة في التكرار الممل لهذا الأسلوب في القرآن. ولكنَّ المفسرين والنحاة أدرجوا ضمن الالتفات كلَّ انتقالٍ من ضمير إلى ضمير.

3- خَـــلْــطُ المتقدمين أسلوبَ "الالتفات" بأسلوب "الاعتراض" يوحي بأنَّ المفهومَ غير واضح لهم وقد تشكَّلَ فيما بعدُ لتبرير عيوب القرآن. فقد خلَطَ أبو هلال العسكري (ت 395 هـ) بين الأسلوبَينِ فسمَّى الاعتراضَ التفاتاً في تعليقه على بيت حسان بن ثابت:
"-إنَّ التي ناوَلْـــتُــــها فرَدَدْتُـــــها قُـــتِــــلَـــتْ. / – قُـــتِـــلْـــتَ - فهاتِها لَمْ تُـــقْــــتَــــلِ."
فاعتبرَ الجملةَ المعترِضة "– قُـــتِـــلْـــتَ –" التفاتاً.

4- من المتَّفَقِ عليه أنَّ القرآنَ جُمِعَ من عدة نصوص مكتوبة على أدوات بدائية متفرقة: مثل العُسُب (جريد النخل) واللخاف (الحجارة الرقيقة) والرقاع (الأوراق) وقِطَع الأديم (الجلد وعظام الأكتاف والأضلاع). أيْ أنَّ القرآنَ، قبلَ جَمعِهِ، كُتِبَ منثوراً بين الرقاع والعظام ونحوها. مما يعني أنه جُمِعَ من عدة سياقات مختلفة متنافرة. مما أدَّى إلى وجود هذا الخلط بين الضمائر والذي اعتُبِرَ فيما بعدُ "التفاتاً" لا بل "إعجاز"، وذلك فقط لأنَّ النص يُــعتبَــر مقدَّساً. ولو أنَّ هذه الأساليبَ اللغويةَ المعيبةَ نفسَها وُجِدَتْ في كتابٍ غيرِ مقدَّس أو في كتابٍ مقدَّس آخر غير القرآن لهرعَ المسلمون إلى نقدِها والسخرية منها.

5- يبرِّر البعضُ "الالتفاتَ" بأنَّ العربَ تسأم من الاستمرار على منوال واحد، لأنَّ النفوس مجبولة على حب الانتقال والتغيير، فوضعوا أسلوبَ "الالتفات" لحماية السامع من الضجر والملل، فكيفَ نبرِّرُ إذاً التكرارَ المُمِلَّ جداً في القرآن بحيث أننا لو حذفنا المكرَّرَ منه لبقيَ ربعُه ربما؟ وعلى سبيل المثال، كيف نبرِّرُ تكرارَ آية "فبِأيِّ آلاء رَبِّكُما تُكَذِّبانِ" واحداً وثلاثين مرة في سورة الرحمن غير الطويلة (78 آية)؟ أيُـعقَــل أنْ يملَّ السامعُ العربيُّ المسلمُ مِن تكرارِ ضميرٍ مؤلَّف من حرف أو حرفين ولا يملُّ من تكرار آياتٍ كاملة بحرفيتها؟!

ومع تهافُتِ القرآن وإطنابِه وتكراراتِه وتناقضاتِه، ما زال المسلمون ينادون بأنَّ القرآن كِتابٌ لا يَــخْــلَـــقُ على كثرة الترديد، وقد خلَقوا أساليبَ ملتويةً ملتفَّةً كــ"الالتفات" للالتفاف على قول الحقيقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اخي محمد علي عبد الجليل
سامي الذيب ( 2014 / 5 / 2 - 21:30 )
تذكر المصادر أن الإلتفات ثلاثة انواع
الإلتفات في الضمائر (متكلم ومخاطب وغائب)
الإلتفات في صيغة الفعل (مضارع وماضي وأمر)
الإلتفات في العدد (مفرد ومثنى وجمع)

لماذا انت اقتصرت على التعريف التالي:
-الانتقال من الغيبة [صيغة الغائب] إلى الخِطاب [صيغة المخاطَب] أو من الخِطاب إلى الغيبة-.


2 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 2 - 22:29 )
شبهه قديمه , تم الرد عليها كثيراً , مثال , راجع :
- شبهة حول الإلتفات في القرآن :
http://www.burhanukum.com/article1878.html
- شبهة الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى :
http://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=462

اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س