الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية من ايار في الزمن الصعب

حسين طعمة

2014 / 5 / 6
الادب والفن


كان العامل سامي ,يأتي الى البار(1) كل ليلة بملابس العمل بعد قضاء عمله في الحي الصناعي ,ببدلته الزرقاء المحملة بالاتربة والدهون وهو يحتل اول طاولة في البار ,تلك التي تقع على الساتر الحديدي , المطل على الشارع الوطني ليحتسي ما تعود ان يحتسيه ,وهو ربع من الزحلاوي المفضل لديه .كان نهما وسريعا في احتساء كؤوسه ومن بعد يمضي سريعا الى العبارات التي تقله الى التنومة حيث منزله .تعودنا ان نرى مراسيم وطقوس مكابداته وضجره وحيرته وهو مشدودا ومقيدا ومستسلما الى ما تبقى في زجاجته التي يرفعها بين الحين والحين ليرى بقيتها الباقية .
في تلك الليلة التي تناساها الجميع انذاك ,وسط زحمة اللاجدوى والضياع,حين أفل النهار وأشتدت الظلمة وضاع الحلم وتبدى في سراب الخراب الجديد في العام 1979 ,كانت الليلة ,ليلة الاول من ايار ,حين دلفنا الى البار ,كانت المفاجأة كبيرة لم نجد تفسيرا لها !!! .كان العامل سامي يجلس في المكان نفسه,وطاولته نفسها ,ولكن الامر المثير للأستغراب هو ما ظهر عليه من قيافته وتأنقه وشياكته , ببدلته الجديدة والجميلة ,ورباط عنق احمر ووجه ضل يرسم ضحكة وفرحا وأنسجاما مع ما يصدر من مكبرات الصوت ,او لترنيمة او موالا يصدر من احد الجالسين بجنبه ,او عبارة يطلقها مخمور متحد للوضع !!.كان الامر مثيرا ..,لم نعد نستوعب ما يحصل ,أو نعرف سر هذا التغير والتأنق هذه الليلة ؟؟!!
أصوات الحالمين تتعالى , وشجنها يمتزج مع صوت ام كلثوم ,ورؤوس تدار مع كل تنهيدة من الخيام ورباعياته ,وسامي يجدد معها ربعا اخرا في سابقة لم تحصل من قبل .كان يفترش ورقة على منضدته الخشبية,ساهيا يدون بين الحين والحين بعض من كلمات تأتي متأخرة ومتباعدة ,مرة يرفع كأسه ومرة يرفع ورقته الحبلى بالانين ,وكلاهما تبعثان الامل بالتحدي وتنفيذ ارادته . يتطلع أحيانا الى ساعته ,ربما كان قد نسي وقت مغادرته المعتاد ,أو ربما كان مشغولا ومضطرا بأمر اخر حتم عليه التأخير !!.نظر الى ساحة البار وعاد مرة اخرى الى ورقته متفحصا ومسترسلا بأفكاره ,تنتابه حسرة وقلق ومكابدة ,تتجلى في تسارعه بتناول كئوسه الواحدة تلو الاخرى .كان يتحين فرصة لتنفيذ الامر ,بان عليه قلقه ,وفضحته نضراته المتكررة للمكان بين اونة واخرى .حين انتهى بث المذياع وصمتت مكبرات الصوت ,أنتفض فجأة لأنه كان ينتظر هذه اللحظة على أحر من الجمر,فأندفع كالمأخوذ يقرأ مادونه وكتبه من تداع والم وقلق .كان صوته هادرا وجهوريا أسكت الجميع ,وكلماته كانت مثل منشورا سريا مر عليهم في وريقة وزعت بعيدا عن الاعين وتداولوها في اجتماع سري ,غاية في السرية .
كانت كلماته أستذكارا لأيار والطبقة العاملة وعيدها الذي تناساه الجميع ,ومحاولات الدكتاتورية وسياستها في تجهيل الشعب وتسطيح وعيه من خلال محاولتها طمس الذكرى وأحلال مناسبة أخرى بديلا عنها ,من خلال وعاضها الانتهازيين ,الذين تملقوا للدكتاتور وأوجدوا له عيدا للميلاد قريبا من الذكرى في محاولة لتغييب المناسبة ومحو اثرها !!.كان مندفعا ,لا يترك فراغا بين كلماته كي يبسط سطوته على الحظور .
كان التصفيق الذي تعالى في البار شديدا ,لسامي الذي ضل منحنيا ومؤشرا بيديه امتنانا لهم ,كان جميع عمال البار قد اخذتهم نوبة التصفيق الذي ضل طويلا ,وهناك الكثير من المارة في الشارع الوطني ضل مستطلعا ومشدوها لما يجري . في الطاولة المجاورة ,فز ثمل من رقدته ,صائحا :منو لينين ؟؟!! والله ما أدري بيه ,شوكت اجه !!.
كان عامل البار الطيب (حسنين)يقف جنب العامل سامي ,يطلب منه المغادرة على الفور ,لكنه ابى الا ان يطلب مشروبا اخرا .تودد اليه متوسلا ,ماسكا به من يده كي يترك المكان فورا ,ولكن عناد سامي ,اوقعه في حيرة لا يجدي معها نفعا .كرر سامي طلبه المشروب ,لكن (حسنين)أبى ان ينفذ طلبه .كان تأثير الخمرة والتعب باديا عليه ,حتى انه لم يفطن الى سقوط ورقته من المنضدة حين حركها الهواء قريبا منا .
لحظات بين شكوى سامي وتردد عامل البار الطيب ,دلف الى البار ثلاث اشخاص يحمل اثنان منهم هراوات قصيرة ,توجهوا مباشرة الى العامل سامي ,الذي حاول ان ينهض من مكانه ,غير انهما أنهالا عليه ضربا قاسيا ومبرحا ,واضعا يديه على رأسه لتلافي الضربات التي انهكته ,ولما لم يجدي الامر ,اسقط نفسه الى الارض ,غير انهما استمرا بتوجيه الضربات اليه بكل قسوة ,فأغمي عليه .....أوعز الشخص الثالث لهما بسحبه الى العجلة التي كانت تقف امام البار ,فكانت حالته يرثى لها ,امام صمت جميع من كان في البار .
كانت طاولتنا قريبة منه ,كنا نسمع داخل البار مشادة بين الطيب (حسنين)وأحدهم .كان التجهم والحنق باديا على وجهه وحين أقترب منا قال:الخيانة كانت من احدنا ,ماذا أفعل !!!ولكنكم حسنا فعلتم حين أخفيتم الورقة !!
(1)بار الشعب من بارات الشارع الوطني في البصرة رواده من الطبقة المسحوقة ,وصعاليك ومثقفين ناقمين وطلبة اقسام داخلية ,وهو من ارخص بارات البصرة انذاك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/