الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رواية -موطن الأسرار- الوهم.. وهاجس الموت حبا

يوسف علوان

2014 / 5 / 14
الادب والفن


في روايته "موطن الاسرار" التي صدرت عام 1999 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يمتاز الكاتب شاكر الانباري بتمكنه من تصوير الشخصيات المتمردة في الرواية على تقاليد مجتمعها، من خلال وصفه الرائع الذي يرسم للقارئ صورة عنهم وعن تصرفاتهم وعن أجواء الرواية؛ بزمانها ومكانها. هذه الشخصيات التي تعيش صراعا نفسيا بسبب ظروفها الاجتماعية والسياسية والثقافية وتدفع في كثير من الأحيان، حياتها ثمناً لذلك الصراع الذي تقودهم اليه ذواتهم ـ في الأغلب ـ مسلوبي الإرادة، مستسلمين لمصيرهم، بسبب عجزهم عن الوقوف بوجه هذه الظروف التي تدفعهم إلى الغربة، في بلدان يبقون فيها حتى نهاية أعمارهم، بعيدين عن قيم تلك البلدان وتقاليدها. لذلك يحنون لأوطانهم التي هجروها مرغمين. هذا الصراع الذي يرويه لنا الأنباري بأسلوبه الرائع ولغته الجياشة المسبوكة المتنوعة في اصطفاف موصوفاته، يشجع القارئ على الاستمرار في القراءة لكي يصل الى ما ستؤول إليه نهاية الأحداث.
الشخصية الأولى البطل "لم يمنحه الانباري اسما، ربما اراد له ان يكون رمزا لكل العراقيين الذين تركوا بلدهم مجبرين بسبب ظروف العراق قبل 2003"، فهذا البطل الذي خرج من العراق منذ زمن بعيد ولا يستطيع العودة اليه بسبب الظروف السياسية التي يعيشها البلد آنذاك. وعندما يشتد به الحنين الى أجواء عاشها منذ طفولته في وطنه لا يجد غير سوريا، البلد الذي أمضى فيه مدّة طويلة ووجد فيه بديلا عن بلده. "دمشق هي الاقرب الى القلب، له فيها خبرة عيش لا بأس فيها". الغربة التي عاشها في الدنمارك ولم يستطع ان يتعايش مع ظروف هذا البلد، برغم انه تزوج وانجبت له زوجته "تاتا" ثلاث بنات، توفيت إحداهن فدفنها في مقبرة يحيط بها الثلج. ومع ذلك لم يستطع التأقلم مع ظروف هذا البلد، وبقي طوال هذه السنين غريباً حتى عن طفلتيه.. يخاف من يوم لابد من حدوثه؛ تكبر فيه الطفلتان وتهجرانه. فيحزم أمره ليعود الى بلده الثاني سوريا، يبحث عن حياة اشتاق لها طوال سنين الغربة "يود الابتعاد عن كل ذلك ولو شهرا واحدا، ينام وحده في السرير، يتقلب، يأرق، غير محكوم بايقاع شخص آخر يقاسمه الغطاء والمخدة ووقت النوم والاستيقاظ، يصنع وجبته بيده يخرج على هواه، يغازل يتسكع.. يود ان يعيش حياته بمتعة ورغبة ومغامرة واكتشاف مغزى وجوده".
هكذا يعود، لا يرغب بضياع حياته من أجل أي كان، صراع يعيش في داخله، في بحثه الدائم عن السعادة، التي لن يجدها إلا في بلده الذي لا يستطيع ان يعود له.
يصل الى سوريا في الفجر، يجلس في مقهى حتى تمضي ساعات الفجر، وفي الصباح يبحث عن أصدقائه وناسه الذين أشتاق لهم؛ فرحاً بما أقدم عليه. تتراءى له الصور التي رسمها قبل خروجه من لوكسمبورغ: "في الجو ألفة تشيعها حوارات الجالسين. أصوات أباريق الشاي والاقداح والملاعق".
الشخصية الثانية "هيام" التي يلتقيها في سفرة عائلية مع صديقه سلمان وزوجته نضال، هيام مطلقة تعيش في بيت أهلها، متحررة، تجلس معه في نفس المقعد سألته فجأة ان كان عراقياً فأجابها بالايجاب، قالت: "إسمي هيام، تزوجت وطلقت، اعيش اليوم في بيت أهلي... لا أحب البشر أهرب منهم وأخاف، والرجال خاصة".
في حارات دمشق القديمة ابتدأت حياتها، التي تُنضج البنت فيها مبكرا. تشدها حكايات الجارات المسنات عن الرجال، عن الجسد الانثوي، الحيل والاحابيل. الشارع بيتها، والحارات امها وابوها. تتضايق عندما تعتم الدنيا، يتطلب منها ذلك الرجوع باكرا الى البيت. تتمنى لو ان الشمس تبقى معلقة على قاسيون. في البيت مشاكل كثيرة تحدث خناقات وصراخات وحوارات حادة بين الام والاب، الاب سكير والام نمرة، هي من يرتفع صوتها، تكسر الكؤوس، تمسك المكنسة امام الاب مهددة، تتوعد، تفرض سيطرتها على الصغيرة والكبيرة.
تشعر انها غريبة عنهم، لا علاقة لها بهم. لماذا يتعاركون ولماذا يثقل ابوها بالشراب، ولا يخرج الى العمل ابدا؟ هنا امر غامض لا تدركه. كانت تنام باكرا مهدودة من تعب الجري في الازقة واللعب مع الصبيان والبنات وعمل المقالب في الباعة والمسنين واصحاب العاهات. تفيق صباحا، تذهب الى المدرسة، ترجع الى بيتها حين تجوع، تتمنى لو ان الليل لا يحل.. مسكونة بروح التشرد منذ الطفولة، تسحرها الأمكنة الجديدة والاشخاص والغموض، وكأن كل ذلك جرثومة في الدم تكاثرت مع مرور السنين.
لابد ان جسدها يحمل دما ملوثا بالغواية. وهي طفلة تعرضت للكثير من الأمور التي لم تفهمها في وقتها. اشخاص كبار ينظرون اليها نظرة لم تكن تعرفها في حينها، يتملون في جسدها الصغير. حتى ابوها. في غرفتها تشعل الشموع، تتكلم مع نفسها، وتحلم بذلك الشيخ طويل اللحية الذي سينقذها من هذا البيت. الأم تكرهها والأخوة ينظرون اليها باحتقار، ولا صديق لديها سوى بئر الماء، بئر الماء والدالية وثعابين أرض الديار ووجه ذلك الشيخ النوراني.
نامت على السطح دون نأمة. قالت للنجم كن صديقي وللقمر كن حبيبي. حملتها الريح بعيدا عن ضجة السوق ونداءات الفرانين وضوضاء منظفي الشوارع. رأت نفسها عارية تماما، تسير تحت مطر دافئ، كان يزيل عن جسدها غبار الحارات والأزقة وطبعات الاصابع الخشنة. كانت تصير شفافة مثل البلور وتلمع كأي نجمة في السماء.
ويوصف لنا الراوي فرحة الشخصية الاولى بهيام، الذي حلم أن يلتقي بامرأة رسم لها صورة، بوصفه الذي يشد القارئ ويعلقه بحبائله اللذيذة، بتنقلاته الوصفية، فهيام طائره الذي حلم به ورآه في كل منطقة أحد طيورها المحببة له: "عند النهر سماني، على سفح الجبل قطا، ووسط مستنقعات القرية بط بري، لكن في بابل يمامة صادحة على غصن توتة، والمناخلية خيط ماء مبرقش بالأشن واحاسيس لصوص السوق وباعة العرقسوس".
هكذا يلتقيان، كان يبحث عنها، وهي ترى: "في وجهه تألقا غير طبيعي، لم تحسه في وجوه الرجال الذين عرفتهم، ثمة جاذبية داخلية، ورحمة تنثال من الق عينيه". فهل تحقق ما كان يحلم به؛ عودته لسوريا ولأجوائها التي اشتاق لها، وفتاة كما ارادها امرأة تبادله اللغة نفسها والإشارات نفسها وخزين الرموز. ليصل الى استقرار النفس التي كان يبحث عنها؟
الوهم ،الحب، التي تصوره لنا الرواية والذي تبحث عنه الشخصيتان في الرواية، المغترب الذي لم يعد يطيق العيش في الدنمارك، رغم محاولات الزوجة للتعلق به ودعوته لزيارة عائلتها في البرازيل، وهيام المتمردة التي تحس لاول مرة بحبه، وهي التي اعتادت مثل هذه العلاقات اليومية: "ما لجسدها يهمد ساكناً بين يديه، وأنفاسها تراودها القناعة؟!".
تتصاعد الاحداث بعد ذلك بشكل دراماتيكي فالبطل الذي كان همه ان يعيش حياة يملؤها حب هيام له واجواء دمشق وجمال حاراتها تنقلب عليه الأمور بعد ان يبدأ يحس بالغيرة من علاقات هيام التي تعيشها مع اكثر من شخص. "ود لو يسألها عن ظنونه وخيالاته وحدوسه التي عاشها في فالبي، لكنه اجل ذلك الى وقت آخر".
يبدو ان ضياعه يتجدد، ليس ضياعا في كوبنهاكن، مثلما كان يحس قبل عودته الى دمشق، بل ضياع من نوع جديد أكثر قسوة ، لا يستطيع مفارقة هيام، ولا يستطيع ان يمتلكها. إنه خائف: "فالاحساس بأنها لن تقدر عشقه لها يتنامى، هي اللعوب الصامتة الغامضة التي لا يمكنه ان يعرف حقيقة ما تفكر به". يعرف ان امتلاك قلب انسان، صعب بل مستحيل. وكثيرا ما يحمل الحب في داخله سبب فنائه؛ انها الغيرة، التي تشكل لعنة لهذه العلاقة الجميلة "الحب". كان همه ان يعرف الأشخاص الذين عاشت معهم هيام في علاقات سابقة وحالية. غير انها تضرب طوقاً من الصمت والاجابات المختصرة هذه الاجابات التي يحس بمرارة ما وراءها:
"- ماذا فعلت مع الفنان؟
- جلست معه مرة واحدة فقط كما اخبرتك البارحة". يزداد شكه بها وتزداد حيرته. فهو يحس انه خسر زوجته وابنتيه وخسر هيام وما كان يتمناه في العيش معها من حياة تخيلها ورسمها لنفسه. يتدرج الانباري في وصف الحالة التي وصلت فيها العلاقة بينهما، فيأخذ الشك والريبة كل تفكيره ويصبح همه ان يعرف الاشخاص الذين مروا على هيام وبالاخص على جسدها. وهي تحس أنها لا تستطيع ان تستمر معه على هذه الشاكلة: "الحوارات نفسها تتكرر. الاتهامات، الظنون، الغيرة". احيانا تحس انه كان يلتقي باشخاص يعرفونها وقد حدثوه عن كل شيء، عن علاقتها بماجد والفنان والصيدلي والشاعر. اسئلته تتكرر، واجوبتها صارت مزيجا من التحدي والغموض. وحين لم تعد تحتمل قالت له: "اذا لم توقف هذا النزيف سألقي نفسي من السطح.. ركضت الى الفتحة، وهو يتطلع مبتسماً بنظرة تحد.. احست بالتردد لكن شعرت باحتقار له غير طبيعي، احتقار اقوى من الموت".
يستهوينا الموت أحيانا، فثمة حاجة تتطلب ان نفكر بالموت في حالات كثيرة؛ الخيبة مثلا، انكشاف وهم نعيش عليه ونرتاح له، برغم علمنا انه بعيد عن الحقيقة! الفزع من ترك الحبيب لنا، في لحظة تصاعد من الانفعال والشك، انكشاف امر ما قد يؤدي الى الهجر. اسباب كثيرة تقودنا للتفكير في الموت. وقد تدفعنا للإقدام عليه. شجاعة مصحوبة بمرارة انكشاف الحقيقة، التي هي أصعب من الموت. الإقدام على الموت حالة من اليأس، كبيرة ومدمرة، تسير بنا الى أبوابه الكبيرة والمشرعة. فإذا ما دفعنا اليأس والاحباط إليه فلا عودة عن ذلك. هذا ما استطاع الانباري تصويره لنا بعد أن وصلت الأمور بين بطل الرواية وهيام الى طريق اللاعودة فالحب عندما يتحول الى كراهية بين المحبوبين فلا اصلاح لهذه الحالة سوى الموت لأحد الطرفين:
"أنفتح دهليز هائل أمامها. رأت تسارعاً بعيداً وخضرة. تطلعت الى النهر في لحظة الطيران، عليها ان تصل الى هناك. شاهدت شيئاً كالذهب، يشع، لونه اصفر مثل شمس مشرقة. شموع ذلك الشيخ التي كانت تشعلها له منتظرة قدومه. مواجهة الموت قطع مع الماضي. لقد اطبق الكتاب بصوتٍ مدو". استطاع الانباري ان يقدم وصفا رائعا للحظات موتها، خلال صفحتي الرواية الأخيرتين، كأنه حمّلهما كل ما اراد ان يقوله عن خيبته من هذه النهاية. لقد خسر كل ما وراءه وما أمامه، حياته في الدنمارك والزوجة والابنتين، ثم هيام التي لم تعد تطيقه فتلقي بنفسها من فتحة السطح لتنهي حياتها: "لا يسمع طيرا يشدو ولا نسمة تهب. والغربان السود تحلق اعلى من شجر الجوز البري. احس نفسه كائناً صغيرا لا حول له ولا قوة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في