الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية الوحي والتاريخ (9)

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2014 / 5 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


- لحظة سقوط المرآة الاعتبارية

إذا كان الشخص الاعتباري بطبيعته غير مستقل وغير مكتفي ومستغني بذاته عن خالقيه الأشخاص الطبيعية، إذن مستحيل أن يكون الله الخالق للكون الطبيعي والأشخاص الطبيعية شخصاً أو كياناً أو شيئاً أو أياً ما كان من هذا النوع. إذ الشرط الجوهري المسبق لأي فكرة أو تصور عن إله خالق بحق هو أن يكون مستقلاً ومكتفياً ومستغنياً بذاته عن كافة مخلوقاته أولاً. بما أن الشخص الاعتباري كمصر أو الله، أو عصبة الأمم أو الفيفا أو الناتو أو الاتحاد السوفيتي...الخ تعتمد في نشوئها وبقائها على الأشخاص الطبيعية أنفسهم، إذن لا يمكن أبداً تصور أن يكون الله الخالق الحقيقي للكون والأشخاص الطبيعية هو في الوقت نفسه من إنشائهم ويعتمد في بقائه على بقائهم.

كما استطاعت الأشخاص الطبيعية أن تنشئ شخوصاً اعتبارية مثل عصبة الأمم والاتحاد السوفيتي، من جملة أخرى كثيرة، ثم استغنت عنها وحلتها أو استبدلتها بأخرى فيما بعد كذلك يستطيع هؤلاء الاستغناء عن مصر والله أو استبدالهما بأخرى، طالما كان هذين الأخيرين شخصين اعتباريين. وبينما قد يكون هذا الوضع متصوراً ومنطقياً مع دولة مثل مصر هي في البداية والنهاية وليدة مخاض تراكمي من جهود وتضحيات سكانها، هو في الوقت نفسه غير متصور وغير منطقي على الاطلاق في حالة إله يزعم المؤمنون به أو الباحثون عنه كونه الخالق والواجد الأول والأوحد للطبيعة كلها بأكوانها وشخوصها. إذا كان البحث أميناً في استهدافه معرفة الخالق حقاً كيفما يكون، لابد أن ينقب في مكان آخر غير الأشخاص الطبيعية والاعتبارية، اللذين هما في حقيقة الأمر وجهين لعملة واحدة ونفس العملة الطبيعية؛ أو، في جملة أخرى، الشخص الاعتباري هو صورة شبه الأصل من الشخص الطبيعي نفسه لكن منعكسة على مرآة مكبرة، مكبرة جداً جداً جداً؛ رغم ذلك يبقى الشخص الطبيعي في جميع الأحوال هو الأصل ومهما عظمت واستكبرت وتشابهت عليه الصورة لن تستطيع أبداً البقاء بدونه. صعب أن يقتنع عقل ناضح أن يكون إلهه مجرد صورة مرآه من نفسه، مهما كانت مكبرة ومعظمة ومقدسة.

لزمن طويل قد بقي الشخص الطبيعي يتصور إلهه في صورة شخص (جسم) طبيعي مثله سواء في جد مهيب أو رب أسرة أو شيخ عشيرة أو كبير قبيلة أو ملك أو إمبراطور، أو في نجم أو قمر أو ريح أو برق أو رعد، أو في نبات أو حيوان أو جماد، أو في مخلوقات ذات صفات مجمعة تعسفياً من جميع تلك الأشخاص والأجسام الطبيعية؛ ثم مع تطور قدرات الشخص الطبيعي أكثر وامتلاكه أدوات الفكر والترميز والتصوير استطاع أن يرسم لإلهه صورة مركبة اعتبارية أكثر رقياً وتجريداً، لكن في النهاية كانعكاس تركيبي تعظيمي لصفاته الطبيعية نفسها. ثم قضى حياته واقفاً يتأمل صورته في المرآة المكبرة، يسترشد ويستعلم منها الحلول المثلى لمعاناته ومشاكله وتساؤلاته، معتقداً في الوقت نفسه أنه يرى ويتلقى من إلهه وهو في الحقيقة لا يرى ولا يتلقى سوى من نفسه، أو من النخبة القليلة المصنعة للمرآة والمتعهدة بتشغيلها وصيانتها.

الفلسفة هي الصخرة الفكرية التي تحطمت فوقها هذه المرآة الضخمة الخادعة. هي التي في مرحلة ما هزت هذا المخدوع المنوم أمام مرآة تحجب عنه كل شيء آخر في الكون عدا صورته المشوهة وصرخت فيه: انظر! هذه هي مجرد صورتك أنت نفسك لكنها محرفة. هذا الكتاب المقدس ليس كلام الله؛ هو لسانك أنت. هذه الأحداث لم ينزل الله من السماء ليفعلها ويعود مكانه ثانية؛ هي أفعالك أنت نفسك في هذه الأرض؛ هي تاريخك. أنت نفسك الذي قد شيدت وهدمت، زرعت وحصدت وأنتجت وصنعت، بعت واشتريت وتاجرت، حاربت وانتصرت وهزمت. لكن لعلك قد نسيت! انظر! هؤلاء الأنبياء والرسل والأطهار والأقداس هم أشخاص طبيعيين مثلك تماماً، يأكلون كما تأكل ويشربون كما تشرب، ويموتون كما تموت بالضبط؛ وهم أيضاً يتزوجون كما تتزوج وينجبون كما تنجب، ويخطئون كما تخطئ، ويعدلون كما تعدل، ويغضبون كما تغضب. هم أنت، وربما تكون أحد أحفادهم. أنظر أيضاً، في هذا الركن البعيد آخر المرآة، بالأعلى! هذه الأرواح والقوى الغيبية، والجان والعفاريت والملائكة والآلهة مهما تعددت أسمائها وصفاتها، هي كلها بلا استثناء أشخاص اعتبارية من صنع خيالك أنت نفسك، على صورتك لكن بتصرف يخدم أغراضك منها.

كان سقوط هذه المرآة الاعتبارية الضخمة حدثاً مدوياً وغير مسبوق في تاريخ الإنسانية، وكان من تبعاته تعرية الإنسان من أوهامه الذاتية وانكشافه وحيداً منفرداً على كون لا متناهي من حوله. وقتها أدرك الإنسان كم هو متناهي الصغر وليس هو ولا إلهه المتصور من صفاته مركز الكون وغاية وجوده كما كان يعتقد ويخدع نفسه. أخيراً تحرر العقل من دوجما اللاهوت والفقه الديني وانطلق يعدو في سباق بلا نهاية بحثاً عن حقائق الأشياء، وحقيقة نفسه- في المحيط الكوني الطبيعي لا في مرآته الاعتبارية. هذا الانطلاق الفكري والعملي مثل بداية عصر آخر منفتح بلا حدود على كل جديد بخلاف عصور سابقة اختارت الانغلاق على نفسها والانكفاء على مرآة انحيازاتها وخصوصياتها وعصبياتها واعتباراتها الوجدانية المتخيلة تاركة الكون التاريخ والعالم وراء ظهورها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق1
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 23 - 22:20 )
1- الله (ليس كمثله شيء) و (لم يكن له كفواً أحد) .
2- من الخطأ أن يسقط الكاتب العقل و الفكر البشري على ملكوت الله .
3- الكتب المقدسه كلام الله , و الدليل على تواصل الإله بالبشر عبر الأنبياء :
- دليل الحكمة : اذا بني انسان منزلا لغير هدف او غاية عدد ناه ابلها غبيا، فهل يعقل ان يخلق الاله الانسان العاقل لغير سبب او غاية؟.
- دليل الفطرة : اثبت علم النفس ان في النفس الانسانية شوق لمعرفة مصدرها والغاية من وجودها، كما ترفض فطريا الفناء بالموت، كذلك زود الله الانسان بالعقل القادر على طرح هذه التساؤلات. أليس من المستنكر ان يدع الاله مخلوقه الانسان دون عون او هداية؟.

يتبع


2 - تعليق2
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 23 - 22:20 )
- الدليل الأخلاقي : طرحه الفيلسوف الالماني الكبير (ايمانويل كانت) فقال : (ان ظمأ الطفل للماء هو اقوي دليل علي وجود الماء، وبالمثل فان شوقنا لوجود العدل هو دليلنا علي وجود العادل). ويعني الفيلسوف الكبير بذلك ان النفس الانسانية لا تقبل ان ينجو الظالم بظلمه ، لذلك تقبل ببداهة شديدة فكرة وجود البعث والحساب. الا يحتم ذلك وجود الديانات آلتي تخبرنا كيف نسلك لنضمن النجاة؟!.
- دليل الكتب السماوية : فإذا ثبت لك بالدراسة العميقة الأمينة صدق ما ورد في احد الكتب السماوية، فذلك دليل مباشر علي تواصل الاله مع الانسان.
4- الإنسان هو مركز الكون , راجع :
نظرية (مبدأ الهولوغرام الكوني) , هذه النظريه ؛ تؤكد أن المجرات و النجوم العملاقه و معظم الكون ؛ مجرد طيف و أشباح كواكب , راجع :
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?51881-إذا-ثبتت-هذه-النظرية-فسينتهي-الإلحاد-للأبد-نظريا

اخر الافلام

.. انفجار بمقر للحشد في قاعدة كالسو العسكرية شمال محافظة بابل ج


.. وسائل إعلام عراقية: انفجار قوي يهزّ قاعدة كالسو في بابل وسط




.. رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بابل: قصف مواقع الحشد كان


.. انفجار ضخم بقاعدة عسكرية تابعة للحشد الشعبي في العراق




.. مقتل شخص وجرح آخرين جراء قصف استهدف موقعا لقوات الحشد الشعبي