الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التأملات الثانية في الفلسفة الأولى -4-.. هو الأول وهو الآخر

سيد القمني

2014 / 5 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عندما يبدأ العقل في أخذ نقطة ما أخذًا عشوائيًّا، ثم يفترض أنها نقطة بداية تتبعها نهاية، فإن هذا الفرض يكون من بدئه خاطئًا، لأن النقطة التي افترضها العقل كبداية ليست كذلك، إنما هي نهاية لبداية سابقة عليها، فإذا انتقل إلى نقطة أخرى غير تلك السابق اختيارها، وافترض أنها نقطة بداية، كان ذلك تكرارا للخطأ الأول، لأن جميع النقاط ليست بداية، لأن وجود النقطة كمرحلة بداية تتبعها نهاية أو علة تتبعها نتائج ونهايات ومعلول، يعنى أنها ما دامت ملحوقة فلا بد أنها كانت مسبوقة.
على المستوى الكوني لا يمكنك الوصول إلى نقطة بداية دوران الأرض حول الشمس فإن تمكنت من ذلك ستكون فرضيتك للبداية وللنهاية صحيحة وصوابًا في آن واحد، وهذا هو المستحيل، لأن الفرض بوجود بداية في كون دائم الحركة والتخلق المستمر يحتم علينا معرفة سرعة حركته الملازمة لتفاعله، لذلك يلزم أيضا معرفة بداية حركة الكون وتفاعله، وقدمت هذه المعرفة باكتشاف الحدث الكوني الهائل المعروف بالبيج بانج أو الانفجار العظيم، وهو الاكتشاف الذي أفادنا أن الكون في تحرك وتفاعل وتمدد مستمر غير ثابت ولا مستقر، لذلك فليس لهذا الكون بداية إنما له حركة وعلاقات تفاعلية متبادلة نشطة، يتم فيها دوما تبادل البداية مع النهاية فالبداية فيه هي نهايته.
صبرا جميلا لنتفهم معا بضرب المثل: لو نظرت إلى الزوبعة الإعصارية وهي تلف وتدور حاملة في داخلها كل ما يصادف طريقها، لن تستطيع أن تحدد أين تقع نقطة بداية هذا المخروط المتحرك دائريًّا حول ذاته، ولا يمكن أن تشير إلى نقطة بذاتها على أحد جوانب الإعصار لتقول إن هذه النقطة هي بداية الإعصار، وأن تشير إلى نقطة أخرى وتقول إن هذه هي النقطة التي تلت البداية، وعدم الاستطاعة، لأنها متحركة لا تتوقف، وكذلك هو حال الكون بعد الانفجار العظيم، فهو إعصار كل نقطة فيه تصلح بداية ونهاية في الوقت نفسه.
هو ذات حال العالم الذري المتناهي في الصغر، فالإلكترونات دائبة الحركة الدائرية الأهليجية حول النواة في مدارات لا يمكن أن تحدد فيها نقطة بداية الدوران، أو أي إلكترون منها كان بداية للحركة التي لا تتوقف، لذلك فإن تحديد البداية هو شأن مستحيل مع متحرك إهليجي لا يتوقف، وإن أمكن معرفة بداية للكون الحالي تحديدا مؤقتا وغير كامل السلامة، مع لحظة الانفجار العظيم.
يمكننا فهم وإدراك أن الأول هو ذات نفس الأخر بالنظر إلى عالم الكواكب الكوني ومثاله دوران كوكب الأرض حول الشمس بمدار محسوب ومسجل ومرصود في عملية دوران عظيمة القدم، فهل يمكن افتراض نقطة بداية لهذا المدار تكون هي الأول، وعندما تتم الأرض دورة كاملة في سنة تكون قد وصلت إلى الآخر. إن الأرض لن تتوقف عند نقطة الآخر وتمتنع عن الدوران، بل تستمر لتتابع الدورة التالية، فتكون بداية الدورة التالية هي (أول) جديد لدورة جديدة، وهي في الوقت نفسة هي (آخر) للدورة السابقة، فتكون النقطة التي افترضناها بداية هي أول وآخر معا، وهي بداية لدورة كاملة قادمة وهي آخر لدورة سابقة، فيكون أول الدورة الأولي هو آخرها فتتطابق النقطتان ويكون الأول هو الآخر.
مثال آخر دورة الماء على الكوكب الأرضي إذا افترضنا بدايتها بعملية البخر، فإن هذا البخر يتجمع على شكل سحاب تحركه الرياح ليسقط على اليابسة مطرًا، ليمتص النبات بعضه وتشرب منه الكائنات الحية ثم يخرج النبات ما امتصه في عملية بخر جديد يسمونها النتح، والحيوانات تعيد إخراج الماء في شكل بول وعرق ولعاب يتبخر، وما يسقطه المطر على الجبال يعود عبر النهر إلى المحيطات المكان الذي منه جاء، فدورة المياه الطبيعية على كوكب الأرض أولها هو آخرها، من حيث تبدأ السير من هذه الدورة، معتبرا أنها نقطة بداية (أول)، فإنك في النهاية تعود إلى حيث بدأ (الآخر)، ويكون هذا الآخر هو الأول للدورة التالية.
البشر قبل الكشوف العلمية كانوا يظنون أن الأول شيء بذاته وأن الآخر هو شيء آخر مخالف للأول، وأن هناك نقطة بداية ونقطة نهاية لكل شيء، فعندما كان الإنسان البدائي ينظر حوله في العالم البيولوجي نبات وحيوان وحشرات ويرى ولادة وموتًا، ويرى العالم الكوني، فالقمر يظهر ثم يغيب والشمس تشرق وتغرب، فشكل ذلك لدية مفهوما تراتبيا للأول والآخر، لكن خارج العقل الإنساني ليس الأول هو حالات الولادة وليس الآخر هو حالات الموت، لأنه في العالم البيولوجي هو الخلية الأولى الأميبية، والتي كانت مسبوقة مرحلة التخلق اللاحيوي الذي تنشأ فيه المادة الحية الأولى بتفاعلات كيميائية بين apiogenesis بالمواد، وتمكن العلماء من تخليق المادة العضوية من مواد لا عضوية بتجربة ميلر/ يوري سنة 1953 بجامعة شيكاغو، مما أكد أن ظهور الحياة مرتبط بظهور هذه المادة، ونشوء الحياة على الأرض حدث نتيجة توفر شروط ضرورية وشديدة الخصوصية بما يتناسب وكوكبنا الأرضي، فكانت الحياة مع البكتيريا عديمة النواة ثم وحيدة الخلية، وبعد ملايين السنين وظهور اليابسة والبحار، كما أثبت الأركيولوجي البيولوجي الأمريكي وليام شويف عام 1993 بعد عثوره على وجود الحياة الأولي بالصخور القاحلة غربي منطقة ماربيل بار بغربي أستراليا، وكان هذا هو الأول البيولوجي الذي أخذ بالتكون في شكل بروتين الـ"دي إن آي" والخلية عديمة النواة، لكن هذا الأول لم يكن أولا إنما كان مسبوقا بالبيج بانج.
علمنا أن الكون هو مجموعة من الدورات المتحركة منها دورة النيتروجين ودورة ثاني أكسيد الكربون وغيرها، ولا وجود فيها لأول أو آخر، فالأول والآخر تصور عقلي افترضه العقل البدائي لتسهيل الحياة لنفسه وإعماره للكون وإقامة أعماله وصناعاته وزراعاته، فالأول والآخر ليس شيئًا موجودًا في الكون المحسوس، إنما هو يرتبط بتصورات ذهنية وبالإرادة الواعية المدركة، فهو فعل إنساني خالص قائم على تصور عقلي ولا علاقة له في الواقع بعلة ولا بمعلول، ولا بأول ولا بآخر، إنما يتعلق بأفعال الكائن الحي الذي هو عالم بذاته تحكمه إرادة الكائن الحي.
وقبل ظهور نسبية أينشتين كانت قوانين الحركة النيوتونية هي المعتمدة في العمل على الأرض ولم تزل، وكانت الهندسة الإقليدية التي تقول بخط مستقيم ومثلث ومربع هي عماد الحضارة والعمار، لكن على المستوى الكوني ستجد الضوء لا يسير في خط مستقيم، لأنه في الكون لا يوجد شيء اسمه مستقيم، لكن على الأرض، وهي مساحة صغيرة كانت الهندسة الإقليدية ضرورة لإدارة حياة البشرية. كان ذلك خطًا ضروريا للبشرية!! فإن يتصور العقل ويفترض فروضا تناسب حياته وضرورتها، ويستعمل هذه الفروض، بما يقيم حياته، ويحفظ نوعه ويؤسس حضاراته، فهذا كلة شيء، وفرض هذه التصورات على الكون شيء آخر، فالإنسان يفرح ويحزن ويغضب ويحيا ويموت، وهذا كله لا علاقة له بالكون، ويظل كل هذا على مستوى فيزياء الكون خطأ، والخطأ على مستوى الكون يظل خطأ فالكون لا يقبل الخطأ، فلا يمكننا إطلاق الصواريخ للفضاء وفق الهندسة الإقليدية وقوانين الحركة النيوتونية وإلا انطلق الصاروخ من أمريكا ليسقط في الصين.
إذن فالأول والآخر هما نسبيان يرتبطان بحيزهما، لأن الأول والآخر على الحيز الأرضي لا معنى له على المستوى الكوني.
وإن قلنا إن نقطة بداية وجود الكون هي لحظة الانفجار العظيم الناشئ من وضعية عظيمة للحرارة وعظيمة الكثافة، الذي علمنا به من ألفريد هابل عندما تيقن من تباعد المجرات عن بعضها البعض، ما يعني أن حجم الكون كان في السابق أصغر، وبعد حسابات سرعة التمدد والزمن الذي احتاجه الكون ليصل إلى حجمة الراهن كان قبل 13.7 مليار سنة أرضية. انطلق الانفجار في تمدده وتباعد مجراته عن بعضها وعن مركز الانفجار، ولا يزال هذا التباعد مستمرًا حتي اليوم، وفي تسارع يشير إلى أننا حتى الآن نعيش لحظة الانطلاق الانفجاري الكبير، وعندما تبدأ قوة الدفع الانفجاري تقل فإن المجرات سوف تتوقف عن الابتعاد، ويتوقف الكون عن التمدد، ومع تباطؤ سرعة القذف الانفجاري تأخذ عملية التوسع في التوقف، وتبدأ قوة الجاذبية تتفوق على قوة الدفع نحو الخارج، فتأخذ المجرات بالاندفاع عودًا على بدء نحو مركز الكون، ويعود الكون إلى الانكماش والتكدس على ذاته، ويجتمع المكان والزمان وتتلاشى الأماكن والأبعاد والزمان، لتجتمع كل صور المادة والحركة والطاقة داخل نقطة متناهية الصغر تكاد تصل إلى العدم أو الصفر، وفي نفس الوقت لا متناهية في الكتلة والكثافة والحرارة، عندها تتوقف كل القوانين الفيزيائية عن العمل، وتبقى نقطة عظيمة الكتلة عظيمة الحرارة عظيمة الكثافة، تكون هي الآخر. هي نقطة نهاية الكون، التي ستكون نقطة بداية جديدة مع تزايد الضغط والحرارة والكثافة اللانهائي ليبدأ الانفجار العظيم التالي ليكون (الآخر) هو (أول) لانفجار عظيم جديد، يصنع كونا آخر مغايرا تماما لما سبق وشكلة الانفجار العظيم الحالي والانفجار العظيم السابق والانفجار العظيم الأسبق، فكل انفجار يشكل كونه ومجراته وكواكبه وأقماره ومنظومة الحياة فيه.
إعمالا لما سبق يتأكد لدينا أن الأول والآخر هي مجرد تصورات عقلية من صنع العقل البشري، ولا وجود لها خارج هذا العقل، هو تصور يتعلق بالإرادة البشرية، لأنه كي يصنع ويبني لا بد أن تكون لصنعته أول وآخر، هو تصور إرادي مصنوع يخص العقل البشري ولا يخص الواقع الكوني، لأنه يرتبط بحيز ومساحة ومكان لا وجود لهما على مستوى الحراك الكوني الأهليجي الدائري والدوري المستمر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاول والاخر
كامل حرب ( 2014 / 5 / 25 - 01:07 )
شكرا سيدى على هذا البحث الممتع ,اعتقد ان الشيخ عبد العزيز بن باز المفتى الشرعى لمهلكه ال سعود هو من صرح ان الشمس تدور حول الارض وافتى ان من يقول غير ذلك فهو كافر كافر مرتد ووجب قطع رقبته ,اعتقد ان الحمار يعفور هو من اقنع نبى الاسلام بهذه المعلومات الربانيه والتى لاتزال تعشش فى عقول اولاد عربان البدو وسلالتهم ,بالمناسبه فانا رايتك فى البرنامج مع الشيخ خالد الجندى وهو بدون مبالغه كان يبدو وكانه صبى عالمه ويضع هذه الابتسامه اللزجه البلهاء على وجهه السمج وكان بصحبه بلطجى اسلامجى يشع من وجهه الغباء والكراهيه والنفور وكانه تيس اهوج فى صوره انسان ,من المؤسف ان مصر مليئه بهذه الامساخ التى توقفت عقولهم عن العمل


2 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 25 - 02:28 )
للكون بدايه , و هو (الإنفجار الكبير) , علماء الفيزياء؛ يقولون لا وجود لـ(الزمكان) قبل (الإنفجار الكبير) , ثم أنه سيكون للكون نهايه -و هذا كلام الفيزيائيين- , و يسمونها (الانسحاق الشديد) .


3 - معلومة اضافية
معتز احمد ( 2014 / 5 / 25 - 10:35 )
تحية طيبة
اود اضافة معلومة اخرى لاثراء المقال, وهي ان اكثر علماء الكونيات حاليا لا يميلون الى تاييد نظرية الانسحاق العظيم (تغلب قوى الجاذبية وعودة الكون الى نقطة متناهية الطاقة). فهناك بحوث حاليا تؤكد ان الطاقة المظلمة (طاقة لا نعلم عنها شيء سوى انها موجودة) نسبب تسارع ابتعاد المجرات عن بعضها. اي ان سرعة التباعد بازدياد وليس كما كان متصورا قبل عقدين بان قوى الجاذبية تسبب تباطوء ابتعاد المجرات عن بعضها
والرأي المرجح حاليا ان الطاقة المظلمة ستسبب بعد حدود 200-400 مليار سنة بتفكك كل ما موجود بهذا الكون بما فيها كل الجسيمات التي تكون ذرات عناصر المواد وفوتونات الضوء بحيث يبقى الكون الحالى بشكل فراغ تام


اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53