الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على متن السفينة (3)

وليد مهدي

2014 / 6 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


السلطة البيولوجية المطلقة


انتج الفكر الانساني في القرون الاخيرة الكثير من المفاهيم والمقولات التي تمثل حصيلة خبرة هائلة على مر الاف السنين ، ومن جملة ذلك الحاصل عبارة طالما استوقفتني للمؤرخ والسياسي البريطاني اللورد جون اكتون بان السلطة المطلقة تقود للإفساد المطلق ..

ولعلها كانت ، أو تكاد هي المقولة الابرز برأيي من بين كل ما قرات ، لأنها اختصرت تأريخ تطور النفس البشرية للفرد وتطور ثقافة الانسان الجماعية بمعادلة اشبه ما تكون بقوانين الفيزياء ، فكانت تعبيراً عن مستوى تطور القيم البشرية المنعكس في النظم السياسية الليبرالية الديمقراطية ، والتي حددت فيها اوربا موقفها التاريخي العظيم من السياسة ، حيث اقرت مبادئها وقيمها التي تنص على ضرورة اخضاع الحاكم للرقابة الصارمة والمتابعة و " المحاسبة " ..
فنوازع " القيم " الانسانية لفرد ما ، تذوب بزيادة حجم السلطة التي يمتلكها هذا الفرد ، لتتكشف تحت جلد " اخلاقياته " الرقيق النوازع الحيوانية الغريزية التي تميل للإفساد مبتعدة عن قيم " الردع " او " الكبح " الموروثة من ثقافة الجماعة و التي تحد من رغباته الشخصية ودوافعه الانفعالية الخاصة لحساب جماعته التي ينتمي اليها ..

كلما تزايدت قدراته وامكانياته التي تكون اقرب لتلبية رغباته منها لتلبية قيمه الاخلاقية ..انتفخت " الانا " و " الذاتية " لديه بمقابل تضاؤل الــ " نحن " و " الغيرية " وقيم الايثار والعطاء التي تنص عليها اعراف الجماعات والثقافات ..

ولا يبعد عما نقول كثيراً فردريك نيتشه ، حين قال في كتابه " ما وراء الخير والشر " :

" من اقدم ما قيل حول الإنسان المقولة الشهيرة ( الأنا بغيضة ممقوتة جدا ) وأهم الاشياء طفولية في هذا الطرح ( أحب قريبك كما تحب نفسك ) ، ففي الأولى توقفت معرفة الناس .. أما في الثانية فهي لم تبدأ بعد .."
اي ، نكران الانا لحساب الاخرين هي ذروة ما توصلت له اخلاقياتنا ، فيما ان نحب الآخرين كما لو كانوا انفسنا فهي شيء لا نزال نجهل كيفيته ..
لان الاخيرة تتعلق بموروثنا " الحيوي " الطبيعي الذاتي ، فيما الاولى تتعلق بالموروث الثقافي الجمعي الكلاني .

سبق وتحدثنا باقتضاب في الجزأين السابقين عن تلك النوازع وتأريخ تشكلها في الانسان ، وبينا بان قيم الــ " أنا Ego " وحب الذات الغريزية الحيوانية مطوية في لفات المورثات في شريطي الــ DNA في الخلية الحية ، وهي مورثات تحمل تأريخ تطور الحياة لما يزيد على الستمئة مليون عام بما تبثه من ميول وعاطفة وسلوكيات .

فيما قيم الاجتماع و اخلاقيات الانسان العصرية ، قيم العطاء و الايثار والتعاون فهي مطوية في متون " الكتب " و التاريخ الانساني المكتوب وعمرها لا يتعدى ( فيما لو ذهبنا الى تقدير اقصى ) الثلاثين الف سنة بظهور قيم اولى الجماعات البشرية التي تداولت ثقافتها شفاها قبل ان تتطور الى نصوص مقروءة تتوارثها الاجيال على نحو منظم بعد فجر التدوين ( الكتابة ) ..

وبصورة عامة ، قيم الانا الحيوانية عمرها ستمئة مليون سنة ... تكسوها قيم الاجتماع والاخلاق الانسانية وعمرها بأبعد تقدير ثلاثين الف سنة فقط ...
( وهو عمر تقريبي للجذور الاولى لتأسيس حضارة الجنس البشري المسمى الهوموسابينز )

وهكذا ، نوازع الانا عظيمة وجبارة في النفس البشرية لما تحمله من تاريخ ، ولا تمثل امامها قيم الانسانية والاخلاق الا طبقة رقيقة هزيلة جداً اذا ما حازت الاولى على " السلطة المطلقة " ..!!
تبرز قيم التعاون الانساني لدى الفرد كلما تضاءلت سلطته وامكانيات فعله في الحياة فتنطمر اناه تحتها ، لكنها تضعف وتستحوذ عليها الانا اكثر فاكثر بتزايد القدرة والسلطة ، وهذا لا يعني بأية حال بان كل صاحب سلطة وحش آدمي ، البعض يبقى متحكماً بهذه الوحشية فلا يتركها تنفلت من سيطرة عقله كبعض الحكام والقادة التاريخيين للأمم ، لكن ، يبقى صاحب السلطة هذا ذو روحية متوحشة منفعلة تحاول الانقضاض على ما حولها بما تمتلك من قدرة في اية لحظة ...

إن حياة الفرد ، عبارة عن " حرب " يومية مستعرة بين قيم " الانا " العظيمة وبين قيم الانسانية الهزيلة ، الحرب بين شيطان المورثات ذو الستمئة مليون سنة وبين إنسان الخير والعطاء ذو الثلاثين الف سنة فقط ..!!

حالة من امتحان عسير صعب تتجلى حين يمتلك الفرد السلطة فيستفيق في داخله المارد .. ( اغلب الحكام والقادة في العالم وبشكل قاطع يفشلون في هذا الاختبار إلا ما رحم ربي من استثناءات في قادة يعتبرون السلطة المطلقة مسؤولية مطلقة .. )
إلا انه وبالرغم من عدم تكافؤ الحجم والقوة بين هاتين المركبتين في النفس البشرية ، وحين نقرأ في الصحف والكتب ونتابع ونسمع ونشاهد في الاعلام ، تبدو قيم الخير والفضيلة الانسانية " الضعيفة جدا " كما لو انها هي التي انتصرت على الانا العتيدة المعمرة لملايين السنين في تكويننا النفس – جسمي ..

كيف يحدث هذا ...؟؟
وهل فعلاً الخير هو المنتصر ....؟؟

الانتصار الزائف

بنظر وليم جيمس ، مؤسس مذهب الواقعية ( البرجماتية ) ، ليس المنطق ضروريا دائماً في حياة الانسان ، لان الاخير ليس صاحب عقل فقط ، هو صاحب ارادة ووجدان ايضاً ...!!
لا اختلف مع جيمس في هذا ، فالإنسان برغم عمره القصير ، ورغم " الخدمة " التي يؤديها في مسيرة التاريخ البيولوجي على الارض بتحديث المحتوى الوراثي العابر للأجيال ، فهو كائن يحقق ذاته عبر الإرادة الحرة والتي تمكنه من ترك بصمته الفردية في التاريخ باستقلالية عن المسار الذي فرضته البيولوجيا الجبارة ...
لكن ، لننتبه الى " الوجدان " الذي اشار له ..
مقولة جيمس هذه تنبع من ادراكه " الواقعي " لحقيقة وقوة البيولوجيا المنطوية في نزعاتنا ووجداننا وتفاعلاتها مع ثقافتنا التي تشكل حصيلة ترجح الميل الفطري العاطفي رغم تمظهره السطحي بالعقلانية والانسانية ..
فجيمس ، كمفكر المعي وفيلسوف واقعي ، يدرك هذا التخفي للعاطفية في سلوك فرد ما يحاول التمظهر بالعقلانية المنطقية قدر الامكان لإرضاء " السلطة " الاجتماعية والثقافية ...
بالتالي ، انتصار الفضيلة التي تروج لها الثقافة بسبب " ظاهرة " الاجتماع وتشكل الدول والحضارات والثقافات ما هو إلا انتصار شكلي دعائي غير حقيقي ..
هو مجرد " طفح " ثقافي ناتج من انسحاب السلطة من الافراد وتحولها الى " جهاز " الدولة ..
لهذا السبب ، جشع وحيوانية الغرب لم يعد بإمكان الفرد ممارستها لان الدولة تبنت ممارستها عبر الشركات والجيوش ما وراء المحيطات لتلقي بوزرها وثقل وحشيتها على بلدان العالم الثالث ..
لعل الجيش الامريكي وحلف الناتو والسلطة السياسية التي تقف ورائهما ، هي اكبر الوحوش الادمية فتكاً وتدميرا وانتهازية وانانية في استعباد ونهب وتدمير استقرار شعوب العالم الثالث .
لا يزال امام مسيرة الجنس البشري الطويلة الكثير حتى يرتقي الى مستوى النضج الذي يؤهله الى خلق قيم اكثر وضوحاً وعقلانية يمكنها ان ترجح " العقلانية " على العاطفية ..

وبعد كل هذا ، آن لنا أن نسأل :

مالذي تريده " البيولوجيا الجبارة " ؟ ما هو المسار الذي تتبعه في دوافعها الخفية عبر المحتوى الجيني الوراثي في الخلية الحية والمؤثر على الحضارة البشرية ؟
وهل مسار الحضارة الغربية مسار تاريخي سليم ثقافياً وبيولوجياً ؟

الغاية البيولوجية

في الحقيقة ، لم يكن قبل مئة عام لدى الفلاسفة والمفكرين ذلك الاهتمام الكبير بوظيفة الانسان " البيولوجية " لان الذات البشرية كما ذكرنا ما قاله نيتشه في الفقرة السابقة " لم يتم التعرف على اغوارها بعد " ، وكمثال فقط ، لم تكن علوم الأحياء وفرعها في الهندسة الوراثية قد تطور كفاية بعد ناهيك عن الانثروبولوجيا والألسنيات والعلوم العصبية الحديثة .

فضلا عن شيوع فكرة " العلة الغائية " وهي فكرة ذات اصول دينية ميتافيزيقية ترى بان الانسان هدف وجوده هو فعل الخير والكمال في طريق الاخلاق والفضيلة ...مما حدا بمفكري الحداثة وما بعدها الى اعتبارها بقايا اصداء لجاهلية الفكر الانساني فاستبعدت أي فكرة عن وجود " برنامج " بيولوجي يتقدم بخطوات في مسيرة تخليق وانتخاب الكائنات الحية التي توجت بالنموذج الانساني ..

مع ان مثل هذه المواريث الثقافية كان لها الاثر ايضا حتى على افكار فيلسوف المانيا العظيم هيجل الذي طورها الى مفهوم " الفكرة المتسامية " التي تسير الكون ليقوم ماركس من ثم ، الى قلبها ( رأسا على عقب ) باعتبار تطور الالة ووسائل الانتاج هو الفاعل الحقيقي في التطور الى هدف لا يبدو واضح الملامح لبناء شكل اجتماعي كلاني معين ( وهو الشيوعية ) .

لكننا اليوم ، حين نقف على " اكتاف " اولئك المفكرين العظماء نكون قد تجاوزنا الكثير واصبحت معرفتنا عن حقيقة المسار البشري في التاريخ ، بفضل المكتشفات العلمية وتطور المعارف ، اكثر نضجاً واحد بصيرة و تفكرا بما يجعلنا نميز خطوط عدة يجري عليها التاريخ وليس خطاً واحداً...

الطبيعة البيولوجية احدى اعظم واهم هذه الخطوط ، وهي بإرادتها الكامنة في الخلية الحية لا تريد منا الفضيلة ولا الاخلاق ولا قيام الرأسمالية ولا الشيوعية ولا تريد أي دين او ثقافة .. بل هي لا تبالي حتى بمخترعاتنا وانجازاتنا العظيمة الجبارة ببناء الآلات العملاقة وناطحات السحاب الكبرى كالجبال ...

هي لا تبال وربما لا تفهم او تدرك أيا من هذا ، هي تدفع فقط ( عبر آلية عمياء او ربما ذكية ) باتجاه تطوير المحتوى الوراثي الجيني لدينا عبر تناقل الاجيال له سواء بالتطور او الانتخاب الطبيعي عبر التزاوج ...
فالمسار الذي انطلق من الفيروسات مرورا بالبكتيريا فالخلايا الكبرى والكائنات الكبيرة .. التي تتوجت بالإنسان ... انما يمضي نحو مزيد من " التحسين " و " التطوير " .. و مأساة الجنس البشري الحقيقية هي نرجسية " ثقافية " شاملة عامة في النوع الانساني تصور الانسان على انه الغاية والخاتمة ، وهو تصور مضلل وبعيد عن فهم ولغة الطبيعة البيولوجية المجردة ..
ولعل ابسط الادلة على وجود انشطة " قيد الانشاء والتشكل " في المنظومة الحيوية البشرية هو حجم الدماغ الذي كان قد زاد قليلاً في دماغ جنس النياندرتال البشري ( المنقرض ) عن حجمه في جنسنا الحالي والذي يبدو بانه سيقطع نفس المسار او مسار مواز لتطوير حجم الدماغ ..

ولعل " الاحلام " و وظائف " النوم " امثلة واضحة على انشطة مبهمة تؤشر من نواح عدة على وجود " نمو " ادراكي تاريخي في الجنس البشري قيد التطور وقد يستغرق مئات الوف السنوات القادمة لكي يتم ...
ومثلما اعتبرنا النياندرتال جنس بشري مختلف عنا نحن الهوموسابينز ، الجنس البشري الذي خبأه المستقبل ، والذي قد تتطور ملكات الخيال و الاحلام لديه قد ينظر الينا كجنس اقل مرتبة .. ويضعنا افراده كمومياءات في المتاحف .....
إنكار العديد من الباحثين والعلماء للتطور أو ادعاء الغالبية ان التطور " توقف " في الجنس البشري هو ادعاء غير صحيح ما دامت الحضارة العصرية لم تجرب الجنس الحالي سوى بثلاثين او اربعين الف سنة فقط ..

ولو صحت الفرضية باننا جنس توقف تطوره ، فهذا التوقف سببه حالة معينة طارئة انتجها الوعي البشري او حالة من توازن واستقرار بين البيئة والانسان او بين البيئة و شجرة ما توقف تطورها منذ مليون سنة ، وهو لا يعني بأية حال ان ظروفا بيئية اخرى تستمر لمليون عام لا تؤدي الى تطوير او تحوير الشجرة بطريقة تكيفية او انتخابية عبر اعادة خلط الجينات ..

بالتالي ، هذا الدفق الحيوي المخبوء في ثنايا الجينات ، هو الذي يلح علينا بضرورة التكاثر والتناسل باستعمال وسيلة شديدة الفعالية و التأثير وهو الجنس Sex ...
وتحول " الجنس sex " في الحضارة العصرية الى دافع للمتعة وانعاش المخ دون انتاج او بإنتاج محتويات جينية جديدة اقل بكثير مما يرسمه المسار الطبيعي هو " كارثة " خفية لم تدركها الانسانية بعد ..
السلطة المطلقة للجنس البشري على التاريخ باتت فعلا افساداً مطلقاً ..

الحرية بمعناها المطلق النرجسي للجنس البشري كسيدٍ اوحدٍ في هذا الكون تؤدي الى تخريب المسار البيولوجي الطبيعي للإنسان نفسه والذي تفرضه طبيعته البيولوجية ..
احداً لا يعرف بعد حجم الكارثة ... احداً لا يدرك ولا يستطيع تخمين عاقبة ذلك ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحداثة
Almousawi A. S ( 2014 / 6 / 9 - 15:51 )

مقال ودرس عميق للاستاذ وليد مهدي
وبصمة نوعية وجديدة لكل من يريد ان يترك اثارة الانسانية المميزة
مع كل الخيرين والجادين في ممارسة حياتهم الكريمة والراقية و اللائقة بقيم الانسان وتجسيد رسالتة على مستوى الاداء الحي وعدم الاكتفاء بالتبليغ
وخصوصا بما يتعلق بامكانية تراجع الانسان متدهورا حيوانيا
اذا ما اكل نصفة الانساني المكتسب بجهد وشقاء ومقاومة وشموخ ووعي وعمل مضني لسنوات طوال
ومن اجل تقليص ماهو موروث وقديم في خلفية صغيرة تحت رقابة صارمة بان لا يتسرطن الحيوان فينا ثانية
لك كل الاحترام


2 - الرفيق الموسوي مع وافر التقدير
وليد مهدي ( 2014 / 6 / 10 - 09:30 )

شكرا لمرورك الجميل رفيقنا وعمنا الغالي

الانسان بحاجة الى الموازنة بين مواريثه الثقافية والحيوانية اذا ما اراد لنفسه الاستمرار والبقاء .. جيلا بعد جيل


الف تحية لك

اخر الافلام

.. لبنان.. مزيد من التصعيد بين إسرائيل وحزب الله | #غرفة_الأخبا


.. ماذا حققت إسرائيل بعد 200 يوم من الحرب؟ | #غرفة_الأخبار




.. قضية -شراء الصمت-.. الادعاء يتهم ترامب بإفساد انتخابات 2016


.. طلاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة يهتفون دعما لفلسطين




.. قفزة في الإنفاق العسكري العالمي.. تعرف على أكبر الدول المنفق