الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خضراء الله

عبدالنبي فرج

2014 / 6 / 9
الادب والفن


خضراء الله
عبد النبي فرج

لا شعر حقيقي دون غموض حقيقي، والغموض الحقيقي نتيجة جماع الموهبة الفطرية والمعرفة الرفيعة، والتي يستطيع الكاتب بها تضفير ونسج جملة شعرية مركبة، تنتج دلالة متعددة تثري الإبداع عموماً والنص الشعري خصوصاً. وقد بدأ الغموض نتيجة مباشرة لتلاقح الثقافات والحضارات حيث تمدد العرب فى العالم مما أدي لصبّ معارف جديدة ولغة جديدة وعادات وقيم مختلفة. وظهر هذا واضحاً لدي أبو تمام.
ومثلما كان الخارج ضرورياً فى عملية التلاقح وتوهج الإبداع فى الشعر العربى قديماً، كان الخارج أيضا عنواناً رئيساً للحداثة الشعرية العربية، فقد أثّرت المدارس التى نشأت بالغرب فى الشعر العربي خاصة الرومانسية التي تأثر بها صلاح عبد الصبور، والسريالية التى تأثر بها جورج حنين ومعظم شعراء مجموعة الفن والحرية، والرمزية التى احتفت بالرمز والأسطورة وظهرت أولاً عند سعيد عقل ثم تبدت عند السياب ونازك الملائكة من ثم في شعر حجازي وأمل، أو من استطاع أن يستلهم كلّ المدارس النقدية الأدبية كما ظهر عند أدونيس، حيث استلهم الحلم والتاريخ والأسطورة واليوميّ الخ.
واحتفى أدونيس خاصة بالغموض وتأثر به الشاعر المصري محمد عفيفي مطر والذي أثر بعد ذلك في شعراء السبعينات تأثيرا قوياً. وينقسم الغموض لدي شعرية السبعينات إلى قسمين: القسم الأول ناتجاً عن تراكم الصور والاستعارات والتوشية والتزيين والزخرفة، فضاع المعنى فى كثير من القصائد وأبهم النص تحت وابل من الرموز المتناقضة التي يستحيل فكّ شفرتها.
ولكى أحدد كلامي فليس كل جيل السبعينات ملغزاً ولا كل إبهام فارغاً، لكن هناك إنتاج كثير جدا بل دواوين كثيرة سقطت فى فخ الغموض، ومنهم الشاعر حلمى سالم فى دهاليزى والصيف ذو الوطء 1990، ورفعت سلام فى إشراقات، وعبد المنعم رمضان فى قصائد ناريمان عدلى رزق الله، وحسن طلب فى آية جيم، وجمال القصاص فى السحابة التى فى المرآة. لكن هذا لا يقلل من تجربة هؤلاء الشعراء أو من تجربة السبعينات عموماً.
والقسم الثاني هو القسم الذي احتفى بالتجريد والأسطورة واليومي والتاريخي والصوفى والولع بالتكثيف والاقتضاب والبعد عن الزخارف، ومنهم أحمد طه، وعبد المقصود عبد الكريم، وأمجد ريان، ومحمد عيد إبراهيم، والأخير موضوع هذا المقال. وقد نتج الغموض لدي هذا الشاعر فى بداية التجربة نتيجة التجريد والاقتضاب والتكثيف الشديد حد البتر، وعدم التجانس فى المقاطع أو الجملة الشعرية.
كما أنه شاعر باطنى يحتفى بالرمز والقناع لذلك زادت حدة الغموض، وهو أيضاً مولع بالنص الصوفى، وما هو معروف عن النص الصوفى من رمزية عالية وتكثيف شديد، لذلك يتقلب الشاعر بين التجلى والخفاء ومقاطع سردية حميمة وشفافة ثم مقطع مقابل ملغز ومبهم تجد صعوبة فى الربط بينها، فهناك عدم تجانس. ويمكن الاستدلال من ديوان "على تراب المحنة" من قصيدة "وحش تهيم" فالمقطع الأول:
(لأن الصباح بلا عددٍ وعضّتنى المصابيح
كان فمى فى التراب على صيد مفردةٍ)
هذا الجزء المعتم واستحالة الاستعارة فعدم التجانس يأتى ما بين "كان فمى فى التراب" و"على صيد مفردة"، ثم هناك الجزء الثانى من القصيدة شديد التكثيف والشفافية والجمال:
(عهدا من العري أحلم، بين الباب والعتبة،
حز رأسي على ملأٍ)
ولتأمل هذه الرقة وهذه القدرة المدهشة على التقشف فى حذف أداة التعريف هنا ليؤكد على عنف الألم وقسوته وقسوة العقاب، ثم ينهى القصيدة ليكشف سمة من سمات الشاعر، وهى العنف والتعبير عن الشبقية المازوخية:
(ضُمّنى –
من بهاء العنف بين معبوديك)
إذا الغموض راسخ مع رحلة محمد عيد الشعرية، لكنه كما أشرنا له رغبة فى الكشف ولذلك يعود للتاريخ أو ألف ليلة وليلة، أو الأمثولة، أو اليومي المباشر، فهو يتقلب موجوعاً من التجلى أو الخفاء، يهرب من هذا ليسقط فى هذا، وهي روح الفنان الحقيقية القلقة والمرتابة فى الشعر والحياة وما يملك. يقول:
(اتّعد ابن ملُجم "أنا أقتل عليا"
فخطب قطام، ضرب علىٌّ أباها وقت القيروان:
- تدبّر فالتمس غرته، من حركاتها. جزّئه وتبعّض.
فإن تحصر، شفيت نفسى ونفعك العيش معى.)

2
منذ ديوانيه "مخلب فى فراشة" و"الملاك الأحمر"، انتقلت تجربة الشاعر انتقالة فارقة، فقد روّض اللغة العصية، فأصبحت سهلة منقادة وتخلى عن السرد المتقطع الصلب إلى سرد رائق معبر ورائق، لا بتر ولا ترهل، وقد وصل إلى ذروته فى ديوانه الرائع "خضراء الله".
والذات فى "خضراء الله" ذات هرمة، خائفة من الفناء، ولذلك تتشبث بالحياة، وتتوسل بالحكاية والتذكر وتشييد عوالم وشخوص قوية تتفجر بالحياة والقوة. وقد استخدم مفردات دالة معبرة أيما تعبير عن هذا الشوق وهذه الرغبة فى الحياة. وأولى هذه المفردات يأتى من العنوان "خضراء"، وصفة الخضرة مرتبطة بالنبات وسر الحياة وباعث الطاقة، الماء، الذي يحيي الزرع ويجدد فروعه وأغصانه. وأول مرة تبزغ كلمة خضراء متفردة على ما اعتقد كانت فى ديوانه "بكاء بكعب خشن"، وفى قصيدة "نبى أخضر"، حيث يقول:
(أول ما رأيناه امرأة
تغمز لصبى، فراقبناه حتى غوى
واقفا كالنصل عند الظهيرة
جندلته: تري أنى مستطيع لك صبرا
فاختفى منى وبان ممتعضاً)
فالخضرة مرتبطة بالطفولة والصبا والشباب، لذلك لا يخرج على مدار الديوان من هذا الإطار، بمعنى أن الذات تحن إلى مواطن القوة والعنفوان لذلك كان هذا الحنين وهذا التولع بالعودة إلى الماضي الفردوسي، من ثم ننتقل إلى مفردة أخري مولع بها ومعبرة عن حاله، يردد الشاعر مفردة التقشير وقشر الوحل، فحم تقشر عن تماثيل، قشر صبار، وتنويعات تؤدي نفس الغرض، مثل المحو، والبياض، وتمنى مثل قميص يوسف أن يغطي عينيه فيرى اسمه أبيض.
والاسم معادل لحضور الجسد، فلا اسم بلا جسد، واسم جديد يعني جسداً جديداً، والثعابين كلما قد ضاق جلدها أو قدم تقوم بتغيره. والذات عندما يبلى جسدها تريد ان تقشره لتنبت جسداً آخر. ولأنه يعلم الاستحالة فقد كان عليه أن يعيد شبابه وطفولته الضائعة من خلال اللسان. واللِّسَانُ: جسم لحميّ مستطيل متحرك، يكون في الفم، ويصلح للتّذوُّق والبلع، وللنطق وهو هبة ووسيلة فريدة فى التعبير عن الذات واللسان خلق من عدم، كما قال سقراط: تكلم حتى أراك، واللسان لدي الشاعر هو شمس التذكر وخالق العوالم، والمعاقب والحامي وبداية الحضارة. يقول الشاعر فى قصيدة "برولوج" من ديوان "خضراء الله":
(لا تُعيدُ الألسنُ ابتداع العالم.
بل تفكر فى الطريق الى مملكة العقل، حقيقة بسيطة هى أن المادة بدقة الرسم واسم للاشياء لا يهتدي إلا بذاته،
كلب يصطاد أرنبا بثقافة سهم وتصريف معلومات، بحسب تاريخة الجدلى. براءة دون مبادرة ناطقة. حوار شفهي، بشري وغير بشريّ، مصدر الحي الى الجماد، وقرابة الصوت للمعنى، كأن النطق تصور للغة
وقابل للتجريب
لسان يدفع الثمن
وهى بموضع العشق ترغب فى تملك الام
كأنها حلم بمجري المفردات، توازن قلق على حدود مفروضة، محتوي ثابت لتنوع الشخصين
أصبع مستعار لقبلة ولسان يحمل سمة الذاكرة.)

3
هناك خيط رفيح بين الأدب الإيروتيكي والأدب الإباحي، وليست هناك علامة أو شروط محددة تحدد بوضوح بين الأدب الايروتيكي المبني على فلسفة عقلية إنسانية تحتفل بالجسد ككيان بهى فريد أو كفضاء حر وبين الجسد ككيان مستعبد مستهلك يتم تسليعه. وكلمة ايروتيكية جاءت من إيروس Eros في الميثولوجيا اليونانية، وهو إله الحب والرغبة والجنس يعادل آمور (كوبيدو) في الميثولوجيا الرومانية.
ومع أنه لا علاقة تذكر لهذا الإله بالطقوس الدينية، إلا أنه من الشخصيات المحبوبة في الأدب والرسم والنحت والموسيقا. ظهر إيروس للمرة الأولى في ثيوغونية الشاعر هيسيود في بداية الكون كما جايا وتارتاروس من الكاوس (الفوضى)، حتى بدايات الكلاسيكية اليونانية، وكان يُمثّل بفتى جميل، من صفاته أنه يحمل سوطاً أو شبكة أو يلبس صندلا. أما في الهلينية فأصبح يُمثّل بطفل صغير يحمل قوساً وسهاماً.
قد يكون السبب في هذا التجسيد هو في التناقض بين براءة الطفولة وقوة الحب العنيفة. ويعتقد أن تماثيل وصور إيروس مُنِحت أجنحة لأن التقلب من صفات الحب والرغبة. ونرى هنا أن الإيروسية جوهر أصيل حيث تضرب بجذور عميقة فى نسيج شعرية محمد عيد إبراهيم، منذ ديوانه الأول وتحفل نصوصه بوصف فعل الحب و والنساء، ويتجلى ذلك فى اختياره لمفردات حسية أو فى استلهام عوالم ألف ليلة وليلة الذي تحفل بتصوير اللذة وفعل الحب.
وديوان "خضراء الله" أعلى تجلٍ لإيروس فى أعمال محمد عيد إبراهيم. إنه حالة صوفية فريدة تتجاوز الحياة ذاتها. يقول الشاعر:
(وبقدر ما كان الحلم وعداً فى صحراء طارئة
كان يغسل بطنها بيديه، بنبيذ حامض فى صفاء الرُّضاب
فارتجفت من العمق حتى تألقت الذاكرة)
أو
(إلا أن الجنس أبقى من الحياة
ضريح كبير من الوصل أو منطقة حرة للموت
لا يفكر بل يعتلى غصناً جديلاً على الأرض
كمن هو فى حاجة إلى الله والشعراء)
ديوان "خضراء الله" ديوان الرغبات المستحيلة، ديوان الخوف من الموت والفناء، لذلك نشأة الشهوانية فى باطن الموت الذي يعتبر هاجساً ملحاً للذات الشاعرة، وهنا تكثر مفردات الموت والجثة والفقد والنهاية والفناء، والتى تحاول الانتصار عليه بالاستغراق فى تذكر النساء ووصف أعضائهنّ وتخيل أجسادهن المضيئة التى تتألق فى روح الشاعر واستعادة ممارسات الجنس المعادل للحياة والقدرة.
والموت سارق الروح هادم اللذة، لذلك يمتزج فعل الحب كتجلٍ للإيروتيكيّ بالموت والفقد، إنه ديوان الحلم والأسطورة، وأسطورة المرأة الخالدة حمّالة الأوجه لذلك يشيد لها بورتريهات لتخليدها مستفيدا من منجز الفن التشكيلى، فكل واحدة تبرز للوجود جانباً من المرأة والوجود، وبداية من المرأة كأداة للعقاب، وهي السيدة المتوحشة التي تطرد الطفل الصغير ولا نعرف من هذه السيدة هل هي زوجة أبيه أم جده، فهي تتمركز حول ذاتها مستغرقة بالاحتفال بجسدها حيث تمسده وتنظفه وتجدده بالزيوت والعطور، مثلما في قصيدة "الرومية"، حيث يقول:
(ولها صلاة مع جسمها، فتحك فتحاته بالكيس فيه نقطة زيتون. تدلك ثديها بليمون ولا فندر وكريم أطفال ثم تفتح ساقيها المفروجتين أصلاً على نعيم متاعها كى ينطلق كالفاتح من كِنِّه. اللعوب برغوته وحزوز أعصابه فى ضحكة سوداء)
أو كسلطة مستبدة قاهرة مثل السمراء فى قصيدة "سرير الملك" التى تعبد "الفرْج" السحاقية، التى تمارس العنف ضد الرجال وتقهرهم. أو "فاتن المجنونة" (كاس سوداء محشوة بالروث)، ثم الجنس كحالة تصوف كما فى قصيدتي "ربة الانتقام"، "غلطة ذات الجناحين"، أو يعبر عن تفاصيل حميمة تخصّ الشاعر كما فى "أم البنات".
هذا الديوان لا يكشف عن موهبة أصيلة يتمتع بها الشاعر محمد عيد إبراهيم، ولكن يكشف أيضاً عن ثقافة رفيعة يتمتع بها الشاعر مما جعله بنسج كل هذه العوالم الفريدة فى سرد شفيف ورائق يمزج فيه بين المعرفى واليومي والتاريخي والأسطوري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في