الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة مفتوحة إلى شقيق مات الحبّ في قلبه

محمد محمود

2014 / 6 / 9
حقوق الانسان


1
شاهدت واستمعت بحزن وفزع للمقابلة التي أجرتها قناة سي ان ان (العربية) يوم الخميس 5 يونيو 2014 مع الشاب السماني الهادي الذي يقول إنه شقيق مريم يحيى. كانت النقطة الأساسية التي أكّد عليها السماني الهادي أن مريم يجب أن تُقتل إن لم تعد لحظيرة الإسلام. وعندما سألته مراسلة القناة كيف يرضى القتلَ شنقا لأخته أجاب بطهرية المؤمن إنه لا يمكن أن يُرضي إنسانيته وعواطفه ويُغضب
الله.

وجملة السماني الهادي هذه تعكس في واقع الأمر ما نجح الإسلاميون والنظام في غرسه في وعي الكثيرين من جيله وهو ما يمكن أن نصفه بـ"وعي الشريعة". ووعي الشريعة هذا وعي نصوصي يفتقر لعنصرين هامين هما العنصر الأخلاقي وعنصر الحب. وتساؤل المراسلة الاستنكاري يعكس الوعي المعاكس الذي يصارع وعي الشريعة اليوم في كل المجتمعات المسلمة. وسنخطيء خطأ كبيرا إن اعتقدنا أن هذا الوعي المعاكس للشريعة هو وليد اليوم ووليد حساسية عصرنا. إن هذا الوعي لازَمَ
في واقع الأمر مظاهر العنف في الشريعة منذ بدايات الإسلام.

دعونا نأخذ مثالين على هذا الوعي المعاكس.

2
المثال الأول يتعلّق بالآية 34:4 أو آية النشوز في سورة النساء والتي تقول: "الرجال قوّامون على
النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحاتُ قانتاتٌ حافظاتٌ للغيب بما حفِظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعِظُوهُن واهجُرُوهُن في المضاجع واضرِبُوهُن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليّا كبيرا". لقد واجهت هذه الآية المسلمين ذوي الحسّ الأخلاقي السليم بتحدٍّ كبير في الماضي والحاضر --- كيف يبيح المرء لنفسه أن يضرِب امرأته؟ إن الآية صريحة ولا لبس فيها: كل من "يخاف" أن "تنشز" امرأته يمكنه، ضمن إجراءات أخرى، أن يضرِبها. هذا إجراء مشروع تقرّه الشريعة وكان من العسير على علماء الإسلام أن يعتبروه عنفا منزليا غير مقبول وتجب مراجعته.

إلا أننا نجد حديثا في سنن البيهقي يرويه إياس بن عبد الله يقول: "قال رسول الله ... "لا تضربوا
إماء الله" قال: فذئر النساء [اجترأن ونشزن] وساءت أخلاقهن على أزواجهن، فقال عمر ... : يا رسول الله ذئر النساء وساءت أخلاقهن على أزواجهن منذ نهيت عن ضربهن، فقال النبي ... : "فاضربوهن" قال: فضرب الناس نساءهم تلك الليلة قال: فأتى نساء كثير يشتكين الضرب، فقال النبي ... حين اصبح: "لقد أطاف بآل محمد الليلة سبعون امرأة كلهن يشتكين الضرب وأيم الله لا تجدون أولئك خياركم" (السنن الكبري، بيروت: 2002، ج 7، ص 496.)
ولقد ضعّف البخاري هذا الحديث وقال لا يعرف لإياس صحبة، ومال الألباني لتضعيفه إلا أنه فتح الباب أيضا لترفيعه لمستوى الحديث الحسن. وربما يكون الحديث صحيحا ويعكس ذاكرةَ حدثٍ وَقَعَ فعلا وربما يكون موضوعا. ولكن حتى ولو كان موضوعا فلابد أن نتوقف ونتساءل لماذا يوضع مثل هذا
الحديث وما هي وظيفته؟ إن هذا الحديث يعكس بوضوح نزعة وعي معاكس يريد أن يَحُلَّ الإشكال الأخلاقي لآية النشوز عبر الجملة النبوية "لا تجدون أولئك خياركم". وهكذا فإن كان هذا الحديث موضوعا فهو انتحالٌ يعكس رغبة عميقة لتجاوز حُكْمَ الضرب. إلا أن ما انتبه له من ضعّفوا هذا الحديث وأرادوا إسقاطه أنه في نهاية الأمر يُخِلّ بالتراتبية الأخلاقية للنظام الأخلاقي الإسلامي فيجعل الحديث معبّرا عن قيمة أخلاقية أرفع (كراهية الضرب) من القيمة التي يعبّر عنها القرآن
(إباحة الضرب.)
3
أما المثال الثاني فيتعلق بقصة تَرِد في مادة الحديث. يحكي عِكْرِمة عن صفوان بن أمية أنه "طاف بالبيت وصلى، ثم لفّ رِداءً له من بُرْد، فوضعه تحت رأسه، فنام، فأتاه لِصٌّ، فاستلّه من تحت رأسه، فأخذه، فأتى به النبي ... فقال: إن هذا سرق ردائي، فقال له النبي: ... "أسرقت رداء هذا؟"، قال: نعم، قال: "اذهبا به، فاقطعا يده"، قال صفوان: ما كنت أُريد أن تُقطع يده في ردائي! فقال له: "فلو ما قَبْلَ
هذا"... " (سنن النسائي، الرياض 1417هـ/ 1996، ص 744). هذا الحديث ينتمي لطائفة الأحاديث الصحيحة وله وظيفة هامة في النظرية الجنائية وهي التأسيس لمبدأ عدم جواز إسقاط الحد بعد رفعه لجهة التقاضي. ولكننا نلمح في الحديث بعدا آخر هاما عادة ما يُهمل ويتمّ تهميشه. فالجملة النبوية "فلو ما قَبْلَ هذا" تقابلها وتعارضها جملة صفوان "ما كنت أُريد أن تُقطع يده في ردائي!" من الواضح أن صفوان صدمه قرار محمد بقطع يد السارق وأحسّ بأن العقوبة تنطوي على إفراط لا يتناسب مع الجريمة. وفي رواية أخرى للحديث نقرأ عن محاولة يائسة لصفوان لاستنقاذ يد اللص إذ يعرض على محمد تنازله عن ردائه قائلا "يا رسول الله، هو له"، إلا أن محمدا يرفض. وهكذا فإن كانت الجملة النبوية "فلو ما قَبْلَ هذا" تؤسس للمبدأ الجنائي فإن جملة صفوان "ما كنت أُريد أن تُقطع يده في ردائي!" تعبّر عن احتجاج أخلاقي ووعي معاكس يواجه وعي الشريعة ويتجاوزه.

وعندما نقارن المثالين فإننا
نجد أن الوعي المعاكس لوعي الشريعة قد استند في المثال الأول على مواجهة سلطة القرآن بسلطة الحديث، أما في المثال الثاني فإن الوعي المعاكس قد واجه سلطة الحديث بسلطة الحسّ الأخلاقي السليم الذي فجعه ذلك الإفراط واللاتناسب في العقوبة التي تفرّط في يد الإنسان من أجل متاع لا يسوى شيئا بإزاء حرمة جسد الإنسان --- وهو حسّ أخلاقي يبلغ قمة احتجاجه في رواية أخرى للحديث يقول فيها صفوان لمحمد: "أتقطعه من أجل ثلاثين دِرهما؟ أنا أبِيعُهُ وأُنْسِئُهُ ثمنَها"، وهو حديث أدخله علماء الحديث في دائرة "المُنْكَر" رغم معقوليته وانسجامه مع توتّر اللحظة وصدمة صفوان وشعوره بمسئوليته الأخلاقية غير المقصودة وربما شعوره بالذنب.

4
موقف صفوان بن أمية هذا في
حجاز القرن السابع الهجري هو ما أتمنى أن يتأمله ويهتدي به السماني الهادي في سودان القرن الحادي والعشرين وهو ينزع عن قلبه حبّه لأخته ويطالب بشنقها لأنها خرجت من الإسلام. إن ما يدركه كلّ صاحب حسّ أخلاقي سليم أن هذا الموقف موقف خاطئ وشائه وأن قيمة الحبّ لابد أن تكون أرفع من قيمة الشريعة. ورغم أنني لا أعرف السماني الهادي إلا أنني لا أشكّ أنه يعرف أو سمع عن الكثيرين في السودان الذين فارقوا الإسلام واعتنقوا أديانا أخرى أو رفضوا الدين نفسه رفضا تاما. وهم أفراد لم تنقلب عليهم أسرهم وتجرّهم للمحاكم لتشهد شنقهم، لأن حبّ هذه الأسر لأبنائها وبناتها أكبر من انحيازها للشريعة. هذا الحبّ للشقيقة والشقيق وللأم والأب (ولكل من حولنا) هو ما يزيدنا إنسانية وهو ما يجب أن ننحاز له. ما أتمنى أن يذكره السماني الهادي أنه أحبّ أخته وهو طفلٌ من قبل أن يكون له دينٌ وأن هذا الحب الخالص العاري من التشوّه هو في نهاية المطاف أرفع وأنبل ما تنطوي عليه جوانحنا وأن التفريط فيه لا يقودنا إلا لعالم قبيح تنتصب في أفقه المشانق.

د. محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية
للأديان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - إله الإسلام
مريم رمضان ( 2014 / 6 / 10 - 23:59 )
هذا هو تعاليم إله الإسلام ،هل تريد من الإسلاميين أن يخالفوا تعاليم إلههم ويرفضوا شريعته ،كيف يكون هذا وهم بجم ورعاع مثل إلههم فهذا مستحيل.

اخر الافلام

.. برنامج الأغذية العالمي يحذر من خطر حدوث مجاعة شاملة في غزة


.. احتجاجات أمام مقر إقامة نتنياهو.. وبن غفير يهرب من سخط المطا




.. عائلة فلسطينية تقطن في حمام مدرسة تؤوي النازحين


.. الفايننشال تايمز: الأمم المتحدة رفضت أي تنسيق مع إسرائيل لإج




.. رئيس مجلس النواب الأمريكي: هناك تنام لمشاعر معاداة السامية ب