الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لن يموت الدّكتور المهدي المنجرة

إدريس ولد القابلة
(Driss Ould El Kabla)

2014 / 6 / 27
سيرة ذاتية


لن يموت الدّكتور المهدي المنجرة
رجل أغاراس ... كنز ثمين استفاد منه غيرنا

"أغاراس" عبارة بربرية تعني عموما الإستقامة و النزاهة الفكرية و حسن السريرة و الاعتداد بالحكمة و المصلحة العامة في العلاقات و المعاملات و التصرفات ، و تعني كذلك شجاعة البوح بالحق و الجهر بالحقيقة و الدفاع عنهما مهما كان الأمر. إنه مصطلح يختزل كل تلك الصفات و المبادئ التي أضحت عملة ناذرة جدا في عصرنا الحالي، عصر الخيانة و الارتزاق.
الدّكتور المهدي المنجرة اسم كان على لسان المثقفين والباحثين على امتداد عقود من الزمن، لا يمكن الحديث عن علم المستقبليات دون ذكر المهدي المنجرة.
عن عمر ناهز 81 سنة، انتقل إلى عفو الله، يوم الجمعة بالرباط، المُفكر وعالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة. قد فارق الحياة ببيته بالعصمة، بعد معاناة طويلة مع المرض،ودفن بالرباط. عانى الفقيد من حالة صحية جد حرجة خلال الأشهر القليلة الأخيرة، لم يستطع معها التحرك ولا الكلام. وكان عدد من الطلاب والباحثين والأساتذة الجامعيين ، قد أطلقوا قبل شهرين حَملَة الكترونية لمساندة عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة، بعد دخوله في حالة صحية جد حرجة، وهي الدعوة التي انطلقت تحت اسم "مَعاً من أجل تكريم الدّكتور المهدي المنجرة بالمغرب"، واختارت يوم 13 مارس يوما عالميا للاحتفاء بالمهدي المنجرة. لقد فارقنا وغاب عنا لكنه لم يمت وسيظل حاضرا .
ويعد الراحل المنجرة من أبرز علماء الدراسات المستقبلية في العالم، إذ أصبح مع تراكم تجربته داخل وخارج المغرب، أحد أكبر المراجع الدولية في القضايا السياسية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية، كما عرف بمواقفه المثيرة للجدل الموجهة لعدد من المنظمات الدولية، التي جال كثيرا في دهاليزيها وخبر كواليسها، مفضلا بعد ن زاغت عن السبيل.
مسار حياة
الدكتور المهدي المنجرة من مواليد 1933 بالرباط، تلقى دراسته الجامعية بالولايات المتحدة بجامعة " كورنيل". وبعد حصوله على الإجازة في البيولوجية والعلوم السياسية، تابع دراسته العليا بإنجلترا وحصل هناك على الدكتوراه في الاقتصاد بجامعة لندن. وكان أول مغربي يدرس في الجامعات الأمريكية.
وفي العام 1958، عاد المهدي المنجرة إلى المغرب واشتغل أستاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط.
وكان من الأساتذة المغاربة الأوائل الذين قاموا بالتدريس بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1958. وتقلد عدة مناصب سواء على الصعيد الوطني أو الدولي وساهم في إحداث الفيدرالية الدولية للدراسات المستقبلية وأسس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان. هذا علاوة على عضويته في جملة من المؤسسات ذات الصيت العالمي من ضمنها أكاديمية المملكة المغربية والأكاديمية الإفريقية للعلوم والأكاديمية الدولية للفنون والآداب. له عدة كتابات في مختلف مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، أكثر من 600 مقال وعدة مؤلفات، ولا زال قلمه سيالا ينتج باستمرار وعلى الدوام.
وحصل الدكتور المهدي المنجرة على عدة جوائز، من ضمنها جائزة الحياة الاقتصادية سنة 1981 والميدالية الكبرى للأكاديمية الفرنسية للمعمار سنة 1984 وقلادة الفنون والآداب بفرنسا سنة 1985 وقلادة الشمس الشارقة باليابان سنة 1986 وميدالية السلام من الأكاديمية العالمية لألبير اينشتاين وجائزة الفيدرالية الدولية للدراسات المستقبلية سنة 1991.
لقد جال الدكتور المهدي المنجرة العالم كله، غربه وشرقه، شماله وجنوبه. وأشرف على عدة أبحاث من ضمنها إشرافه بطوكيو سنة 1998 على فريق بحث عالمي يضم 15 عالما التعددية الثقافية وآثارها المستقبلية على الهجرة.
كما تولى مهمة مدير الإذاعة والتلفزيون ، إضافة إلى شغل عدة مناصب علمية رفيعة، وساهم في تأسيس أول أكاديمية لعلم المستقبليات، وحاز جوائز علمية وطنية ودولية كبرى.
وتولى المنجرة رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لعدة دول أوروبية، وشغل عضوية العديد من المنظمات والأكاديميات الدولية، وعمل مستشارا ببعضها.
لماذا الدرسة في أمريكا؟
حادثة غريبة كانت وراء التحاقه بالديار الأمريكية في نهاية أربعينات القرن الماضي لمتبعة دراسته إنها واقعة حدثت للمهدي المنجرة الشاب سنة 1948، وكانت فاصلا في مسار حياته وشخصيته.
كان آنذاك بمدينة إفران، بينما كان في المسبح اقترب كلب الفرنسيين وأجابه آخر قائلا: إذا كان هناك عرب يسبحون، فلم يمنع ذلك على الكلاب. ولم يتمالك المهدي المهدي المنجرة نفسه فانقض على ذلك الرجل ولكمه. وكان رئيس الأمن الإقليمي لمدينة إفران واقتيد المهدي إلى مخفر الشرطة حيث قضى بعض الأيام رهن الاحتجاز. وهذا ما أقنع والده بضرورة إرساله إلى أمريكا لمتابعة دراسته.
وهناك بأمريكا أسس الدكتور المهدي المنجرة النادي العربي وعمل مديرا للمجلس الدولي للطلبة. كما كان أحد مؤسسي جمعية المسلمين والنادي الشرقي وعضوا في جمعية " من أجل عالم جديد ".
وهو بأمريكا نشبت الحرب مع كوريا سنة 1954، طلب منه، باعتباره يتوفر على البطاقة الخضراء، التجنيد إلا أنه رفض.
اللقاء مع محمد الخامس
وعندما كان الدكتور المهدي المنجرة بلندن كان واحدا من الطلبة المغاربة الذين استقبلهم الراحل محمد الخامس بباريس في طريق عودته من المنفى إلى أرض الوطن، وكان هذا قبيل الاستقلال. وبعده، في سنة 1959 استقبل الملك محمد الخامس الدكتور المهدي كأول أستاذ مغربي في كلية الحقوق بالرباط وأصغر الأساتذة بها سنا وعينه مديرا للإذاعة والتلفزة المغربية خلفا لقاسم الزهيري.
اللقاء مع محمد بن عبد الكريم الخطابي.

في سنة 1954 سافر الدكتور المهدي المنجرة إلى لندن لتحضير الدكتوراه حول الجامعة العربية. وفي السنة الموالية 1955 حصل على منحة من مؤسسة روكفلر مكنته من السفر إلى مصر للالتقاء ببعض المسؤولين في الجامعة العربية، وهناك التقى بزعيم حرب الريف المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي وشقيقه امحمد.

لماذا غادر اليونسكو؟

الدكتور المهدي المنجرة جال كثيرا بدهاليز المنظمات الدولية وخبر خباياها، كما بلغ بداخلها أسمى المناصب وندد بمواقعها في قضايا الحاضر والمستقبل، وهذا ما حتم عليه مشروعه العلمي والفكري الواسع على الانسحاب منها. لاسيما وأنها منظمات انحازت في واضحة النهار للدول الكبرى وتعاطفت معها تعاطفا صارخا على حساب بقية العالم بعد أن انصهرت في نموذج الفكر الواحد دون اعتبار حق الاختلاف وتمييز القيم، إلى درجة عدم الاعتراف للشعوب بحقها في التنمية. كيف لا والدكتور المهدي المنجرة أعلن الحرب الضروس منذ فجر شبابه على " الفكر الواحد" الذي لا يعترف بحقيقة واضحة للعيان: ضرورة وإلزامية وجود الاختلاف ؟ كيف لا والدكتور المهدي المنجرة كرس حياته وما زال للدفاع عن الحق في الاختلاف كقيمة حضارية لا مندوحة عنها كيف ما كانت الأحوال ؟ كيف لا والدكتور المهدي المنجرة كان ولا زال مجبولا على الصدق في المواقف والجرأة في التعبير والمواجهة الفكرية.
يعتبر الدكتور المهدي المنجرة من المفكرين الأوائل الذين انتقدوا بشدة منظمة اليونسكو ، وكانت مناسبة العبث بآثار العراق محطة أخرى للمزيد من النقد لهذه المنظمة ، اعتبارا لكونها قضية تدخل ضمن التخطيط الأمريكي.
وقد وضع الدكتور المهدي المنجرة في أكثر من مناسبة أن اليونسكو لم تحرك ساكنا للتصدي لنهب الآثار العراقية وهي المنظمة العالمية التي لها دور عالمي في ميدان الثقافة والحضارة في حين أنها لم تقم بأي عمل يذكر للدفاع عن التراث الثقافي والإنساني العريق.
وكان من الطبيعي أن تسير اليونسكو في هذا التوجه باعتبار أن نظام الأمم المتحدة بما فيه جملة من المنظمات العالمية تعتبر أدوات في يد الهيمنة الاستعمارية الأمريكية، هذه الهيمنة التي تدعمها وتكرسها دول غربية كثيرة.
وفي نفس الاتجاه كان الدكتور المهدي المنجرة من الأوائل الذين انتقدوا دور الجمعة العربية إذ كان موضوع أطروحته لنيل الدكتوراه في جامعة لندن سنة 1958 هو نشأة جامعة الدول العربية، وقد خلص في تحليله إلى كون أنها آلة من آليات الاستعمار، موضحا أنها لعبت دورا استعماريا، وقد انكشف أمرها حاليا بجلاء، عندما أضحت مجرد ملحق للبيت الأبيض والبنتاغون، بعد أن كانت محلقا للوزارة الخارجية البريطانية.


الرحيل إلى اليابان

بعد منع فاس قرر المهدي المنجرة الرحيل إلى اليابان، علما أن الجمعية اليابانية للتقدم العلمي كان قد سبق لها ، قبل هذا الوقت، أن أبدت رغبتها الملحة في استفاضة البروفسور باليابان إلا أنه فضل المكوث بالوطن. لكن اعتبارا لصمت الأكاديميين المغربة و تفضيلهم التمترس بجانب مؤيدي تضييق الخناق على حرية التعبير، اضطر البروفسور اضطرارا لقبول الدعوة بحثا عن بيئة تحترم العلم و أهله و تقديرهم، و بذلك هاجر إلى اليابان قصد الأشراف على مشروع بحث علمي ضخم حول موضوع: " مقاربة الحداثة في العالمين الإسلامي و الياباني " بمعية البروفسور الياباني المرموق "يوزا إيتاغاكي" قيدوم كلية الاتصالات بجامعة العلوم الاقتصادية و الرئيس المشرف على الأبحاث اليابانية حول الشرق الأوسط و عضو المجتمع الوطني الياباني للثقافة و العلوم. و إلى جانب هذا، شارك المهدي المنجرة في الإشراف على مشروع اندرج في إطار أعمال مركز الأبحاث عبر القطرية بخصوص موضوع : " التنوع الثقافي و انعكاساته المستقبلية على الهجرة" بتعاون مع 15 باحث، من ضمنهم أحد أكبر المتخصصين اليابانيين في الدراسات الأكاديمية حول العالميين العربي و الإسلامي "أكيرا غوتو"، علاوة على الباحث " يوزا إتاغاكي" المذكور سلفا، و هذا ما كان حيث صدرت الأبحاث في متم سنة 1999.
لقد اعتبرت اليابان رحيل المهدي المنجرو إليها بمثابة هبة ربانية و حدث تاريخي...هدية معرفية علمية من العيار الثقيل و من النوع الثمين. و من صدف التاريخ، أنه في الوقت الذي كان فيه البروفسور محاصرا تحت شمس وطنه، كان مركز الدراسات الشرقية باليابان على وشك نشر كتابه " صوت الجنوب" باللغة اليابانية.
و بخصوص هذا الرحيل إلى اليابان توصل المهدي المنجرة ببرقية واردة عليه من أحد المغاربة جاء فيها: "...إن قرارك بمغادرة المغرب، سيبقى صعبا عليّ أن أقبله، لأنه يمس بحقوق الإنسان و قيّم الحوار و مبادئ حرية التعبير. و لكن هذا أعمق شهادة على ما هي عليه وضعية جامعتنا. و بصراحة عليهم هم أن يرحلوا عن البلد، و لست أنت..."
شعبية المهدي المنجرة...كيف يراه الشباب؟

يُعتبر المهدي المنجرة المثقف الأكثر شعبية بالمغرب بدون منازع. كان أين ما توجه بالمغرب (مدينة كبيرة أو صغيرة ) لإلقاء محاضرة أو المشاركة في ندوة أو نشاط إلا و هبّت جماهير غفيرة للاغتراف من معين أفكاره. في جميع المدن و في كل الأوقات و مهما كان الموضوع و كانت ا تغص القاعات أو المدرجات تغص.
كان يكفي الناس أن يعلموا بتاريخ و مكان حضوره للحج جماعات جماعات... جمهور من كل الفئات. و يبدو أن هذه الجماهيرية و الشعبية الواسعة النطاق و العابرة لكل الحواجز هي التي كانت تخيف و ترعب الأيادي التي كانت تحرك خيوط المنع و الحصار. و زاد فزعهم أكثر لكون المهدي المنجرة لم يكن رجل سياسة أو رجل مصالح، و إنما هو رجل بحث و علم، و العالم الحقيقي في كل بقاع العالم و في جميع الأزمنة يبحث عن الحقيقة أينما وُجدت و يدافع عنها جهرا و علانية و في واضحة النهار. و المهدي المنجرة لم يكن من أصحاب اليسار و لا من أصحاب اليمين و لا من أهل الوسط في الخريطة السياسية. و إنما كأن شغله الشاغل هو البحث العلمي...و مثل هؤلاء الرجال وجب احتضانهم بألف و ألف دراع و ليس محاصرتهم أو تضييق الخناق عليهم أو تعكير الجو عليهم لدفعهم للآخرين العارفين بقيمتهم و المستعدين في أي وقت لاحتضانهم احتضانا يليق بعلمهم و مكانتهم العلمية و موقعهم المعرفي.
و في هذا الصدد أضحى الجميع يعرف حق المعرفة أن المغرب فرّط في هذا الكنز الثمين الذي استفاد منه غيرنا أكثر مما استفدنا منه نحن رغم وجوده بين ظهرانينا.

كان المهدي المنجرة المثقف العربي الأكثر شعبية على شبكة الانترنيت، ما عليك إلا القيام ببحث في محرك "غوغل" و ستتقاطر عليك مئات الصفحات و آلاف المعطيات.
و الشباب المغربي ثاق فيه أكثر من ثقته في أي حزب سياسي أو مؤسسة ثقافية. و الملفت للنظر حقا، تضامن الشباب المغربي اللامشروط و التلقائي مع ا المهدي المنجرة.
بمناسبة كل منع ( والمعروف منها 7) كان يتصل به آلاف الشباب عبر الهاتف و عبر شبكة الأنترنيت. كما تم إحداث آلاف صالونات النقاش و الدردشة بالأنترنيت مخصصة كلها لإشكالية منع البروفسور و بمختلف اللغات و تساهم كل التيارات و الايديولوجيات.. و هناك الكثير من الشباب تحملوا عناء التنقل لزيارة المهدي المنجرة بمقر إقامته أو بمكتبه، لا سيما قبل رحيله إلى اليابان. و كل هؤلاء لا تربطهم أي سابق معرفة به، و إنما يعرفونه حق المعرفة عبر مواقفه و آرائه و أفكاره و تحليلاته و منهجه و مؤلفاته.
و قال أحدهم :" المهدي المنجرة...إنه معلمة و مؤسسة و مرجع من المراجع الحية الأساسية...إنه مرموق بأبحاثه و مؤلفاته، شعبي بأسلوبه الثاقب و لغته الحميمية... و هذه هي الأسباب الكامنة وراء المنع الذي يتعرض اليه البروفسور المهدي المنجرة".
وقد سبق للمنجرة أن كتب على صفحات جريدة الخضراء الجديدة الصادرة بطنجة : " ... غايتي بسيطة جدا: أريد أن أبرهن للسلطة أن ليست هناك سلطة أعلى و لا أقوى من الله الذي أعطى للمرء أعظم قوة و هي محاربة السلطة الظالمة بالايمان و بقوة الحق". و قال "وليام فولكنر" : " لا تخشى أبدا أن ترفع صوتك في سبيل الاستقامة و الحقيقة و التعاطف ضد الظلم و الكذب و الشجع. إذا عمل الناس في العالم أجمع ذلك، فإن هذا سيغير الكرة الأرضية".

هدف واحد ظل يشغل بال الفقيد، إنه تغيير هذا العالم الذي لم يعجبه يوما. وبرحيله على حين غرة، فقدت ساحة الكلمة الحرة الملتزمة والمسؤولة أحد فرسانها، بعد أن صارع الموت ردحا من الزمن في صمت وشجاعة وهدوء ورزانة.
الدراسات المستقبلية
لقد كرس الدكتور المهدي المنجرة جزءا كبيرا من حياته للدراسات المستقبلية. وظل يأمل أن تحظى هذه الدراسات بالأهمية التي تستوجبها بالنسبة لمغرب الغد، بعد ما يكون قد طور الدراسات و أبحاث حول المستقبل و أسس مراكز و معاهد تضطلع بتوفير مختلف المعلومات و المؤشرات الضرورية للقيام بمثل هذه الدراسات و للتمكن من المسك بخيوط التطور و التنمية مستقبلا. ومما كان يقوي أمل الدكتور المهدي المنجرة أن هناك وعي بارز بالمغرب على الصعيد السياسي بأهمية و جدوى الدراسات المستقبلية، و هذا يعتبر من المؤشرات و من العلامات المؤدية إلى ضرورة طرح تغيير الرؤى فيما يخص نموذج التنمية التي اعتمدتها البلاد إلى حد الآن. فهل ذهب أمله سدى؟
علما أن المغرب، كباقي دول العالم الثالث، قد مر بمرحلة التقليد، حيث حاول تقليد ألآخر و نسخ تجاربه لبلوغ النتائج المرجوة. و قد تم اعتماد هذا المسار بحسن نية و ارتكازا على درجة من الوعي. إلا أنه اليوم، يبدو أن المغرب مازال في حاجة ماسة، أكثر من أي وقت مضى، إلى نموذج مغاير للنموذج المعتمد، أي نموذج يكون مؤسسا على عوامل داخلية، و معطيات و قيم اجتماعية و ثقافية خاصة به و اعتمادا على الاستجابة لحاجيات المجتمع كما هي معبر عليها ديموقراطيا.

إلا أن المستقل ، كان يقول المهدي، ليس واحدا، فهناك تعدد المستقبلات الممكنة، لذا فالمطروح هو الاهتمام بالمستقبل المرغوب فيه أو المستقبلات المرغوب فيها قصد النظر بعد ذلك في النهج و السبل التي ستمكن من تصور هذه المستقبلات و طرق جعلها مستقبلات ممكنة التحقيق أخذا بعين الاعتبار مختلف المحددات و الاكراهات البشرية و المادية و المالية.
كان الدكتور المهدي المنجرة يقول إن المستقبليات ليست تنبؤ، لأنه لا وجود للتنبؤ عند البشر. والتنبؤ كان لخاتم الرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنما يقوم الإنسان بمعاينة وتتبع ودراسة تيارات الذات وتوجهات الأحداث ويحاول النظر في مداها البعيد وإلى حيث هي سائرة. وذلك مثل رؤية المرء لموجة البحر في بدايتها ويظل يتبعها على بعد 300 أو 500 متر أو 1000 متر، وينظر إلى ماذا ستحمل معها. إلا أن السياسي يهتم دوما بالآني. ففي الصباح يفكر في هل سيظل وزيرا أو مسؤولا أو في مكانه حينما يحل به في المساء.
للوقوف على معنى الرؤية المستقبلية يمكن الاستعانة بما كان يسميه الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستبصار. والاستبصار في اللغة العربية هي الطريقة التي نرى بها الأمور. وكان النبي صلى الله عله وسلم يستبصر كل صباح وهذا نوع من الديناميكية. وفي هذا الصدد دأب الدكتور المهدي المنجرة على القول أن المستقبلي غير الجيد لا يفكر إلا في المدة التي سيعيشها لأنه لا يهمه ماذا سيقع بعده، أما المستقبلي الجيد هو الذي يفكر على مدى هو على يقين تام أنه سوف لن يراه ويعاينه ولن يكون فيه على قيد الحياة، وبذلك فإن مصالحه الخاصة لم تعد مرتبطة بآرائه، بل تكون حرة ومتحررة من أية مصلحة كيفما كانت.


مغرب 2020

ففي سنة 2020 سيصل سكان المغرب إلى ما يناهز 45 مليون نسمة، علما أن أمل الحياة سيرتفع إلى 65 سنة، و بذلك سيحدث تعبيرا ملحوظا على مستوى الهرم الديموغرافي، أكثر من 50 في المائة من الساكنة سيكون عمرهم أقل من 25 سنة. و هذا يعني أنه هناك عامل أساسي لا مناص من أخذه بعين الاعتبار و بالأهمية التي يستلزمها للاستعداد للغد، و هو الخاص بتوزيع الساكنة بين الحواضر و البوادي. فالساكنة الحضرية المغربية في سنة 2020 مؤهلة لتصل إلى 70 في المائة من مجموع سكان البلاد. و هذا يعتبر تحديا كبيرا لامناص من الاستعداد إليه منذ البارحة و ليس منذ اليوم.
و في نظر الدكتور المهدي المنجرة يمكن لمغرب 2020 أن يحقق 90 في المائة من الاكتفاء الذاتي الغذائي، و هذا ما سيمكن البلاد من هامش مهم للتحرك على صعيد قضايا التنمية. لاسيما إذا تمكنا من تقليص الأمية إلى حدود 25 في المائة (عوض 55 في المائة حاليا)، و هذا التقليص عليه أن يكون ليس كميا فقط و لكن نوعيا كذلك، اعتبارا لضرورة تحقيق توازن يتعلق بالعالم الحضري، و فيما يتعلق بالمرأة و الرجل. و هذا يعني أنه يجب إعطاء الأولوية الآن للعالم القروي و للمرأة في هذا المجال.
كما أمل الدكتور المهدي المنجرة أن تستفيد كافة ساكنة مغرب 2020 من الماء الصالح للشرب في إطار سيرورة تحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية و تكريس كرامة الإنسان كأولوية الأولويات. و هذه السيرورة نحو المزيد من العدالة الاجتماعية من شأنها تفعيل سيرورة الخلق و الإبداع في المجال الفني، و هذا مؤشر من المؤشرات التنموية سواء في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي في المجتمع ما دامت التنمية ليس مادية فقط.
و اعتقد الدكتور المنجرة أن الخلق و الإبداع يعتبر من العناصر الأساسية للانتقال نحو مجتمع المعرفة. و هذا الصدد يحتل الإعلام مكانا جوهريا، لأنه كلما ظهرت جريدة أو مجلة أو كتاب أو شكل جديد للتعبير كيفما كان، فمن شأنه أن يساهم في توسيع مجال الاختيارات و تعدد الرؤى المتوفرة لعموم الناس. و هذا الخلق أو هذا الإبداع يجب أن يطبع كذلك البحث العلمي و الذي على البلاد أن تخصص له، في رأي الدكتور المنجرة، على الأقل 0.3 في المائة من الناتج الداخلي الخام. إلا أنه يتمنى منذ الآن أن يكون الهدف هو تخصيص 1.5 في المائة من الناتج المذكور للاستثمار في البحث، لأنه يعتبر شرطا حيويا للوجود ما دامت التكنولوجيا الجديدة تستوجب استثمارات هامة و تكوين مستمر، و ما دامت المعرفة تنمو و تتطور بسرعة متصاعدة، و إذا لم نوفر شرط المسايرة سيكون من الصعب، بل من المستحيل مسايرة الركب.
علما أن المغرب قد تأخر بشكل ملحوظ عن مسار سيرورة تطور البحث العلمي على الصعيد العالمي، مثله مثل حال العالم الثالث عموما، و يزداد الطين بلة بمعاينة تذمر الباحثين المغاربة فيما يخص التعامل مع ميدان البحث العلمي بالمغرب من طرف القائمين على الأمور في مختلف المجالات. إذن هناك تأخر بفعل درجة السرعة التي يسير فيها العالم في هذا المجال، و تزداد الصعوبة أكثر بمعاينة أن الدول المتقدمة غير مستعدة لنقل التيكنولوجيا إلى دول العالم الثالث، لاسيما فيما يخص التيكنولوجيا المتطورة و المتقدمة و ذلك اعتبارا لأسباب سياسية و أسباب اقتصادية و أسباب أخرى مرتبطة بالأمن، لاسيما و أنه أصبح من الصعب بمكان التمييز بين استعمال تلك التكنولوجيا المتطورة في المجال المدني و المجالات العسكرية. إلا أنه يلاحظ الدكتور المهدي المنجرة أن عدد الأدمغة و الباحثين من أبناء دول العالم الثالث يكادون يمثلون أغلبية على الصعيد العالمي، و بذلك يظل من البديهي ضرورة اعتماد التعاون الجنوبي-الجنوبي، سواء على الصعيد الإقليمي أو على صعيد القطاعات أو على صعيد الجامعات و الوحدات الإنتاجية. فدول الجنوب هي في حاجة لكل نوع من أنواع هذا التعاون لأن أي شكل من أشكاله كفيلة بتجميع الشروط للتمكن من قيام بحث علمي مجدي اعتبارا لما أصبح يتطلبه من إمكانيات مادية و بشرية و معداتية.

و إذا لم يكن من بالحجم المطلوب فلن تكون له انعكاسات لا على الإنتاج و لا في مجال تحسين ظروف الحياة. لأننا لا نقوم بالبحث العلمي من أجل البحث فقط، و إنما نقوم بالبحث ذي هدف و مقصود، بحث علمي أساسي من شأنه أن يسهل التطبيق لجني الثمار.
و اعتبارا لوضعية أغلب دول الجنوب، فان من أجدى السبل العمل الشبكي، أي العمل عبر شبكات- أو ما يسمى حاليا بلا مادية الاقتصاد- لأن هذا النهج سيقلص من بعض مصاريف البنيات التحتية و مصاريف التسيير و التدبير. و هكذا يمكن إحداث شبكات للبحث العلمي على الصعيد المغاربي و على الصعيد الإفريقي و على صعيد العالم العربي. و يمكن إشراك الباحثين المتواجدين بالغرب في تلك الشبكات، لاسيما و أن وسائل الاتصال و التواصل أضحت تسمح بذلك.
و من بين الإشكالات التي تظل قائمة بالنسبة لمغرب المستقبل حجم السوق. و لقد أكد الكثيرون، إضافة للدكتور المهدي المنجرة، أن الحد الأدنى لحجم السوق الملائمة يتطلب على الأقل 100 مليون نسمة، و لا يهم الشكل لضمان هذا الحد الأدنى ( منطقة حرة، تجمع اقتصادي جهوي أو إقليمي...) و في هذا الصدد تبدو بجلاء أهمية الوحدة المغاربية، لأنها أضحت في واقع الأمر مسألة حياة أو موت بالنسبة لبلدان المغرب العربي و شعوبه. إلا أن الدكتور المهدي المنجرة يتأسف لغياب الإرادة السياسية الضرورية و الكافية لتحقيق هذا الحلم الجماهيري المغاربي. علاوة على عدم إشراك شعوب المنطقة، بشكل أو بآخر، للمساهمة في تفعيل سيرورة هذه الوحدة.

و فيما يخص ظاهرة تطور الحركات الإسلامية رأى الدكتور المهدي المنجرة أن هناك اتجاه نحو لفظ الأصولية. فقبل 15 أو 20 سنة، لم تكن الأصولية تشكل مشكلا، حتى على الصعيد العالمي، بل على العكس من ذلك، كان المسلم إنسان مطيع، لا يكاد أثره يبين، و كان من مناهضي الشيوعية و يتعبد في المسجد. لكن هذا المسلم اليوم بدأ يظهر بشكل آخر و بصورة أخرى، لاسيما و أن عدد المسلمين كثر على الصعيد العالمي و فاق عدد المسيحيين، و هذا مشكل في نظر الغرب و بالنسبة إليه. إلا أنه في واقع الأمر، يقول الدكتور المهدي المنجرة، إن المشكل يكمن في كون أن آليات التواصل الثقافي لم تعمل بين البلدان الأوروبية و الآخرين، و هذا عنصر أو سبب بشري و ليس ديني. و مشكل التواصل هو قائم حتى على صعيد البلد الواحد و ليس بين البلدان فقط.
ظل الدكتور يظن أن الأزمة الكبيرة التي يعيشها المغرب هي الجهل والأمية، وبالتالي يعتبر أنه إذا لم نول الأهمية للموارد البشرية بظل محكوما على البلاد بالتأخر ومن جهة أخرى، يعتبر الدكتور أن النموذج التنموي مفروض على المغرب من الخارج – من طرف البنك العالمي – وبذلك فهو نموذج ليس مبني على الذات وبالتالي فإنه لن يأتي بنجاح مادام لم يؤسس على الاعتماد على النفس وعلى الذات. إذن هناك خطأ في النموذج التنموي باعتباره مملي من الخارج وليس نابع من رؤية واضحة المقاصد تعتمد على الذات ويساهم في بلورتها كل المغاربة.
وبخصوص قضية الوحدة الترابية وملف الصحراء، فإن الدكتور المهدي المنجرة ظل يناهض التفتيت والتشتيت وظل يدافع بكل ما أوتي من قوة على ضرورة الاندماج بين الدول المغاربية.

الفقر
حسب الدكتور المهدي المنجرة، إن الشيء الوحيد الذي له مستقبل في هذا العالم هو الفقر. فهناك أكثر من 3 مليار نسمة لا يصل دخلهم اليومي إلى دولارين اثنين.
ومنذ 30 عاما خلت كان الفرق بين الشمال والجنوب من 1 إلى 10 فيما يخص الدخل، أما اليوم فهو من 1 إلى 20. وفي المغرب فإن الفرق بين 10 % من أصحاب أكبر دخل و 50 أو 60 % من ذوي أضعف دخل كان من 1 إلى 15 أما الآن فه من 1 إلى 80. ومعنى هذا أن توزيع الثروات يتم بكيفية تؤدي إلى المزيد من التفقير، أي بزيادة الأغنياء غنى وزيادة الفقراء فقرا.

الخوف والخوفقراطية
كان الدكتور المهدي المنجرة يعتبر أن هناك نوع رهيب من الخوف يسود العالم، وهذا ما نعته بالخوفقراطية التي ما زالت قائمة ما دام الإنسان لم يتفوق بعد على هذا الخوف.
والخوفقراطية هاته بادية بجلاء حتى التعامل مع القضية الفلسطينية لاسيما فيما يخص العرب. ويظل تغيير الحال في العالم رهين بتفوق الإنسان على الخوفقراطية.

في الأخلاق
وبالنسبة للأخلاق، في نظر الدكتور المهدي، قبل النظر إلى انعدام الأخلاق في الشارع لابد من النظر إلى ما يقع في الوزارات والدواوين والمؤسسات والهيئات من فساد أخلاقي. فهناك سلسلة مترابطة، وهذا راجع ـ في نظره ـ إلى غياب التربية والتنشئة. فالعملية تتم من أعلى إلى أسفل والقدوة والنموذج يكون دائما من الأعلى.
كيف تستقيم الأمور ونحن نحاسب الصغير ونغض الطرف عن الموظف السامي ونكافئه عوض محاسبته. وبخصوص التكنولوجيا قال الدكتور المهدي المنجرة أنه لا يصح التعامل مع التكنولوجيا الحديثة كمواد استهلاك وإنما كأداة لابد من استيعابها وتطويرها بهدف التقليل من الهوة الفاصلة بين الشمال والجنوب، وتقليل الفوارق الاجتماعية بالمغرب تكريسا لدمقرطة المعرفة ديمقراطية حقيقية.

خلاصة القول
لقد كرس الدكتور المهدي المنجرة حياته للدفاع عن الحق في الاختلاف كقيمة، لاسيما وهو الرجل الذي اندغمت بداخله صلابة وقوة المبدأ وانصهرت في صلبه الجرأة في التعبير والصدق والنزاهة في الموقف مهما كان الأمر ومهما كانت العواقب.
وسيظل الدكتور المهدي أحد المراجع العربية والدولية في مختلف قضايا السياسة والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية.
++++++++
Encadre
مؤلفات
ألف المهدي المنجرة العديد من المقالات والدراسات في العلوم الاقتصادية والسوسيولوجيا ومختلف قضايا التنمية؛ وتبقى من أهم مؤلفاته "نظام الأمم المتحدة" (1973) و"من المهد إلى اللحد" (1981) و"الحرب الحضارية الأولى" (1991) و"حوار التواصل" (1996)، و" عولمة العولمة" (1999)، و"انتفاضات في زمن الذلقراطية" (2002) و"الإهانة في عهد الميغاإمبريالية" (2004)، و آخرها كتاب "قيمة القيم" (2007).
وقد اشتهر بحديثه عام 1991 عن الحروب الحضارية في كتاب أصدره العام نفسه بعنوان: "الحرب الحضارية الأولى". إذ اعتبر فيه الحرب ضد العراق في ذلك العام حربا حضارية، ولذلك كان يصر على التأكيد بأنه سبق المفكر الأمريكي صامويل هانتغتون في الحديث عن "الحرب الحضارية".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا للتحليل
الصحابي عبدالرحمان بن عديس ( 2014 / 6 / 27 - 14:22 )
شكرا الاستاذ ادريس على هذا المقال .

اخر الافلام

.. بعد -الإساءة لدورها-.. هل يتم استبدال دور قطر بتركيا في الوس


.. «مستعدون لإطلاق الصواريخ».. إيران تهدد إسرائيل بـ«النووي» إل




.. مساعد وزير الخارجية الفلسطيني لسكاي نيوز عربية: الاعتراف بفل


.. ما هي السيناريوهات في حال ردت إسرائيل وهل ستشمل ضرب مفاعلات




.. شبكات | بالفيديو.. سيول جارفة في اليمن غمرت الشوارع وسحبت مر