الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
اللسان المبتور
أنطونيوس نبيل
2014 / 6 / 30الادب والفن
أخبروكم قديماً بأن اللُّغةَ وعاءٌ للحكمةِ، ومصائدُ لا محيص عنها في اصطيادِ هوائمِ الأحلامِ.. أما أنا فأراكم قد اقتحبتم إثماً جليلاً، حين اعتقدتم فيما قِيلَ لكم..
لقد جعلتم مِن ألسنتِكُم سدًّا منيعاً، بينكم وبين أرواحِكُم.. ها أنذا بما تبقَّى مِن أسناني النَخِرة أجتثُّ لساني من جُذورِه الواتدةِ، وأبصقُهُ في وجوهِكُم الثرثارةِ، علَّني أغدو ثُغْرةً في ذاك السدِّ..
لقد دغدغتُ بأقدامي كلَّ أرجاءِ المسكونةِ وعَفَّرتُ بأنفاسي ثوبَ الريحِ الموشى بالبرقِ والزيوفِ.. لقد دثَّرتُ بظلِّي الثرى أينما وُجِدَ، الأوديةُ، الهضابُ، الميادينُ، القُرى، الجبالُ، أرحامُ الأنهارِ، الأحراشُ، الصحاري، كانت جميعُها كتباً مقدسةً: مَحَصْتُها بعنايةٍ بالغة والتَهَمْتُ في سبيلِها سِنِي غُربتي، تفرستُها بخطواتي وانكببتُ عليها مرتحلاً إلى أن وهنتْ عظامي وغَدَتْ وابلاً من العَرَقِ ينصابُ على صفحةِ روحي المُغَضَّنة.. كل هذا ولم أفقهُ شيئاً يُذْكَر..
كفاكم هتافاً.. ليس بجعبتي من الوصايا ما يُشْنِفُ صِماخَ قلوبِكُم الصلدة.. صوتي نزيفٌ لا جُرحَ له.. الحق الحق أقول لكم: لن تتطهروا من رجسِكُم، إن لم تؤمنوا بأن اللُّغةَ ما هي إلا برصُ الذاكرة..
(يَتفُلُ المسيحُ لسانَهُ بعد أن بترَهُ بأسنانِهِ، ينحني إلى الأرضِ، والدمُ المتقاطرُ من فيِهِ ينبسطُ قبالته بركةً ضئيلةً: بركةً لا يُزعِجُ سطحَها الصقيلَ إلا رفيفُ فراشةٍ تترنح، بركةً تَعْكِسُ شذراتٍ مُضبَّبةً من وجهِ غضبتِهِ الأليمة، يلتقطُ قُرمةَ اللسانِ بيسراه، يُخرجُ بيمناه من جيبِ قميصِهِ وشاحَ رهاف العابقَ بثُمالةِ عطرِها اللاهبِ والذي كانت بِهِ تُخفي فِرْدَوسَ وجهِهِا، يغمسُ مُضغةَ اللحمِ في البركةِ ثم يرقمُ على الوشاحِ حروفاً قانيةً حتى تجِفُّ المضغةُ فيعودُ ليغمسَها)
بينكم وبين الكلمةِ قُبلةٌ مبيرةٌ، ومداعبةٌ شعواءُ، وحِضنٌ ضَروسٌ.. بينكم وبين الكلمةِ زفراتٌ دَبِقةٌ: مِن صَلصَال أنينِها يصوغُ الأرقُ قبوراً لأحلامِكُم، ومِن مَعْدِنِ رعشتِها أسياخاً مُجمَّرةً تُسْمَلُ بها عيونُ أبطالِكُم الملاعين.. بينكم وبين الكلمةِ سدائلُ مخشوشنةٌ: سَدَاها من مطرٍ يتقمَّصُ القيحُ بين أناملِهِ هيئةَ الأقاحي، ولُحمتُها من ظمإٍ لا يُنهنِهُ غليلَ الظِّلالِ سوى أقداحٍ مُترعةٍ بخمرِ دمِهِ ممزوجاً بلذوعةِ الخَلِّ.. بينكم وبين الكلمةِ مرايا مُسْحَنكِكَةٌ: على متونِها تُصْلَبُ المسافاتُ ليصيرَ للوصولِ نكهةُ الجُرح وللمعانقةِ رائحةُ الغياب، وأحشاؤها النَوافِرُ تتقيَّأُ طُيوفَ الشاخصين تقزُّزاً فإذ بوجوهِهم أقنعةٌ كِسْوَتُها الجُذامُ وحِشْوَتُها النَغَفُ.. بينكم وبين الكلمةِ أسوارٌ سامقةٌ مِن خَرَسٍ ثخينٍ لا فُرْجَةَ فيها لبَخورِ صلواتِكُم الفاترة.. وما كلُّ هذي إلا انا
(يقرأُ المسيحُ النصَّ المرقومَ على الوشاحِ متمهلاً كي لا يَغْفُلَ عن شيءٍ يستحقُ التنقيحَ، يلمحُ ثَلْماً في إحدى الكلماتِ، فيغمسُ لسانَهُ المبتورِ في بركة الدمِ فلا يَجِدَ إلا الوحلَ عالقاً بِهِ، يكتشفُ أن الأرضَ تجرَّعتْ نبيذَ شرايينهِ بنهمٍ لم يترك له رشفةً أخيرة يضعُّ بها همزةً على ألف "أنا" التي خَتَمَ بها النصَّ، يُمدِّدُ قامتَهُ النحيلةَ بحذاء البركةِ اليابسةِ ويتوسَّدُ الوشاحَ المضرَّجَ بالكلماتِ، وبينما يهمِسُ مغمغماً "رهاف"، تنطفِئُ رجفةُ جسدِهِ ويغفو مبتسماً)
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. VODCAST الميادين | مع الشاعر التونسي أنيس شوشان | 2024-03-27
.. إصابة نجل الفنان الراحل فؤاد المهندس إثر حريق داخل شقة
.. فودكاست الميادين| مع الممثل والكاتب والمخرج اللبناني رودني ح
.. كسرة أدهم الشاعر بعد ما فقد أعز أصحابه?? #مليحة
.. أدهم الشاعر يودع زمايله الشهداء في حادث هجوم معبر السلوم الب