الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلاغة الصدق وبيان الواقع

سماح هدايا

2014 / 7 / 17
الادب والفن



لا توجد قصة بلا عاطفة. أو من دون رحمة، أو شفقة، أو غضب. ستفقد القصة قوة تأثيرها عندئذ. لكنّ العاطفة تفقد مغزاها إن لم تحافظ على الاتساق في التعبير العاطفي، وتتجنّب التفاوت في عمليّة الصعود والهبوط بوتيرة العاطفة، فلا مكان لمبالغة رخيصة ومغالاة، بل يكون الحضور البليغ لتوخّي الصدق والرزانة.
قوة الخطاب تنبع من مصداقية المتكلم وواقعية حديثه ونبرة الخطاب، أكانت منطوقة أومكتوبة،( التوجّه والموقف وطريقة ترتيب الكلام)، تحمل مقوّمات الصدق والعاطفة. وقد يتهاوى الخطاب نتيجة عبارات ثابتة رتيبة؛ فاستخدام نسخة جافة ثابتة لكل حديث، تحت حجّة الحصافة، أمر يعبث بفرادة التعبير وصدقه الذاتي. لأنّ من الأهمية الكبيرة، السماح للموضوع العاطفي بالظهور، لكن بتوخي التأني ووضع مسافة بينه وبين الانفعال. اي عدم الإفراط في الموضوع العاطفي، وعدم الضن به. فالمبالغة أوالبخل في التعاطي مع موضوع عاطفي، لهما النتائج نفسها.
استخدام اللغة المناسبة الملائمة للحدث وللنبرة بإمكانه أن يقدم خطابا مقنعا مؤثرا، أما التورّرط العاطفي السلبي والانجرار نحو الانفعالات والعصبيّات لا يعني صدقا في التعبير العاطفي والقيمي، بل هو إخلال بمتطلباته؛ فجوهر العاطفة هو الوفاء للإنسانية واحترام كرامة المخاطب وإنصافه، ويمثلان أهم نبرات خطاب؛ لأن معظم القارئين أو السامعين سيكتشفون عبرهما الصدق والوفاء في الخطاب، وسيحسون بالتقدير والعدل أو التّحقير والإجحاف. والتقدير يستدعي تجنب استخدام اللغة التمييزية والمهينة، كما يستدعي الوفاء الابتعاد عن التنميق والتضليل والتصنّع والتهويل.
الواقع العربي يثور ويتبدّل لمتطلبات الحرية والكرامة والعدل. وهناك متناقضات عاطفيّة ومجالات للتطرّف، لكنّ مهمات الإنتاج الثقافي والاجتماعي والفكري والوجداني وأدواته يحب أن تتغير، مستفيدة من التغييرات ومن تحرر الذات والتجارب خصوصا مع المواجهات الكبيرة الإنسانيّة مع التمكّن من وسائل الاتصال والتعبير، التي يسّرت نقل الواقع والحدث ونشر الخبر والمعلومة والصورة والصوت والنبرة والعاطفة. وقد أصبح لازما السعى إلى تقديم خطاب جديد يعيد صياغة الأفق المعرفي، في علاقة الفرد والجماعة بالآخر والوطن والعالم.
الخطاب السوري الظاهر في مشهد الثورة، أمر يلزمه تغيير منهجي لصياغة خطاب إنساني جديد يليق بالثورة ومشروعها وزمنها؛ لينهض بها وتنهض به، وينجو من مخلّفات ظلمة الطغيان والعصبيّات، ومن بقايا حالة الركود الانحطاط والتخلّف التي تعمّقت؛ فطالت أفكارنا وثقافتنا وسلوكنا ومرجعياتنا ووعينا وصدقنا وتقدير الذات والآخر.
خطابنا مدعو إلى تخطي هذه الآثار السيئة التي احتلت موقعها المكين في العقول والضمائر والقلوب في مساق ثقافة الطغيان. فلم يعد الخطاب الذي تقدمه الثورة المعارضة، بمختلف أشكالها، على الرغم، من بعض الاستثناءات، ومن من تفاوت مستوياتها، مقبولا؛ فهو، في العموم، يفتقد رؤية واضحة متماسكة، ويفتقر إلى كثير الصدق والموضوعيّة والمصداقيّة والأخلاقية المهنيّة، سواء فيما يرد في الإعلام التقليدي أو فيما يرد في الإعلام الجديد، وشبكات التواصل، ومازال قاصرا عن تلبية متطلبات التجديد، التي تسعى لإيجاد نسق معرفي وخطابي جديد. ويمكن توصيف كثير الخطاب الحالي أنه:
- خصامي انقسامي متورط سلبا في الانفعالات المحتلفة، مغلق على التجربة الذاتية ومكسبها وولائها، يعمل بتخبّط وعشوائيّة، من دون هدف وطني ناضج ومتطوّر وشامل ومكين. فكل لديه ولاء لجهة أو لحزب أو لجماعة أو لفكرة راسخة أو لبدعة ما؛ مما يتجلى في صورة غير موضوعية وفي تناقضات وانقسامات وصراعات وخصومات. فكثيره ارتجالي وسطحي او منشغل بمعارك ذاتية طاحنة لمصالح وتوجهات فئوية، يفتقر إلى استراتيجية منطقية ومنهجية، ويفتقد المهنية، إذ يظهر انفعاليا كردات فعل، قاصرة عن تمثّل وعي استشفافي أو تحليلي أو رؤية واقعي؛ لذلك تسود المبالغات والشائعات وسلوكيات الازدراء والاستخفاف بالآخر. ولا يقتصر على مخاطبة النظام وأتباعه، والقوى الداعمة له، بل يمتد لذم المعارضين لبعضهم، وشتم المكونات لبعضها وتسود سخرية وتحقير وتهكم وتشكيك في الآخر حتى التخوين، بالإضافة إلى حالة من التباكي والتأسي المفرط بعيدا عن التحفيز للفعل وإنتاج الحلول المنطقيّة.
- متناقض بين بؤس النخبوية وفجاجة الشعبوية، فهو من ناحية تنظيري ثابت عند المثقفين التقليديين؛ وهو ضحل سطحي عند العوام. وفي الحالتين هو محكوم سلبياً بالأيديولوجية الراسخة أو العشوائيّة، وغير واقعي بسبب مافيه من إسقاط وأحكام مسبّقة، تؤدي إلى التضليل وإلى نتائج غير منطقيّة. مشحون لدى الجميع بالصراعات التي تبتعد عن القضايا الجوهرية والمسائل المهمة. فيبالع المعارضون التنظيريون في قراءة الثقافة، وينصرفون عن قراءة الواقع إلى مثالية واهمة. وأسهمت الأصولية في أفكار الجميع(الإسلاميون والقوميون والماركسيون والعلمانيون والليبراليون)، ورفضهم القراءة التاريخية ونقد الذات، في إضعاف تحليل مشاكل الواقع والعجز استنباط الحلول السليمة. فقد أخفقوا في تقديم وعي ناضج يواكب المسائل الطارئة والمستجدات، نتيجة الأيديولوجيا القديمة أو الوافدة ...ونتيجة إجابات راسخة ماضويّة، أو أخروية ثابتة للأسئلة الثقافية والاجتماعيّة والإشكاليات الفكرية والسياسية...
من الضروري أن يجري العمل ليتكوّن خطاب جديد يتجاوز الأزمة التاريخيّة والأفق المسدود، ويتطوّر من العطالة والتعطيل في الفكر والوجدان، إلى الإبداع والإنتاج والإنجاز. وينتقل من الانفعال إلى الفعل، ومن الفوضى إلى المنهجية والمأسسة، ومن الغموض إلى الوضوح. ولعل ما يفيد في تكوين خطاب مؤثر ناضج هو:
- منهجة الخطاب بالرؤية الواضحة وبالمصداقية والحجة والبينة والأدلة المادية والتوثيقية والبراهين، مع احترام الرأي الآخر المخالف أو المختلف واتباع الإقناع العقلي.
- بناء الخطاب على لغة عربية فصيحة راقية وإيجابية ومفهومة غير مبتذلة، وتنويعه بالقصص. والمحاورات والأمثلة والأدلة والحجج، واستخدام المحاورات الهادفة.
- تفعيل واقعية الخطاب ليستوعب الواقع ويناقش احتياجات الحياة والمجتمع، ومخاطبة الناس بما يفهمون ويعقلون وترك الأحاديث التي تثير لديهم كراهية ونفورا وغموضا، وتقوية الدمائة الخطابية واللباقة.
- تحرير الخطاب من سطوة الانفعالات وفجاجة الغرائز، والتركيز على نبل المقصد ونبل الهدف؛ فشدة الانفعال تترك الإنسان يخطيء في السلوك والأحكام. فحالة الانفعال وردود الأفعال المباشرة، تأخذ المرء إلى معارك ثانوية، وقضايا غير جوهرية وتجرّه إلى بدائيّة قبيحة.
- ومهم جدا أن يكون الصدق حاضرا في التعبير ممزوجا بالعمق والشفافية . فالتعاطف الوجداني النزيه مع الآخر قوة للخطاب ويقوّى التأثير.
- تأسيس الخطاب على المعايير، خصوصا المعايير الأخلاقية والمنطقية والمهنيّة. وإلا سيتحكم الجهل والتخلف وتنتشر الأكاذيب والشائعات والأفعال غير المنطقية....فيسقط الخطاب في الابتذال.
- تجنّب تفتيت الوعي الجمعي الوطني بموضوعات صراع الأقليات والعصبيّات. ولم شمل الجميع في مبادىء الدولة المدنية العادلة، التي تحترم الإنسان لإنسانيته وتساويه بأخيه الإنسان في حقوق المواطنة في دولة الحق والعدل والحرية والكرامة الحداثية بالمعنى العلمي والمعرقي.
- ضبط الخطاب الإعلامي بالقواعد والمعايير المهنية والمواثيق الأخلاقيّة.
الخطاب متصل بذاتنا الإنسانيّة والتاريخية وواقعنا ووجداننا، ومتصل بالحياة ويومياتها وإنتاجاتها من معرفة وأدب وسياسة وفكر، ووجدان وجدل، يحمل المعرفة ومنطق التفكير والبلاغة. ولكي يرسخ مفهوم الإبداع والتجديد والنهضة قي كل المسائل والمقولات، يلزمه تقويم مستمر، وتطوير نوعي لتأسيس منظومة إنسانيّة وثقافية جديدة تنهض بالإنسان والوطن والأمة لإنجاز الدور الحضاري وسط التحديات والإشكاليّات. قد يكون للخطاب الغرائزي الغوغائي موقع؛ لكن موقعه مؤّقت وجزئي؛ يتزامن مع حالة التدجين والترويض التي يستخدمها الطغاة المتسلطون.لكنْ، في النهاية لا يصمد إلا خطاب الصدق والحقيقة والحجّة والموضوعيّة...
د. سماح هدايا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-