الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(كاملا) بيان من أجل أن تكون الأرض قرية آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان

كاظم الفياض

2014 / 7 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إلى دولة الرئيس فخامة نوري المالكي

( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال )إبراهيم 46 ــ
[لأن أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي يقول الرب]أشعياء8:55


هل يجب أن ننقض نصب الحرية لأنه لم ينجز لتمجيد الحرية في مجالها الواقعي والوحيد وهو الفن ، حيث يمكننا التعبير عن اللحظات الفذة والقليلة بل النادرة التي شعرنا فيها بانسجامنا مع العالم ويفترض أن تكون قيمته وفق ما يوفره لنا من متع نفسية ، ورغم إن هذا التقييم سيبقى فرديا ، ذاتيا محضا ؛ إلا إنّ حقوق الاستفادة منه مباحة للجميع . وأعني هنا من الحرية مادة الفن كاللغة للأدب ، والألوان للرسم ، لا الأفكار لأنها ليست من جنسه . الأفكار منطق والفن مشاعر .
الفن أرض تربتها الحرية ، وما دخلت في شيء من حياتنا إلا أفسدته . هي في ما عدا الفن مرض التهم حدودنا الفاصلة بين حقوقنا . هي المسافة بين عين الجائع والثمرة التي لا يملك ثمن شرائها . الحرية هي الأراضي الشاسعة التي احتضنت الحروب والمجاعات الكبرى عبر التأريخ . هي السجون كلها حتى تلك التي شيدتها أكثر الشعوب ثراء . بل هي في قصور ، بل غرف أصحاب الإمبراطوريات المالية الأكبر ، في المسافة الدائمة بين الخدم الذين يرتبون الأسرة والوحوش البشعة التي تنام عليها .
لو كنا نتحدث عن الحق بدلا من الحرية ، وقد جعلنا من الحرية حقا ، لما كانت هناك مسافة بين جائع وثمرة . ولما كانت حروب ولا مجاعات ولا سجون ولما سوى رجل فراشا ليس له . غياب الحق عن أي شيء فساد فيه ، إلا الفن ، فإنه والحق مثل الثمرة والعفن ؛ ولا يتخلى الفن عن حريته ، أي عن وجوده ، لصالح الموت الذي ملأ أرجاءه بروائح كريهة ؛ وأبدل انسجام أشكاله بصور متنافرة لولا الحرية التي مارسها عليه رجال متنفذون ، إذ عبثوا بخريطة موقعه من المجتمع ، جاعلين منه وسيلة إعلامية لتحقيق أغراضهم ، والتي هي في الغالب أغراض شخصية لا تمت للحق أو للعدل أو للدين بصلة .
إن الذين صيروا الدين حرفة لهم ، جعلوا من أنفسهم قدوة للآخرين . وهو أمر فيه كثير من التزمت الذي يتعارض مع ما في طبيعة الفن من حرية وانفتاح . لقد أصبحت القيمة الفنية لأي عمل ، تخضع لمنطق الحق والإيمان وهما مطلبان مختلفان لا يمكنهما الاستناد إلى منطق مشترك . وإن أصبح واقعا فهو منطق بعيد عن الفن ، قريب من المصالح الذاتية والتي هي دائما حلقة الوصل بين الحقائق الإيمانية والموروث الثقافي لأي مجتمع . هكذا نجد سليمان النبي أو الملك كما تصفه التوراة ، والتي ميزته عن شخصيات العهد القديم بالحكمة ، يميل عن عبادة الله ، ويعبد صنما ، إرضاء لزوجة وثنيّة ، حسب الرواية التوراتية طبعا . هذه الحساسية المكتسبة من الموروث التشكيلي الفرعوني ، وهو الفن الديني الوثني بالكامل ؛ لم تكن بذات القدر مع الكهنة المسيحيين الذين بدؤوا نشاطهم التبشيري في الأرض الأوربية من الدولة الرومانية مع شعوب رغم إنها وثنية إلا أن نشاطها الفني لم يكن ليقتصر على تجسيد الأفكار الدينية إنما تعدى ذلك إلى آفاق رحبة من الخيال .
وهكذا نجد إن أوربا التي اعتنقت المسيحية لم تتخل يوما عن إرثها الثقافي . ظلت نظرتها الفنية أوسع من أن تحصرها في دائرة ضيّقة من الأفكار الدينية ، على الرغم من أن المسيحية وريثة طبيعية للكتاب المقدس ذاته ، وقد أسمته العهد القديم تمييزا عن العهد الجديد الذي وجد معها . وقد نجد هذا التعارض بين الموروث الديني المتمثل بالتوراة ، والموروث الفني للأوربيين مجسدا في الحركة اللا أيقونية التي رأت في تجسيد الشخصيات المقدسة في أعمال النحت والرسم خروج عن الدين ، لكن الشعوب الأوربية التي أبت التخلي عن كافة ميراثها الثقافي وجدت في عدد غير قليل من رجال الكنيسة من يوافقهم في توجههم هذا . وهكذا سحقت هذه الحركة المهمة التي أحدثها ، وهذا أمر له دلالته ، الخليفة المسلم يزيد بن عبد الملك بن مروان حين أمر جميع الكنائس الواقعة تحت سلطانه بالتخلي عن الرسوم ، والمنحوتات الدينية لقوله تعالى (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون )1
إن طبيعة شبه الجزيرة العربية الصحراوية ، حيث يسكن أغلب قبائلها في خيام منسوجة من شعر أو وبر أو صوف ولأن الوثنية هي الديانة السائدة في أغلب أرجائها ، حدّ ذلك من ازدهار ، وانتشار الفنون البصرية ، وخصوصا النحت ، إلاّ في مسألة العبادة . وكان من شأن ذلك أن يتوجس العرب كاليهود من قبلهم ، من الفن التشكيلي ، محرّمين مزاولته ، قبل أن يتساهل علماء الشيعة ، الذين أجازوا استخدامه لتجسيد شخوص أئمتهم . ربما لأن أئمتهم عانوا ما عاناه المسيح ــ حسب الاعتقاد المسيحي السائد ـــ وربما نكاية بعدوهم الخليفة الأموي ،وربما لأمور أخرى . لكن ما غيب ، هو حقيقة الموقف الديني من جميع الفنون وليس الفن التشكيلي حصرا ، وهو موقف يبيح التمتع والاستفادة منها وهذا ما نجده في قوله تعالى (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور)2ــ هذا إضافة لما نجده في القرآن الحكيم من فنون أدبية سردية ، وفنون نغمية( ... ورتل القرآن ترتيلا)3ــ وفنون بصرية تمثل في جمال خط حروفه ، ولا يخفى ما فيه من طاقات بلاغية جعلت من بلغاء العرب يتهمون الرسول الكريم (ص) أنه شاعر .
إن ما حرّمه الدين هو أن ننقل بواسطة الفن حالة الامتنان التي نشعر بها إزاء بعض الشخصيات الدينية إلى حجر أو نسيج أو ورق أو أي شيء يسمح لنا بتجسيدهم عليه الأمر الذي يجعلنا مع مرور الوقت نشعر بأكثر من عاطفة الامتنان إزاء المواد التي أسبغنا عليها أفكارنا عنهم ، والصور التي رسمناها في أذهاننا لأشكالهم ، سنظهر عواطفنا العميقة ، الجياشة للمادة التي مثلناهم عليها ، وسنحتفي بها كأنها هم وأظن إن هذا هو المعنى القرآني لمفردة الأنصاب المذكورة في آية سابقة . ويمكن أن تكون الصورة أوضح في ذهن القارئ حين يفكر في موقف المؤمن المسيحي أو الشيعي حيال شخص تصرّف تصرّفا خاليا من الاحترام مع أيقونة مسيحية أو صورة مطبوعة أو منحوتة لأحد أئمة الشيعة .
إن الحرية التي تصرف بها رجال الدين مع الفن ، هو تصرف سيء بحياة الناس ذلك إن الفن هو الجمال الذي نسمعه ، نراه ، نحسه ، هو سعادتنا . إننا ذوات مدركة ، وهذا يعني ببساطة أن لا وجود لنا بمعزل عما ندركه . وهو يعني أيضا أنه بمقدار ما تكون مدركاتنا جميلة ، يكون حجم سعادتنا .
ولا يتعلق الأمر بمقدار ما أقصي من حياتنا من جمال ، ولكن بمقدار ما حشيت من آلام أيضا . ولنتحدث عن فكرة الصلب لدى المسيحيين مثلا ، فمع ما يفترض أن تبثه نظرية الفداء من أمل لدى المؤمنين بها ، تبقى حادثة مأساوية ، مخزونة في الذاكرة الجمعية ، لها تأثير تجربة شخصية ، في سلوك كل فرد مسيحي . نحن لا نتحدث عن جريمة قتل بها رجل صالح ، بل عن منقذ للبشرية ، دفع ثمن جرائم وخطايا كل فرد ، توهين شأن ، تعذيبا ببطء ، ببشاعة ، علنا أمام الناس حتى الموت . علينا أن نتخيل حجم الامتنان الذي نحسه نحوه ؛ كي نعرف مقدار الألم الذي عانيناه من أجله . و لنحصي زمنا الفترات التي التهمتها هذه المأساة من حياة المؤمنين بها كأفراد عبر ألفي عام !! ! وما كربلاء ببعيد !!!
***
إن الحرية التي مورست ضد الفن ، وضد حياتنا ، بحجب نوافذ لا حصر لها ، كان من المفترض أن تطل بنا على الجمال . وبفتح منافذ واسعة ، وليست قليلة للألم ، مورست كذلك ضد فكرة الله التي هي جوهر الدين . وإذا كانت رياح الحرية التي هبت على الفن ، دون أن تنبعث من خلاله ، كانت لها آثار كارثية على النفس ، فأن آثارها على الأفكار ، ذات حضور اجتماعي . يجب أن نسلّم بأن كل مجتمع هو عبارة عن عدد من الأفراد ، تربطهم أفكار . ولمّا كانت كل فكرة نتيجة لواقعة تحولت إلى معلومة ، وجب علينا أن نحسن النظر في الوقائع والمعلومات التي كونت الأفكار . لأن الوقائع إن لم تكن حدثت ، أو حدثت بخلاف المعلومات ، كانت الأفكار الناتجة عنها غير دقيقة . وهذا يعني أن ما يجمع المجتمع رابط غير صحيح . وعكس الصحيح السقيم . وعليه فإن كل فكرة غير صحيحة هي مرض في بدن المجتمع يجب علاجه .
ولما كانت الواقعة الأكبر في تأريخ كل الشعوب هي الدين جاز لنا أن نقرر، أن ما من فرد إلا وارتبط مع غيره بأفكار ، صنعتها الواقعة الأكبر ؛ أو صنعناها نحن باسم الواقعة الأكبر . لو سلكنا هذا الطريق بدراسة المجتمع لتوصلنا إلى معلومات سيكون لها تأثيرها ، ليس على النظام الاجتماعي فقط ، وإنما على مجمل العلاقات الرابطة بين أفراده . لا يمكنني أن أخوض في هذا الموضوع الآن على الأقل ، لكن لو طبّقنا ما جاء في هذه السطور على العلاقات الأسرية لوجدنا إلى جانب الروابط الفكرية ، روابط بيولوجية . وهي من المتانة بحيث شكلت الركيزة الأساسية التي قامت عليها الحياة البرية . فنظام عملية التكاثر ، وحماية الصغار ، والتكافل بين أعضاء الأسرة الواحدة ؛ يكاد أن يكون عاما في جميع العوائل الحيوانية ،وكلمة عوائل هنا موصولة بكلمة يعيل . وعلى الرغم من أن العائلة البشرية تختلف عن غيرها من العوائل ، بما تمتلكه من روابط فكرية ، جعلت العلاقات الأسرية أمتن بين أفرادها ، وقد عزز بنظام الإرث المعمول به في كل المجتمعات . لكننا قد نجد أشد النزاعات داخل العائلة ، والتي تؤدي إلى القتل أحيانا ، ولنتأمل ما حدث بين ابني آدم ، وهي العائلة الأقرب للحدث الديني .
يدلنا هذا على إن الرابط البيولوجي المحكم ، وأمتن الروابط الفكرية النبيلة التي تجمعنا مع أسرنا ، قد تقطعها فكرة سيئة واحدة . إن وجود الأب والأم والأخ والزوجة والابن هو وجود حقيقي ، يعلله منطق السببية ، لكنه يتمظهر بالفكرة . هؤلاء الأشخاص كيانات ليس لها وجود في حياتي لولا فكرة الأبوة ، والأمومة ، والأخوة ، والزواج ، والبنوة . ومع الانجاز العلمي الذي أوجد أطفال الأنابيب فان دور الفكرة كرابط اجتماعي سيتعاظم على حساب الرابط البيولوجي ، مما يمنحنا الحرية في قبول فكرة الأسرة كمؤسسة اجتماعية أو رفضها .
ولما كان للرابط البيولوجي تأثيرا أقلّ كلما خرج من حدود الأسرة الصغيرة ليتوغل في شبكة الأسر المنسوبة لجد واحد ، حتى يتلاشى تماما في شجرة الأنساب القبلية للشعب ، وجدنا أن الرابط الفكري ينمو باتجاه معاكس ، حتى يبلغ ذروته مع فكرة الإنسانية المعبرة عن مليارات من الأفراد ، الموجودين فعلا بصفة إنسان لكل منهم .
ولما كانت الأحداث البشرية جميعها ، من حادثة أن يغسل أحدنا وجهه ، إلى أبشع المعارك التي أودت بحياة الملايين من البشر ، ما كانت لتحدث إلا بقرار فردي علمنا نوع الخطر الذي تحمله الفكرة على حياتنا . إن جوهر وجودنا محصن بالفكر وقد لا يتحول إلى عدم إلا به . هنا تكمن خطورة الاستسلام لأفكارنا ، فكل قرار اتخذناه ، كان حصيلة أفكار استحسناها دون سواها . هذا الاستحسان هو الحرية وهنا تكمن أهمية القوانين الجزائية لحفظ وجودنا من أن تهدمه بعض أفكارنا .
لقد أثبت التأريخ الاجتماعي في كل مكان من المعمورة ، أن تعطيل القوانين الجزائية ، لأي سبب ، سيصاحبه خلخلة عنيفة للروابط الاجتماعية . سيعم الهرج والمرج ، وهذا تعبير لا يخلو ، كما هو واضح ، من موروث ديني ، يدل على سعار يسري في مخيلة أفراد المجتمع ، يدفعهم لانتهاك حرمة دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم بسرعة وعلى نطاق واسع ، حيث تقود الهستيريا أفعال شريحة واسعة من الأفراد فتمنعهم من الانضباط والتعقل .
وإذا كانت هذه الحالة المخزية قد وقعت في ماضي وحاضر جميع الدول ، حتى الثرية والراقية منها . وقد دلت على أهمية القوانين الجزائية المعمول بها ، حين حافظت على شكل النظام . فإنها دلت أيضا ، على أن القوانين الجزائية ، وقت سريانها ، لم تكن في اتجاهها الصحيح . وإلا لما كان لهذا التخريب الهائل أن يحدث مع أي تعطيل ، مفاجئ لها . إن تعطيل القوانين لا يعني إلا شيئا واحدا ، هو أن يمارس المجتمع من خلال أفراده ، أسلوب معيشته ، وفق تصوراتهم للحق والعدل ، وهي كثيرة ومتعارضة . وهذا ما كان له أن يحدث لولا وجود غبن حقيقي ، مورس بقوة القانون ضد شريحة واسعة من المجتمع .
وإذا أردنا أن نعرف سبب هذا الغبن وجب علينا النظر في الكيفية التي صيغت بها قوانين المجتمع ، جزائية وغير جزائية ، لمعرفة الخلل الذي أنتجه . وهي كيفية جاءت لتمثل المثل والمبادئ السامية ، التي تصالح على شرف منبتها جميع أفراد المجتمع . ولكي تكون كذلك يجب أن تصدر عن جهة أشرف وأسمى من المجتمع ذاته ، وهكذا نجد أنفسنا قبالة فكرة الله . وأن كانت هذه هي الفكرة السائدة في جميع المجتمعات . إلا أن فكرة المصالح العليا للدولة والتي تبدو كأنها انبثقت من احتياجات شعبية لابد منها لرفاهية المجتمع ، كانت تحاول التناغم مع فكرة الله . ومهما يكن فإن اعتماد الفكرة تشريعا لابد له من أفراد معينين يجعلون العمل بها أمرا واجبا على جميع أفراد المجتمع ، ولابد أيضا أن يكون سبب تعيينهم بسبب مؤهلاتهم العلمية القادرة على استنباط الأحكام بحسب المعتقدات الدينية السائدة ، وكذلك الضرورات الاقتصادية التي تبدو وكأن البيئة أفرزتها .
ولأن النظام التعليمي الغربي المهيمن على العالم منذ قرون ، هو نظام غير حكومي ، فأن واضعي الدساتير الغربية إما أن يكونوا خريجي جامعات دينية ، فتكون توجهاتهم دينية . وأما أنهم من خريجي جامعات أهلية ، والمؤسسات التعليمية الغربية مؤسسات اقتصادية أولا . هكذا نرى إن القوانين لم تسن إلا لتعبر عن مصالح
هاتين الفئتين : رجال الدين ، ورجال الأعمال ، دون بقية الناس الفقراء ، المغبونين .

لقد خلق الله آدم وعرفه معنى العبودية وعلمه الأسماء كلها ، متفوقا على الملائكة . وبهذا تمّ أمره كاملا في جنة الله ، أي في حضرته ومع ذلك عصى آدم ربه و السؤال هنا لا يصاغ بجملة [لماذا عصى آدم ربه ؟] لأنه سؤال يبحث عن سبب فتح بابه اضطرار لحاجة ! ولم يكن آدم محتاجا ، فهو ليس مضطرا . إذن لا يوجد أي سبب لعصيانه . لذا يجب أن يأتي السؤال بصيغة [ كيف أو بم عصى آدم ربه ؟ ] أي هل يملك القدرة على العصيان ؟ والجواب سيكون سهلا إذا تأملنا في ذواتنا ، نعم آدم وكذلك نحن نملك القدرة على عصيان الله ، لوجود الوعي في ذواتنا . فكل ما ندركه سواء بالحس أو بالعقل سيبقى أقل أهمية من ذواتنا التي تعيه .
هذه الأهمية هي الكبرياء التي لابد إن أيا منا قد زها بها . وهي الوضع الطبيعي لما أنتجته الخلقة البشرية ، وإن عدم شعورنا الدائم بها ؛ بل الإحساس أحيانا بالضعة إنما ينتج عن صدمتنا الدائمة بوهن الكيان الحامل لها . وعي جبار وجسد مقهور . جسد لا يقوم إلا بغيره من مأكل ومشرب . ومنقاد لسواه بفعل الغريزة التي تحفظ النوع . وهش يسهل قهره وإعدامه بالموت . ولم يكن إحساسنا بالجبروت مساويا لإحساسنا بالوهن كي نشعر بالسلام ، وهو أمر مشدود جسديا للطمأنينة التي من الواجب توفرها إلى جانب حاجاتنا الجسمانية ، وذهنيا بالاستسلام لمنطق السببية وهو منطق غالبا ما يقودنا إلى التصالح مع علة الإيجاد الكوني وإن مجالها الدين وفيها تقتنع الذات بوهم أهميتها المطلقة ، وأنها لا تملك فعلا غير الخيال . والذي من خلاله تستطيع أن تجد تصورات أفضل لما يجب أن تكون عليه حياتنا . هنا تكمن أهمية الفن بوصفه تعبيرا جميلا لحالة الانسجام التي ننشدها في التركيبة القلقة للكيان الآدمي . وعلينا أن نتصور شدة الخطورة في المواقف المستهترة لعلماء الدين في التعامل معه رفضا أو توجها مخالفا لوجهته الصحيحة .
إذاً المنطق السببي الذي قادنا إلى ضرورة موجد للكون ، والوهن الجسدي الذي قاد الذات للتفكر بواقعية خارج كهف الأهمية المطلقة للوجود الفردي الإنساني ، دفعانا للاستعاضة عن الشعور الطبيعي بالعظمة ، والكبرياء ، إلى الخضوع الديني وذروة كماله العبودية ( ...نعم العبد إنه أواب )4ــ .
وهكذا نظن أن فكرة وجود الله قد سحقت تماما الاستعلاء المطلق للذات ، كما أن الوهن الجسدي أقنع الإنسان بتبعيته الذليلة لما يحيط به وعليه فما من طريق أمامه لتحقيق السلام في نفسه ومع محيطه إلا طريق الإقرار بعبوديته لله وهذا هو معنى الدين . ولكن هل أن تأريخنا الاجتماعي كجنس وقد صادق على وجود هذه الفكرة بدليل وجود الدين في عموم التجمعات البشرية ، قاطبة ، ودون استثناء ، يصادق أيضا على نتيجتها الحتمية بوصول الإنسان إلى مرحلة السلام الفكري ؟ وقولنا لا ليس جوابا بمقدار ما هو واقع معاش فعلا ، ذلك إن الله الذي عرفه آدم بداهة وهو في الجنة محجوب عنا بستار الطمأنينة . (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا )5ــ . تصف هذه الآية ما أعنيه بقولي ستار الطمأنينة كما إن استحالة حصول أيّ منا على جميع حاجاته ، لم تزدنا بعدا عن الله فقط ، إنما غربة موحشة عانينا منها كأفراد داخل مجتمعاتنا بل وعوائلنا .
ستار الطمأنينة والغربة الاجتماعية جعلانا نلتمس لنا آلهة نراها بأعيننا كي نتضرع لها بكل خشوع . طالبين منها إخراجنا مما نحن فيه من وهن وخوف وعوز لا يكاد ينتهي.
وإن كان سهلا علينا إيجاد تطبيقات لهذه الفكرة في الأديان غير السماوية . فإن الواقع يؤكد كذلك صحة هذه التطبيقات داخل الأديان السماوية أيضا .وإذا كانت نظرة المؤمنين إلى حلية الفن قد تأثرت بتأريخ شعوبهم الفني رفضا وقبولا ، فإنها ليست كذلك مع فكرة الوثن المعبود . لذلك أوضح الإسلام حقيقة التفريق بين يهودية ونصرانية موحدة ، ويهود ونصارى مشركين .
والملاحظ أن كلتا الديانتين ظهرتا في مجتمع واحد ، هو المجتمع اليهودي . وإن كان التوقيت تعاقبي ، إلا أنهما متشابهتان في خضوع الإسرائيليين لأقوام أخرى للفراعنة في زمن موسى ، وللرومان في زمن عيسى .
والملاحظ أيضا إن كلا الحضارتين الفرعونية ، والرومانية كانتا في أوج عظمتهما عند انتشار الديانتين فيهما مسببتين انهيارا كارثيا لهما سواء في حال الرفض الحازم كما هو الحال عند الفراعنة أو القبول الحذر كما هو عند الرومان والملاحظ أيضا ، إن رفض المصريين لليهودية ، كان أيسر شرا من دخول الرومان في المسيحية ، لأن مصيبة المصريين كانت آنية وقد زال أثرها سريعا بخلاف الرومان الذين عانوا الأمرين قبل زوال ملكهم تماما .
وإذا كان عقاب الفراعنة إلهيا ، فإن هزيمة الإسرائيليين بعد انتصارهم على الفلسطينيين ، واستيطانهم في أرضهم ، وكذلك روما المتنصرة جاءت من الداخل من عمق المجتمعين الإسرائيلي والروماني اللذين انهارا أخلاقيا واقتصاديا قبل الانهيار العسكري الشامل .
ما حدث مع المجتمعين اليهودي والنصراني ، وما سيحدث لاحقا مع المجتمع المسلم كما تنبأ الرسول (ص) [لتتبعن سبل الذين من قبلكم حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتم فيه ] يمكن أن نجد سببه في رفض الجميع للأمرين الإلهيين الواردين في قوله سبحانه (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )6ــ توضح الآية الكريمة إن الرسل حملوا لأقوامهم أمرين ، أولاهما عبادة الله ، وثانيهما اجتناب الطاغوت . لا أمرا واحدا ، كما فهمه أتباعهم ومنهم المسلمون الذين فسروا معنى اجتناب الطاغوت بأنه النهي عن عبادة غير الله وبذلك جعلوا من الأمرين أمرا واحدا إذ أن عبادة الله تعني عدم عبادة غيره . لكن معنى كلمة طغى ، هو تجاوز الحد ، فالطاغوت إذا كلمة تدل على الإصرار ، بل والتمكن الشديد من التجاوز تحدث بين الحدود المميزة للأفراد . ذلك أن كل فرد هو كيان مستقل عن سواه . كيان يشعر بأهمية ذاتية مطلقة وهو أيضا يحتاج سواه احتياجا مخلا بوجوده . وعليه فأن أي خلل يصيب منظومة حاجاتنا الفردية سيعرض كياننا كأفراد للتلف ، وأشده الموت ؛ أما القليل منه فيشعرنا بالعذاب الناتج عن الشك في أهمية وجودنا المطلقة لأننا نكون قد تصرفنا بتابعية مذلة ، لكيان فردي آخر الذي بدوره ستشعره تابعيتنا له ليس بأهميته المطلقة حسب ، وإنما بأهمية أن ينسى أن لتابعيه ذوات جبلت على الشعور بالأهمية القصوى لوجودها الكوني . إذا الأمر الإلهي (اجتنبوا الطاغوت )هو دعوة لإقامة العدل الاجتماعي ، وهي دعوة مختلفة تماما عن الدعوة إلى عبادة الله العقائدية المراد منها في الأمر الأول ، الخاص بمجمل المنظومة اللاهوتية والتي تنشطر بدورها إلى جانب عملي يخص الطقوس والشعائر التي تمارس أفرادا وجماعات وآخر نظري يبحث في فكرة الله ويبدو أنه أكثر الشطرين تضررا لأن الجانب العملي ظل بمتناول الجميع ، عكسه تماما ، إذ تحول إلى فلسفة شديدة التعقيد حيث أقصي الجهلة وهم الغالبية العظمى من المؤمنين ، وأبرز خصائصهم الفقر . و ربما كان قذف القرآن لليهود و النصارى بالشرك ، للتأثير الهائل الذي مارسته الفلسفة الإغريقية ــ الوثنية ــ فيهم .
إن البحث في الطبيعة لابد أن يقود الباحث إلى أصلها عبر سلسلة من العلل والمعلولات والتي ستنتهي بعلة غير معلولة ، أو محرك لا يتحرك . هذا ما وصل إليه فلاسفة الإغريق ، وهو ما رحب به رجال الدين ، لأنه تعزيز لقناعتهم بعدم تعارض العلم الطبيعي مع الوحي ، غافلين عن معنى جعل الله جزءا من العالم . ورغم كل محاولاتهم في تفضيل الله ، بقصد عزله وجعله متعاليا عن العالم ، ومنها فكرة القديم والمحدث إلّا أن مسألة صدور الكثرة عن الواحد ظلت محبطة لعملهم رغم تصرفهم الدال على أنهم تجاوزوا هذه المشكلة التي قادت بدورها التفكير في مادة الله ،مقررين أنها بسيطة ، لا يجوز فيها التركيب لأنه حدث يختلف مع طبيعة القدم التي ميزوه بها .
إن النظر في ذات الله سبحانه يعني تأمل صفاته وهو أمر لابد منه لفهم كيفية خلقه العالم وإدارته له .هل صفات الله قديمة أم محدثة ؟ جزء منه أم طارئة عليه؟ هكذا كان الفكر اللاهوتي يقف مرارا وتكرارا أمام معضلة هذه المعادلة الميتافيزيقية
ـــ قدم الصفات يساوي تعدد الآلهة ـــ ورغم أنه لم يجد لها حلا أو بالأحرى وجد حلولا بعدد الباحثين فيها إلا أنه استطاع أن يقدم صورة كاملة ـ رغم أنها ليست واحدة ولا واضحة ــ لأذهان أتباعه عن الله ، لا تبعده كثيرا عن المعبودات الصنمية إلا في الاسم ودرجة التجسيد حيث تحولت من بصرية إلى ذهنية ، أي من صنمية إلى وثنية وفي معجم لسان العرب : ــ الصنم هو ما كان له جسم أو صورة فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن .
هل كنت أتحدث عن فلاسفة لاهوتيين يهود ونصارى أم عن فلاسفة ومتكلمين مسلمين ؟ لم تمض سوى سنوات قليلة على موت الرسول (ص) حتى دخل المسلمون جحر أسلافهم اللاهوتيين . وسموا بحثهم في الذات الإلهية بعلم التوحيد ، واعتبروا أنفسهم أهل التوحيد ، تمييزا ، عن أهل الشرك من اليهود والنصارى . وجعلوا للدين أصولا خمسة لكن الأصل الأول فيها ، بل رأس الأصول وجامعها هو التوحيد ، وبلغوا الذروة بتسمية أنفسهم الموحدين . وتجدر الإشارة هنا إلى إنه لا الله في قرآنه ولا الرسول في حديثه سمّوا أو وصفوا المسلمين بالموحدين ذلك إن الله جلت قدرته أقام الإسلام على أصل واحد ، هو العبودية . وأفضل الأسماء ــ الصفات التي أطلقها الله على المؤمنين هي كلمة عباد مضافة إلى أسمائه المباركة . كما إن الله جعل من العبودية أفضل صفة للمؤمن ( نعم العبد إنه أواب )7ــ وقد جعل من فعل العبادة اسما للمؤمنين وأضافهم إلى تواصل الرحمة منه (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) 8ــ .
لقد أمر الله نبيه وإيانا أن (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد * ولم يولد *ولم يكن له كفؤا أ حد)9ــ وواضحة دلالة فعل الأمر ـ قل ـ على ما ورائها من إخبار ، وهي صيغة دلت على ضرورة الأخذ بها ، على إنها أخبار يقينية ، مقطوع ، سلفا ، بصحتها . وفي لغة أهل المنطق هي قضايا بديهية لا تحتاج برهانا لإثبات صدقها أو كذبها ، لأنها صادرة عن الذات الإلهية ؛ للمؤمنين بها ، حسب المنطق الديني .
وقد نهى الله نبيه عن البحث في ماهية الروح وهي أقل شأنا من الله (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )10ــ وقد نهى عن الجدل في الله بمنتهى الوضوح والصرامة (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد)11ــ (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير* ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله ...)12ــ .
ربما يبدر إلى أذهاننا هذا السؤال : إذا كيف نعبد الله ؟ والجواب قلته ، لقد بعث الله الأنبياء ليخبرونا على وجه اليقين بوحدانيته ، وصمديته وكافة صفاته التي هي أسماؤه جل وعلا .نحن معشر البشر وكافة الموجودات في العالم مكونين من ذات العناصر وما اختلافنا إلا اختلاف نسبها فينا . أما الله فهو (ليس كمثله شيء )13ــ وهذا من الناحية التكوينية يعني استحالة تواصلنا مع موجود لا يتكون من العناصر التي تكوننا ، وأقصد بضمير المتكلمين ـ نا ـ جميع الموجودات المترابطة مع بعضها بعلاقات متشابكة مكونة نسيجا واسعا ، وكبيرا، بل هائلا ، وأبعد من أي مقياس نملكه سميناه العالم ، والكون ، والوجود وهو على كبره هذا نعرفه ، كل علاقة معرفة ، حتى وإن كانت بين ذرتين ( قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى )14ــ والهدى علاقة بين خلقتين أو أكثر فهي معرفة . إذا عندما لا توجد عناصر مشتركة مع الله لا توجد علائق أيضا وبانتفاء العلائق تنتفي المعرفة ؛ وأقصد بالعلائق هنا التصاعدية من العبد إلى ربه وليس العكس لأن الرب يعرف ( ...إنه بكل شيء عليم )15ــ . وهنا أحب أن أضيف إن استحالة معرفتنا لذات الله لا تعني جهلنا بمكانه من العالم الذي خلقه لأن الخلق يدل على خالقه الذي شهد عليه . (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد )16
ولكن لم يتعب المفكرون أنفسهم إن كانت المسألة محلولة أصلا في القرآن ؟ جواب هذا السؤال موجود في القرآن أيضا على لسان الرسول الكريم (إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا )17 ــ وربما لتحقيق مكاسب سيجنونها بإتباعهم (كل شيطان مريد) وربما هو العناد والكبرياء (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله) ومهما يكن فإن الجانب النظري من الأمر الإلهي الأول(أن اعبدوا الله) صار حكرا على المتعلمين وهم أو الغالبية العظمى منهم من الأغنياء أو من المعتاشين على الدين ـ فقهاء ـ أخشى القول إن الأمر أشبه بسرقة الله من الفقراء ، كما سرقوا مالهم بقوانين الحرية الاقتصادية المنهي عنها بالأمر الإلهي الثاني (واجتنبوا الطاغوت )
***
إن اجتناب الطاغوت لا يتحقق إلا أن نجعل الغاية النهائية من تشريع القوانين هي المحافظة على حق كل فرد في أن يتمتع بما وهبنا الله من النعم . يجب تعطيل القوانين التي جعلت من جرائم النهب التي مارستها قلة من الناس بحق عمومهم حقا شرعيا . ولهذه الغاية سبيلان هما : القضاء على الرهبنة . وحصر اكتساب حق ملكية
الأرض وما فيها وما عليها بالاستعمال لا بالمال .
وقبل أن أضيء عمق الانحراف عما جاء به الإسلام أذكر بحجم التعارض بين الروايتين القرآنية والتوراتية لقصة قارون فحين تؤكد الرواية التوراتية إن الكهنوت تكليف إلهي محصور بهارون وأولاده وإن قورح ــ قارون ــ وجماعة من بني لاوي صاروا يطمعون في الكهنوت [حتى صرتم تطمعون في الكهنوت]18ــ وبذلك فإن الخسف الذي حل بهم كان[عبرة لبني إسرائيل لكي لا يدنو أحد من غير نسل هارون ليبخر في حضرة الرب ، فيصيبه ما أصاب قورح وجماعته]19ــ نرى أن الرواية القرآنية تتحدث عن إن بغي قارون متأت من إصراره على الاحتفاظ بأمواله الضخمة ، المشروعة عرفا (وآتيناه من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ..)20ــ متوهما أن قدرته على جمعها بسبب علم عنده تجعلها مشروعة حقا (قال إنما أوتيته على علم عندي )21ــ هكذا نرى أن الرواية التوراتية تجعل الكهنوت حصرا في نسل هارون ، مع إعطاء بعض الواجبات الدينية لباقي سبط لاوي دون بقية الأسباط وفي هذا ما لا يخفى من امتيازات اجتماعية مرموقة ، إضافة إلى مكاسب اقتصادية ، هائلة ، تجعل منهم شركاء في مال أيّ مؤمن يهودي من بقية الأسباط ، لهذا يجب أن تكون الحرية مطلقة في جمع المال واكتنازه ، أي يجب أن تشرع في قوانين تكون ملزمة لجميع أفراد الشعب . كما يجب أن تكون هي ذاتها إرادة الله . وفي هذا ما يكفي من الوضوح إن القرآن أراد أن يبين أن كتبة النص التوراتي جعلوا من مصالحهم الدنيوية هدفا للممارسة الدينية قالبين الأوامر الإلهية بعدم اتخاذ الكهنوت مهنة ، وضرورة تقييد جمع المال .
لقد نهى الرسول (ص) عن الرهبانية في حديث [لا رهبانية في الإسلام ]ومعنى هذا إن المجتمع الإسلامي لا يقر اعتبار الدين مهنة لكسب المعاش ، ذلك إن الرهبانية هي تفرغ للعبادة ، أي إنها ستوفر لنا ثمن مقومات حياتنا المعيشية (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل)22ــ وقد ألحق (ص)الدين بالممارسة الإدارية للمجتمع . فكان يختار قادته وعماله على أساس الكفاءة لا الإيمان . هكذا وجدنا كثيرا من القادة حديثي الإسلام يؤمون جنودهم في الصلاة ، وفيهم من هو أسبق إسلاما منهم .كما أن القرآن ،في كثير من الآيات ، ألحق إيتاء الزكاة بإقامة الصلاة . ومن قبل بشرت التوراة بمنقذ للبشرية يحكم في قادم الأيام [يكون نفسه ملكا وكاهنا في آن واحد]23 ــ هذا ما فعله الرسول(ص) ثم الخلفاء من بعده إلى حين، حيث كان(ص) زعيما ، وكانت زعامته غير ملزمة لأتباعه إداريا إذ كان قاضيا أكثر منه ملكا ، فما كان يقيم الأحكام الجزائية إلا بمساندة الرؤساء القبليين عكس الخلفاء بعده إذ حولوا الزعامة المعنوية النبوية التي كانت للرسول(ص) إلى زعامة إدارية ملكية وبذلك استعاضوا عنهم بجهاز تنفيذي خاضع تماما لسلطة الملك الذي أطلق على نفسه لقب خليفة رسول الله حرصا على إبقاء الدين ضمن الجهاز الوظيفي لعمل الدولة وبذلك جنا عدة مكاسب منها : أولا ـ حفظ سنة نبوية . ثانيا ـ الدين عقيدة ، والعقيدة سياسة إعلامية ، إن لم تنتفع منها الدولة ، انتفع خصومها . ثالثا ـ لا أخطر على المجتمع من أن يكون الدين تحت تصرف الشعب ، بعيدا عن سلطة الدولة ، وفي المصطلح القانوني المعاصر ،لا أخطر من الدين إذا صنف اجتماعيا على إنه منظمة من منظمات المجتمع المدني . لكن الخطأ الإستراتيجي الذي وقع فيه الخلفاء هو في إصرارهم على إنهم اكتسبوا شرعية الملك لصلتهم برسول الله ،فهم كهنة ملوكا ، ولا أسوأ ولا أظلم من هكذا نظام لشعب ، وهو النقيض الكامل لنظام الملك الكاهن ، حيث بشرت التوراة ، وأمر الرسول الكريم .
هكذا نجد ، ربما ، الجواب الأكبر الذي يفسر لنا عمدة الأسئلة : لماذا لم يمضي الرسول كثيرا من الأحكام التي أمر بها ، والتي سنمر لاحقا على الكثير منها إن شاء الله . إذا ، فالزعامة السياسية كانت هي ذاتها زعامة دينية ، وهذا ما يجب أن تكون عليه في الدولة العصرية . يجب أن يكون الزعيم السياسي ، وهو من يجمع في يده قوتي المال والسلاح ،أميرا للمؤمنين وإماما لهم كذلك . يجب أن يكون له مسجده الذي يقيم فيه الصلاة هو بنفسه أو أحد موظفي الدولة بأمر منه . ونزولا يستمر نظام ارتباط الإمامة بالموقع الوظيفي ، فيكون للمحافظ مسجدا وكذلك مدير القضاء ، ومدير الناحية نزولا إلى مختار المحلة ، بوصفه نقطة التقاء الدولة بالمواطن . وإن كنت أرى ضرورة أن يتخلص التقسيم الإداري في العراق من المحافظة والقضاء حدا من خطورة أن تنشأ نخبة إدارية بديلة للنخبة الدينية والمالية في حال زوالها والتي إن لم تكن بذات الشر فلن تكون قليلة الشر . وعودة لموضوعنا ، سيكون من واجب الأئمة ــ مديري النواحي و مختاري المحلات أو القرى الدعاء لولي الأمر بالصلاح ولرعيته بالطاعة . وقد ورد عن أحد أئمة الشيعة ـ المعصومين ـ قوله : [... ولا يتقدمن أحدكم الرجل في منزله ولا صاحب السلطان في سلطانه ]24 ــ لا يخفى أن من شأن ذلك تمتين أواصر المحبة والثقة بين الحكومة والمجتمع ، وتحرير المعلومة الدينية من احتكار رجال الدين لها ، بل ودمجهم في المجتمع كأفراد منتجين بدلا من أن يكونوا عاطلين كما هم لا عمل لهم سوى إقامة الصلاة في مساجد لا تفتح إلا في أوقاتها , في عزلة تامة عن المجتمع ، وكم بالإمكان جعلها متنفسا ، شعبيا لأفراد المحلة ، إذ ستكون مقرا للمختار أو العضو في المجلس البلدي يختلف إليه الناس طوال اليوم . أما السبيل الثاني الواجب اتخاذه من أجل اجتناب الطاغوت والذي يخص شروط الملكية ، والتي سعى جميع الأنبياء إلى خاتمهم (ص) في إبلاغها للناس وبيانها من أجل تحقيق العدل ألاجتماعي فإن الإسلام أشاع الأرض لجميع الناس ، وقرن ملكيتها بإحيائها وروي عن رسول الله أنه قال [ من أحيا أرضا ميتا فهي له ] ولم يتوقف الأمر عند الأرض الموات بل شمل الأرض الحية المملوكة فعلا وقد جاء في باب كراء الأرض من صحيح مسلم [ من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤجرها ] وفي حديث آخر ولا تبيعونها . هكذا نرى إن الإسلام شرع ملكية الأرض باستعمارها المباشر من قبل زارعها حصرا ، فإذا لم يباشرها انتقلت ملكيتها لمن يزرعها . لا بيع ولا كراء ولا استثمار ولا ملاك أراض يتنعمون بثروات صنعها كدح المزارعين الفقراء في شرع محمد وإخوته الأنبياء (ع) ولنقرأ بشارة التوراة [ لن أعطي حنطتك من بعد طعاما لأعدائك ...* بل يأكلها الذين تكبدوا مشقة زرعها ويحمدون الله]25 ــ ولنقرأ أيضا [يغرس الناس كرومهم ويأكلون ثمارها ويبنون بيوتهم ويقيمون فيها * لا يبنون ليأتي آخر يسكن فيها ولا يغرسون كرما ليجنيها آخر ] 26 ــ كما إن الدولة ليست مالكا للأرض ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق )27ــ وإن سلطتها على مواطنيها تنحصر في فض المنازعات و حفظ حقوقهم من أن يطغي بعضهم على بعض .
لم تكن غاية الرسول من الحرب هي نشر الإسلام تحت شعار [لا إله إلا الله . محمد رسول الله] كما هو شائع ، ذلك إن المبدأ الاجتماعي في الإسلام هو( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)28ــ وكانت قاعدة التفاضل بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )29ــ وهكذا نجد إن شرط الشعار الأول[ لا إله إلا الله ]قد فندته الآية الكريمة (ومن شاء فليكفر) ـ كما أن الشرط الثاني [محمد رسول الله ] قد فندته المساواة الكاملة في الآية الثانية بين المسلمين وغيرهم من الكتابيين .
كانت الغاية من حروب الرسول(ص) إما المعاملة بالمثل كمعركة بدر إذ أراد عليه السلام الاستيلاء على قافلة لقريش لاستيلائها على أموال المسلمين في مكة بعد طردهم منها ، أو دفاعية كموقعتي أحد والأحزاب ، أو انتقامية نتج عنها بسط نفوذه كما حدث مع يهود المدينة ، وخيبر ، وأهل الطائف ، وفي فتحه مكة . ثم اعتنقت القبائل الوثنية في شبه الجزيرة العربية ، كافة ، الإسلام بعد ذلك . لم يقاتل الرسول ليغير معتقدات الآخرين بل هم قاتلوه ليحيد عما يعتقد ، ولم يثبت أن الرسول قتل رجلا لأنه لا يؤمن بما جاء به قط . لم يحارب الرسول ليعبد الله في الأرض ، إنما لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الله هي إحلال الحق ، والعدل ، والرحمة في المجتمع مكان الحرية ، والاستئثار ، والجبروت لأن الأرض ملك لله باعتراف الجميع حتى غاصبيها ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون )30ــ إن ملكية الله للأرض تعني ، حصر الانتفاع بها لزارعيها فقط . [وأعطيك عهدا للشعب لتسترد الأرض وتورث الأملاك ]ــ أشعياء، إصحاح49 ، عدد9 ــ لذلك أطلق القرآن تسمية الفيء ومعناها الرجوع أو الاسترداد بالمعنى التوراتي ،على القرى التي خضعت لسلطة الرسول (ص) ، أي به رجعت ملكيتها من غاصبيها ، المستأثرين بخيراتها إلى مستعمريها المباشرين وزرّاعها .(ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا )31ــ .
و كانت عملية الفيء تتم بالغزو المباشر وفي هذه الحالة تقسم الغنائم بين المحاربين . أو بدون قتال ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ..)32 ــ من الواضح إن الفيء هنا من أموال غير المسلمين ، وهناك فيء الله على رسوله من أموال المسلمين ، بل أغنيائهم كي لا يكون دولة بينهم (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ...)33 ــ لكنهم بخلوا كما فعل أقرانهم من مترفي الأمم مع جميع الرسل ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون )34 ــ بل كانوا أكثر طغيانا وكفرا حين تواطئوا على قتل الرسول سما مع أقرب الناس إليه .
كما قيد الإسلام ملكية الأرض بشرط الانتفاع الناتج عن المباشرة بزراعتها ، كذلك فعل مع الأبنية المشيدة فوقها من بيوت وغيرها (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة لكم فيها متاع )35 ــ
لو أمعنا النظر في ما جاء به الإسلام ، وما حاولت الشيوعية السوفيتية تحقيقه لعرفنا سبب إخفاقها ، ذلك إنها لم تفرق بين الدين والمعتاشين عليه ـ رجال الدين أو علماء الدين ، سمهم ما شئت ــ وهنا ألفت عناية القارئ الكريم إلى أن نظرية العدل الاجتماعي الإسلامية ليست خاصة بالمجتمعات الإسلامية فقط إنما هي لكل التجمعات البشرية بغض النظر عن أديانهم . لا يوجد شعب بلا دين ، صغر أو كبر . ولا يخلو دين من رجال وقفوا حياتهم على ممارسة طقوسه ، وشعائره ، والاستفادة منه كمورد مالي لتلبية حاجاتهم المعيشية . لقد أوجدت الشيوعية لنفسها أعداء كانت في غنى عن حربهم ، وذلك بمحاولتها القضاء على الدين بدلا من إقصاء رجال الدين ، وفاتها إنهم هم مركز الداء الحقيقي في جسد كل المجتمعات .
لو تأملنا السبب في نجاح موسى (ع) ، وفي سرعة قبول الشعب الإسرائيلي لنبوته ، في الحقبة الفرعونية ، مقارنة مع إخفاق عيسى (ع) ؛ لوجدنا إن اليهود في زمن موسى لم يكن لهم معابد ولا رجال دين . وكان رجال الكهنوت في زمن عيسى قد بسطوا سيطرتهم على المجتمع اليهودي . ما أريد قوله ، أن الشيوعية برفضها رجال الدين قد تكسب عداءهم وعداء الكثيرين من المخدوعين بهم ، لكن برفضها الدين كله صارت مرفوضة من شعوب الأرض كلها .
كما إن الاختلاف الثاني كان في سيطرة الدولة السوفيتية على مجمل الأرض الخاضعة لسلطانها بامتلاكها ، وكذلك جميع وسائل الإنتاج ، من الصغيرة التي يديرها فرد أو مجموعة أفراد إلى المشاريع العملاقة التي يديرها آلاف الأشخاص وهكذا ظل الفلاحون والعمال الذين كانوا يعملون بالأجرة لدى ملاك الأرض وأصحاب المعامل أجراء ، إداريا ، وأسوء من ذلك ، فقد انخفض عديد أصحاب رؤوس المال إلى مالك واحد هو الدولة . ورغم إن الدولة مفهوم إلا إنها من الناحية العملية مالك حقيقي ، لكنه أقل حماسا من سابقيه ، من ناحية نوعية ووفرة المنتج ، وأكثر اضطهادا لمرؤوسيه . وهذه نتيجة منطقية لاستبدال الملاك السابقين ، الذين جمعوا ثرواتهم حسب الشريعة ، كما يبدوا لهم ، وبرضا الدولة ، وكانوا دائما تحت سلطانها ، بموظفين ثوريين أذلوا الشريعة ، وجعلوا من قناعاتهم قوانين مفروضة .
كما إن من شأن استبدال الملاك بموظفين حكوميين هو التأثير في انسيابية العمل حيث تنشأ الفجوات الإدارية بين مخططي المشاريع ومنفذيها ، وبين الكوادر الإدارية العليا وصغار الموظفين عمالا ، وفلاحين ، وإداريين . لهذا ظل المنتج الاشتراكي أبطأ وأقل جودة من المنتج الرأسمالي . وإذا كانت النسبة الأعظم من مواطني الدول الرأسمالية مسلوبة الحقوق ، فأن مواطني الدول الاشتراكية جميعهم كانوا بلا حقوق . إن الرحم الذي يلد الحقوق هو التملك . وإن تخلي السوفييت عن شريعة الملكية هو تخل عن حقوقهم في أن يكونوا سادة أنفسهم وبيوتهم مصادر أرزاقهم . الملكية هي الفرق بين السيد والعبد ، لا الرق الذي يكتب فيه ، أن فلانا عبد لفلان .
أما النظام الإسلامي فقد أعفى الدولة من ملكية الأرض وأباحها لجميع المواطنين بشرط مباشرة المستفيد العمل بنفسه ، فلا يجوز له أن يستأجر شخصا ليحل محله بالعمل . وأن يشغل من المكان ما تستطيع قدرته ، فإذا لم يكن قادرا على زرع أكثر من عشرة دوانم فلا يمكنه أن يستملك أكثر من عشرة دوانم ، ولفترة محددة بوقت العمل . فإذا توقف عن العمل بها لأي سبب ، فقد ملكيته لها . لقد جعل النظام الإسلامي التملك حقا يكتسب بالاستعمال فقط . وربما يحتج معترض بأن النظام الرأسمالي يتضمن بداهة حق التملك ! أقول إن ربط الملكية بالقيمة المالية يحول المال من قيمة اعتبارية إلى سلطة واقعية سالبة الملكية من جميع العاملين فيها ومنهم صاحب رأس المال نفسه ، لأنه واقعا لا يملك مكان الإنتاج ، أرضا أو بناء ، ولا كدح الأجراء وجهدهم وإن لوقت محدود ، هو شكل من أشكال الرق ، السيد فيه هو المال ، والذي يتحرك معظمه بين مجموعة من الأسماء ، الموجودة بالصدف المحضة التي لابد لمجتمع تنظمه الاعتباطية ، إلا إيجادها ، وإلا كيف يمكن لأي استحقاق أن يكون عادلا في نظام يجعل شخصا مالكا لقيم مالية تفوق ما يمتلكه آلاف الأشخاص الذين كدوا في عملهم أكثر مما كد وجهدوا أنفسهم أكثر مما فعل . ولو قلنا كما هو شائع إن المالك لمكان الإنتاج هو مالك رأس المال ! أذكر بأنها ملكية حاجبة للأجراء وهم الأكثر من أن يكونوا مالكين . هكذا نرى إن النظام الرأسمالي كالنظام الاشتراكي في النموذج السوفييتي لا يقرّ بوضوح ، بحق التملك لمواطنيه
قلت إن الفجوات الإدارية بين تخطيط المشروع وتنفيذه ثم المباشرة بالإنتاج ، أوسع في النظام الاشتراكي مما هي في النظام الرأسمالي ، وهي أضيق في النظام الإسلامي وتكاد أن تكون معدومة في المشاريع الصغيرة . يجب الإشارة لمزايا التخطيط الاقتصادي لكل نظام ، فعدد العقول المتجهة للطبيعة ، لاستخراج حاجات الإنسان منها ستكون في النظام الاشتراكي أقل مما هي في النظام الرأسمالي ولا يكادان أن يقارنا مع النظام الإسلامي لأباحته الأرض لمن يريد أن يعمل . لذا فإن عدد العقول المخططة سيكون هو تقريبا عدد الأشخاص المنفذين للمشاريع ، والعاملين فيها كذلك ، في كل المشاريع الصغيرة . أما في المشاريع المتوسطة والكبيرة فسيكون لزاما على الدولة وضع إمكانياتها بما يفيد إستراتيجيتها الاقتصادية وذلك بأن تقدم قروضا للمستفيدين من هذه المشاريع حيث مبدأ الشركاء المتساويين في العمل والأرباح . أما إذا كانت الأرباح ضخمة فيجب أن يتصالحوا مع الدولة على صيغة تضمن لهم تحصيل أجور مجزية ، ولكن ليس بالمقدار الذي يخل بالمستوى الاقتصادي لعموم المجتمع . النظام الإسلامي يقوم على مبدأ ، خطط ونفذ ، ولنا أن نتخيل عدد العقول المخططة لنتخيل تأثيرها على الإنتاج ، وصولا للمستوى المعاشي لعموم المواطنين .
مختصر الكلام إن التخطيط والتنفيذ سيكون بيد المواطنين ، وما على الدولة سوى حفظ حقوقهم بضمان الفصل بينها ، من أجل عدم طغيان بعضهم على بعض وكذلك سيكون على الدولة اتخاذ سياسة استثمارية تضمن بموجبها تدويل رأس المال القومي بين رعاياها . بشكل أوضح يجب التأكيد على أن المستثمر الوحيد في النظام الإسلامي هو الدولة ، الدولة فقط ، وكل استثمار لا تمارسه الدولة ، بوصفها نظاما لتدوير الثروة بين رعاياها ، بعد ضمان تأمين حاجاتهم الأساسية وهي المسكن ، والمأكل ، والمشفى ، وطبعا الأمن سيكون إعادة صياغة لقوانين الرق .
إن الملك ، وهو من يجمع تحت سلطته مال الدولة وسلاحها ، هو والد لشعبه ، لذا سيشعر بعقوقه لأبنائه إن أباح لنفسه ما حرمهم منه . ولا أقصد أن يحرم نفسه بدعوى الزهد كما فعل ملوك الإسلام الأول المعروفون بالخلفاء الراشدين ، وهم الذين أغدقوا العطاء على قلة قليلة ، دون الأكثرية التي ذاقت الحرمان الشديد لأسباب لا تمت إلى عدالة الإسلام بصلة . أقول أن والدية الحاكم ستجبره على أن يسكن ، ويأكل ، ويعالج نفسه ، ويحميها كأولاده ــ شعبه . ويمكن أن نتصور جمال المدينة في الدولة الإسلامية : مباني للسكن فقط ، وشوارع دون دوائر دولة ، خالية من المحال التجارية أو الصناعية ، لا جنابر فيها . سيكون العمران الحكومي محاط بمنازل المواطنين لضمان أكبر قدر من العدالة في وصولهم إليه بعد أن يقدموا المسافة الأقرب لمن هو أحوج إليها من أيتام وذوي احتياجات خاصة وأشباههم . ستكون هذه كلمة الدولة المسموعة في وعي مواطنيها لأنهم سيقطنون في منازل يملكونها , دون أن يتحملوا شيئا من نفقات البناء . سيبني الكل للكل . لن يبني أحد لغيره وهو بلا سكن [... ويبنون بيوتهم ويقيمون فيها * لا يبنون ليأتي آخر ويسكن فيها ..] أشعياء ــ 56 : 21،22ــ
علينا أن نتخيل معلما حكوميا وسط دوائر الدولة مخصصا لتناول الطعام سيكون مطبوخا وشاملا لجميع أصناف الطعام . أغنى الأغنياء عبر التأريخ البشري لم يروا مثل هذا العدد من أصناف الطعام على مائدة قط لأن الأب لا يبخل على أبنائه ــ شعبه ولا يأخذ أجرا منهم ، خشية أن لا يجد أحدهم ثمن طعامه فيجوع (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلاّ بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لمّا * وتحبون المال حبا جما ) 36 ــ وقد ورد هذا المعنى في التوراة أيضا [هلموا أيها المعدمون من الفضة ، ابتاعوا وكلوا ... مجانا من غير فضة]أشعياء، 55 :1 ، 8 .
إن الدولة العراقية لم تبخل على رعاياها بالضمان الصحي عبر تأريخها ، لكنها سمحت بتشييد المستشفيات الحكومية ، وسمحت للأطباء بفتح عياداتهم الخاصة . وسمحت بمثل ذلك للممرضين ، وأيضا للصيادلة . هكذا أغلقت الدولة العراقية باب عطفها بوجه المواطنين ، لأنها فتحت منافذ لا حصر لها أمام جشع كوادرها الصحية لنهب المال والدواء . إن وجود مشافي أهلية إلى جانب الحكومية لا يعني إلا شيئا واحدا ألا وهو وجود الحرمان إلى جانب الغنى . إن والديّة الحاكم ستفرض عليه ،دون أدنى شك ، معالجة حرمان أبنائه ولا يكون ذلك إلا بغلق المستشفيات الأهلية ، والعيادات والصيدليات الخاصة .
وكذلك الحال مع الجهاز القضائي ، فوجود المحامي يدل على الفوارق الاقتصادية داخل النسيج الاجتماعي . إن المحاماة هي السفسطائية ووجودها يدل على أن الحقيقة التي لابد منها للقضاء العادل تخلت عن مواقعها لصالح المال . ولا أحرص من الوالد على تحقيق العدالة بين أبنائه . لذا فإن والديّة الوالد ستفرض عليه إلغاء مهنة المحاماة .
يجب التأكيد على أن أبوة الحاكم لا تقتصر على أهل البلد فقط وإنما الساكنين بين ظهرانيهم أيضا ، ربما يفضل أهل البلد ، وحصر السكن ــ بالفلل ــ لهم ، وللأغراب السكن في أبنية عمودية مكونة من شقق .في ما عدا ذلك لا أفضلية لهم على سواهم ، أبدا .
والآن لنضع في أذهاننا خارطة لسوق العمل في مثل هذا النظام ، على سبيل المثال كم ستختصر المطاعم الوطنية من وظائف في سوق الغذاء بل كم ساعة عمل ستوفر للعائلة الواحدة . نعم ستتضاعف أعداد الباحثين عن وظائف .سيقال إن الناس سيفقدون الحافز إلى العمل ، أقول إن الرغبة في العمل قد تنعدم عند كثير من الناس حتى مع شدة الضرورة إليه ، ربما يزداد عددهم ، لكن ليس إلى الحد الذي يخل بالبنية الاقتصادية للبلد . سنتخلى عن المورد المالي للسياحة وأكثر من ذلك سيكون علينا إسكانهم[قاصدي البلد من الشعوب الأخرى] في بيوت لائقة ، وإطعامهم ، وعلاج المرضى منهم مجانا ، ومن أراد العمل يعمل . ومن غير الممكن غلق الحدود بوجه أي قاصد مهما كان دينه أو قوميته إلا لأسباب تضر بمصلحة البلد لأن الملك وهو خليفة الله في أرضه الواقعة تحت سلطانه محكوم بالعمل مع ما تمليه الآية 97 من سورة النساء( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) . ستكون أيدي عاملة كثيرة في البلد العادل وستكون مجالات العمل أكثر (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان )37ــ
إن كثرة الأيدي العاملة ستجعل الدولة قادرة على تقديم خدمات أكثر لمواطنيها سيرى أصحاب الاحتياجات الخاصة ، وجميع المرضى ، وكبار السن ، والأطفال ، وخصوصا الأيتام منهم ، وأبناء المطلقات ، وأمهاتهم ، والأرامل عناية المجتمع بهم . سيكون هناك موظفون من كل الاختصاصات لتقديم ما يحتاجونه ، في بيوتهم مكرمين . لذلك ستقدم الأرملة والمطلقة على الزواج لأنها لا تخشى على أبنائها من حيف زوجها . وسوف ينسى الناس حديث[إن أبغض الحلال عند الله الطلاق] وأظنه موضوعا لقوله تعالى (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) 38ــ إن كثيرا من الأزواج يحتملون بعضهم مجبرين . مع الإسلام لن يضطروا إلى ذلك . وسيكون للمرأة حق الطلاق كما للرجل .
هل يمكن أن نتصور مجتمعا ــ غير شيوعي ــ خاليا من فئة المترفين، كبار ملّاك الأرض و رجال الدين ، حيث استبدل رجل الدين برجل أمن قاس، كان لابد منه لقمع حاجة الإنسان والمجتمع الطبيعية للدين و الرجل الثري بموظف لا تشغله مسألة الربح والخسارة، لأن قانون السلم الوظيفي، أمن له دخلا ثابتا، وجاها عريضا.
لم يخل أي بلاط أو ناد لتشريع القوانين في تاريخ التجمعات البشرية من وجود هذين العنصرين، لذا فمن النادر أن نجد قانونا، أو قرارا لا يخدم مصالحهما، إن ممارسة الطقوس هي حرية التعبد، لا حقّ اعتناق أي دين، كانت السبب في حظوة الكاهن الأعظم، و كذلك حرية جمع المال، لا حق الملكية المستند إلى مباشرة العمل، هي من منح الأثرياء الأماكن الرفيعة في المجتمع . وهذه الأنساق التنظيمية ترضي الملوك لأنها تجعل آثار سلطتهم واضحة على الآخرين، إن نعيما، أو بؤسا. ولنتذكر يوما البؤس والنعيم، في مملكة الحيرة . وعلى الرغم من أن سلطة الملك كانت في الغالب ضدّ توجهات الفقراء ، إلاّ إنها كانت معزولة تنظيميا ، وإن لم تكن عمليا ، عن إرادة المترفين ، وهذا الأمر كان في جانب الفقراء، و إن لم يترك فسحة لخيالهم في توقع حياة أفضل وفي جانب آخر نجد الأنظمة الديمقراطية وقد قضت على احتكار السلطة ، والزعامة إنما قضت على أي فرصة للحاكم في تقديم مصلحة عموم المجتمع وهم فقراؤه على مصالح المترفين ، لأنهم من أتى به إلى كرسي الزعامة ، وهم الأقدر على عزله ، أو إعادة انتخابه ، لأنهم فقط دون سواهم من يملك الأموال ، فالوسائل التي تحرك الماكينة الإعلامية بالاتجاه الذي يخدم مصالحهم ، وعلى ذلك فإن المواطن الذي يظن أنه قادر على إحداث تغيير هو في الحقيقة ليس سوى رقم بسيط في لعبة قمار ضخمة، يتبارى فيها أصحاب النفوذ المالي والديني، و إن الاحتكام إلى صوته، هو تماما، كالاحتكام إلى أرقام النرد، بعد أن ضمنوا، تماما، اتجاه القرار الاجتماعي في السكة التي رسموها له. وهذا ما حدث في الأزمة المالية،الحالية التي يعاني منها الأمريكيون و الأوربيون، إذ إن الحلول التي قدمت جاءت على حساب المواطن العادي، دون أن تضر بأرصدة الأثرياء، بينما ليس من سبيل لانفراج الأزمة إلاّ بإعادة توزيع الثروة وفق المنظور الإسلامي، أو على الأقل بفرض ضرائب حقيقية على الأغنياء.
علينا أن نفهم أن ميزان العدالة الإسلامي قائم على نقض قواعد الاستقطاب الديني، والاقتصادي أي إن النظام الديمقراطي بديل وجودي له. لا ديمقراطية من غير هذه القوى ، ولا إسلام مع هذه القوى(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)1(وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا بما أرسلتم به كافرون)2
لقد كانت الحرية أخدودا عميقا، مياهُ الثروةِ ورؤى المفكرينَ سلكته باتجاه الأحواض الكبيرة التي يستحم فيها الأغنياء.وعلى هذا فلم نكن لنتصور نقيضا للدكتاتورية غير الديمقراطية؛ و لهذا كانت مطلبا ملحا ووحيدا لثوار الربيع العربي، ولهذا أيضا لم تتوقف الثورة حتى مع سقوط الأنظمة القمعية ، لأن غايتها كانت تحقيق العدالة الاجتماعية ، ولم تكن الديمقراطية إلاّ ترسيخا أشدّ للبؤس التي زعمت تفتيته ذلك أنها جعلت من فقر الشعوب حقا لمجموعة من الأفراد اقل من أن توصف بالقليلة ، من أولي النعمة.وهنا أحب أن أوضح ، إن التمسك بالسلطة و الاستبداد بالرأي مع إعطاء الحرية وضعا قانونيا لتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع ، خصوصا في الجانب الاقتصادي ، هو ما يسمى في المصطلح السياسي نظاما دكتاتوريا ، وفرعونيا،ربما،في الفهم القرآني وربما ينبغي التوضيح أيضا ، إلى أن الخلافة الإسلامية تندرج ضمن هذا السياق . ولا يوجد فرق جوهري بين خلافة أبي بكر أو علي بن أبي طالب أو معاوية بن أبي سفيان ؛فكلهم تزعم نظاما اجتماعيا فرعونيا ، لا إسلاميا ، يستمد التملك فيه شرعيته من المال لا الاستعمال ، كما بينت ، وعليّ أن أوضح حتى يكون القارئ على بينة، لا شبهة فيها، أن العدالة والحرية لا يجتمعان، متى حضر أحدهما توارى الآخر، و يجب أن أكرر إن فصل الخطاب بيّن في العدالة الاجتماعية وهو كما أفصح الرسول الكريم (ص)،ولنتأمل التسمية القرآنية لفرعوني مصر ، أيام يوسف ، وموسى النبيين وكيف عبر عن الأول بكلمة الملك ،بينما الثاني سمي فرعونا.
النظام الديكتاتوري ـ الفرعون إسلامي ـ والنظام الديمقراطي يقومان كنظم اقتصادية على الحرية التي تتناقض تماما مع الحق في العدالة الاجتماعية الإسلامية التي اتخذته أساسا لإقامة بنيانها الأقدر على احتواء و تحقيق مطالب عموم الشعب. وربما من الأولى الإشادة بالمزايا الأخلاقية والاجتماعية التي نسبت للنظام الديمقراطي كالمساواة أمام القانون، و حرية العبادة والتعبير و ما إلى ذلك من كثير من القضايا الاجتماعية التي سميت حريات ولم تكن سوى حقوق طارئة على المنهج الديمقراطي الذي قرن شرعية أي سلوك اجتماعي بعدد الموافقين عليه ورغم أن العقائد الدينية لم تكن سوى أفكار إلّا أن تأريخ سلوكنا يفيد بأننا تعاملنا معها كأجناس بشرية ، فالأديان هي معتنقيها،و قد استمدت ضرورة ممارسة طقوسها من منطق لا يمكن لجميع البشر القطع بصحته ، وهذا يعني إن البناء المنطقي للديمقراطية لا يسمح للمجتمع بقبول الآخر فكرا ولا وجودا .
إن اعتبارات عديدة لا علاقة لها بالديمقراطية أجبرت واضعي الدساتير الغربيين على اعتماد مجموعة من الحقوق كثوابت لا يمكن المس بها . لم تلد الديمقراطية الحقوق ، وإن المساواة ، والضمان الاجتماعي و حرية العبادة ، و التعبير هي حقوق أضيفت لها لتكون حدودا للقسوة التي ستبلغها دون شك الهمجية الديمقراطية إذا ما أخذت مجالها الحقيقي في المجتمع . أما الإسلام فقد تعامل معها بوضوح لأنها جزء من برنامجه في إدارة المجتمع(يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ..)(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكركم عند الله أتقاكم ..)3 وقد حثّ الإسلام على حرية التعبير و احترام المحاور(وجادلهم بالتي هي أحسن)4 ولا أروع من الإسلام حين جعل باب الجنة مفتوحا لجميع المؤمنين بغض النظر عن دينهم (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)5
هل يمكن أن نتساءل عن النظرية الاقتصادية التي تميز الإسلام عن غيره من الأنظمة؟ ما الذي يميز النظام الاقتصادي السعودي بوصفه تطبيقا لنظرية أهل السنة و الجماعة، عن النظام الإيراني بوصفه تطبيقا لنظرية الإمامة الشيعية ، عن النظريات الاقتصادية الرأسمالية ممثلة بأمريكا ، والاشتراكية ممثلة بالإتحاد السوفيتي ، وقد بينا أن النظرية الاشتراكية أعطت حق التملك للدولة - حصرا – بينما كان المال هو صا6حب الحق في الدولة الرأسمالية ، لذا كان المواطن مملوكا للدولة الشيوعية ؛ وللمال في الدولة الرأسمالية . أما المواطن في الدولة الإسلامية شيعية كانت أو سنية فهو عبد للدولة والمال معا، ذلك لأنها اعتبرت كل ما ليس له مالك، ملكا لها.هذا الفهم يختلف مع التقرير القرآني بملكية الله للأرض( قل لمن الأرض... سيقولون لله ...)6 و ربما بيّنّا من قبل إن القرآن بدأ عملية تحرير الأرض من حابسيها بآيات الفيء 7، بعد أن كتب بشارة ذلك بالزبور(ولقد كتبنا في ألزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)8. أقول ذلك رغم التضليل القريشي الذي أدخل في أذهان المسلمين إن الآية الكريمة تخبر عن حدث مستقبلي ، في حين إنها أمر بتوريث الأرض للعاملين فيها (إنّ في هذا لبلاغا لقوم عابدين)9 وإنه لأمر بين أنّ التبليغ أمر بالتنفيذ .
لم يكتف الإسلام بجعل توفير متطلبات المعيشة الأساسية للفرد واجبا اجتماعيا، وأنى له ذلك دون أن يساوي بين جميع الأفراد، أي بطلان الرق. فمع التحرير الإيماني(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)10،والتحرير الاجتماعي الذي لا يخفى المرمى الاقتصادي الواضح من ورائه(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ...)11، وبما إن (الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)12لابد من أحد أمرين:إما أن تكون الحرة أمة لسيد زوجها العبد وهذا غير جائز، وإما أنّ العبد حرّ في ماله ، وفي هذا إبطال لقانون الرق ، الذي يفترض أن العبد سلعة ذات ثمن ولها مالك، أي إنه هو نفسه مال مملوك لآخر .لكي نفهم معنى تحرير العبيد اقتصاديا بعد تحريرهم اجتماعيا وإيمانيا أن نتخيل الأغنياء وهم يجردون من أملاكهم - مزارع ،عقارات ، عبيد – وما يعني ذلك من حياة بذخ وجاه عريض جعل منهم الطبقة الحاكمة في مجتمعاتهم ، وطبعا لا يبعد عن ذلك المجتمعان المكي والمديني .هذا ما أخبرت به سورة محمد عندما تحدثت عن إسرارهم – تآمرهم – مع مؤمنين ارتدوا سرا عما آمنوا به(إنّ الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم [25] ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم [26])13

إن هاتين الآيتين تحدثتا بوضوح عن طرفين من المسلمين كان بينهما [إسرار] أي مفاوضات لا يراد للرسول أن يطلع عليها فهي إذا مؤامرة لحرف بعض التوجهات الإسلامية. يمثل أحد طرفيها بعض المؤمنين المرتدين سرا عن الإسلام،الذين وافقوا محاوريهم على طمس بعض تعاليم الإسلام،لا كلها(سنطيعكم في بعض الأمر)وكلمة [الأمر] تدل على إنهم لم يكونوا من عامة المسلمين،بل من خواصهم القريبين من مركز القرار الإسلامي،وقد أمر الرسول(ص)باستشارتهم (وشاورهم بالأمر)14
أما الطرف الآخر من المؤتمرين الذين(كرهوا ما أنزل الله) فهم كبار الأثرياء وقد روت الآيات الثلاث الأخيرة من هذه السورة المباركة(محمد) حكايتهم الجدلية مع الإسلام بخصوص أموالهم (...وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم [36])وهذه الآية ربما تفسر سبب إغداق الرسول الأموال على أثرياء قريش في وقعة حنين التي أعقبت فتح مكة بخمسة عشر يوما . أما الآية التي تليها ، فقد أخبر فيها قرآن مجيد (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم [37]) وقد جاء في المعجم الوجيز{استحفّ أموالهم:أتى عليها} وأيضا {الحفّة:القوت ليس فيه زيادة عن أهله} تخبرنا الآية الكريمة في خطاب إلى الأغنياء بأنّ الله إذا أمرهم بالتنازل عن فائض حاجتهم ، وأنه لا زيادة فوق كفافهم، فإنهم سوف يبخلون – يجاهرون بعصيانهم لله ورسوله، بل ويخرجون أضغانهم –يتحولون من النفاق، العداء المضمر، إلى العداء الصريح ، ويخطئ من يظن إن معادلة القوة التي أجبرت الذين (كرهوا ما أنزل الله) على الدخول في الإسلام هي ذاتها بعد إسلامهم . لقد كان ميزان القوة يرجح الكفّة ذات العدد والعدة الأكبر، هذا هو المنطق العسكري،واضعا ثقتي في سماحة القارئ ، بعدم الالتفات إلى الإستثنآت،رغم واقعيتها .لقد كانت الحرب بين مجموعتين من البشر يلعب العدد فيها دورا كبيرا،أما بعد أن أصبحت المجموعتان مجموعة واحدة ، وبقي الذين ( كرهوا ما أنزل الله) يكرهون (ما نزّل الله) فقد تحولت الحرب نحو الجانب التنظيمي للسيطرة على المجتمع،بغية منعه من العمل بما أنزل الله ،هكذا استغلوا ثقلهم الاجتماعي بوصفهم وجوه قبائلهم للوصول إلى الرسول مرورا بالحلقة الأقرب منه،هذا معنى إسرارهم الذي مكنهم من تحريف المعلومة النبوية بواسطة الكذب ،عن بسطاء المسلمين، حتى قال الرسول الكريم {:قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. }15 .وثانيا تكوين جبهة لإسناد مستشاريه المفروضين بفعل الواقع الاجتماعي لأنهم أقرباؤه ، حيث شاقّوا الرسول (وشاقّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى)16 ، وصولا إلى قيادة جمهور المسلمين في عصيان شعبي لبعض التعاليم الإسلامية، في التدرج الثالث(وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم)17،مستغلين افتقار سلطة الرسول للقدرة التنفيذية (فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون)18، وقد حاولوا في تدرج رابع مشاطرة الرسول قيادة المجتمع من خلال اتخاذهم مسجداً ضراراً(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين)19، لكن محاولتهم هذه فشلت بعد أن هدّ الرسول مسجدهم ، إذ إن القيادة مرتبطة بالولاية على المؤمنين و هي للرسول حصرا (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)20
أما الآية 38 وهي الأخيرة في سورة محمد(ص) فقد أخبرت النبي الكريم بنجاح المتآمرين بمسعاهم في تضليل الأمة، كما بشرته بحفظ دينه وإنه سيظهر مع قوم غير قومه، وإنهم لن يكونوا أمثالهم في الضلالة، هذا المعنى أكده الرسول في حديث الحوض المروي في كتب جميع الطوائف الإسلامية، وفيه أخبر (ص)عن ردة أصحابه، وتحريفهم لدينه{لا تدري ما أحدثوا بعدك}
إن الخلافة انحصرت في قرابة الرسول القريبة، إلّا الخليفتين الأول والثاني، وكانا كذلك من قبيلته، وأبوي اثنين من نسائه، يرحمهن الله، وقد صحباه طويلا، لنا أن نستحضر في أذهاننا، تصورا منطقيا، للإسلام ونبيه بسلطته المحدودة(فذكر إنما أنت مذكر{21}لست عليهم بمسيطر{22})21 لكي نفهم وضع الحقيقة الإيمانية بين الرسول والمرسل إليهم حين بلّغ [لقد كثرت الكذابة عليّ] ولنا أن نتأمل مغزى التحدي القرآني(إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون{9}) 22 عن هذه التساؤلات ربما يجيبنا قرآن مبين (هو أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله {7})23 لقد كانت الآيات المتشابهات طعام قريش لتذهل عن محكماته ،ولولا ذلك لحرف القرآن كسابقيه . إن الذين كرهوا ما أنزل الله من سراة مكة توافقوا مع من سارّهم من المرتدين ذوي الشأن، المقربين جدا من الرسول، من ذوي قرباه، وأهل مشورته على أن يكون الأمر فيهم، بعد رسول الله، بشرط إبقاء نظام الملكية الخاصة على حاله، وفي هذا أيضا ضمان لبقاء السلطة فيهم( في قريش) أيضا .
لقد اتفق سراة مكة على أن يغيروا جنس الدولة في المجتمع الإسلامي من دولة نبوية ، أي دولة حقوق ، إلى دولة حريات ، أي دولة فرعونية ، وظيفتها حماية جاه رجل الدين الذي من خلاله يجمع الأموال ويكنزها ، وحماية مال الأثرياء الذي بواسطته يصنعون جاههم، المال والجاه في تعاظم عند ركني الفساد، وما قام نظام فرعوني إلا بهما، قديما وحديثا، وقد فشلت كل المحاولات لتغييره.
مترفوا الإسلام لم يتفقوا(ظاهرا) على شخصية الملك الذي سموه خليفة رسول الله ، فكان لابد من الاختلاف، فاستشراء ظاهرة التشيع ، وهي المزية الأشد سوادا في نظام الدولة الفرعونية ، حيث أصبح الجزء الأعظم من المسلمين شيعة لعامة قريش (أهل السنة والجماعة) ، أو لجزء من قريش وهم علي بن أبي طالب وأبنائه (شيعة علي) .
أوهمت قريش المسلمين بأن شرعية أي خليفة لا تتم إلا إذا كان قرشيا ، هكذا نجد في (صحاحهم) أحاديث تؤكد تبعية الناس لقريش (الناس تبع لقريش )الحديث [1818]من صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش . ولكن قريشا قبيلة بل مدينة لذا كان لابد من شعور أفرادها جميعهم بحقهم بتسخير الآخرين لتلبية حاجاتهم حتى شاعت مقولة (إنما الناس بستان لقريش) لشدة كلبهم و أثرتهم . أما عند شيعة علي فحدث ولا حرج والحق إنّ مثل هذه الأحاديث لم تكن موضوعة للنقاش تحت سقيفة بني ساعدة إذ عقد الأنصار مؤتمرهم . ولم تكن حاضرة في احتجاج الأربعة الحاضرين من مهاجري قريش ونعلم أن المؤتمر انتهى ببيعة احدهم (أبي بكر) كما لم يحتج علي بن أبي طالب على قريش بأي من الأحاديث المتداولة الآن في الوسط الشيعي في أنّ الخلافة الشرعية لعليٍّ حصرا دون سواه ، لقد احتجت قريش على الأنصار بأنّهم شجرة النبي واحتج عليّ عليهم بأنهم (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة )24 هكذا أخرجت قريش من دائرة الإسلام كل من لا يقول بالشجرة أو الثمرة ، ولهذا ، ربما ،جاءت تسمية الخوارج لأنهم اجترؤوا على تسمية خليفة لهم من غير قريش كما يطيب لأشياع قريش تسمية شيعة عليّ بالروافض لأنهم رفضوا شرعية خلافة الشيخين ، الذين ردّوا عليهم بتسمية النواصب .
كان لابد لقريش من أن تكون ممرّ الرسالة من منبعها النبوي إلى العالم ، لطبيعة التكوين الاجتماعي ذي الصبغة القبلية ، السائد في الحجاز يومئذ لذا من البديهي أن نجد بعد إعلام النبي أسرته :- (وانذر عشيرتك الأقربين)25 أقول ، لكي نفهم الإسلام كدين وكتاريخ لابد من فهم رؤية قريش لمحمد (ص) التي اعتبرت أنه رجل من قريش له تأثير كبير خارج القبيلة وعليها ، أكثر منه ،نبيا ، رسولا للعالمين ، هذا معنى قول علي بن أبي طالب[إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد (ص) تفويقا ، والله لئن بقيت لهم لأنفضنهم نفض اللحّام الوذام التربة]26 – لقد اجتمعت كلمة قريش على عدم التفريط بزعامة النبي الدينية لذلك سمّوا أول ملوكهم خليفة رسول الله وهي التسمية ذاتها التي حملها كل ملوكهم بعده رغم أنّ محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ملكا وهم لم يكونوا أنبياء . استطاعت قريش أن تدخل في الدين ما يجعل المؤمنين يعتقدون إن إتباعهم إياها عمل عبادي لابد للمؤمن من إتيانه. يا للسخرية ، جعلونا نؤمن بأن الله ، سبحانه ،يأمرنا أن نتبع ألدّ أعدائه . جاء في تفسير الطبري للآية 97 من سورة مريم [(وتنذر به قوما لدّا) يقول : ولتنذر بهذا القرآن عذاب الله قومك من قريش ، فإنهم أهل لدد وجدل بالباطل ، لا يقبلون الحق . واللد : شدة الخصومة .] 26 يقول علي بن أبي طالب:[ ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه]27 هذا ما يخبرنا به أحد حملة الكتاب عند أهل السنة والجماعة، والحامل الوحيد له طوال فترة إمامته عند الشيعة، إننا لا نعرف الحق حتى نعرف رجاله ، لا شك أن هذا المنطق سيقودنا إلى القول بصدق حديث [علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور معه حيثما دار] وهو ابن عم الرسول(ص) وربيبه ، وزوج بضعته الوحيدة ، وأبو أسباطه ، مع قدم إسلامه ، وعظيم جهاده ، لكن القرآن وهو من حدثنا عن أرحام أنبياء لم يصدقوا بدعوتهم ومرتدين عن الهدى بعد أن تبين لهم ، وضع لنا نهجا مخالفا لنهج عليّ في معرفة الحق قائما على معرفة ميثاق الكتاب من الكتاب نفسه دون الالتفات إلى رأي أي رجل يخالف ما جاء فيه مهما كانت منزلته ، وسواء كان معاصرا للرسول (ص)أو ممن جاء بعده (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكّرون)28 ولنتخذ مثلا أهل البيت المكّرمين بإرادة إلهية مخصوصة (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) 29 فهم كما أخبرنا [ أولياؤنا] القرشيون إن هذه الآية الكريمة لا تشمل نساء النبي رغم إن الخطاب موجه لهن خاصة باستخدام أسلوب النداء(يا نساء النبي ) أو بمخاطبتهن بضمير نون النسوة قبل أن يشمل النبي الكريم ميم (عنكم)بل هي خاصة بأهل بيت عليّ والذي يشمل زوجه فاطمة بنت محمد (ص) وابنيه الحسن والحسين إضافة إلى النبي من دون أي خلاف بين السنة أو الشيعة لكن الكتاب يخبرنا إن أهل البيت المخصوصين في هذه الآية الكريمة هم النبي ونسائه يضاف لهم جميع المؤمنين إلى قيام الساعة كما هو واضح في الآية السادسة من السورة نفسها (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم )هكذا نفهم إن اتفاق الطائفتين على معلومة لا يعني أبدا توافقها التام مع الكتاب وربما يقودنا هذا المثال إلى ضرورة مراجعة مبادئنا الإسلامية التي تكونت لدينا وفق هذا المنطق الذي جسده حديث الثقلين المشهور بين الفريقين . إن الفرق بين فهم المعلومة كما جاءت في الكتاب الثقل الأول عنها في الثقل الآخر (وسنتي أو وعترتي أهل بيتي) هو عينه الفرق بين أن تكون لنا كما(لإخواننا الذين سبقونا بالأيمان)30 العزة التي كتبها الله لنفسه ولرسوله وللمؤمنين (لله العزة ولرسوله وللمؤمنين) 31 وإمّا أن نكون ما نحن عليه الآن من الدونية المذلة { للسلف الصالح أو العترة الطاهرة } بل تعدى الأمر إقصاءنا إلى إقصاء نساء النبي ، أمهات المؤمنين بل إلى شتمهنّ على المنابر التي وضعت لعبادة الله كما يزعمون .زبدة القول إن قريشا أوهمت المسلمين ، إن الحق يعرف بالرجال وقد حذر الله عباده من مكرهم هذا (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل )32
إن الحضور الباهت والهامشي لبني هاشم عشيرة الرسول الأقربين في تحديد المتن الديني والسياسي للمجتمع الإسلامي ، حين وفاته ، يرسم علامة استفهام كبيرة في ختام جميع الروايات القرشية التي تناولت الأحداث التي وقعت في الأيام القليلة التي مرض ومات فيها (ص) كانت رغبة عليّ بن أبي طالب مسنودا من أهل بيته شديدة في ولاية أمر المسلمين لكن عمله كان واهنا ، وسلبيا ، اقتصر على رفض مؤقت للبيعة واحتجاج خجول ، ما الذي أخافه فجعله ساكتا هذا السكوت المذل حتى أمام الذين اقتحموا عليه داره وأصابوا زوجه بنت محمد المعظّم ، وقادوه مربوطا بحبائل سيفه ،بل ما الذي أجرأهم عليه وهم من كانت دولتهم ليست سوى فكرة لم تتأسس بعد . كيف أمكنهم أن يتناسوا أن في البيت الذي ينتهكون حرمته كل ذرية محمد (ص) ولم لم يخشوا غضب المسلمين وجلهم عرب، أهل نخوة، ونجدة، وشهامة ولنتأمل مثلا حادثة كربلاء وما أحدثته من بلبلة هائلة في بنية المجتمع المسلم في وقتها ، وإلى يومنا هذا أكان يمكن لها أن تكون بهذه الشدة لو أن المقتول رجل غير الحسين بن بنت محمد (ص) و الآن بعد أن عجزت الروايات القرشية عن تقديم تفسير منطقي لما حدث هل يمكن أن نجد ضالتنا في القرآن؟
كان العرف العشائري هو القانون السائد في مجتمع شبه الجزيرة العربية، ما يعني أهمية العصبية القبلية لكل أفراده وحضورها في شؤونهم الحياتية الخاصة والعامة لذا مع حدث بأهمية الرسالة الإسلامية كان لابد للرسول من إنذار الناس جميعهم بدءا من ذوي قرباه (وأنذر عشيرتك الأقربين)33 ورغم أنهم لم يستجيبوا لإنذاره لكن لا أحد يمكنه تقدير أهمية هذه الخطوة ، في تهيئة قريش لما سيحدث لاحقا .
لم تكن أهمية الذرية بأقل من رهط الرسول في مجتمع قبلي أريد له أن يؤمن أن حياته الحقيقية تبدأ بعد موته هذا ما حدث مع نصارى نجران عندما قدموا المدينة مدعين طلبهم الحقيقة في حوارهم مع الرسول ، وهم أهل كتاب أيضا ، ولما كانت المعرفة الدينية قائمة على برهان متكون من بديهية واحدة فقط اسمها الإيمان ، والذي يمكن نقضه ببديهية كلية أيضا وهو عين ما صرح به قرآن مجيد (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم)34 عرفنا خطورة هذه المحاورة الماكرة على دين ناشئ في أرض بداوة ، ولما أقامت المسيحية حجتها على المعجزة الفيزيائية إن أمكننا القول فلا أبلغ من دحض أشياعها بما احتجت به من قبل (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)35 ولكنها حجة ستكلفهم ما قليله حياتهم لذا امتنعوا عن المباهلة . إن امتناع النصارى عن الاستجابة لدعوة القرآن للمباهلة , تدل على إنهم كانوا واثقين من صدق الرسول ، وما كانوا ليجرؤ على مباهلته حتى لو اقتصرت الدعوة على شخصه الكريم فقط . إن اصطحاب النبي ابنته الوحيدة وسبطيه منها وهم كل ذريته إنما كان لتثبيت المسلمين على إيمانهم، فلا ريب أن منهم من تسلل الشك إلى نفسه بعد جحود علماء النصارى نبوته في مسجده ، وبين أنصاره ، فلو لم يكن صادقا ، لترك المؤمنين لشكهم ، أو لباهلهم منفردا ، ولما فكر أبدا بتعريض عائلته لما يخشى عليها منه ، وتلك علامة يفهمها العربي جيدا . أقول لو كانت الروايات القرشية في سبب نزول الآية صحيحة في أنه دعا أسرة ابنته فاطمة ، ولم يحجم النصارى عن المباهلة قبل ذلك ، فإنها دعوة لأشخاص فرضها وضع اجتماعي ، لقرابتهم من الرسول الكريم ، أكثر منها امتيازا إيمانيا لهم .
إذا كان المناخ القبلي يفرض إعلان دعوة الإنسانية إلى الإسلام بدءا من عشيرة النبي (ص) الأقربين . ويباهل ببعض أسرته المشككين بدعوته فلاشك أن ذوي قرباه سيحظون بمعاملة تميزهم عن سواهم تحمل الرسول الكريم على نهي أصحابه من قتل المحاربين منهم في صفوف مشركي قريش ، كما تجعله يعيل فقراءهم المهاجرين معه، وإن كان الذين خرجوا لقتاله مجبرين على خروجهم، والفقراء الذين أعالهم كانوا أشبه بموظفين عاملين في الدولة الفتية، فإن ذلك لا يطعن في تمايزهم عن غيرهم لاحتمال وجود كثير من المجبرين على القتال ، من غير بني هاشم ، ولأن أغلب المهاجرين كانوا من الفقراء وقد آخاهم الرسول مع الأنصار ، ولم ينالوا من قربه (ص) ما ناله نظرائهم من بني عبد المطلب ، الذين قوبل كافرهم بأكثر ما استحقه أقرانه من العقاب، وهذا أبو لهب الذي سمي باسمه في سورة أنزلت به وبزوجه الأمر الذي لم يحدث مع غيره من كفار قريش وسائر الناس ، ممن واكبوا حدث البعثة الكريمة . لذلك كانت من أجل المؤمنين الأخيار من بني عبد المطلب (قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودة في القربى)36 التي سرعان ما نسخت بقوله تعالى(قل ما سألتكم من أجر فهو لكم)37 لكي لا يضطر المسلمون ، وقد اضطروا ، لأنهم لم يعملوا بمقتضاها ، إلى تحمل كثير من السلوكيات غير المقبولة من شرارهم بل ومن خيارهم أيضا ، خاصة مع تقدم الزمن وتكاثر أعدادهم ، حيث يقابل المسلمون بالإحسان كثير إساءتهم ، وتعاليهم ، وأثرتهم أنفسهم ، وسلبهم ما في أيدي الناس بكل وسيلة ، وهم يتمادون ، حتى ضرب المثل بجشعهم فقيل[طمع سادة]
يجب أن ننتبه إن إسقاط أجر تبليغ الرسالة، بعد أن أمر الرسول بمطالبة المؤمنين به، ورغم أنه كان معنويا فقط، لا يعيدنا إلى لحظة المطالبة بالأجر. لا شك أن المؤمنين كانوا يودون قربى رسول الله قبل أن يأمرهم الله بذلك، يبدو الأمر أقرب إلى النهي عن ودهم، إن لم يكن تحذيرا مشددا لما يمكن أن يقوموا به في قابل الأيام.
لقد حرصت قريش على إعلام باقي المسلمين إن شرفهم دونها، فهي من يخدم البيت وحاجه ، ويأبى رب العزة إلا تفضيل المؤمنين لإيمانهم على سدنة بيته المحرم لمجرد عمارته وتوفير متطلبات آميه (أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين )38 و قد أحبط القرآن المجيد مكرهم رغم أنهم رووا في أسباب النزول أن الذي فضل بإيمانه على صاحبي السقاية والعمارة هو قرشي أيضا، بل قيل هو علي بن أبي طالب، وكان متولي السقاية عمه العباس بن عبد المطلب.
أراد مترفوا مكة بعد إسلامهم أو استسلامهم أن يستمر التمايز الاقتصادي والاجتماعي كما كان في الجاهلية لذلك حدّثوا عن رسول الله أنه قال :{خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام} لكن (ص) روي عنه أيضا أنه قال:{كلكم لآدم وآدم من تراب} وهو المعنى المتحصل من قوله تعالى(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)39
لقد بين الله جلّ وعلا، كما أوضحت، لرسوله الأمين ومن اتبعه من المؤمنين أن سدنة بيته المحرم ليسوا سواء والمؤمنين المجاهدين في سبيله، من قريش وغيرها؛ وأن لا فضل لقريش على قبائل العرب، ولا للعرب على باقي الشعوب، كذلك بين سبحانه أن لا فضل لذرية رسوله على باقي عباده من بني آدم (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما)40 وربما يعترض من يقول إن الآية نزلت في زيد بن حارثة ، أقول :نعم ولكنها جاءت شاملة لم تستثني ذريته (لا أقسم بهذا البلد[1]وأنت حلّ بهذا البلد[2] ووالد وما ولد[3])41 بل إن هذا المعنى ربما يفتح لنا بابا لفهم ما روي عن الرسول أنه قال :- {شيبتني سورة هود} . التي يرى القرشيون إن شدتها على الرسول كانت لقوله تعالى (فاستقم كما أمرت)42 ولكن هذا القول المبارك ورد في سورة أخرى أيضا (واستقم كما أمرت)43 لقد حفلت سورة هود بقصص الخلاف بين الأنبياء وأقوامهم تبيانا للمؤمنين أن ما يحصل بين محمد(ص) وقريش هو امتداد لذلك الخلاف لكن قصة نوح مع ابنه الذي فضل قتل نفسه على الإيمان بنبوة أبيه44 كانت إضافة معنوية بالغة الخطورة ، وفيها قول الله العليم (يا نوح إنه ليس من أهلك)فلا يمكن لهذه الآية أن تعني أحدا غير فاطمة ابنته الوحيدة ، الناقل الوحيد لذريته الطبيعية، الأمر الذي يفسر، ربما ، أمر الله عبده (ص) بالصبر، في نهاية هذه القصة، دون غيرها (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين)45
إن ما نحبه لأنفسنا نرجو مثله للأشخاص الذين نحبهم، وهكذا كما نحب أبناءنا وأقرباءنا فعل المؤمنون مع النبي وأقربائه حين أسبغوا ما للنبي الكريم من منزلة دينية عليهم، هذا معنى قول شاعرنا: -
بآل محمد عرف الصواب وفي أبياتهم نزل الكتاب
هم حجج الإله على البرايا بهم وبجدهم لا يستراب
لقد بين الله لنا في غير موضع من كتابه المجيد إن النبوة هبة منه، اختص بها أفرادا بعينهم، لا يشمل أسرهم، وإن حدث أن بعث أكثر من نبيّ في بيت واحد فلا يكون ذلك على سبيل المشاركة، بل لا يستوجب تصديق دعوتهم، وقد بين لنا الله جل جلاله ولرسوله الأمين أن ما من رسول يأتي بآية إلّا بإذنه، ومعنى ذلك إن عصا موسى لا تنقلب ثعبانا متى أراد موسى بل الله من يحدد وقت ومكان حدوث الانقلاب لذا قد لا ترى زوجته وذريته ما رآه آخرون كثر ولنتدبر قوله تعالى(ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلّا بإذن الله لكل أجل كتاب)46 هكذا نجد تبريرا لما حدث بين ابني آدم ، ولعدم إيمان زوجتي نوح ولوط النبيين ، وكذلك عدم إيمان ابن نوح ، وكذلك تآمر عشرة من أصل اثني عشر من أولاد نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق ، ابن نبي الله إبراهيم على إلقاء أخيهم الطفل نبي الله يوسف ، في غيابة جبّ عميق ، في مكان غير مأهول ، وتركه لمصيره المجهول ، والمحفوف بمخاطر عظيمة على حياته .
أجد نفسي مضطرا لتكرار ما قلته آنفا، لقد حرفت قريش كثيرا من الكلم عن مواضعه، بطرق عديدة، منها تجاهل المعنى الحرفي الواضح المرمى ، كما في الآية السابقة، ومنها وضع أحاديث عن الرسول لنفس الغاية ،كما رأينا في آية التطهير- الآية 33 من سورة الأحزاب – ومنها ما يجمع بين تجاهل المعنى الحرفي ووضع أحاديث كاذبة عن الرسول بل ومختلفة مما يكسب الآية الواحدة أكثر من تفسير فيعدد معانيها ويشتت ذهن القارئ كي يصرفه عن معناها الذي لا ينسجم مع مصالحهم ، لنتدبر قوله تعالى(وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلّا طغيانا كبيرا)47 قيل إن الشجرة الملعونة في القرآن هي الزقوم وقد اكتسبت صفة آكليها الملعونين وقيل بل هي بنو أمية رآهم رسول الله في المنام ينزون على منبره نزو القردة وقيل بنو مروان، ويبعد أن تكون الزقوم هي الشجرة الملعونة كونها لم تكن فتنة للآثمين بل عقابا لهم، كما إن سياق الآية مع ما يليها يدل إنها شجرة آدم التي أخرجته وزوجه من الجنة، بعد أن فتنهما إبليس بها وقد أمرهما الله بالابتعاد عنها واللعن تعريفا هو الطرد والإبعاد، يقال : لعنه الله ، أي طرده وأبعده عن رحمته. كما يبعد أن تكون الشجرة الملعونة بني أمية أنهم لم يفتنوا الناس أولا ولا آخرا ولم يدم حكمهم طويلا. و لم يكونوا منافقين ، ولا مرتدين سرا عن إيمانهم ، وهم من دخل في الإسلام خوفا على حياتهم، الذين سماهم رسول الله الطلقاء ولم يدّعوا يوما إن لهم الحقّ في الملك لفضلهم على الناس، وكان شعارهم قول عثمان بن عفان [الملك ثوب ألبسنيه الله لا أخلعه] وهي مقالة تنسجم وقوله تعالى(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ...)48لقد كان الأمويون ومنهم بنو مروان طغاة ، ظلمة ، لكن صورتهم واضحة للجميع، الآن بعد استبعاد هذين التفسيرين الواهنين ، لا شك إننا سنجد أنفسنا أمام المعنى المتحصل من نسيج كلماتها ، وهو ما يربط رؤيا الرسول بحكاية عصيان إبليس الأمر الإلهي بالسجود لآدم الذي ما كان ليحدث لولا كبريائه، وقد أمرت جميع المخلوقات بعبادة خالقها(وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون)49 والعبادة هي تغليب الأمر الإلهي على رغبة النفس ، فهي نقيض التكبر وكانت دعوى إبليس (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)50 وهي دعوة علي بن أبي طالب ، وأبنائه من بعده ، وحجتهم بطلب الخلافة ، وقد قالها حسين ابنه بوضوح عندما رفض بيعة يزيد:- ومثلي{استكبارا}لا يبايع مثله{استحقارا} . وكان كما هو معروف من هذه الحادثة تغرير إبليس آدم وجعله يبادر إلى الأكل من الشجرة التي نهاه ربه من الاقتراب منها حيث (بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) 51 وبدو السوءة هو شعورهما بغريزة الشهوة الجنسية التي لابد منها لظهور الذرية، ذرية آدم ورابط الحادثة برؤية الشجرة الملعونة المقصود منه ذرية الرسول (ص) نفسه ، هذا ما يدل عليه ظاهر الآية ، وما أثبتته القرون العديدة ، فلم يفتتن المسلمون بأحد ، أو طائفة من الناس أكثر من ذرية نبيهم، كما رأينا ، وما سنرى لاحقا ، إن شاء الله .
ومن الأساليب التي اعتمدها القرشيون لحرف بوصلة المعنى القرآني باتجاه مصالحهم هو التلاعب برسم حروف الكتابة، فتغيير موضع همزة ألف (أن) وجعلها تحت ، مثلا ، سيدفع بمطلب الكلام بعيدا عن غايته ، وهذا ما نجده في ما تلي علينا من قوله سبحانه (فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم )52 فتغيير موضع همزة (أن توليتم) وجعلها (إن) وتجنب الخوض في أي تفسير لا يعتبر ألفها مكسورا ، ثم تقديم تفسيرا وإن كان غير منطقيٍّ ، وآخر كذلك ، مع افتراض حسن الظن في نوايا الرجال الباحثين في معناها ، كلّ ذلك سيعطل معناها ، إن لم يحرفه بما يوافق مصالحهم .
قدم المفسرون معنيين يختلفان بحسب الفئة المخاطبة ، الفئة الأولى تمثل مجموعة من المؤمنين يأبون الخروج إلى القتال ، ويثبطون همم غيرهم ، ولم يفعلوا ذلك كرها للإسلام بل لمرض في قلوبهم سببه خوف شديد من الحرب أن يصابوا بها ، لا نفاق مصالح ، أو معتقد ، كما هو حال المنافقين الذين أضمروا الكفر ، وجاهروا بالإسلام : (ويقول الذين آمنوا لولا نزّلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت فأولى لهم)53 وهكذا يكون إعراض هؤلاء عن القتال ، هو المعني بقوله تعالى (إن توليتم)52 ويبطل هذا الرأي أنهم لا يريدون أن يفسدوا في الأرض ولا قطع أرحامهم ، بدليل الرأفة المبثوثة في ثنايا الخطاب القرآني ، وهو ينصحهم بطاعة الله في مقاتلة أعدائه ، وتحريض المؤمنين على فعل ذلك أيضا ، فإن وجدوا في أنفسهم الفشل عن دفع الخوف عن قلوبهم ، وأنه استحكم منها ، فخيرا لهم أن يصدقوا الله وذلك بأن يخبروا نبيه – ربما -بما يشعرون به ، (طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم )54 ثم أن لين هذا الخطاب معهم يبعد أن يكونوا هم المشار لهم بقوله تعالى (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) 55
الفئة الثانية متعلقة بتحديد ثان لمعنى التولي ، وهو الولاية على الناس وقد أعطى المفسرون بعدا غيبيا للآية ، وقالوا إن المخصوصين بها هم خلفاء بني أمية وبني هاشم ، وقالوا إن الإفساد في الأرض هو بعصيان الله ، وقالوا في تفسير (وتقطّعوا أرحامكم) الرحم هو دين الإسلام والإيمان وقد جعل الله المؤمنين أخوة (إنما المؤمنون أخوة)56 هكذا نرى تخبطهم في تفسير الآية وقد وجدت أنهم تجنبوا المعنى الحرفي للآية الكريمة لتناقض معناه ، فقولهم (إن توليتم) بكسر الألف سيجعل من الملك ، أو ولاية أمر الأمة وسيلة لتحقيق غايتهم وهي ليس الملك ، كما يفترض ، إنما الإفساد في الأرض و قطع أرحامهم هم ، لأن الإفساد شامل لعصيان الله سبحانه ، المشتمل بدوره على تعطيل الرابط الإيماني بينهم والمؤمنين ، وهو الرحم العام ، أما الرحم الخاص الواجب صلته فيذهب العلماء إلى أنه الرحم المحرم ، فلا يجب في بني الأعمام ، وبني الأخوال ، وهو منطق معارض للسلوك الإنساني . وهنا لم يبق أمامنا إلّا قراءة (إن توليتم ) بألف مفتوحة ، وهي قراءة تجعل من الملك غاية في نفسه ، الأمر الذي يتسق ونزعة التسلط التي تحكم سلوكنا الاجتماعي، وتجعل من الفساد في الأرض ، وقطع الأرحام وسيلة لتحقيق ذلك ، وهو أمر خطير ، سيفضح تآمر قريش ، ويبين للناس أن ثبات شجرتها العملاقة ، الضاربة جذورها في عمق التربة الإيمانية لأرض الإسلام ، ليس سوى وهم ، وإنها أقلق من قشة ، تقاذفها ريح عاصف ، ذلك إن معنى الآية سيتحدد بمطلب واحد وكما يأتي (فهل عسيتم أن توليتم) أي فهل لكي تكونوا ملوكا وقد لا يكون الملك فيكم تريدون (أن تفسدوا في الأرض) إشارة لقولهم - فيما حكاه الله لنا في كتابه المجيد - (للذين كرهوا ما نزّل الله سنطيعكم في بعض الأمر) أي الإبقاء على بعض ما جاء به الإسلام ومجاله حصرا الممارسات العبادية كالصوم ، والصلاة ، والحج . وتعطيل بعضا آخر ، يضمن بقاء النظام الاقتصادي ، والاجتماعي على حاله ، قبل بعثة الرسول (وتقطّعوا أرحامكم) وقد رأينا أن الرحم الواجب صلته هو الرحم المحرم فيكون المعنيّ بذلك هو فاطمة وذريتها دون غيرهم ، ولم يكن من دليل على وجود قطيعة بين الرسول وفاطمة ابنته وهو من تكفل بإعالة بيتها ، ثم إن خصومة عائلية تعطف على عمل له تأثير أوسع من علاقة أب بابنته ، وأسرتها ، ليعمّ فساده الأرض كلها (أن تفسدوا في الأرض) ويوجب اللعن (أولئك الذين لعنهم الله ) ويوصف مرتكبيه بالصمم (فأصمهم) وعماء البصيرة (وأعمى أبصارهم) لهي أكثر من خصومة عائلية ، وأخطر من قطيعة أسرية ، هي لا شكّ أبعد من ذلك ...
بعد هاتين الآيتين الكريمتين { 22 و 23 محمد } تحمل إلينا الآية { 24 محمد } حضّ القرآن على تدبر آياته بصيغة استفهام استنكارا لعدم فعلهم ذلك ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) ويتدبرون القرآن لغة يجعلونه أمامهم جهة ، وتعني إمامهم فقها ، (أم على قلوب أقفالها) الهاء ضمير متعلق بقلوب ، فتكون الأقفال هي الأهواء ، وعادة يكون هوى النفس مع مصالحها ، نفهم من ذلك ، إن المعنيين ب (واو) يتدبرون قريش أو من تبعهم إلى يومنا هذا جعلوا من القرآن تابعا لهم يفسرونه بمقتضى مصالحهم .
نفهم من المنظور المتجمع من مشاهد متفرقة في سور، وآيات عديدة إن الطرف الآخر من متسارّي- متآمري – سورة محمد ، هم عليّ وأهل بيته . إن مترفي مكة الذين لم يغير إسلامهم شيئا من كرههم لتعاليمه ، لا يمكنهم أن يجدوا رجلا وفق المواصفات القبلية أفضل من عليّ.. بن أبي طالب عم الرسول ، وزوج بضعته ، وأبي أسباطه ، وهم بهذا الاختيار يوهنون حجج مخالفيهم فيضمنون بقاء أمرين : الملك فيهم ، وامتيازاتهم الدينية ، والاقتصادية السابقة على ظهور الإسلام .
من أساليب قريش بإفراغ آيات الكتاب من محتواها انتزاع قطعة من نسيج فكرة ، وإعمال النظر فيها دون باقي النسيج (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين)57 هذه الطريقة هي الأكثر شيوعا ، والأخبث . أنظر قوله تعالى (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون )58 – يذكر الطبري في تفسير هذه الآية { ذكر لنا إن النبي (ص) أري الذي لقيت أمته بعده ، فما زال منقبضا ، ما انبسط ضاحكا ، حتى لقي الله تبارك وتعالى } أجمع المفسرون على انتقام الله من أمته ، أو مشركي قريش بعد وفاته ، ورأى بعضهم أن الأنبياء جميعهم رأوا انتقام الله من أممهم بحياتهم إلّا محمد (ص) ولم يبحثوا في طبيعة هذا الانتقام ، وسواء كان في الدنيا ، أو في الآخرة فإن مشركي قريش عفا عنهم الرسول ، وأسلموا ، وحسن إسلامهم ، حسب الأدبيات السنية ، التي تعتبرهم قدوة لمن بعدهم من المسلمين وسلفا صالحا . وإن أغنياء قريش ازدادوا غنى ، وفقراؤهم استغنوا ، بل أصبحوا فاحشي الثراء بعد أن أخضعوا القبائل العربية وكل شعوب المحيطة بهم ، لسلطتهم ، فأين الانتقام ؟ ويرى بعض المفسرين إن الانتقام بالقتل ، دون أن يبين "من المقتول" ؟ أو يضيف شيئا على توضيح مفردة [ الانتقام ] بأكثر من مفردة [ القتل ] هكذا أولى المفسرون عنايتهم بفكرة الانتقام دون أن يقولوا فيها شيئا ، أبدا .
وأجمعوا على أن معنى (نذهبن بك) هو نتوفينك ، وقال بعضهم وردت هكذا لتسلية النبي (ص) وتثبيته ، ولم يذهبوا أبعد من هذا المقدار ، ولا أفهم معنى هذه التسلية ، وهذا التثبيت وهو من أخبر في موضع آخر من القرآن أن (إنك ميت وإنهم ميتون)59 – لم يبين لنا أي من المفسرين لماذا نذهبن بك وليس نميتك ، أو نتوفينك ، أو أي كلمة أخرى !!
يحدث الموت بتوقف أعضاء جسم الكائن الحي عن الحركة ، وسمي حيّا لأنها - أعضاءه - تتحرك من ذاتها ، وليس بدفع من خارجها . حين نخبر عن أحد بأنه مات نعني ذلك . وحين يقول الله جلّ وعلا نتوفينك يعني ذلك أيضا ويخبر بإتيان المخاطب (بفتح الطاء) أي بانتقاله من مكانه في الدنيا إلى الآخرة ، فيكون المراد من هذه الكلمة الوعد ، أو الوعيد . أما كلمة نذهبن فتفيد الموت أيضا ، وكذلك المرور ، والمضي ، والإزالة فيكون معناها موت لكن دون ألم ، وأخذ حياتك ممن يحيطون بك . إذن فمحمول كلمة نذهبن ، ومراد الآية متعلقان بمجموعة الأشخاص المحيطين بشخصه الكريم(ص) فيكونون هم المخصوصون بالانتقام .
كان الانتقام عقابا للأمة المتفرعنة على سوء أفعالها ، ويتم بحصول موت جماعيّ لعديد أفرادها ، وبحياة نبيها . بتخلي أمة محمد (ص) عن العدل والمساواة ، مرت بمراحل من القوة ، والضعف ككل الدول الفرعونية غير المبادة . أقول هذا تأكيدا لما توصلنا إليه سابقا من إن كلمة منتقمون الواردة بالآية موضوع البحث خاصة بمجموعة الأشخاص المكونين للحلقة الأقرب إليه { عليه السلام } أصحابه وذريته و أزواجه .
فأما أزواجه ، أمهات المؤمنين ، يرحمهن الله فلم يلحقهن ضررا بعد وفاته (ص) .
وأما أصحابه ، والمعنيّ منهم ، من خلفه (ص) بإدارة الدولة وهم ثلاثة نجا أولهم من القتل ، ولم يلحق بعائلهم شرا .
وأما وحيدته وذريته منها وزوجها فقد قتلوا جميعا ، بعد أن عانوا الأمرين حياتهم كلها من بعده (ص) ورأوا من أصناف الذلّ والهوان ، ما لم يره غيرهم ، مما يرجح أنهم مقصد الانتقام الإلهي الوارد في الآية الكريمة .
أرى من نافلة القول أن أبين أن الاستنتاج المتحصل لدينا من قراءة بعض آيات سورة الزخرف يعزز ثقتنا بصحة الاستنتاج المتحصل لدينا من قراءة سورة محمد . في سورة الزخرف أخبر الرسول (ص) أن ابنته فاطمة وزوجها وافقا أعداءه الذين كرهوا ما أرسل به على تنفيذ عملية اغتياله ، وأخبره الله أيضا أنه سينتقم له منهما (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون)58 – بينما حملت سورة محمد تحذيرا للمتآمرين عليه من مغبة تنفيذ جريمتهم مبينا لهم أنهم يرتكبون جرما كبيرا لغاية غير مضمون تحققها ، وفعلا حيل بين عليّ والخلافة ، وعندما وليها كانت قصيرة ، غير كاملة ، وسبب قتله ( فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم )52
في سورة الزخرف المباركة أخبر الله العليم نبيه الكريم عن المؤامرة السرية البشعة ، وأخبره أن مرادهم لن يتحقق كاملا ، بل سيكون وبالا عليهم . (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون – 79 – أم يحسبون أنّا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون )59 – وكذلك أخبر الله رسوله في سورة محمد (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم-25 – ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم -26- )60 –
من يرى حدثا كهذا و يعقله ؟ ومن يسمع بمثله ويصدقه ؟ ما بالك بمن أحدثه ؛ لاشك إنه أصمّ ، وأعمى . هذا ما خاطب الله به رسوله في سورة الزخرف ، لكي نؤمن بحدوثه على شدة غرابته ، ونصدقه على صعوبة تصديقه (أفأنت تسمع الصمّ أو تهدي العمى ومن كان في ضلال مبين)61 – ومثل ذلك قرء في سورة محمد (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)62 – وربما ألتمس لي عذرا فيما تسببه هذه الكلمات من ألم للكثيرين من الناس أن أوضح إن تقديس المسلمين شيعة كانوا أم سنة لأشخاص محددين كانت لهم اليد الطولى في ترسيخ مفاهيم الإسلام في مجتمع ما بعد الرسول لا شك في أنه سيقف عائقا أمام أي فهم لا يستقيم وإرثهم من قول أو فعل ، صاروا هم الإسلام ، وأي بحث في تقييم أفعالهم يتخلى عن واجب تبريرها نظر إليه على أنه عمل عدائي وجد ليقلق يقينية المعلومة الإسلامية . أيهما أسهل ، أن نقول أن عليا ابن عم الرسول ، وربيبه ، وزوج ابنته الوحيدة ، وأبو أسباطه خير الناس بعده (ص) ، وأن فاطمة ابنته سيدة نساء العالمين ، وإن الحسن والحسين سبطيه سيدا شباب أهل الجنة ، وإنهم أهل البيت المخصوصين بآية التطهير ؛ أم نقول إنهم مجرمون ، خونة ، دسّوا السم في إنائهم الذي أكل منه الرسول ، إن نعتهم بالصمم والعمى إشارة إلى أن ما من سامع ، أو مبصر سيظن بهم سوءا . إن نعتهم هذا دليل على أن أمرا غريبا لا يمكن تخيل حدوثه قد حدث ، وربما كانت هذه الجريمة بابا مغلقا بوجه البشرية التي لابد لها من إيلاجه ، لدخول جنة العدل الاجتماعي ، وأظن أن هذا المعنى ورد بالتوراة [4 ...سيأتي ويخلصكم 5 عندئذ تبصر عيون المكفوفين وتنفتح آذان الصمّ ]63 –
إن إسرار أعداء الرسالة والرسول (ص) قابله بوح خصّ به الرسول إحدى زوجاته ، وأمرها أن تجعله سرا تكتمه عن ضرائرها ، وجميع الناس ، لكنها نبأت به ، وهو لم يغضب ، وكان جوابه عن سؤالها (من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير) وإتماما للفائدة نورد الآية كاملة (وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير)64 – جاء في تفسير عبد الله شبر في هذه الآية { (وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه) حفصة (حديثا) تحريم ماريه أو العسل أو استيلاء الشيخين بعده (فلما نبأت) حفصة عائشة (به) } أظن أن الآية الكريمة في غير سياقها ، وأن ما أسر به النبي إلى بعض أزواجه هو مخطط المؤامرة التي استهدفت حياته الشريفة والإسلام الحق . هكذا نستطيع أن نجد تبريرا لبعض الحوادث والأفعال الغامضة في التأريخ الإسلامي ، ومنها:
- لماذا أبقى الرسول عليا في المدينة دون أن يجعله أميرا عليها ، في خروجه لقتال الروم في غزوة تبوك . الأمر الذي جعله موضع سخرية الناس ، مما دفعه للالتحاق بالرسول ، بعد مسيره (ص) أياما عديدة ، ورغم هذا أمره بالرجوع ، رافضا اصطحابه معه ، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرسول تعرض لمحاولة اغتيال في هذه الغزوة ، قام بها جماعة من رجال جيشه ، ليلا ، في طريق عودته ، وكانوا ملثمين ، لم يتعرف عليهم حذيفة بن اليمان الذي كان له دورا أساسيا في إحباط عملهم ، لكن الرسول أعلمه بأسمائهم ، وأسماء جميع المنافقين ،وأمره بكتمان علمه ، فكان كاتم سر الرسول.
- لماذا اختار عائشة ، رغم أنه ليس يومها ، ليقضي آخر أيامه ، في حجرتها ، حيث مات ودفن صلوات ربي عليه .
- لماذا أبو بكر .. أبو عائشة خليفة ؟
- لماذا سكت عليّ وبنو هاشم وقد جره أنصار أبي بكر مربوطا بحمائل سيفه ، بعد أن أحرقوا عليه داره ، واعتدوا على زوجه ، كاسرين ضلعها ، ومسقطين جنينها .؟
- كيف اجترأ أبو بكر وأنصاره على ذلك ؟
- لماذا لم تدفن فاطمة مع الرسول ، في حجرة عائشة ؟
- لماذا دفنت فاطمة سرا ؟
- لماذا رفضت عائشة خلافة علي بن أبي طالب ، وحاربته ، رغم إن الموقف لا يفيدها شيئا ، وقد يتسبب ، وقد تسبب فعلا بموت الكثير من أبنائها ، أليست أما للمؤمنين ؟
- لماذا رفضت عائشة أن يدفن الحسن بن عليّ ، في حجرتها ، مع الرسول؟
لقد اعتاد العرب ، ربما ، لأنهم اعتمدوا الرواية دون التدوين ، على تضخيم أعمال بعض الشخصيات التي اعتبروها بطولية ، هكذا جعلوا من سيف بن ذي يزن أسطورة ، لأنه استرد ملك آبائه ، رغم إنه استبدل محتلا بآخر . والمهلهل بن ربيعة الذي خاض حربا ثأرية ، استمرت عشرات السنين ، وقتل فيها خلق كثير ، مع قبيلة قتل أحد أفرادها أخاه . كذلك عنترة بن الأمة الحبشية ، الذي ألحقه سيده بنسبه ، رغم سواد بشرته لتفوقه بفنون الشعر والقتال ، حيث تجلى من خلالهما إخلاصه الأمين للقبيلة ، والفتاة التي أحبّ .
مثل ذلك حدث مع علي بن أبي طالب لرفضه استخلاف أبي بكر مدعيا أحقيته بها ، والتي كانت سببا لقيام عمر بن الخطاب بعده ، وهو من فرق خزائن بيت مال المسلمين على قريش أولا ، فأنصار المدينة ، دون باقي المسلمين ، وباقي العرب فيهم . كانت خطة توزيع موارد بيت المال تقوم على أساس درجة القربى من الرسول ، ثم قدم الإيمان ، مرورا بمقاتلي بدر ، فأحد ، وهكذا كان عطاء العباس عم النبي سبعة آلاف درهم ويقل العطاء حتى يبلغ مائتي درهم . غنائم الحرب الهائلة ، وجزية الأرض الواسعة المفتوحة حديثا ، وزكاة أموال المسلمين كانت أهم موارد بيت المال ، يفرق على أثرياء مكة ، والمدينة – بدلا من أن يأخذ منهم – ويعطى شيئا منه لفقرائهم . فقراء باقي المدن لم يحصلوا على شيء ، وزكاة أثريائهم لا تصلهم ، بل تذهب إلى أثرياء مكة ، والمدينة ، وفقرائهما الذين أثروا بدورهم . كان على الرجل المسلم من غير أهل هاتين المدينتين أن يحمل سيفه غازيا في جيش الخليفة ، وإلّا فليقنع بما هو فيه ، وكان كثير منهم على حدّ الكفاف ،فإن حدث ما يعجزه عن إطعام نفسه ، وأهله خرج للغزو في أرض بعيدة , أو للتسول في أرض الحرمين حيث كرم الصحابة الذي ملأت أخباره الكتب ، وفطنة أمير المؤمنين عمر (العادل) الذي أسقط حدّ السرقة ، عام الرمادة ,وأطعم عشرات الآلاف من الجوعى المتحلقين حول المدينة وجبة واحدة كل يوم . لقد ظلّ عمر (عادلا) حتى يومنا هذا ، لأن من نأخذ عنهم ديننا ، انتفعوا جدا من سياسته المالية , وأما الذين تضرروا منها فسكتوا , وأنى لهم الكلام وبين أيديهم حروب (الردة) . إن كان عطاء مائتي درهم كافيا لرجل , لماذا يعطى غيره سبعة آلاف ؟ ولماذا حرم كثيرون غيرهم من العطاء أصلا ؟ ألم يتل أهل العطاء وغيرهم قوله تعالى( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين)65 – مع مرور الوقت ، حتى على قتل ثاني الخلفاء , وازدياد الجوعى فقرا , وعددا ؛ وخوفا على أهليهم ، وقبائلهم من بطش جيوش الخلافة جعلوا يبحثون عن منقذ من ذوي الشأن ، ومن غير عليّ بن أبي طالب المدعي القديم بأحقيته بالخلافة , وأقرب الناس لرسول الله ؟ هكذا تبارى خصوم عليّ يجعلون منه أسطورة للعدالة ، بسيئ أفعالهم ,رغم فقر مواهبه الإدارية ، بدليل امتناع الرسول عن تأميره سلما ، أو حربا ؛ لنلحظ أن حمل راية لا يعني إمارة الجيش ، وقد تجلى ذلك في الإدارة السيئة للدولة ، إبان خلافته إذ خرجت ولايات كثيرة عليه ، وأصبح مشلولا في الكوفة ، منتظرا ضربة ابن ملجم التي أنقذته ، وقتلت أولاده ، ذلك إنها حفظت له ماء وجهه ، فلو لم يقتل لظهر عليه معاوية الذي صار أمنع من ذي قبل عسكريا ، وإداريا ، كما اكتسب شرعية ما كان ليصبو لها طليق ، ابن طليق ، وأبو طليق مثله ، إذ صارت إليه الخلافة بعد أن سلبت من عليّ بعد التحكيم ، ولابدّ لمعاوية إلّا أن يجعل الخلافة في عقبه ، ما يجعل من إذعان الحسن والحسين أمرا واقعا ، فلا يحدث لهما ، وربما لعقبهما ، ما حدث .
كان من شأن طبيعة الخلقة الجسمية ، والنفسية لعليّ أن تجعل سمة مواهبه الشخصية الاعتدال ، كان شجاعا ! نعم ، لكنه لم يكن أسد الله ورسوله ، ذاك كان عمه الحمزة بن عبد المطلب ، سيد الشهداء وما كان لرسول الله أن يكذب (حاشاه) .
لم تضخم أعماله فقط ، بل نسبت إليه أفعال لم تصدر منه ، كقتله الرجل الهرم عمر بن ود الذي إن كان حيّا يوم الأحزاب ، فلا شك أن سني عمره قد جاوزت منتصف العقد التاسع . مثل ذلك قهره مرحبا ، قائد يهود خيبر ، مبارزة ، وكان من فعل ذلك محمد بن مسلمة .
إن البيئة العربية بمناخها الصحراوي ، وأرضها الرملية ، الخالية من المياه إلّا واحات متباعدة ، جعلت طرقها طويلة جدا ، مرهقة لأهلها ، ومغلقة بوجه الغرباء ، كانت ساكنة . لا تغير في مطعم ، ولا ملبس ، ولا أعراف اجتماعية ، ولا تغير ، تقريبا ، في كمية المفردات المتداولة في خطابها اليومي ، لكن مشاعر الإنسان لم تسمح لأيّ بيئة من عقلها في ظروفها ، ظلت منفعلة على الدوام بما يجري في محيطها ، لذلك فإن ثبات مفردات اللغة عدديا ، لا يعني ثبات معناها . هكذا تتعدد أساليب الخطاب ، وتتألق البلاغة .
كيف يقوى رجل عربي من قريش ، وامرأته ، على دفع ولدهم الذكر إلى مرضعة من البادية ، فتحجب طفولته عنهم ، وهو زينة حياتهم الدنيا ؟ لقد احتكرت قريش تجارة العرب مع الأمم المحيطة بجزيرتهم بفضل وجود الكعبة في أرضهم ، لهذا كانوا حريصين على أرضاع أبنائهم السليقة العربية لئلا يكثر اللحن في لسانهم ، فيكونون موضع سخرية القبائل الأخرى وفي هذا إقلال من هيبتهم التي لابد منها لبقاء طرق تجارتهم مفتوحة ، ثم إن السليقة السليمة ستكون حاضرة أبدا لعزل الكلمات الدخيلة ، فحضر تداولها ، وفي هذا مانع من تسرب أديان الأمم الأخرى إلى جزيرة العرب ، عبر مسلكها الطبيعي ، والوحيد ... اللغة .
ظلت البادية العربية مغلقة في زمن الشريف الرضي جامع كتاب نهج البلاغة حتى أن فقهاء اللغة كانوا يحتكمون لسليقة أول خارج منها ، لذا ، لا نجد غرابة بانبهارهم بما جاء فيه ، فما بالك بنا في عصرنا هذا ، مع ما أسبغ على قائله من مهابة التقديس ، هل اطلعنا على أقوال معاصريه , خطب معاوية بن أبي سفيان مثلا ؟ أنظن أنها غير بليغة , ولا تحث المسلمين على الالتزام بدينهم , وهو أمير فخطيب ولاية تضم أربع دول الآن , جل سكانها من النصارى قبل أن يسلموا ، تحت سلطانه الذي امتدّ قرابة الخمسين عاما واليا , فخليفة ؟ وإليكم من خطبة لمعاوية :
{ أيها الناس ، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمن شديد ، يعد ّ فيه المحسن مسيئا ، ويزداد الظالم فيه عتوّا لا ننتفع بما علمنا ولا نسأل عما جهلنا ، ولا نتخوف قارعة حتى تحلّ بنا .
ومنها قوله : فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقراضة الجلم , واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم , وارفضوها ذميمة . فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم .}
إن أساليب البلاغة التي نتعلمها اليوم هي لغة التفاهم اليومي زمن عليّ بن أبي طالب , وإن ما يبهرنا من حلاوة التعبير في كلامه هي ذات الحلاوة في كلام غيره . مزية كل كلام بما يحتويه من معنى , وما يكشف من خبايا نفس قائله . أما المعاني وجلها ميتافيزيقية ووردت في كلام طويل , ضمن مناخ اجتماعي وتأريخي مضطرب , وثقافته سمعية تكاد أن تدون , يمنع من الاطمئنان إلى صحة مصدرها , وهي في الغالب استدلالات كلامية أو لاهوتية ازدهرت لاحقا , ومما يقلل من مصداقية انصرافها إلى من نسبت إليه أنها لم ترتبط بحدث يوثقها . إن كلام الشخصية التاريخية من شأنه أن يفسر الكثير من الأحداث , هكذا نجد تبريرا لخذلان الناس عليا في ضيق صدره الذي يدفعه عن المجادلة بالحسنى , جاء في نهج البلاغة {ومن كلام له عليه السلام قاله للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فقال يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك فخفض عليه السلام بصره إليه فقال ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك بن حائك منافق بن كافر والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك وإن امرأ دل على قومه السيف . وساق إليهم الحتف . لحري أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد }66 – لقد خالف علي بن أبي طالب سنة اجتماعية امتدحها القرآن في أخلاق رسول الله (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)67- إن هذا النص لا يدل على ضيق صدر خليفة المسلمين فقط ولكن على عدم تدبر في عاقبة الأمور كذلك إذ جعل من المهن ومنهم الحائك سبة وعارا لمن يحترفها ! كم منهم سيحضر صلاته ويسمع كلامه ويدعو إلى طاعته وهم السواد الأعظم من الناس!! وهل ننسى أن سيل الكلمات الغاضبة هذا موجها لتحقير شخص زعيم قبيلة من كبريات قبائل الكوفة وإن من أساسيات العسكرية الإسلامية أن يكون رؤساء القبائل قادة رجالها في الحرب , ذلك أن كل محارب يقاتل تحت راية قبيلته , فهل التقليل من خطر أحدهم سيكون مقبولا من بقية الزعماء؟ أنعجب بعد ذلك لانصراف الناس عنه , وخذلانهم إياه {ومن كلام له عليه السلام في ذم أصحابه كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة والثياب المتداعية كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر أكلما أطل عليكم منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه وانجحر انجحار الضبة في جحرها والضبع في وجارها . الذليل والله من نصرتموه. ومن رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل . وإنكم والله لكثير في الباحات قليل تحت الرايات. وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي. أضرع الله خدودكم . وأتعس جدودكم لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل. ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق }68 – لنجعل أنفسنا محل سامعيه من رعيته وهو يقول لهم:{ . وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي. أضرع الله خدودكم...الخ} لم لا يتركهم وشأنهم لعل الله يمنّ عليهم بمن يصلحهم ولو بإفساد نفسه!!! أليس هذا الكلام وربما شبيهه كثير هو ما عناه الأشعث بقوله له : "هذه عليك لا لك "
إن مأساة عليّ الحقيقية تكمن في قربه من رسول الله اجتماعيا وظنه لذلك إنه أحق بشغل مكانه من بعده صلوات ربي عليه ولنتأمل حنقه على بني أمية وتوعده إياهم لأنهم لم يعطوه من تراث[ملك] محمد إلّا قليلا { ومن كلام له عليه السلام إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد صلى الله عليه وآله تفويقا والله لئن بقيت لهم لأنفضنهم (نفض) اللحام الوذام التربة } 69- لم يستطع أن يفهم أنه لا يملك مؤهلات القيادة , وإن ضعفا فاضحا يعتري كلامه أمام ملذات الحياة .إن ادعائه الزهد يخبر بصدقه ملبسه , ويجحده عدد نسائه , وكثرة جواريه , وأثر ذلك في وفرة نسله , وقد بهت الناس اكتفاء إمامهم بقرصيه ما يجدونه من قوة في بنيان جسمه حتى قال { وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ هذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ. أَلاَ وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ َأصْلَبُ عُوداً}70- يريد أن يفهم سامعيه أنه قوي كشجرة برية بسبب ضآلة طعامه , ويخبرهم إنها - الشجرة البرية - ومنها نبتة الشوك أصلب عودا من بقية الشجر وفيه النخلة . كان يظن أن الناس يصدقونه حين يخبرهم إنه أولى بالخلافة من غيره ويبالغ حتى يصف نفسه:{ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير}71- غير آبه لما فيه من معارضة صريحة وحادة لكتاب الله (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)72- فالسيل لا ينحدر إلّا عن جبل , ومن شأنه خرق الأرض , واسمحوا لي أن أختتم بتساؤل عما يظنه رجل عربي بآخر يشبه نفسه بفرج امرأة {والله لكأني بكم فيما إخال أن لو حمس الوغى وحمي الضراب وقد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها}73-
يرشدنا الله جلّ وعلا في كتابه أن زيد بن حارثة أفضل الناس بعد رسوله . هو أحد رجلين , من زمن النزول , ذكرا فيه باسميهما , مع رسول الله , الآخر هو أبو لهب عم النبي (ص) وهو بن عبد المطلب سيد مكة , وسليل هاشم أشرف قريش وكان من أغنيائها المعدودين , ولم يمنعه ذلك من أن يجعله الله مثلا لأهل النار, في سورة تبدأ بدعاء عليه بالخسران والهلاك (تبت يدا أبي لهب وتبّ {1} ما أغنى عنه ماله وما كسب{2} سيصلى نارا ذات لهب{3})74- وبالضدّ من ذلك زيد وما كان قرشيا ، ولا سيدا , بل عبدا أنعم الله عليه , وأنعم عليه رسوله (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ۖ-;- فَلَمَّا قَضَىٰ-;- زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ-;- وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)75- يقول بن كثير في تفسير هذه الآية { وكان (زيد بن حارثة) سيداً كبير الشأن جليل القدر، حبيباً إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يقال له الحِب ويقال لابنه أسامة الحب ابن الحب قالت عائشة رضي اللّه عنها: ما بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سرية إلا أمّره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه ""أخرجه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها} أقول تعقيبا على قول أمنا عائشة في استخلاف زيد لو عاش بعد رسول الله دليل على أفضليته على الناس ومنهم أبي بكر , أبيها , وأقول أيضا أن لا خير من أسامة ابنه بعده وهو الحب بن الحب، وأمير على الناس يوم مات الرسول الكريم وقد حضهم على طاعته , وقال لهم (ص)}أما بعد، أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وأيم الله إن كان للإمارة لخليقًا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإنهما لمخيلان لكل خير، واستوصوا به خيرًا، فإنه من خياركم}
لقد عرّف الله سبحانه الذين أنعم عليهم (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً)76 وأمرنا بأن ندعوه بأن يهدينا الصراط المستقيم الذي سلكوه قبلنا وجعل ذلك في سورة فاتحة الكتاب , الواجب قراءتها في كل صلاة (اهدنا الصراط المستقيم {6} صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين {7}) إن إخبار الله صراحة إن زيدا بذكر اسمه الصريح من الذين أنعم الله عليهم يوجب على جميع المؤمنين من معاصريه والذين أتوا بعده أن يتيقنوا أنهم يدعون الله من أجل أن يلحقهم برسول الله وزيد , ذلك إن الله جعل زيدا مع رسوله قدوة لهم , لا تقبل لأحدهم صلاة حتى يدعو الله بذلك الدعاء كلهم أبو بكر وعليّ وجميع الصحابة , وكما أن أيّا منهم لا يمكنه ان يكون أميرا على رسول الله كذلك لا يمكنه أن يكون أميرا على زيد . هكذا نجد أن حديث عائشة يرحمها الله يتطابق مع ما جاء في القرآن الكريم ورأينا كيف طعنت قريش بإمارته جيش مؤتة , لولا جعفر بن أبي طالب , وكيف طعنت بإمارة ابنه أسامة أيضا ...
لقد كانوا واثقين أن أسامة بن زيد هو خليفة رسول الله لذا طعنوا بإمارته كما طعنوا بإمارة أبيه من قبل , وتمنعوا عن إنفاذ بعثه , وقد بلغ بهم الأمر أن عصوا الرسول عندما طلب منهم أن يكتب لهم كتابا لا يضلوا بعده أبدا , متجاهلين وجوده تماما وهم يصفونه بالهجر , ما اضطر البخاري إلى إعادة صياغة كلامهم , في باب قول المريض " قوموا عني " من كتاب المرضى من صحيحه بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : لما حضر رسول الله ( ص ) : وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي ( ص ) : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر : إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ،
فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (ص) قال رسول الله ( ص ) : قوموا : قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم – انتهى كلام البخاري _ أقول ما كان ذلك من اختلافهم ولغطهم بل لمخالفتهم إياه صراحة , وجرأتهم عليه (ص) ... وأرى من غير المضرّ أن أذكر القارئ اللبيب إن الرسول دفع اللواء إلى أسامة يوم الاثنين ومرض الأربعاء مرض الموت صلوات ربي وسلامه عليه!!!
إنّا لله وإنّا إليه راجعون .
المساواة مزية الدولة العادلة , في غيابها تتأسس النظم الفرعونية ومنها الديمقراطية ، التي ترى إن تساوي جميع المواطنين أمام القانون هو المساواة . لذلك فإن العقوبات الجزائية المختلفة يحددها نوع الجرم , لا شخص المجرم . السارق تطاله عقوبة السرقة وهي واحدة لا تميز بين غنيّ أو فقير . أن المسكين إذا سرق مالا يكفيه لشراء طعام يسدّ به رمقه بقية يومه سيتلقى العقوبة ذاتها مع أغنى أغنياء بلده لو أنه ارتكب الجرم ذاته , حتى إن كان مالكا لأكبر الإقطاعيات الزراعية التي يديرها عشرات الألوف من المزارعين الأوفر حظا من صاحبنا المسكين (= أسكنه الفقر) فما يستطيع حراكا يخرج به من فاقته , وجبروت جوعه ، وسؤالنا ، إن سرق هذا لإطعام فمه فما بال الغني وهو على ما افترضنا , يسرق , وقد نعلم ، في مجتمعات العصور كلها ، أن طعام الفقراء لا يقربه سواهم . من باب الفضول ربما . أليست قسمة ضيزى ، ذلك أن من لا يجد ثمن طعامه سيسرقه ممن لديه فائض كبير من الطعام ، ولا يمكن لذي طعام أن يسرق من جائع ، فأين المساواة بين الاثنين , بل أن صميم عمل واضع القانون ، والشرطي الذي ينفذه ، والقاضي الذي يحكم به هو خدمة الأغنياء بحفظ مالهم ولا يتم ذلك إلّا بدفع الجائع عن أخذ كفايته من الطعام .
لا ينكر الإسلام ضرورة العقوبات الجنائية , ويرى من العدالة أن تتعدد باختلاف نوع الجرم , لا شخص مرتكبه . لكنه يجعل مبدأ ذلك تكافؤ الفرص وهذا يعني أن المولود حديثا لا يحمل صفة أبيه المالية , ولا يتم ذلك دون نقض قوانين الإرث الفرعونية , وقد بينت ذلك . وأظن أن لا تكافؤ للفرص دون تعديل قوانين الأجور الحالية وذلك بحسابها بعدد ساعات العمل , لا نوعه . ولتوضيح ذلك ، فإننا نجد الشرطي الذي أوردناه مثلا , يكسب أجرا أقل من القاضي , والذي يكون مكسبه أقل من البرلماني , مع أن أولهم أبعد الثلاثة عن الأمن , وأوفرهم جهدا . حجتهم في ذلك أن من جد في الدرس ، واكتساب المعارف ، طفولته وصباه , لا يعدل أن يتساوى مع من أمضى حياته لاهيا وقت ذاك . أقول: وربما كان مريضا , أو لا معيل له , أو محدود الذكاء . ولا يستغنى بعمل القاضي عن الشرطي . ويستطيع القاضي أن يعمل شرطيا ، ويعجز أن يكون الشرطي قاضيا . وللقاضي الأمر ، والمكان المريح ولا شيء من ذلك لصاحبه . وإن كان عطاء الشرطي كافيا لسد حاجته ، فهو لغيره كذلك , فلم يعط صاحبه أكثر من حاجته؟ وإن كان دون حاجته فكيف نعاقبه إن أخلّ بعمله؟ وأخيرا إن كان أذنب في انصرافه عن التعلم ، فما ذنب أطفاله يحرمون مما متع أقرانهم , مع أن لا فضل للأقران – بذاتهم - في ما متعوا به دونهم .
إن مبدأ تكافؤ الفرص ، وضمان توفير حاجات الإنسان الضرورية ، مع ما في العمل من إرهاق ، ومنغصات ، وقيود ؛ هذه الأسباب وكثير غيرها لا شكّ أنها ستثبط همة الكثيرين , وتزيد من نزعة الاتكال لديهم ، بينما يجد المواطنون العاملون في أنفسهم شيئا ، جراء ذلك الغبن . لا يعجز الدولة هذا الأمر ، وهي بناء لبنته العائلة , ومن ترابها كثير من نكران الذات . وكما يشد أفراد العائلة إلى بعضهم رافد الدم وماؤه الحنان ، كذلك يتمسك مواطنو الدولة برابط السلطة ومعدنه العدل ، كما أمر الله المؤمنين أن يعتصموا بحبله وفتيلته الإحسان ، ولكلٍّ أبٌ كربّ العائلة . النبي أب المؤمن ، والملك أب المواطن .
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
﴿-;- وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ-;- وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ-;- إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )
(8العنكبوت: الآية)
﴿-;- وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ-;- وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ-;- أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ-;- وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ-;- وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ-;- ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )15)

(لقمان: 14-15
تحمل لنا هذه الآيات مجموعة من الأوامر و النواهي الإلهية التي تحضّ على بر الوالدين والإحسان إليهما ، والتذلل لهما سواء الصالح منهما والطالح ، وبغض النظر عما إذا كانوا مسلمين أو غير مسلمين , مسلمين مؤمنين أم كانوا غير مؤمنين . وأمر الله بطاعتهم أبدا إلّا الشرك به , مع عدم إجبارهم على تغير معتقدهم . وقد نهى سبحانه عن التعرض لهما بأي أذى , مهما صغر حتى لو كان كلمة أف , ونعرف إنها صوت دال على التبرم يصدر من الإنسان , غالبا , دون قصد . وإن كانت هذه الآيات المباركة تنظم دون لبس العلاقة العائلية في الأسرة الصغيرة بين المولود ووالديه , فإنها تشمل النبي تصريحا , والملك ضمنا (ووالد وما ولد)77 .
(و قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)78
أهل البيت في الآية الكريمة هم النبيّ (ص) ونساؤه المطهرات بإذن الله , ودخل معهم المؤمنون , جميعهم , في حياة النبيّ , وإلى قيام الساعة:
79 النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ... ))
ورغم وضوح بيان هاتين الآيتين الكريمتين , ووضوح مقصدهما إلّا إن الشيعة , يعتقدون إن البيت المذكور في الآية الكريمة هو بيت فاطمة . وقد وافقهم على ذلك أهل السنة رغم أنهم يعنون أزواج النبيّ حين قولهم "أمهات المؤمنين" . وقد جاء في صحيح مسلم :
{كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل أهل بيت النبي (ص(
2424حدثنا : ‏ ‏أبوبكر بن أبي شيبة ‏ ‏ومحمد بن عبد الله بن نمير ‏ ‏واللفظ ‏ ‏لأبي بكر ‏ ‏قالا : ، حدثنا : ‏ ‏محمد بن بشر ‏ ‏، عن ‏ ‏زكرياء ‏ ‏، عن ‏ ‏مصعب بن شيبة ‏ ‏، عن ‏ ‏صفية بنت شيبة ‏ ‏قالت : قالت عائشة : ‏خرج النبي ‏(ص) ‏غداة ‏ ‏وعليه ‏ ‏مرط ‏ ‏مرحل ‏ ‏من شعر أسود فجاء ‏ ‏الحسن بن علي ‏ ‏فأدخله ، ثم جاء ‏ ‏الحسين ‏ ‏فدخل معه ، ثم جاءت ‏ ‏فاطمة ‏ ‏فأدخلها ثم جاء ‏ ‏علي ‏ ‏فأدخله ، ثم قال : ‏إنما يريد الله ليذهب عنكم ‏ ‏الرجس ‏ ‏أهل البيت ويطهركم تطهيرا}
أظن أن آية التطهير هي الأساس الذي أقام عليه المذهب الشيعي بناءه المنطقي , حين جعلها دليلا على عصمة عليّ وفاطمة وابنيهما , الحسن والحسين , ثم تسعة من نسل الحسين , يتوارثون الإمامة أبا عن جدّ , ليكونوا سلسلة من اثني عشر إماما , توافقا مع روايات قريش لما تزعم من أحاديث نبوية تخبر عن اثني عشر خليفة كلهم من هاشم , أو قريش . ولما كان الإمام الحادي عشر عقيما , وكان لابدّ من إمام من صلبه لكي يكتمل العدد , كما جاء في النبوءة , قالوا بولادته , وطبعا كتمان خبر ولادته , ثم لابد من غيبته .
مفهوم العصمة أخرج نساء النبي من بيته المطهر , وأدخل عليا وبنيه تمهيدا للقول بفرضية الخلافة المنصوص عليها من الله , سبحانه , فيهم لأنهم مخصوصون بالعصمة التي جعلت منهم أئمة امتدّ بوجودهم هدي النبوة .
وقد استدلوا على عصمتهم بقوله تعالى ( إن ربك فعّال لما يريد)80 وهو قول يفهم منه إن إرادته سبحانه هي عين فعله , وبما إنها تعلقت بإذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم تطهيرا فقد حصل ذلك , فهم مطهرون حتما ولا رجس فيهم .
. وقالوا إن الرجس كلمة تعني كل ما هو مشين , وإن صغر , ذنبا كان أو جهلا ؛ لذلك فإن أهل البيت معصومون عن الذنوب , وعلماء بالفطرة , وهذه صفات غير متوافرة لدى نساء النبي ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين )81 والدليل الآخر هو في ورود كلمة [عنكم] بدلا عن [عنكن] في آية التطهير , متجاهلين تحول الخطاب القرآني إلى أهل البيت , حيث يدخل في عمومه النبي ، بعد أن كان خاصّا إلى نسائه (ع) .
أما الآيات الكثيرة الدالة على عدم عصمة أمهات المؤمنين , فإن منها ما ينفي عصمة الرسول الكريم نفسه (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما )82
وأما الرجس – كما تؤكد معاجم اللغة - فليس كل مشين وإن صغر , بل الكبير . فإن كان الرجس هو القذر , والفعل القبيح , والحرام , ووسوسة الشيطان , فإنه أصلا الصوت الشديد , وصوت الرعد , أو الجيش , ورجس رجسا : اختلط وعظم , ورجس البعير : هدر شديدا . هذه الإضاءة المعجمية من شأنها , ربما , إنارة بعض الجوانب حول استخدام بعض الكلمات في آيات أخرى , ومنها كلمة (مبينة) الواردة في الآية (30) من سورة الأحزاب . وربما للسبب ذاته لم نجد كلمة (رجس) في الآيات التي عنت المؤمنين دون أن تختص بأمهاتهم , أزواج النبي الكريم , وإن قصد القرآن العظيم تطهيرهنّ تطهيرا يقترب من الكمال , فهو للمؤمنين (تطهيرا) فقط (يا أيها الذين آمنوا ... ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)83 ولا غرابة في ذلك , إذ إن مكانتهن الرفيعة تلك جاءت من عظيم تأثيرهن في مشاعر المسلمين , فما من أحد اقترب من الرسول كما هن , وهل من دليل على عظيم شأنهن , وخطير أمرهن أبلغ من أن يكون عذاب إحداهن على فاحشة مبينة ضعفين مما لو أتت به غيرها من باقي النساء . ومثل ذلك التمييز نجده في أعمالهن الصالحة أيضا , فلهن أجران مما لو كان لنظائرهن أجر
واحد (ينِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ...) 84 هن لسن كأحد من النساء (والرجال من غير النبي) إطلاقا , بتقوى وبدونها , وشرط التقوى تشريف لهن , وبيان لما لهن من الأجر العظيم , ومن قبل اخترن الله ورسوله على الحياة الدنيا وزينتها ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)) الأحزاب – فهن سيدات نساء العالمين في عصرهن , وإلى قيام الساعة , ولا ينبغي لغيرهن هذا الشرف , عليهن رحمة الله وبركاته , وهن الامتداد الحقيقي والواقعي للنبوة ، بيوتهن مهبط الوحي , ومحل تلاوة الآيات والحكمة لا بيوت الذين قال شاعرهم :-
بآل محمد عرف الصواب وفي أبياتهم نزل الكتاب
هم حجج الإله على البرايا بهم وبجدهم لا يستراب
يا له من صلف , ويا لها من قلوب ما أقساها , ما أجرأها على الله ورسوله , ألم ينصتوا إلى قوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا 34 ) الأحزاب/ وهو تكليف لهن بأن يذكرن للناس ما شهدنه عيانا من أحوال النبوة ، وما نعانيه من انحطاط اجتماعي مرده إلى تعطيل دورهن الإلهي في بيان كثير من الأحكام للناس إكمالا لدور الرسول . يقول القرطبي في تفسيره {فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن ، وما يرين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام ، ويسمعن من أقواله حتى يبلغن ذلك إلى الناس ، فيعملوا ويقتدوا . وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين}نفهم من هذه الآية إنها أمر لهن بالتبليغ , كما أمر الرسول من قبل . وهو أمر للمؤمنين بالأخذ عنهن , كما أمروا بالأخذ عن الرسول , وهذان أمران لابد لهما من رجاحة في العقل وصدق في التبليغ . أما استدلال المفسر في هذه الآية الكريمة على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين فليس صحيحا لقوله تعالى (لستن كأحد من النساء) وقد بينت ذلك ، بحمد الله . وأضيف إن هذا التفسير نموذج لمكر قريش في تعامل طغاتهم مع القرآن وتوجيهه لما فيه هوى نفوسهم .
علمت قريش إن أمهات المؤمنين ركائز الإسلام بعد النبي ومعه , فعمدوا إلى الحط من شأنهن لتحقيق مآربهم الدنيئة , من ذلك إباحة زواج القاصر اعتمادا على روايات قريش في زواج أم المؤمنين عائشة ، رغم أن القرآن لا يشير في موضوع النكاح إلّا إلى نساء , أو امرأة , ونعلم أن المرأة وجمعها نساء هي ليست بنت أو طفلة , ولا جارية أو صبية أو فتاة وهي ليست البالغة جنسيا فقط ، بل والكاملة جسميا أيضا . إن قريشا لم تستثني من السواد الذي جعلته بستانا لها الأطفال إرضاء لشهوة كبرائها الجنسية فيهم . وهكذا بمال المسلمين الذي آثروا به أنفسهم يمكنهم شراء بنات المسلمين , وعامتهم من المعدمين , بعنوان الزواج . كما أباحت لهم رواياتهم عن زواج رسول الرحمة من صفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير القبيلة اليهودية أن يقتلوا عباد الله على دينهم ويسبوا نسائهم أو يتزوجوهن دون عدة . إن أنعمنا النظر في أبسط نتائج فعل الأمر (اذكرن) الوارد في الآية الكريمة , بدلالة معاني ما بعدها من ألفاظ , فإننا سنرى بوضوح إن الله , جلّ وعلا , نصبهن أعلاما للشريعة , مع نبيه الكريم , وبدلالته (ص) , ولننظر ماذا حمل لنا رواة الحديث القرشيون من حكمة أم المؤمنين صفية وعلمها بآيات الكتاب , غير حديث زواجها من الرسول في يوم سبيها , الذي قتل فيه زوجها اليهودي , جريا على عادة العرب في الحروب قبل إسلامهم ! في هذا اليوم لم يسب أحد من اليهود , وقال المؤرخون لأنهم صاروا أصهارا للرسول (ص) , ولم يحدث سبي لمشركي مكة , يوم فتحها ، ولا لأهل الطائف يوم حنين .. لم يستعبد الرسول أحدا من أعدائه , وغنائمه كانت من أملاكهم , لا أنفسهم أو نسائهم وأطفالهم , ولا أدل على ذلك من خلو بيوت أزواجه من الإماء والعبيد .
إما إرادة الله فما كلها عين مشيئته , حيث تحققها حتما . ومن ذلك ما ورد في آية التطهير , والآية السادسة من سورة المائدة المباركتين حيث تحققها متعلق بعمل المخاطب حسب أوامر الله ونواهيه , سبحانه وتعالى , فإن كانت عاصمة لأهل البيت فهي كذلك للمؤمنين , ورفع خصوصيتها عن المؤمنين , يستوجب فعل مثل ذلك عن أهل البيت . ويقتضي رفع آثارها عن الجميع إبطال دعواهم في وجوب الخلافة فيهم .
لقد أزاح الشيعة أمهات المؤمنين عن موضعهن في الآية الكريمة , رغم أن خطابها موجه إليهن صراحة , في جمل عدة , تحمل مطالب مختلفة , بصيغة أفعال أمر- قرن , لا تبرجن , أقمن , آتين , أطعن – إلّا آخر مطالب الآية إذ تحول الخطاب من (نون النسوة) إلى (ميم الجمع) في كلمة (عنكم) محتجين بتغير وجهة الخطاب القرآني , وقد بينّا رأينا , وفي أن القرآن لم يجمع حسب التنزيل , لكننا لا نتحدث هنا , عن القرآن كله , ولا عن سورة منه , إنما عن آية بعينها , وإلّا فإن القرآن مجموعة كلمات لا رابط بينها , فاستحالة فهمه , ويذهب فقهاء الشيعة إلى استثناء أئمتهم "المعصومين" ولا أعرف لماذا نطبع كل هذه الأعداد من المصاحف , لماذا ننفق المال , والجهد , والوقت في محافل كبرى , وفي بيوتنا ننصت من القراء , أو عبر أجهزة التسجيل ما يتلى من كتاب الله . يحيرني , أنا الرجل البسيط , فهم بعض الآيات كـ )أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )85 وهو فهم يقود إلى الحيرة كيف يمكن لهذا القرآن الذي صيغ من نظام لفظي يعجز عموم الناس عن فهمه إلّا أثنا عشر رجلا , يعقب أحدهم الآخر , وكلهم إمام منصب من الله , مطيع له أبدا , وعالم بالفطرة , ومنهم , مع ذلك , من أقفل قلبه عن تدبر آياته , وإلّا فلم ورودها في القرآن .
ومن الأدلة البائسة التي استدلوا بها لإخراج أمهات المؤمنين من بيوتهن النبوية الشريفة , احتجاجهم في أن المرأة قد تبيت في بيت أبيها مطلقة بعد أن أصبحت في بيت زوجها ! متناسين غفلا أو عمدا إن حجتهم تعمهم دون أزواج النبي
(لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا )86
كما إن أزواج النبي لا يجوز نكاحهن بعده صلوات ربي عليهم
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ) 87
وخاطب الملائكة امرأة إبراهيم :
(قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ)88
ولا أعرف لم امرأة إبراهيم نبي الله أهل بيته ! ونساء محمد نبي الله لسن أهلا لبيته ؟ وأظن إننا سنقترب كثيرا من المعنى الحقيقي لكلمة أهل لو اطلعنا على معاجم اللغة ،وبحثنا في مادة "أهل" .
تشكلت المذاهب الإسلامية , وتميزت عن بعضها , بنسق منطقي , صدرت مسلماته عن وقائع لم يتفقوا على صدقها , وكثير منها واضح خلافه للقرآن . وإن عجبت فلتعاهد النخب الإسلامية المتعلمة هذه الأنساق السامة بالرعاية , وحث الجمهور على تبجيلها , واحترامها .. إن إسرار قريش , وتواطأ رجالاتها على إهمال بعض أهم المبادئ الإسلامية التي تتناقض ومصالحهم , رغم اختلافهم , وكثير منه دام , زاد المشهد غموضا , والمستور أغطية , حتى ليخال لمن يراقب المشهد , أن الحق في قريش , السنة أو الشيعة , غافلا عن "إن كلا الطرفين هما لحبل واحد" وهو غير حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض كما جاء في الحديث الشهير:
(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما .)
يرى شيعة علي أن العترة هم عليّ وأولاده المعصومين . بينما يرى جماعة من علماء السنة هم كل بني هاشم , ومنهم عليّ وذريته . بينما يرى آخرون أن من عطف على كتاب الله هي سنة الرسول وليس عترته (ص) . وإن اشتقّ أهل السنة تسميتهم تلك من هذا الحديث , تعميقا للتميز المنطقي الذي أسست مذاهبهم بموجبه عن المذاهب الشيعية ؛ فإن أغلب علمائهم يرجح ورود كلمة (عترتي) محل (سنتي) . وقد رأينا إن أهل بيت محمد (ص) هم ليس ما ادعى الشيعة , ولا جميع بني هاشم , بل نساء النبي , وأزواجه , أمهات المؤمنين . ولا يعسر بالقارئ اللبيب أن يفهم إن من شأن هذه المعلومة أن تغير بديهيات القضايا المؤسسة للنظم المنطقية التي قامت عليها جميع المذاهب الإسلامية في مسألة الإمامة حصرا .
إن هذا الحديث , واسمه حديث الثقلين , يعضد ما جاء في الآية( 34 ) من سورة الأحزاب , ويوجب على الأمة الرجوع إليهن بعد رسول الله (ص) وكما أن المسلمين بتخلفهم عن بعث أسامة , وطعنهم بإمارته كانوا عاصين لله , بشأن من شؤون نبيهم . كذلك كان عصيانهم الله سبحانه , بشأن من شؤون أمهاتهم , حين أمضوا ما استقر رأيهم عليه , تحت سقيفة بني ساعدة , دون الرجوع إلى رأيهن في المسألة .
وكما رفضت قريش إمارة ابن زيد بن حارثة لأنه مولى بنظرهم , وليس قرشيا , كذلك رفضوا إمامة أمهات المؤمنين لأنوثتهن , فما ينبغي لمجتمع يحظى فيه ذكوره بالسؤدد دون إناثه , أن يسمح لامرأة أو مجموعة من النساء بالبت بشؤونه دونهم . لماذا ورد ذكر بلقيس في الكتاب إذن , وما وجه الحكمة في الثناء على حكمتها , وحسن إدارتها لشؤون المملكة ؟ ومن قبل كانت دبورة نبية و قاضية في بني إسرائيل , قبل أن يقضي بينهم صاموئيل , النبي الذي سألوه أن يدعو الله ليجعل لهم ملكا , فاختار طالوت لهم ملكا .
لقد صور الخلاف بين أم المؤمنين عائشة وعليّ بن أبي طالب على إنه خروج امرأة على ولي أمرها وأمر المسلمين , وقد رأينا أن الله جل وعلا أمرهن , لما تلي في بيوتهن من آياته , وما اطلعن عليه من الحكمة , أن يبلغن ما علمن , وهو أمر للمسلمين بطلب ما استشكل عليهم من أمر الشريعة منهن . ونعلم أيضا أن عليا ولي الخلافة بعد أن بايعه قتلة الخليفة عثمان ؛ وهم جماعة لم يبلغ عددهم الألف . وقد امتنعت عن بيعته أغلب الأمصار , واندلعت حروب ذهب ضحيتها عشرات الألوف من المسلمين , وكان عليّ نفسه من ضحاياها . لقد ضر المسلمين عدم إنصاتهم إلى حكمتها حين دعت إلى محاكمة القتلة . إن أطاعوها لاحتكم المصلحون إلى ألسنتهم بدلا من سيوفهم ولما استمر مسلسل الخلل الأمني إلى يومنا هذا .
لقد كانت مطالبة عليّ بن أبي طالب بالخلافة مستندة على حجة القرابة من رسول الله (ص) , وهي حجة أبي بكر على الأنصار ، وعليّ أولى بها منه ، ولأن الأمر قد تمّ , وأبا بكر لم يتخل عن خلافته بعد رفض عليّ بيعته , ولأنه لابد من مزية تجعل خلافة أبي بكر باطلة شرعا , وخلافة علي واجبة قال شيعته بنبوته , مبتكرين مفهوم الوصاية , قائلين ما من نبي إلا ووصيّ له , وعليّ وصيّ محمد (ص) . وكي يدعي شخص النبوة , لابد من أمور ثلاث :
1- أن يحصل على معلومات من الله ، أي دون نظر منه , أو تجربة شخصية .
2- أن تكون صحيحة , لا يشوبها خطأ .
3- أن تكون واجبة التنفيذ على المبلغين بها .
وكل هذه الأمور حاصل للوصي , فهو نبيّ إذن . ثم ليس هناك من وصي لأيّ نبيّ . ولم يبعث نبيّ على فترة من الرسل غير محمد (ص) مما ينفي الحاجة إلى وصيّ وجود نبيّ أو أكثر إن مات أحدهم . أقول : ما نفع وصي لنبيّ ميت مع وصي لنبيّ حي ؟ لقد تعاملوا مع فكرة الوصاية وكأنها حقيقة دينية مسلم بها في الإسلام والأديان السابقة ؛ ولم يقل ذلك أحد غير الشيعة أبدا . لقد كانت فكرة الوصاية التفافا على البيان القرآني في أن محمدا خاتم النبيين (ص) (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)89 – ألا يحيلنا مكرهم هذا لضرورة الاستشهاد بقوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال) 90
إن خطورة الفكر الشيعي تكمن في توسيعه مفهوم العصمة , فبعد أن كان محصورا في التبليغ ، جعلوها في إنسانية المبلغ , مؤولين صريح القرآن بأن الأنبياء بشر لهم ذنوبهم , وقد حفلت آياته بكثير استغفارهم , وخوطب خاتمهم في واحدة منها (ِليَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا )91 ما تعانيه الشعوب الإسلامية من تخلف في كافة المجالات هو حصيلة طبيعية لاعتقادهم هذا , ذلك إن عدم عصمة الحاكم تجعله ظالما بالفطرة , ولا يجوز الركون إلى الظالمين , بل أن الخروج عليهم واجب شرعي لا يسقط حتى مع غيبة الإمام المعصوم . هكذا ملأ العلويون وشيعتهم التأريخ الإسلامي بثوراتهم الفوضوية , مريقين دماء غزيرة , وحجتهم قوله تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)92 مفسرين الآية الكريمة بأن الله جل وعلا أمر الناس بإتباع الأنبياء , قولا وعملا , لأنهم لا يظلمون . ولا يجوز أن يأمرنا بإتباعهم وهم يظلمون , لأن الظلم لا يكون إلّا مع معصيته ؛ ولا يعقل أن يأمرنا بعصيان أمره . لقد جعلوا من فعل الظلم قضية منطقية وهو سلوك اجتماعي , ونزل القرآن بلغة العرب , واللغة نشاط اجتماعي نستطيع أن نتواصل برموزه مع بعضنا ، وحين نصف إنسانا بالظلم أو الصلاح , إنما نصف سلوكه بما ظهر لنا من أفعاله , ولا يستطيع الإحاطة بها , كلها ، أقرب الناس إليه , فضلا عمّا يعتمل في نفسه من وساوس . ولنا في ذي القرنين أسوة , إذ جعل من الظلم نقيضا للإيمان والعمل الصالح (قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا* وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)93 – فلم يكن فيهم أنبياء . واقرأ قوله تعالى وقد وصف طائفة من المصطفين وهم الأنبياء بالظلم (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)94 –
واستدل الشيخ محمد رضا المظفر صاحب كتاب (عقائد الإمامية) على وجوب العصمة بما يلي : { أنه لو جاز أن يفعل النبي المعصية أو يخطأ وينسى ، وصدر منه شئ من هذا القبيل ، فأما أن يجب إتباعه في فعله الصادر منه عصيانا أو خطأ أو لا يجب ، فإن وجب اتباعه فقد جوزنا فعل المعاصي برخصة من الله تعالى بل أوجبنا ذلك ، وهذا باطل بضرورة الدين العقل ، وإن لم يجب اتباعه فذلك ينافي النبوة التي لا بد أن تقترن بوجوب الطاعة أبدا } جميع علماء الأديان السماوية إلّا الشيعة يؤمنون بعصمة الأنبياء في التبليغ فقط , وإن ارتكب أحدهم ظلما , يقولون ظلم إذ تصرف خلاف الشريعة , وإن أمر بها . ثمّة فرق بين الأمر الإلهي الذي بلّغه والسلوك الشخصي السيئ الذي ارتكبه .
وقال تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) 95 – ليس كل أهل القرية أنبياء ليقال عنهم (مصلحون) فلا يقع عليهم فعل الإهلاك بظلمـ..هم .
إن أدلة نفي العصمة الإنسانية أكثر عددا من أن نجد مبررا لإحصائها أما شبهات وجودها فأقل وأتفه من أن تذكر , وبصّرنا في خير مقروء (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) 96 - إن عصمة الإنسان المانعة له من ارتكاب الذنوب ، والوقوع في الأخطاء , حتى ما كان منها سهوا أو نسيانا , إنما هي عصمة منافية لطبيعة البشر , وقد ادعاها النصارى للمسيح من دون جميع الناس ، حتى الأنبياء منهم , فجعلوه إلها ، ذلك أن العصمة الإنسانية إن حملها شخص كملكة في تكوينه لا يمكن لنا أن نعده بشرا . عندما لا نأكل نشعر بالوهن ، وآلام الجوع , وإننا نشتهي الطعام ونتلذذ به ، وفي هذه المسافة من الألم واللذة ، يحرك الشيطان وساوسه في نفوسنا . وعندما نكون معصومين , وتكون نفوسنا خالية من وساوس الشيطان , لا نشعر بآلام الجوع , ولا نتلذذ بطيب الطعام ، وهكذا نصبح آلات , لا أحاسيس لنا ولا رغبات . من أوتي ملكة العصمة سلب القدرة على فعل المعصية , وأسقط عنه الوعيد الإلهي بالعقاب , ولأنه لا يملك غير خيار الطاعة لا يمكننا أن نغبطه على تمتعه برضا الله دوننا . لفعل المعصية الذي سلب منه , جانب آخر الطاعة , بانتفاء أي منهما ينتفي الآخر . حينها لا نصف الفعل بالمعصية أو نقيضها وستكون لأبشع الجرائم مبررات وجودية , كتلك التي تمارسها سباع الحيوانات إذ لا يمكنها الحياة دون طعام , وطعامها لحوم حيوانات أخرى بعد سلب حياتها . بكلام وجيز القول بالعصمة الإنسانية ينفي العدل عن الفعل الإلهي . الحياة الإنسانية مجموعة أفعال , ما من إنسان إلّا عصم في جزء منها , ولا تنبغي العصمة لأحد فيها كلها . (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ {3 } وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7}وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ {8}) 97
لم يدع الرسول(ص) ملكة العصمة , ولم يدعيها عليّ ولا نجليه وقد أمضوا حياتهم مطالبين برياسة المسلمين . وربما يحتجّ أحدهم قائلا : "إن انتفاء منزلة الوصاية عن علي وعدم عصمته لا يمكن اعتبارهما سببين مانعين للرسول من تنصيبه ملكا على المسلمين كطالوت على بني إسرائيل" وأقول : "هذه حجة واقعية في منطق سليم" حينها سيقول : "وقد حصل هذا في بيعة الغدير" وأقول : " إن حصل ما تدعي وتوّج عليّ ملكا لباشر من يومها دوره في إدارة المجتمع الإسلامي ، من غير أن يحط ذلك من مكانة الرسول الدينية . هذا ما فعله النبي صاموئيل , آخر قضاة بني إسرائيل , حين اختار الله لهم طالوت ملكا .
العائلة الاجتماعية للمسلم ثالث انتماء أسريّ له , وفيها يكون الملك أبا لجميع رعيته , والساكنين بين ظهرانيهم , على اختلاف مللهم ونحلهم . والملك تسمية قرآنية , لمن جمع المال والسلاح في يده , مهما كان عنوانه الوظيفي , إن ملكا , رئيس جمهورية , مستشارا أو رئيس وزراء . فملك عراقنا اليوم دولة رئيس الوزراء فخامة نوري المالكي . لا يقدح في شرعية ملكه أنه أدنى شرفا وظيفيا من رئيس الجمهورية , ولا أن أغلب قراراته التشريعية مشروطة بموافقة البرلمان , ولا استقلال السلطة القضائية عن إرادته ؛ رغم أنه , شرعا , يجب أن يكون الشخص الأكثر شرفا فينا , وصاحب الكلمة الأخيرة في كل قرار تشريعيّ , ورأس السلطة القضائية . هو الملك لأنه قادر على تنفيذ إرادته اجتماعيا . لا ينفذ قانون لا يرغب في إنفاذه , ولا يستطيع ذلك أحد دون إذنه . هو فوق القانون الذي يتساوى تحته رعاياه .
للرسول (ص) على المؤمنين حسن أدب المخاطبة , ورأينا رأفته ورحمته بهم . وللملك على رعيته مثل ما للوالد على أولاده . علمنا ربنا أن نخاطب آبائنا:- ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا( 23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) ) 98 – وعلم الله المؤمنين أدب مخاطبة رسوله :- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إ(3)ِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(4) ) 99 – وعلمنا سبحانه كيف نخاطب ملوكنا إذ أمر موسى ع بالذهاب إلى فرعون ومخاطبته باللين ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) ) 100 – إن أنعمنا النظر في الخطابات الثلاثة نجد أنها واحدة في الغرض ، وإن اختلف الأسلوب فلطبيعة المخاطب . فضعف الوالدين جعل الأمر ببرهما مليئا بالشفقة , ولبساطة حياة النبي الكريم جاء الأمر بتوقيره بأسلوب يعلم المؤمنين كيف يتعاملون مع الرسول , بكلام معاصر يعلمهم – الأتكيت – وفرعون المحاط بأبهة الملك غنيّ عن شفقة موسى , لذا اختزل خطاب الحض على الإحسان إليه بكلمة (اللين) .
لم نختر آباءنا (وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا) 100
ولا رسولنا ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) 101
ولا ملوكنا (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)102
أمرنا الله أن نطيعهم مجتمعين . وجعل أبوة الرسول (ص) مثلا لغيرها واشترط طاعة آباء الدم في كل شيء إلّا الشرك به ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )103- وقرن الله طاعته بطاعة الرسول وأولي الأمر[الأبوة الاجتماعية] فإن حدث تنازع في شيء , فأمره أن يرد إليه ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)104- وفي هذه الآية البلسم الشافي في أن أولي الأمر ليسوا معصومين , إذ لو كانوا كذلك لأمرنا بعدم منازعتهم في شيء (المنازعة , هنا ، نصح وبناء , لا قتل وتخريب) ولكان أمرهم أمر الرسول الذي هو أمر الله سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) 105-
عملت فكرة وجوب الإمامة في قريش عمل الآفة في بدن الدولة الإسلامية . فعندما لا يكون الحاكم قرشيا ، أو من نسل عليّ , يكون وجوده مخالفا لأمر الله , فقتاله واجب شرعا . من أمرنا الله بطاعته أوجبوا علينا قتاله . هكذا حرم العمل في الدولة , وأصبح عملتها أعدائنا . وأقصد بـ (نا) مؤمني الشيعة والسنة . ولولا مباركة الله جهود غير المؤمنين من في جمهور المسلمين لما قامت دولة للإسلام . وأظن أن السبب في انهيار الدولة العثمانية وتآكلها هو في تغيير الملوك العثمانيين ألقابهم من سلاطين إلى خلفاء , ولا خلافة إلّا في قريش , وقريش في الكتب , والكتب علم , وبإهمال العلم إخفاء لصورة قريش , وانهيار بطيء لأعظم دولة في زمانها , وصعود يتكامل لدول أوربا المسيحية التي جهدت في تحرير العلم من قيد التعاليم الكنسية .
إن تأملنا في سيرة الناصر صلاح الدين الأيوبي وكيف استطاع دحر الجيوش الصليبية وإخراجها من القدس وبقية المدن العربية , لوجدنا تفسيرا في منعه التعبد بالمذهب الشيعي الإسماعيلي وهو لا يختلف في شيء من مبادئه عن مذهب أهل العراق إلّا في قولهم إن الإمامة في إسماعيل بن جعفر ونسله لأنه الابن الأكبر وإن مات في حياة أبيه . يرى الفكر الشيعي أن الحاكم لا يطاع لمكانه الإداري من الدولة , إنما لامتيازات شخصية معينة , وهي امتيازات لا تتوفر لإنسان ، منها العصمة , فهي امتيازات وهمية , صيغت لتحقق مكاسب سياسية لفقهاء المذهب , إضافة لمكاسبهم المالية الهائلة , رغم ما خلفته , وتخلفه في بنية النظام الإداري , فالخدمي للدولة . الحاكم الذي لا تتصف شخصيته بالمميزات الشرعية ومنها العصمة , ستجعله دون شك ظالم , ولا يجوز الركون للظلمة , بل يجب قتاله . بالمقابل كان الفكر السني يحض على طاعة الحاكم , ويحرم الخروج عليه .
لقد قرأت أوربا العلمانية الاستعمارية صفحات نجاح الأيوبي وإخفاق أوربا الصليبية الاستعمارية , فجندت بعض مشايخ أهل السنة ودعمتهم إعلاميا من أجل بث سموم فكرة وجوب الخروج على الحاكم الظالم , وربط أسبابها بشخصه , وإن كانت تختلف عن الأسباب الشيعية , لكنها اتفقت على شرعية هذا الفعل المدمر . هكذا وضعت الرحم الشيطانية تنظيما القاعدة , والأخوان المسلمين لتحطيم المجتمع السني , وتشل ذراع المسلمين الثانية ، بعد أن شلت الأولى يوم حطمت المجتمع الشيعي . هكذا صفقت الفوضى في الأرض الإسلامية , وعميت السبل المؤدية إلى قيام دولة صحيحة ، بريئة من العلل والأسقام . ما من أمل أمامنا إلّا بتكرار التجربة الأيوبية للقضاء على الفكر الشيعي بمنع التعبد بمذهبه . وكذلك منع التعبد بالمذهب السني محقا لفكره الشيطاني , وبين أيدينا التجربة الصفوية التي قضت عليه في إيران . إن التشيع والتسنن اسمان لوجوه الإسلام القريشي الكثيرة والقبيحة , ووجه واحد وجميل لإسلام محمد (ص) , وهو من أمرنا بالأخذ به , وآن لنا أن نفعل ذلك .
إن مبررات طاعتنا لآبائنا كثيرة وواضحة , سنتجاوزها لنشير إلى مزايا كل منها , وما لها من أثر في حياتنا . أما أبوة الدم ففاعلة لعمر محدد . غايتها هدى الأبناء فتعمد إلى النصح , وأحيانا تقومهم باللجوء إلى الشدة , حتى يتحولوا من الطفولة إلى البلوغ فتكون علاقة عطف ومحبة لأن أساسها امتنان ورأفة . أما أبوة محمد (ص) فهي هدى وإرشاد , وما يتخللها من شدة وعنف فذلك مشروط بانتصار المؤمنين له . وأبوة الحاكم حفظ وإحياء , وإن في إبداء العنف لدرجة القتل ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)106 – وسلطته تتعدى النفوس إلى الأبدان , وتتعدى الإنسان إلى مطلق الحيوات , حيوانية ونباتية ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) 107 – نجد أن سلطة الأب معيل الأسرة معنوية . ومادية سلطة الملك , أبي المجتمع , فما من أحد سواه يتصدى بالدفع والعقاب لكل من تعرض بالأذى لأسرة أو أحد أفرادها .
لسلطة الملك أهمية في حياتنا مع سلطة النبي ع , وسلطة الأب , وهي مكملة لهما . ودلت الآيات العديدة على إن الملك يؤتى من الله . للمجتمع أثر في السيرة الأخلاقية للحاكم , وفي انتمائه الديني , دون شخصه , فاختياره رهن بإرادة الله . ورأت أمم غير عربية , وغير إسلامية ، قبل الإسلام وبعده ، أنه ظل الله في الأرض , وقريب من ذلك ما جاء في سورة ص (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) ولنا أن نسأل عن استخلاف داود أكان لصلاحه وهل هو جزء من نبوته , فتصحّ دعوى الإمامية في أن الإمامة ، أو الخلافة , أو الملك تكليف إلهي لأشخاص معصومين عن إتيان المعاصي والذنوب ؟ - جعل الله داود خليفة ليحكم بين الناس أي آتاه الله الملك (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء)108 – الملك يؤتى فضلا من الله , فإن اتقى الملك من جعله ملكا وهو الله , سبحانه , صار حكيما , وقديما قيل: "رأس الحكمة مخافة الله" ومن شأن الحكمة أن تهديه ليستعين بالمتعلمين بما ينفع رعيته , وليتعلم منهم ما يشاء , ولا ينبغي لعالم أن يخفي عن مليكه علمه إذا طلبه , فيكون قد علمه الله مما يشاء . كلما كان فاعل الفعل (آتى) الله الكريم , ذو الفضل العظيم عمّ المأتي خير وسعة , وله أن يشكر , فإن كفر كان شرا عليه(وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )109 كما آتى الله داود النبي الملك ، آتى الملك أيضا من حاج إبراهيم في ربه ولأنه لم يكن تقيا لم يؤت الحكمة فينتفع وقومه بما علم إبراهيم ربه فعدّ مع القوم الظالمين( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) 110- الملك خليفة الله في أرضه , عادلا كان أو جائرا , لأنه أمير الناس الذي لابد منه . وجاء في الخطبة 40 من كتاب نهج البلاغ المنسوب لعليّ بن أبي طالب { لابد للناس من أمير برّ أو فاجر , يعمل في أمرته المؤمن , ويستمتع فيها الكافر } في كل مجتمع نجد الملك حاميا لمثله العليا , وحارسا لأخلاقه الحميدة ، يبذل ما في وسعه من جهد ليكون قدوة حسنة لشعبه , لكنه لا يرى منه غير الصفوة المحيطة به , وكلهم ثريّ لم تقلق نبل أخلاقه ضروريات الحياة التي يفتقدها العامة من شعبه , فهو يمثل أخلاق بطانته المترفة وهي بعيدة عن أخلاق عامة الشعب التي لا تنفصل عن سلوكهم اليومي في حصول معظمهم على ما يقيم أوده من الطعام . نلمس هذا المعنى في تبرير القرآن المجيد لاتخاذ ملكة سبأ ربا لها دون الله مع ما لها من حكمة ظاهرة , ورأي سديد (وصدها ما كانت تعبد من دون الله أنها كانت من قوم كافرين ) 111- يجب أن نفهم إن الملوك , صالحين كانوا أو غير صالحين , منصبون من الله ، وقد اختارهم من بين الناس , كما اختار آباءهم وأنبياءهم , ليكونوا رؤساء شعوبهم , وهذا النصب والاختيار الإلهي يفرض على رعاياهم أن يتوجهوا إليهم بإجلال وتعظيم لا يقل عن تعظيم أحدهم أباه , وقد أقسم الله بمقامهم الأبوي الذي آتاهم حين ألحقهم برسوله الكريم في قوله تعالى (لآ أقسم بهذا البلد (1) وأنت حل بهذا البلد(2) ووالد وما ولد(3))112-
أقرّ الدستور وعمل به بإرادة بشرية , فهي أقوى تماسكا , وأقل ضررا إن صدرت من شخص واحد , لا مجموعة أشخاص {برلمان} شخص واحد , نظرة واحدة لمجموع الشعب , له مصالح محدودة , وحاجات قليلة , سهل إشباعها . إما إن عبر الدستور عن إرادة أشخاص عديدين فإن النظرة الواحدة للعدل تصبح مجموعة أنظمة , تقف وراءها مصالح كثيرة , ومتعارضة , وحاجات لا تشبع .
تصدر القوانين والتشريعات بإرادة فردية , دون مساس بمصالح مصدرها لبساطتها , الأمر الذي لا يستقيم مع إرادة مجموعة من الناس , لتعدد مصالحهم , واختلافها . لا ضمانة حقيقية لعدالة تقيس أوزانها بمكاييل متعددة ، إنما بمكيال واحد تقاس الأوزان , ويجب أن نضع ثقتنا به .
الملك أسمى من القانون الذي يتساوى تحته أفراد الشعب . عندما نضع مكيالا للمكيال لا يعدّ مكيالا , بل الآخر يصبح هو المكيال . لقد وجد ليقيس مقادير حقوق غيره , دون مقادير نفسه ، فإن فعل احتيج لمكيال آخر , ينتصف به له ، أو منه . ولنتذكر أن المكيال الآخر كانت مقاديره تكال بالمكيال الأول , وهكذا نعود لما بدأنا به . لابد من مكيال واحد نحتكم إليه . ولا خوف من أخطائه لأنها قليلة , وغير مؤثرة .. ذلك المكيال هو الملك .
الهوامش
1- الإسراء 16
2- سبأ 34
3- الحجرات 12و13
4-
5-البقرة 62
6- المؤمنون 84 و85
7- الحشر 6و7
8-الأنبياء 105
9- الأنبياء 106
10- الحجرات 13
11-البقرة221
12- النساء34
13- محمد25و26
14- آل عمران159
15- روي باختلاف في عدد الألفاظ ، لكن المعنى واحد .
16- محمد 32
17- محمد 38
18 - الشعراء 216
20- الأحزاب 6
21- الغاشية
22- الحجر
23- آل عمران
24- نهج البلاغة –الجزء الأول- الخطبة 67
25 - الشعراء 214
26- نهج البلاغة – الجزء الأول – الخطبة 77
27- نهج البلاغة – الجزء الثاني –الخطبة 147
28- الأعراف 3
29- الأحزاب 33
30- الحشر 10
31- المنافقون 8
32- الأحزاب67
33-الشعراء 214
34- الشورى 15
35- آل عمران 61
36- الشورى 23
37- سبأ 47
38- التوبة 19
39 – الحجرات 13
40- الأحزاب 40
41 – البلد 1 – 2 – 3
42 – هود 112
43 – الشورى 15
44 – هود 42 و 43 و45 و 46 و 47
45 – هود 49
46 – الرعد 38
47 – الإسراء 60
48 – آل عمران 26
49 – الذاريات 56
50 – ص 76
51 – الأعراف 22
52 – محمد 22
53 – محمد 20
54 – محمد 21
55 – محمد 23
56 – الحجرات 10
57 – الحجر 91
58 – الزخرف 41
59 – الزخرف 79 و 80
60 – محمد 25 و 26
61 – الزخرف 40
62 – محمد 23
63 – أشعياء 35 :5
64 - التحريم 3
65 – القصص 4
66- نهج البلاغة / جزء 1/ خطبة19
67- آل عمران 159
68- نهج البلاغة/جزء1/خطبة69
69- نهج البلاغة/جزء1/خطبة77
70- نهج البلاغة/جزء1/خطبة 45
71- نهج البلاغة/جزء1/ خطبة الشقشقية
72- الاسراء 37
73- نهج البلاغ /جزء1/خطبة97
74- المسد1و2 و3
75- الأحزاب 37
76- النساء 36
77- البلد :3
78- الأحزاب:33
79- الأحزاب:6
80- هود:107
81- الأحزاب:30
82- الفتح :2
83- المائدة:6
84- الأحزاب:30و31و32
85- محمد 24
86- الأحزاب 52
87- الأحزاب 53
88- هود 73
89- الأحزاب40
90- إبراهيم 46
91- الفتح 2
92- البقرة 124
93- الكهف 87و88
94- فاطر 32
95- هود 117
96- آل عمران 7
97- الأنبياء 3و7و8
98- الإسراء 23 و 24
99- الحجرات 2 و3 و4
100- الحج 5
101- الصف 9
102- آل عمران 26
103- لقمان 15
104- النساء 59
105- النساء 64
106- البقرة 179
107- البقرة 205
108- البقرة 251
109- آل عمران 180
110 – البقرة 258
111- النمل 43
112- البلد 1و2و3



















































التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #shorts - 14-Al-Baqarah


.. #shorts -15- AL-Baqarah




.. #shorts -2- Al-Baqarah


.. #shorts -20-Al-Baqarah




.. #shorts - 7- Al-Baqarah