الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طريق اليسار - العدد 62 تموز / يوليو 2014

تجمع اليسار الماركسي في سورية

2014 / 7 / 27
مواضيع وابحاث سياسية



طريق اليســـــار
جريدة سياسية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سورية / تيم /
* العدد 62 ـ تموز / يوليو 2014 - [email protected] E-M: *


* الافتتاحية *
- ما بعد الموصل -


بدأت هزات المنطقة في بغداد9نيسانابريل2003ومنها:قاد الاحتلال الأميركي للعراق إلى بداية تخلخل النظام الاقليمي لمنطقة الشرق الأوسط الذي أقيم في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية والذي استند كبنية جغرا- سياسية على خرائط سايكس - بيكو(1916)التي جرى تطبيقها مع انهيار الدولة العثمانية في عام 1918بنتيجة الحرب العالمية الأولى. أتى هذا التخلخل بنتيجة أن انهيار "البوابة الشرقية للوطن العربي"،كماكان يسمي صدام حسين العراق في فترة الحرب مع ايران،قد قاد إلى تمدد ايراني اقليمي غرباً باتجاه آسية العربية زعزع الاقليم برمته. كماكانت عملية غزو العراق واحتلاله في ظل تحالف أميركي – ايراني فإن حرب صيف2006في لبنان كانت نتيجة انشقاق هذا التحالف في آبأوغسطس2005مع استئناف طهران لبرنامجها في تخصيب اليورانيوم ، وهي جرت عبر الوكلاء في أرض الأرز. لم يكن ممكناً حصول "الربيع العربي" وهزاته في عام2011لولاهزة9نيسان2003. بالمقابل كانت هزة غرب العراق بشكلها الاعتصامي السلمي(منذ كانون أول2012وحتى أوائل2013) ،ثم بشكلها المسلح في الرمادي والفلوجة(بدءاً من كانون ثانييناير2014)، نتيجة تأثيرات ماحصل في سورية على سنة العراق العرب.
في موصل10حزيرانيونيو2014انفجر البناء المشترك الأميركي- الايراني ل"العراق الجديد"الذي بدأ في يوم سقوط بغداد بيد الاحتلال الأميركي وجرت ترجمته بعد ثلاثة أشهر في صيغة "مجلس الحكم"،الذي ظلت صيغته فاعلة لأحد عشر عاماً،ولومع ميل ميزان القوى لصالح طهران على حساب واشنطن في فترة حكومة نوري المالكي الثانية منذ25تشرين ثانينوفمبر2010. تمظهر هذا الانفجار في شكل انهيار للثنائية الشيعية- الكردية التي كانت ترجمة للتحالف الايراني- الأميركي في الغزو والاحتلال الأميركيين للعراق،ليأخذ شكل تحالف سني عربي- كردي ضد المالكي. عملياً هذا الانفجار هو أقرب لتشظي العراق إلى ثلاث جغرافيات منفصلة وفقاً ل"المكونات العراقية الثلاث" ولكن من دون أن يقود إلى خرائط جديدة أوتقسيم على الأرجح،وإنما بحكم الأمر الواقع حتى يحين أوان التسوية .أحد هذه الجغرافيات، وهو الممتد من الموصل إلى الرطبة ، هو بمثابة حاجز جغرافي مضاد فصل الامتداد الايراني بين الرافدين وبين شرق المتوسط.
كماكانت بغداد 2003مصعداً لايران فإن ماحدث في 10حزيران يونيو2014بالموصل شكل ضربة موجعة لطهران،خلخل وزعزع مجمل التمدد الايراني في عموم آسية العربية. في الموصل ومنها عاد النفوذ التركي بالاقليم للصعود بعد انحسار مع فشل "الربيع العربي" في عام2013 وفشل (تيار الاسلام السياسي)في ملء فراغ سقوط الأنظمة الموالية لواشنطن لصالح الأخيرة ومن ثم عودة العاصمة الأميركية من جديد للعسكر على حساب الاسلاميين ليصبح "الربيع العربي" بالمآل الأخير- والسياسة تقاس كأفكار وكحركة بالنتائج،وليس بأي مقياس آخر- ربيعاً للعسكر،وقد عاد الأتراك للصعود الاقليمي عبر تحالف مستجد مع مسعود البرزاني في أربيل بعد طول توجس من الاقليم الكردي العراقي من أجل فرض أنقرة لاعباً رئيسياً ليس فقط في العراق وإنما من جديد في عموم الاقليم .في الموصل ومنها،وعبر سكوت العرب السنة وأيضاً الأتراك على ماجرى من قبل الأكراد من تمدد نحو كركوك بعد أن كانا الأكثر حساسية تجاه وضد الأكراد في الأحد عشر عاماً الماضية، بدأت ثنائية عراقية بين أربيل والموصل برعاية تركية ستكون تلقائياً ليس فقط ضد المالكي وإنما كذلك وأولاً ضد طهران وامتداداتها العراقية والاقليمية. أيضاً،مع عودة العرب السنة في العراق ليكونوا لاعباً رئيسياً في المعادلة العراقية في مرحلة(مابعد الموصل) بعد أحد عشر عاماً من الاقصاء والتهميش لصالح الثنائية الشيعية- الكردية ،ستعود الرياض لتكون لاعباً قوياً في العراق بعد أن فشلت (القائمة العراقية)،بزعامة إياد علاوي في برلمان7آذارمارس2010والتي رعاها تحالف ثلاثي تركي- سعودي- سوري،في تحقيق ذلك. هذا المكسب السعودي في النفوذ الاقليمي عبر العراق بصيف2014يضاف لماتحقق للرياض في قاهرة3يوليو2013عبر سقوط حكم (الاخوان المسلمين)،وكماكانت القاهرة محلاً لصدام تركي- سعودي يوم سقوط مرسي فإن موصل10حزيران2014شكلت مكاناً لتلاقي تركي- سعودي سيجعل أنقرة والرياض في حالة من الاستقطاب الثنائي بوجه طهران في بلاد الرافدين.
ليست واشنطن بعيدة عن ذلك وهي المهجوسة منذ آبأغسطس2005بالتمدد الايراني الاقليمي كتناقض رئيسي في تحديد مجمل سياساتها الشرق أوسطية:أتى الانفجار الموصلي ليقوي واشنطن أمام طهران في مفاوضات رسم ملامح الاتفاق النهائي حول(الملف النووي الايراني)بعد انتهاء المؤقت في24أيارمايو2014،هذه المفاوضات التي تريد طهران فيها ربط (النووي)بالمواضيع الاقليمية بعد أن رفض الايرانيون الاستجابة لمطلب الأميركان في تحقيق هذا الربط في الاتفاق المؤقت الموقع يوم24تشرين ثانينوفمبر2013. في مرحلة(مابعد الموصل)،وبخلاف(مابعد بغداد9نيسان2003)لماانحكمت بلاد الرافدين بثنائية أميركية- ايرانية،هناك استقطاب رباعي يحكم ماأسماه مسعود برزاني ب"عراق جديد"،مختلف عن عراق صدام حسين وعراق بول بريمر،من حيث أن الثنائية الاستقطابية بين واشنطن وطهران قد أصبحت رباعية بانضمام أنقرة والرياض .
هذا سيقود إلى تداعيات كبرى على عموم منطقة الشرق الأوسط:هذه الرباعية انطلاقاً من العراق،الذي يمثل بمكوناته المذهبية والقومية وفي تاريخه مكثفاً للمنطقة ،ستكون هي الأكثر فاعلية في رسم منطقة الشرق الأوسط،كماكانا طرفا ثنائية (مابعد بغداد)،أي واشنطن وطهران، هما الأكثر تأثيراً في المنطقة طوال أحد عشر عاماً،حيث لم تستطع سياسة (معتدلون ضد متطرفين)التي طرحتها كوندوليسا رايس بعد قليل من انتهاء حرب2006أن تفعل كثيراً ضد ايران.على الأرجح أن ماسيقرر للعراق في مرحلة (مابعد الموصل)من قبل أطراف هذه الرباعية الدولية- الاقليمية سيكون له ترجمات كبرى في عموم منطقة الشرق الأوسط.
هنا، في صيف2014أعطت الأزمة العراقية أن بلاد الرافدين هي أهم ،للقوى الدولية والاقليمية وفي مقياس الجغرا- سياسة،من سورية ومصر من خلال قياس تفاعل هذه القوى مع الأزمة السورية منذ18آذارمارس2011ومع الأزمة المصرية في ربيع وصيف2013. هذه الرباعية الحاضرة في العراق هي حاضرة بقوة في الأزمة السورية التي تحضر فيها بقوة موسكو،التي يلفت النظر غياب فعاليتها في عراق2014كماكانت غائبة في عراق1991وعراق2003. بعد ثلاثة أيام من الموصل تحدث الرئيس الأميركي عن "الحرب الأهلية السورية وهي تتمدد أوتتناثرspilling عبر الحدود العراقية"،ممايوحي بأنه كماقادت الأزمة الأوكرانية في شباطفبراير2014إلى موت(جنيف2)السوري فإن الأزمة العراقية يمكن أن تدفع بقوة إلى تسوية سورية عبر(جنيف3)ولكن عبر خماسية دولية- اقليمية(واشنطن- موسكو- طهران- الرياض- أنقرة)،بعد أن ساهم الانفجار السوري في احداث الانفجار العراقي. سيساهم في تسريع هذا المسعى الدولي- الاقليمي نحو التسوية السورية ماأظهرته بلاد الشام من قابلية لكي تكون مفرخة قوية للتطرف عبر "داعش"و"دولة الخلافة الاسلامية" حيث شكل (البغدادي) ،الذي كان الاضطراب السوري المصعد الأقوى له وليس العراقي، ظاهرة أقوى من (الزرقاوي)الذي أنتجه عراق مابعد9نيسان2003ومن (ابن لادن)الذي أنتجته أفغانستان مابعد الغزو السوفياتي.








جريدة "الأخبار" العدد ٢٣٣٥ - الجمعة ٤ تموز ٢٠١٤

إسهام في مُشكل الأقليات

نايف سلوم


يُطرح مشكل الأقليات القومية والإثنية والدينية عندما يتعرقل مشروع بناء الأمة أو مشروع بناء الغالبية الاجتماعية/ السياسية، وينسد الأفق أمام المشروع القومي العربي الديمقراطي.
الأوضاع الإمبريالية هي المسؤول الأساسي عن هذا الانسداد، بالتالي الطائفية ليست صفة جوهرية للثقافة الدينية، إنما هي استغلال التنوع الثقافي والأقوامي لتكريس التبعية والتخلف، بالتالي تأبيد العلاقة الكولونيالية كعلاقة تبعية بالإمبريالية وعلاقة تخلف.
علينا أن نحدد مستويين في طرح مُشكل الأقليات: المستوى الأول هو الذي يأخذ الأقلية القومية معرفة بالتقابل مع الجماعة العربية والتي تشكل الغالبية السكانية في الأرض التاريخية للعرب. ويأخذها أيضاً معرفة بذاتها على أنها أقلية أقوامية خامدة كالأرمن والشركس والسريان والآشور والكلدان والتركمان وغيرها من الأقليات الخامدة سياسياً. أو على أنها أقلية قومية نشطة سياسياً وحية كالأقلية القومية الكردية في تركيا وإيران والعراق وسوريا. وهذه الأقلية القومية الأخيرة هي أمة لها حق تقرير مصيرها في أرضها التاريخية في تركيا والعراق وإيران، أما وضع الأقلية الكردية في سوريا فسوف يدخل في سياق الأقلية القومية الطارئة والتي سوف تتمتع بحق المواطنة وبالحقوق الثقافية كأية أقلية قومية غير مشمولة بحق تقرير المصير.
المستوى الثاني من مستويات مقاربة مشكل الأقليات هو حق المواطنة، أي التعامل مع جميع رعايا الدولة الواحدة كأفراد متساوين في الحقوق المدنية والسياسية وفي الواجبات.
في مفهوم المواطنة نشير إلى أن المواطنة تعني المساواة في الحقوق والواجبات الاجتماعية وإلى المشاركة من الناحية السياسية، وبهذا المعنى تكون المواطنة توأم الديمقراطية السياسية. المواطنة للجميع بغض النظر عن التصنيف القومي أو الديني أو الإثني. لا يتعزز الانتماء الحق إلى الوطن كهيمنة سياسية لطبقة أو تحالف طبقات من دون تكريس حق المواطنة، ومعها الديمقراطية السياسية. بالتالي يمكن القول إنّ حضور الديمقراطية السياسية ووجود العدالة في توزيع الثروة القومية/ الوطنية هما مؤشران أساسيان إلى أصالة وطنية أي طبقة مسيطرة ومهيمنة أو تحالف طبقي مسيطر.
هناك تحديد اجتماعي/ سوسيولوجي للأقلية وهي الأقليات الدينية كالأقليات المسيحية على تنوعها، والأقليات اليهودية العربية والأقليات الإسلامية كـالدروز والعلوية والإسماعيلية وغيرها. وهذه الفرق الدينية هي بقايا متكلسة «لأحزاب سياسية» غابرة من العصر الإسلامي الوسيط انغلقت على نفسها ثقافياً فتكلست. وهي معرفة كأقلية بالتقابل مع الغالبية السنية في العصر الإسلامي الوسيط وسوف نعالج هذه المسألة في مستوى حق المواطنة لما لتفجر هذا المشكل من علاقة بإحباط التحديث العربي بكل أشكاله التاريخية الفعلية وبالتالي عودة «الحياة» إلى بعض هذه الأشكال المتكلسة. لقد أدت قيادة البورجوازية بكل أشكالها، التقليدية الليبرالية المدينية (أعيان المدن السورية، وملاك العقارات في مصر كأمثلة)، والصغيرة والمتوسطة المدينية والريفية منها إلى إعادة إنتاج أشكال العلاقات الاجتماعية والانتماءات ما قبل الرأسمالية كالطائفية والعشائرية، وإلى إعادة الاعتبار للثقافة الدينية كإيديولوجية سياسية، وحزب سياسي ديني الشكل.

طرح العلمانية كخيار
لإنجاز التحديث العربي هو طرح سياسوي
هكذا يعيد النظام الرأسمالي الطرفي التابع أو الكولونيالي إنتاج نفسه بحكم أزمته التاريخية، كنظام طائفي. والطائفية بهذا المعنى هي شكل تمظهر النظام السياسي الكولونيالي من موقع النظر البورجوازي. يظهر هذا النظام لجماهير الكادحين الواقعين تحت سيطرة الإيديولوجية السائدة كنظام طائفي وليس نظاماً كولونياليا متخلفاً [1] . إن الانسداد الذي عبر عنه النظام العربي الحديث في شكله الليبرالي أولاً ثم في شكله الحكومي المدوّل ثانياً هو الذي يهدد اليوم بعودة الشكل القديم للصراع لغة وتنظيماً [2] أي يعيد إنتاج اللغة الدينية والمسجد والحزب الديني كأدوات للعمل السياسي الراهن. لكن هذا الانسداد ليس سوى التعبير المنطقي عن العجز التاريخي للنظام الكولونيالي كنظام رأسمالي طرفي تابع ومتخلف، بحكم طبيعة ولادته التاريخية والتي تزامنت مع المرحلة الإمبريالية في الرأسمالية والتي هي أي الإمبريالية تيار مضاد للميول «الطبيعية للرأسمالية»، نما هذا التيار بحكم الأزمة العامة للرأسمالية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وعلى أرضية النمو السياسي والتاريخي للبروليتاريا الأوروبية. إن الكولونيالية كنظام رأسمالي طرفي متخلف هي الوليد المسخ للنظام الإمبريالي الرأسمالي، وهي الجانب الذي يفضح حقيقة هذا النظام.
يحتل المستوى القومي في تحديد مفهوم الأقلية امتيازاً على أرضية تحدّيه للكولونيالية الرأسمالية نهاية القرن التاسع عشر بالنسبة للمنطقة العربية. ولهذا التحدي غرضان، الغرض الأول هو التعبير عن استجابة حديثة بحجم التحدي الكولونيالي الرأسمالي، والغرض الثاني هو متطلبات التحديث الاجتماعي الاقتصادي والسعي لبناء السوق القومية العربية وإنجاز التصنيع، لأنه من دون ذلك تبقى الاستجابة والمواجهة للغزو عاجزة. لقد استطاعت القوى الاستعمارية الأوربية اجتياح الولايات العربية الخاضعة لحكم الامبراطورية العثمانية على أرضية تفوق نمط الإنتاج الرأسمالي على التشكيلات ما قبل الرأسمالية كالتشكيلات الخراجية في المشرق العربي والإقطاعية في أوروبا. إن أثر هذا الغزو في البنى المحلية هو ما نسميه بالخصوصية العربية أو تميز البنى العربية. ويتطلب عقل هذا الديالكتيك نقداً جذرياً للبنى المتأخرة ونقداً للتراث القومي العربي ومنه الديني من جهة، وتبني خيار تاريخي لبناء التحديث العربي من ضمنه بناء إيديولوجية تهيمن على عملية التحديث وتربط أجزاءها المتباعدة. ولقد أشير إلى الاشتراكية الماركسية/ الديمقراطية كمرشحة لتلعب هذا الدور الهيمني مأخوذة كلحظات ثلاث: لحظة تعليمية، ولحظة إنتاج علم تاريخي اجتماعي بالعصر وبالخصوصية العربية، ولحظة إيديولوجية عضوية وممارسة سياسية، أي نظرية عصرية هنا، وحزب سياسي اشتراكي. بهذا المعنى يكون الماضي منقوداً والمستقبل مشغولاً. ويمكن أن نشير هنا إلى الرابط الذي أعلنته الأحزاب الاشتراكية العقائدية، كالبعث والاتحاد الاشتراكي العربي، الرابط بين تجاوز الطائفية من جهة وتبني الاشتراكية كمشروع موجه نحو الأمام من الجهة الثانية، لكن الذي تبين لاحقاً أن الاشتراكية المقصودة لدى هذه الأحزاب كانت اشتراكية عقائدية أو اشتراكية فظة بحسب تعبير ماركس في البيان الشيوعي، وتقوم هذه الاشتراكية العقائدية على أساس تحويل في التوزيع لا على أساس تحويل في علاقات الإنتاج الرأسمالية الكولونيالية، أي أن هذا «التحويل» يبقى في دائرة الملكية الخاصة الرأسمالية وبالتالي يُبقي على التبعية، ويعيد هذا «التحويل» إنتاج العلاقة الطائفية كعلاقة كولونيالية، أي كتمظهر إيديولوجي وسياسي للرأسمالية الطرفية التابعة الرثة.
السلفية الدينية مهزومة سلفاً لأنها تشبه محطمي الآلات من العمال الثائرين الناقمين فجر صعود الرأسمالية، وهي لذلك تخرج التحديث العربي من حساباتها، وتخرج شكل الملكية أيضاً، إنها ردة فعل دوغمائية/ غوغائية تجاه الغرب الإمبريالي وردة عاطلة ورجعية موجهة نحو ماض ولّى زمنه.
لكن ما يعطيها كل هذا الاندفاع والجبروت هو استخدام الغرب الإمبريالي لها وتوجيه طاقة هذا المسخ بشكل مضاد للتقدم والبناء الوطنيّ الحق، يجري هذا الاستخدام لتخريب وتدمير كل البلدان التي يمكن أن تعمل على مناهضة الأوضاع الإمبريالية، خصوصاً تلك التي تحاول شق طريق تنموية مستقلة نسبياً عن التوجيه الغربي. بهذا المعنى تستخدم الإمبريالية لا سيما الولايات المتحدة الأميركية طاقة هذا المسخ الغريب بشكل مضاد لكل محاولة بناء وطني حق من روسيا إلى الصين إلى إيران، الخ. وقد استخدمت بعض مشيخات الخليج كالسعودية وقطر هذا المسخ التاريخي لتخريب كل من سوريا والعراق ومصر وليبيا، وهي ما كانت تسمى من قبل بالدول العربية «التقدمية»، في سبيل إطالة عمر العجوز الشمطاء المتبرجة المأفونة بالزهو الكاذب والمدهونة بالنفط الخام.
تصنف الأقليات السوسيولوجية على أساس ديني أو إثني عندما لا تميل للتعبير عن نفسها سياسياً أي عندما لا تعبر عن نفسها عبر الحزب السياسي. أما أن يبقى هذا التصنيف مع تحول الفرق الدينية إلى أحزاب سياسية، والتعامل مع مفهوم الأقلية على أساس ديني (أقلية مسيحية وغالبية مسلمة سنية على سبيل المثال) فهذا ليس سوى ضرباً من التوصيف الظاهري والانتروبولوجي الوضعي غير النقدي الذي يتعامل مع الفرقة الدينية وكأنها ما تزال تعيش شرطها في النمط الخراجي للإنتاج في العصور الوسطى، وضمن سيادة الدين الإسلامي كمهيمن على جميع مناحي الحياة الاجتماعية الاقتصادية. لكن مع هيمنة الأوضاع الإمبريالية في المراكز الرأسمالية، وفي الأطراف حيث تعبر هذه الأوضاع عن نفسها على شكل علاقات كولونيالية (علاقات تبعية وتخلف)، ينقلب الوضع وتغدو الطائفية شكل تمظهر النظام الكولونيالي والعلاقة الكولونيالية. أي تغدو الطائفية شكلاً للأوضاع الإمبريالية في أطراف النظام الرأسمالي. بكلام آخر تغدو الطائفية كنظام سياسي التعبير الأبرز للأوضاع الإمبريالية في أطراف النظام؛ بالتالي التعبير الأكبر للتخلف.
بمجرد أن تعبّر الفرقة الدينية عن نفسها سياسياً تكون قد دخلت في التصنيف القوموي/ السياسوي، أي دخلت على خط الطموح للسيطرة على سلطة الدولة أو بناء دولة حزبها. ومثال ذلك الأقلية اليهودية التي تبنت وجهة نظر الحزب الصهيوني. والصهيونية طائفية بهذا المعنى وعصبوية، فهي وضع إمبريالي، أي مرتبط عضوياً بالظاهرة الإمبريالية؛ فقد «كانت إيديولوجية القومية البورجوازية التقدمية قد تحولت، في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، وقت ظهور الصهيونية، إلى إيديولوجية التوسع الإقليمي على حساب الشعوب، وبهذه الإيديولوجية اقترنت الصهيونية لا بغيرها» [3]. لقد سخّرت الحركة الصهيونية الدين اليهودي لخدمة السياسة، حين استغلت «اضطهاد الأقليات اليهودية في شرق أوروبا لغرض السياسة الإمبريالية الرامية إلى تأمين سيطرتها» [4] وبالتالي يقوم وجودها على إنكار الطوائف الأخرى. ومن هنا فهي قومية رجعية وليست مشروعا قومياً ديمقراطياً متقدماً بالمعنى الاجتماعي/ التاريخي. والقومية كمهمة ديمقراطية كبرى هي مهمة رئيسية من مهمات الاشتراكيين/ الديمقراطيين العرب.
مثال آخر للأقلية السياسوية أو الجماعات العصبوية هو الجماعة الدينية الإسلامية التي شكلت أحزابها السياسية كالإخوان المسلمين والجماعة الدينية المسيحية كالمارونية السياسية. أي التي عبّرت سياسياً وليس ثقافياً عن وجودها الاجتماعي. وعلى هذا الأساس تعامل الجماعة الدينية السياسية على أساس برنامجها السياسي وليس على أساس معتقدها الديني أو تميزها الثقافي. أي تُخضع هذه البرامج السياسية والحزبية للنقد والتفنيد. ويكون الموقف التكتيكي منها على أساس نتائج هذا النقد وذاك التفنيد. كذلك تعامل من ناحية منهجية على أساس عصبويتها وطائفيتها والتي تحمل مفارقة تاريخية في وجودها كجماعة سياسية: فهي تدعو لتجاوز الوضع السائد ولو لمصلحتها لكنها بعصبويتها وطائفيتها تكرس السائد وتعمقه، فهي بطبيعتها عقبة ذاتها في دعوتها لتجاوز ما هو قائم. لكن يفترض أن نشير إلى أن العصبوية السياسية هي شكل للنظام البورجوازي الطرفي السائد، والذي بدوره يشير إلى طور أزمة البورجوازية كطبقة عالمية في المراكز وفي الأطراف. بالتالي تكون السلفية الدينية العالمية ومنها الإسلامية وتنظيماتها الجهادية العابرة للحدود إحدى تمظهرات أزمة النظام الإمبريالي الرأسمالي القائم. إذ تعبر هذه الأزمة عن نفسها بتحوّل الثقافي إلى إيديولوجي وبالتالي إلى سياسي، أي تنخرط الفرقة الدينية في الصراع الاجتماعي كأحزاب سياسية دينية، بالتالي التأسيس لنظام الطوائف الكولونيالي. تتساوى الجامعة الإسلامية (الخيار الإسلاموي) مع الجامعة القومية (الخيار القوموي) في طرحهما المربك والمفارق لمسألة الأقليات. فالجامعة الإسلامية تنبذ بحكم تعريفها نفسه غير المسلم، والجامعة السياسية القوموية (ذات النزعة القومية الشوفينية) تنبذ بحكم تعريفها الأقليات القومية الأخرى. الأولى تتبنى الشرع الإسلامي بينما الثانية تتبنى علمانية تلفيقية. «إن القصور النظري في الفكر الإسلامي السائد، بالنسبة لتحقيق المساواة التامة للأقليات غير المسلمة، قد يقابله قصور نظري مماثل في الفكر القومويّ بالنسبة للأقليات القومية غير العربية في الوطن العربي»[5] .
العلمانية والمواطنة مفاهيم حديثة جاءت بها البورجوازية الأوروبية زمن صعودها أو في مرحلتها الديمقراطية 1500-1850. طرح العلمانية كخيار لإنجاز التحديث العربي هو طرح سياسوي حيث يقتصر هذا المفهوم على البنية الفوقية. العلمانية قد يطرحها الاشتراكي أو الاشتراكي الماركسي أو الليبرالي العربي. العلمانية كتحديد معزول عن الخيار الاجتماعي الاقتصادي تجريد يراد منه إبعاد الشرع والفقه الديني عن الصراعات الاجتماعية، وإبعاد التأثير الديني في البنية الفوقية السياسية التي هي الدولة والحزب السياسي الحديث؛ إبعاده عن طريق الوعظ. أي فصل الدين عن السياسة بطريقة تبشيرية. إن هذا الطرح هو طرح سياسوي إيديولوجي مقطوع عن أساسه الاجتماعي الاقتصادي. فحين طالبت البورجوازية الأوربية الصاعدة بفصل الدين عن الدولة كان لديها خيار تاريخي اجتماعي – اقتصادي متقدم. كان كفاح البورجوازية الصاعدة الديمقراطية ضد الكنيسة الكاثوليكية كبنية فوقية سياسية وإيديولوجية للإقطاع الأوروبي كفيلاً بإنجاز هذا الفصل بين الدين والدولة، من دون أي افتعال تاريخي. الدعوة العلمانية المعزولة عن خيار تاريخي يتجاوز النظام الكولونيالي كنظام رأسمالي طرفي تابع ومتخلف ، تبقى دعوة شكلية معزولة وسطحية. ولا تأخذ كامل أبعادها التاريخية إلا بتعاضدها مع الديمقراطية/ الاشتراكية كدعوة لتجاوز العلاقة الكولونيالية والنظام الكولونيالي. أي لتجاوز سيطرة البورجوازية الطرفية الرثة المتخلفة.
المقاربة الديمقراطية/ الاشتراكية لمسألة الأقليات تجد تعبيرها الأساسي في اعتبار المسألة القومية العربية مهمة ديمقراطية كبرى من مهمات البرنامج الديمقراطي/ الاشتراكي، وبالتالي تجد حلها التاريخي في بناء الغالبية القومية أي مشروع بناء الأمة، وإنجاز مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي. فتحرر الغالبية الشعبية والقومية هو تحرر الأقليات القومية الأخرى. لهذا السبب نقول إنه «لا يمكن لغالبية شعبية وقومية أن تكون متحررة حقاً وديمقراطية حقاً إذا لم تحرر الأقليات القومية الأخرى معها، وتُجري حق المواطنة على الجميع».
* كاتب وباحث سوري
هوامش
[1] مهدي عامل «مدخل إلى نقض الفكر الطائفي» الطبعة الثانية دار الفارابي 1985 ص 240
[2]برهان غليون: المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات دار سينا ص 28
[3] الدكتور إميل توما: جذور القضية الفلسطينية ط 1973 ص 49
[4] الأممية الشيوعية والثورة العربية، الكفاح ضد الإمبريالية، الوحدة، فلسطين، وثائق 1931 ترجمها وقدم لها الياس مرقص دار الحقيقة بيروت 1970 ص 158
[5] المستشار طارق البشري «في المسألة الإسلامية المعاصرة – بين الإسلام والعروبة دار الشروق 1998 ص 53


الملف الماركسي :
عبد العزيز الخيًر:
حول أزمة الحياة السياسية في سورية (1)
(كانون أول 2009)

تعيش سورية تحولات شاملة في ميادين البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بتسارع كبير في السنوات الأخيرة. الأمر الذي رتب، وسيرتب أكثر في المستقبل المنظور، نتائج كبرى في حقل السياسة، بما فيه من قضايا يمكن أن تطال ما ينظر إليه اليوم كثوابت وطنية ـ تاريخية (اجتماعية، سياسية وثقافية) مميزة للمجتمع السوري. بل ويمكن أن تطال بعض أبرز سمات الهوية والشخصية السورية التي ميزتها تاريخياً، لا سيما في القرن العشرين. وينطوي الأمر على احتمالات خطيرة على المجتمع، كما على الكيان السوري نفسه. هذا في حين ما تزال القوى السياسية السورية على تنوعها في الموالاة والمعارضة (مع حفظ الفوارق)، غارقة منذ سنوات طويلة في أزمات متنوعة، تجعلها ضعيفة الفعالية والتأثير في الواقع إلى حد كبير. ويكاد الفعل السياسي ينحصر في دوائر القمة الطبقية والسلطوية شديدة الضيق، بالإضافة إلى الدوائر الإقليمية والدولية طبعا، الأمر الذي يجعل هذه الأطراف وحدها هي من يصوغ الواقع والمستقبل السوريين وفق مصالح أطرافها وتفاهماتها وصراعاتها، في ظل غياب كبير للشعب، وضعف شديد للقوى المعبرة عن مصالحه وطموحاته يبقيها خارج معادلات الفعل والتأثير.
فإلى متى سيستمر هذا الحال؟ وهل تنطوي القوى والأحزاب السياسية المعارضة وتحالفاتها القائمة أو التي يمكن أن تقوم، على ما يكفي من المقدرة والجدارة لمواجهة أزماتها وتجديد نفسها، لتكون بعد تجددها، جهة مؤهلة لملاقاة التحولات الجارية والمرتقبة، تطوق مخاطرها وتلعب دورها في صياغتها، بما يفتح طريق التقدم نحو مستقبل ديمقراطي يكون للشعب فيه كلمة ودور (على الأقل، إن لم يكن صاحب الدور الأساسي كما يفترض)، في شؤون السياسة التي تعنيه، بدل أن يكون مجرد موضوع لها، لا صوت له ولا رأي، كما هو حاله منذ أربعة عقود؟
أم إن هذه القوى لم تعد سوى جزء من ماض يحتضر، وتحتضر معه، بحيث أن ولادة قوى جديدة حية وفاعلة، تعبر عن مصالح الشعب، وتتوفر على المعرفة والعزيمة الضروريتين لاستنهاض أصحاب المصلحة في المستقبل المنشود، وقيادة نضالهم على طريقه، باتت أمرا تقتضيه الضرورة، يتعين ترقبه والعمل لأجله، وستفضي الحياة إليه على كل حال، شاء من شاء وأبى من أبى؟

* * *

لا تخفى أزمة الحياة السياسية في سورية على عين: في المجتمع ككل، عند حزب النظام، عند حلفائه، عند المعارضة، وبالتأكيد عند جماهير الشعب الواسعة. وحدها النخبة الضيقة للنظام مع شريكتها المتعاظمة القوة: بورجوازية السوق (وما يخضع للأولى من أجهزة تراقب وتدرس مختلف المعطيات والظواهر المادية والمعنوية، الداخلية منها والخارجية، لتضع بالنتيجة أرضية الخيارات الممكنة بين أيدي تلك النخبة لتختار وتقرر)، هي التي تحتكر الحياة السياسية السورية بصورة شبه تامة.
هذه النخبة ذاتها هي التي توجه وتقود عمل أجهزتها الأمنية والإعلامية بكل شراسة لإبقاء المجتمع بكل ما فيه مجرد موضوع للسياسة، خاضع ومنفعل، فتحاصر وتخنق (وتضرب حين ترى ضرورة لذلك) أي بادرة تأتي من خارجها للعب دور ما في الميدان السياسي، مهما يكن أوليا وبسيطا، حتى لو كان محاولة مواطنين أفراد قول كلمة أو إسماع صوت في هذا الشأن (مثقف ما، أو ناشط في مجال حقوق الإنسان، أو شاب ينشر، بكل براءة وحمية الشباب، رأيا على الإنترنت، أو حتى مواطن بسيط يضيق صدره بما يعيشه من واقع يراه ظالماً وفاسداً، فيرفع صوته بتظلم أو بشتيمة غضب في زحمة الشارع).
وتتواطأ بورجوازية السوق مع النخبة المذكورة تواطؤاً تاماً، بالصمت المطبق عن الاستبداد وما يفعله بالمجتمع، سعيدة بشراكتها الناجحة مع نخب السلطة، كما بنمو استثماراتها واكتظاظ خزائنها، وبدورها الأساسي في إعادة هيكلة الاقتصاد ورسم التشريعات الاقتصادية بما يحقق مصالحها على أكمل وجه يمكن أن تحلم به.

***

لسنا هنا بصدد أزمة علاقة المجتمع بالسياسة رغم أهميتها الأساسية، وسنكتفي بإيجاز يقول: إن الديكتاتورية قد نجحت في تذرير المجتمع السوري منذ ثمانينات القرن الماضي، وزرعت فيه رهاباً عميقاً من العمل السياسي، بل وحتى من التفكير والحوار حول قضايا السلطة والسياسة بصورة جدية. ووصل الرعب بأكثرية المواطنين إلى حد تجنب كل مجلس يمكن أن يكون فيه من قد يفعل ذلك. ففقد الناس روابطهم الجمعية بعضهم ببعض، وباتوا ذرات مستفردة، يشكل الخوف من كل ما له صلة بالسياسة/السلطة مناخاً مسيطراً في دواخلهم العقلية والنفسية، ومن ثم السلوكية. حتى أن الجيلين الأخيرين من أبناء هذا المجتمع يكادون لا يعرفون عن أمور السلطة والسياسة في بلادهم سوى أنها من الأمور التي يجب على المرء تجنبها تماماً إذا أراد أن (لا يخرب بيته)، بالإضافة، طبعاً، إلى معرفتهم الحسيِّة بما يعيشونه كل يوم من انعدام القانون وشيوع الفساد وتخلف البلاد مقارنة بغيرها وزيف الإعلام... إلخ، من دون إدراك واضح لأسباب كل ذلك، ولا لكيفيات معالجته والخلاص منه.
لقد حفرت أعمال القمع الوحشية عميقاً في وعي السوريين ووجدانهم منذ مرحلة الثمانينات الدامية في القرن الماضي، فخلقت مناخاً من الخوف العميق من العمل السياسي ومن تناول قضايا الشأن العام، وإحساساً باليأس وعدم الجدوى من كل ذلك، لم يحدث ما يخرج المجتمع السوري منه حتى اليوم، وما يزال يخيم بثقله حتى على عملية التفكير السياسي (بل والاجتماعي أيضاً) عند الجمهور الواسع في المجتمع، وأيضاً عند أحزاب المعارضة وعند المثقفين، بمن فيهم أولئك الذين انسحبوا من أحزابهم (وهم نسبة كبرى) وبات قليلون منهم ينشطون كأفراد مستقلين.
ويتعمق هذا الخوف واليأس والإحساس بلا جدوى العمل السياسي جرّاء استمرار ملاحقة الأجهزة الأمنية لكل نشاط مستقل عن النظام مهما صغر، وتهديد الناشطين والضغط عليهم بطرق متنوعة، بما في ذلك الاعتقال الذي قد يمتد لسنوات، عقاباً على نشر مقال أو عقد اجتماع ما. وهو ما يبقي ذكريات ومخاوف الربع الأخير من القرن الماضي حية ونازفة على طول الخط في وجدان الناس وذاكرتهم الجمعية.
باختصار، يمكن القول بلا تحفظ إن النظام قد نجح في تحويل المجتمع السوري إلى واحد من "مجتمعات الخوف"، بخصائصها المميزة، منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وإبقاءه كذلك حتى اليوم. ولم تؤد الزلازل السياسية العديدة التي ضربت العالم والمنطقة، كما لم تؤد أية أحداث سياسية داخلية، بما فيها الفعالية المحدودة للمعارضة، إلى تغيير هذا الوضع.

***

لسنا أيضا بصدد أزمة حزب النظام الذي تضم سجلاته أسماء أكثر من مليون ونصف المليون مواطن، وهو المتروك منذ سنوات طويلة للإهمال والتهميش، بعد أن تم منذ عقود إفراغه من أي دور فاعل في صنع السياسة، وحوّله إلى جهاز تنفيذي منفعل كأي جهاز إداري/أمني من أجهزة الدولة، يجري تفعيله بصفته هذه عند الضرورة، ويترك عند انتفائها ليغط في سبات عميق كما هو الحال منذ مؤتمره الأخير، في حين تتحول سياسات النظام الذي يحكم باسمه، وتسير في كثير من القضايا في خط مناقض تماما لأهدافه وشعاراته التي جرى العمل بصمت وبنفس طويل لسحبها من التداول، حتى باتت منذ سنوات قشرة فارغة ومهترئة.
أما حلفاء النظام من الشيوعيين التقليديين، في (الجبهة وخارجها)، فهم بدورهم غارقون منذ سنوات طويلة في صيرورة احتضار وفقدان للهوية والماهية السياسية منذ البيريسترويكا، تحولوا بنتيجتها إلى بقايا ومزق أحزاب، بعد أن أضاعوا البوصلة، وانسحبت النسبة الكبرى من الأعضاء من صفوفهم، وتشظى من بقي فيها وفق مصالح بعض القيادات، وأصبح وجود تلك الشظايا معلقا بصورة تامة بقرار النظام الذي يمدها وحده بمصل الحياة السياسي والمادي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

***

رغم أهمية كل ما سبق، مما قد نعود له لاحقا، فإن أزمة المعارضة (ونحن جزء منها) هي ما يهمنا أكثر لأنها الطرف الذي يفترض به أن يكون الرد على هذا الواقع، ومشروع البديل المستقبلي له، فهل هي كذلك اليوم؟ أم إنها باتت (أم تراها كانت وما زالت؟) جزءا من الواقع المرفوض، من ركوده وتخلفه وأمراضه، يتعين على الباحثين عن مستقبل لشعبهم ووطنهم أن ينفضوا أيديهم منها، وأن يبحثوا عنه خارجها، وفي مواجهتها، كما في مواجهة الواقع البائس نفسه؟
ثمة الكثير من اليافطات والحالات الحزبية، والعديد من الأطر التحالفية، وأكثر من ذلك بكثير من الشخصيات (المستقلة)، التي تصر جميعا على حقها وواجبها في تكوين رأيها وقول كلمتها في الشأن العام، رافضة الخضوع والاستقالة من السياسة والمسؤولية العامة تجاه مجتمعها ووطنها، ومتحملة في سبيل ذلك ضغوطاً ومخاطر عديدة، بشجاعة وثبات يزيدان أو ينقصان هنا وهناك، ولكنهما يستحقان التقدير على كل حال بالمقارنة مع بقية المجتمع السلبية تماما.
رغم ذلك، وفي العقد الأخير الذي شهد قدراً من الحراك والدينامية في الشروط الموضوعية مختلفاً عن ما قبله (1)، وشهد نشاطاً أوفر إلى حد ما لهذه المعارضة (2)، فإن فعاليتها وكيفية تعاملها مع ذلك الحراك، وما انطوى عليه من إمكانات وفرص، ظلت شكلا ومحتوى أقل من أن تؤثر فعليا في ميدان السياسة الواقعي.
وأسوأ من هذا أنها ظلت أقل من أن تترك أثراً إيجابياً في وعي الجماهير أو وجدانها، ولا حتى في قطاعات أو أعداد مهمة منها. والأسوأ مما سبق أنها لم تترك أثراً إيجابياً حتى على أوضاعها الذاتية ـ الحزبية نفسها!
ولأن السياسة لا تعرف الفراغ، ولا يمكن أن تكون محصلتها حيادية (فهي إما سلبية أو إيجابية)، فإن ذلك يعني أن المعارضة بمحصلة عملها في العقد الأخير (في شتى الحقول: الفكر، البرنامج، التنظيم والممارسة)، قد راكمت سلباً في وجدان ووعي الأوساط الاجتماعية الضيقة التي تصل إليها، كما في وجدان ووعي النخب القليلة من الناشطين والمهتمين بالشأن العام، بمن فيهم أولئك المنتظمين في أطرها نفسها... وتسبب أداؤها وواقع حالها في زيادة الإحباط واليأس من إمكانية إحداث تغيير إيجابي أيا يكن في الوضع السياسي السوري، كما في زيادة اليأس من قوى المعارضة وجدارتها في إنجاز، أو حتى تحقيق تقدم حقيقي نحو إنجاز، أي شيء من الأهداف والمهام التي ترسمها وتؤكد ضرورة إنجازها.
ويزيد سواد اللوحة ومأساويتها أن الملايين من الشعب السوري، لا سيما من الأجيال الشابة، باتت لا تعرف شيئا عن أحزاب هذه المعارضة، سوى الصورة السلبية التي يروجها النظام عنها، وأن أكثريتها لم تقرأ ولم تتواصل مع أي نشاط أو وجود مباشر لها، الأمر الذي نعتقد أنه ملموس بوضوح على أوسع نطاق، ويصعب أن يكون موضع جدل، إلا من باب المكابرة والتهرب من مرارة الحقائق وقسوتها.
في واقع كهذا، يمكن القول من دون الخشية من التجني على أحد، ومن دون التقليل أبداً من تقدير جهود وتضحيات بعض القوى والكثير من المناضلين، وهي كبيرة وقاسية، بأن المعارضة السورية بكل تلاوينها ما زالت جزءاً من الأزمة العامة للحياة السياسية السورية، تسهم في تكريسها واستمرارها (على عكس ما يُراد ويُتمنى)، بدل أن تكون رداً عليها وطريقاً للخروج منها، وستبقى كذلك بل سيزداد دورها سلبية، ما دام حالها على ما هو عليه.
بقدر ما سيشعر بعض النشطاء والمناضلين بأن هذا التقييم قاس بحق المعارضة، فإن كثيرين منهم سيقولون أن لا جديد فيه، وأنهم يعرفونه ويعيشونه منذ سنوات طويلة. وستقول أعداد أكبر بكثير من هؤلاء جميعاً، (ونقصد أولئك الذين استنزف النضال طاقاتهم وأنهك أرواحهم، فقرروا الاستقالة منه صراحة أو مواربة)، إنهم وصلوا منذ سنوات إلى نتيجة مماثلة، وبنوا على الأمر مقتضاه، الذي هو بالنسبة لهم: الاستقالة!
فما الذي أوصل الوضع إلى هذه الدرجة من البؤس؟ وما الذي يبقيه على هذه الحال؟ أين تكمن الأسباب، وهل يفسر القمع المستمر هذا العجز، أم أن للمعارضة حصتها من المسؤولية أيضا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فكيف وأين؟ وهل من مخرج أو مخارج ممكنة من الأزمة تعيد الحيوية والفاعلية للمعارضة السورية، وتعيد لها اعتبارها وموقعها كرد على أزمات الواقع وطريق لتجاوزه؟ أم إن اضمحلال وموت الأطر الراهنة لأحزاب المعارضة وتحالفاتها بات أمراً حتمياً، وليس سوى مسألة وقت يقتضيه الاحتضار البطيء حتى يصل إلى نهايته الحتمية؟
للمعارضة مسؤوليتها دون ريب، إذ لا يمكن الزعم بأنها نجحت من حيث الجوهر في فعل ما يتوجب فعله، وأن قسوة الواقع (التي لا خلاف عليها) هي وحدها السبب في الوضع الراهن للمعارضة. ثمة الكثير مما يستوجب النقد والمراجعة واستخلاص العبر والدروس. أما كيف وأين، وهل ثمة مخرج من الأوضاع الراهنة المؤسفة، وكيف؟ فهذا ما سنحاول مقاربته في نصوص تلي، نأمل أن يكون فيها ما يفيد. وندعو كل مهتم للمشاركة برأيه عبر أي وسيلة نشر متاحة له، (بما في ذلك هذه الجريدة)، فالقضية كبيرة ومتشعبة وتحتمل قراءات متنوعة، ولا يمكن أن يكون الجواب عليها بسيطاً ولا أحادياً، ناهيك عن كونها قضية رئيسية تعني كل قوى المعارضة السورية، وكل الناشطين والمثقفين المهتمين بشروط وجودهم، كما ببلادهم وشعبهم، على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم.
إنها دعوة للتفكير النقدي المسؤول، ولوقفة مع الذات والتجربة خلال العقد المنصرم الذي فيه الكثير مما هو استمرار لما قبله بالنسبة للمعارضة، وفيه بعض الجديد، والذي يصعب أن تكون حصيلته موضع رضى من أحد، (سوى النظام والطبقة التي تجني الثروات في ظله!) في محاولة لتلمس طريق يفضي إلى تجاوز هذا العجز المزمن.
، كانون الأول ـ 2009)



حول أزمة الحياة السياسية في سورية (2)
عبد العزيز الخير
محاولة في نقد التجربة خلال عقد من الزمن
(آذار 2010)

مع بدء ما سمي إعادة البناء (البيريسترويكا) في الاتحاد السوفياتي اواسط ثمانينات القرن الماضي، بدأت الاحزاب الشيوعية الستالينية في العالم بالاهتزاز بعنف، فكرياً وسياسياً وتنظيمياً. ثم تصاعد الاهتزاز بسرعة كبيرة، بحيث لم تمض سبع سنوات حتى انهارت (المنظومة الاشتراكية) بالكامل، وانهارت معها المدرسة الستالينية في كل أنحاء العالم، بدوي هائل. وكان حتمياً أن تطال اهتزازات ذلك الانهيار الفكر الماركسي نفسه، ولا سيما الماركسي اللينيني منه، بحكم ضخامة البناء الستاليني العالمي الذي كان ينظر إليه من قبل معظم البشرية كتجسيد وحيد لا يعرف غيره للمشروع الماركسي ـ الشيوعي (وذلك خطأ أكيد)، لا سيما عند مقارنة حجمه وإمكاناته ببقية الاتجاهات الماركسية في العالم، الناقدة للستالينية بدرجات متفاوتة من الجذرية، والتي وصلت مع ماركسيين كثر إلى اعتبار الستالينية وتشويهها للفكر والمشروع الاشتراكي أكبر تشويه لحق بالماركسية في تاريخها كله.
وفاقم تلك الاهتزازات والانهيارات ذلك الهجوم المنهجي الكاسح الذي سارعت إليه مراكز الفكر والسياسة والإعلام الرأسمالي العالمية، مستغلة القفزة الهائلة في سطوة الإعلام بعد بدء البث الفضائي وعصر الإنترنت، هادفة إلى تدمير كل مرتكزات الوعي الثوري المناهض للرأسمالية الذي أنتجته البشرية التقدمية خلال قرنين من الزمن، بأمل جعل هزيمة المشروع الاشتراكي العالمي والفكر التقدمي في العالم، نهائية وأبدية، عبر تدمير وتشويه الفكرة والحلم وكل مرتكزاتهما الفلسفية والمعرفية، وكل ما هو نبيل وصحيح ومتفوق فيهما، ربطا مع تشويه وطمس التجارب والرموز والقادة والزعماء والوقائع والإنجازات الهائلة، في الوجدان والتاريخ الإنساني، ومن ثم إلقاء كل الحطام الناتج عن ذلك في ظلمات الكراهية والإلغاء، لتصبح الراسمالية بعد هذا كله هي المشروع الوحيد والامل الوحيد الذي لا منافس ولا بديل له لمستقبل المجتمعات البشرية، وإنسانية الإنسان.
هكذا، راجت مصطلحات الإيديولوجيا الإمبريالية الجديدة الصاخبة: موت الماركسية، موت الشيوعية، موت الايديولوجيا، نهاية التاريخ، وأمثالها. وأصبح الحديث عن الطبقة العاملة والصراع الطبقي والاشتراكية والإمبريالية والوطنية والقومية، وعن الحزب الثوري والنضال والكفاح والتضحية والثورة والتحرر الوطني والسيادة الوطنية... (لغة خشبية)! في حين جرى الترويج بكثير من البريق والصخب لمصطلحات أريد لها أن تمسح كل ما عداها، وأن يفهم التاريخ وحركته، والعالم والمجتمع وصراعاته، من خلالها بصورة رئيسية، إن لم تكن حصرية، كالحضارة والحداثة والعصرنة والعولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان الفرد (شطبت من القائمة حقوق الشعوب والأمم) والازدهار والمجتمع المدني والجمعيات (كبديل للأحزاب)... إلخ... إلخ. وذلك كله بمحتوى يربط كل حركة التطور التاريخي، المادي منه والروحي، بالامبريالية واكتساحها للعالم والمجتمعات وبقيمها وثقافتها، ويروج للخضوع لها والالتحاق بها بأسرع وقت، (كقدر وحيد لا بديل له سوى الركود والتخلف ومن ثم الفناء) قبل أن يفوت القطار المنطلق نحو الفردوس الأجمل لمستقبل البشرية، فردوس الرأسمالية السعيدة... بقيادتها!
وهكذا أصبح لينين لا يذكر إلا كرمز كريه ومنفر، لأنه المسؤول عن كل جرائم الستالينية، وبات المشروع الإشتراكي وهماً لا يؤدي إلا إلى الرأسمالية (التي هي قدر البشرية الوحيد) عبر الطريق الأصعب والأطول والأكثر مأساوية! وباتت السيادة الوطنية فكرة رجعية يجب أن تخلي الساحة للفكرة التقدمية: الالتحاق بالإمبريالية وفتح كل الحدود لها... إلخ.
وجرى هجوم شامل على فكرة الحزب المنظم بحد ذاته، وعلى فكرة الانضباط والمركزية الديمقراطية (التي شوهت بشدة على يد الستالينية أولاً، ومن ثم في الإعلام الإمبريالي)، وتمت مماهاة كل ذلك بالحزب الستاليني الذي لم يكن في الحقيقة سوى تشويه قاتل للحزب اللينيني، أفقده ديمقراطيته وحيويته الداخلية ووظائفه الإبداعية، وحوله إلى منظمة بيروقراطية لا دور لها سوى تنفيذ الأوامر التي يصدرها زعيم الحزب الأوحد... ولم يكن لكل ذلك الهجوم إلا أن يشحن المناضلين ضد فكرة الانتظام في حزب، وضد فكرة تنظيم القوى وتوجيه فعاليتها، لتظل بالنتيجة مشتتة ضعيفة الفعالية والقدرة السياسية، يسهل التلاعب بها وتصفيتها حين يلزم.

* * *

على المستوى السوري كان العقد الماضي عقد انتقال قيادة الدولة والسلطة بكل مؤسساتها إلى أيدٍ جديدة، وهي عملية فيها من التعقيد والتحديات الكثير. لا سيما لجهة ما تتطلبه من ضمان لاستقرار ولاء الأجهزة الأساسية للسيطرة، واستمرار فعاليتها، وضبط للجمهور المتعطش للتغيير بعد ثلاثين عاما من الديكتاتورية القاسية، وضمان القبول والاعتراف الإقليمي والدولي الذي تمس الحاجة إليه في بلد محدود القدرات والمساحة والسكان، يقع في قلب منطقة شديدة الاضطراب، وتكثر فيها التحديات الداخلية والخارجية إلى درجة قد تهدد وجود البلد نفسه، وليس سلطته أو دولته فحسب. وجاء احتلال بغداد في سياق مشروع الشرق الأوسط الكبير ليرفع المخاطر والتهديدات إلى مستوى شديد السخونة، وليتبعه بلا إبطاء تفاهم أميركي ـ فرنسي على تغيير الوضع في لبنان ومباشرة الضغوط والحصار على النظام لإخضاعه سياسياً واقتصادياً للمشروع الجديد بلا قيد أو شرط، كحلقة يتعين إسقاطها لاسقاط سائر حلقات المحور الذي يندرج فيه مع إيران وحزب الله وحماس، ذلك المحور الرافض لمشروع الشرق الأوسط الكبير. وقد استمرت تلك الضغوط حتى نهاية العام 2008 عندما فشل العدوان على غزة في إسقاط حماس، كما فشلت قبله محاولة استئصال حزب الله في لبنان 2006.

* * *

في هذا المناخ العالمي والإقليمي والمحلي الذي يدفع الفكر والوعي السياسي نحو التشوش وتضييع الاتجاهات، وحتى الخبل واختلاط الذهن في بعض الحالات، كان على القوى والأحزاب السورية المعارضة التي عانت القمع الشديد ومساعي الإخضاع والإلحاق بالنظام على امتداد ثلاثين عاماً، أن تعيد بناء نفسها تنظيمياً، وتعيد إنتاج أفكارها وبرامجها وطروحاتها السياسية، وأن تحتل موقعها في ميدان السياسة والفعل دون إبطاء، فالأحداث كانت تتوالى بسرعة عاصفة، والزمن لا ينتظر أحداً. ومن الأكيد أن هذه المهمة (إعادة البناء) كانت ولا تزال شديدة التعقيد والصعوبة في ظل المناخات العاصفة التي سبق عرضها.

لنبدأ بأنفسنا
"حزب العمل الشيوعي"، رد على الأزمة أم جزء منها؟
لنسارع إلى تقديم الجواب بلا مواربة، وبصراحة وشفافية نراها واجباً على كل حركة سياسية تحترم نفسها وجمهورها الذي يتطلع إليها ويساندها في أداء مهماتها التي تتنطح لها:
ما زال الحزب يعاني أزمة عميقة، بدأت في العام 1987 إثر نجاح النظام في تحطيم بنيته التنظيمية على أوسع نطاق، واعتقال مئات المناضلين، وترويع آلاف الأصدقاء والمناصرين ودفعهم للانكفاء عن كل نشاط سياسي، مما سبب أزمة (قوى) تعمقت في العام 1992 عندما اعتقلت آخر قياداته المتعاقبة منذ تاسيسه، ثم توسعت لتطال الحقلين الفكري والبرنامجي بعد الانهيار السوفياتي الشامل وتداعياته الكبرى، فكرياً وسياسياً، لتصير أزمة شاملة لكل عناصر وجود الحزب، الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية.
لم يتمكن الحزب منذ العام 2003 عندما بدأت أولى محاولات لم الصفوف، بعد سنوات السجن الطويلة لأعضائه وكوادره، وحتى اليوم، من إنجاز المهام الأساسية المتوجبة عليه، وفق المعايير المنهجية التي يضعها لنفسه، ليكون حزباً حقيقياً كما تعود أن يكون، لا سيما في ثمانينات القرن الماضي، ينطوي على مشروع متماسك لمعالجة أزمات الواقع السوري، (رؤية نظرية، خط سياسي، برنامج)، ويتجسد في بنية تنظيمية حية ومرنة وفعالة (نظام داخلي وهيئات وعلاقات مقوننة تتجسد في الممارسة وتؤمن بصورة ديمقراطية عمل العقل الجمعي والإرادة الجمعية للحزب وجمهوره)، وتمتد جذوره في الواقع الاجتماعي نفسه، علاقات ونفوذ وتاثير وتأثر ولو بالحدود الدنيا المقبولة.
فالحزب لم يقدم حتى اليوم رؤية نظرية عن الفكر والمنهج الذي يعتمده في فهم العالم والمجتمع وحركة التاريخ، ولم يقم بتأكيد فهمه الذي كان معتمدا سابقاً. فهل يتبنى اليوم الفكر الماركسي؟ أم الماركسي اللينيني؟ أم أن له رؤية أخرى تقوم على قاعدة فكرية جديدة، قد تكون ماركسية معدلة أو (مطورة؟) مثلا، أم أن ثمة رؤية مختلفة تماما عن كل ما سبق؟... وما هي؟ حتى اليوم، ورغم محاولات وجهود بذلت على هذا المحور، ليس ثمة إجابات متفق عليها، وما يزال (عدم التعيين) هو سيد الموقف، مما يترك المناخ الفكري مشوشاً وضبابياً، وهو ما يشكل نقطة تفارق صارخة مع تاريخ الحزب الذي كان شديد الوضوح والتحديد في هذا الميدان.
ولم ينتج الحزب رؤية محددة عن الطبقة السائدة وعن طبيعة السلطة في سورية (باستثناء أنها بورجوازية)، وهو الذي كان يقول إنها سلطة البورجوازية البيروقراطية التي تحكم بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن الطبقة ككل. فهل ما زالت كذلك؟ أم أن تحولات مهمة قد طرأت على تركيبتها؟
وإن كان هذا قد حصل، فبأي اتجاه، وما تأثيره على شكل الحكم إن كان قد أثر في هذا المجال؟
وماذا عن وضع الطبقة العاملة السورية وتطوراته في ربع القرن الماضي؟ هل ثمة ما هو جوهري هنا أم لا؟ وماذا كذلك عن بقية الطبقات الشعبية والتركيبة الإجتماعية؟ وماذا عن تطورات الوعي الإجتماعي والطبقي في المجتمع السوري؟ هل من تطورات مهمة أم أن الوضع ما زال على حاله منذ ثمانينات القرن الماضي؟
لم ينتج الحزب برنامجا سياسيا جديدا، لا انتقاليا ولا استراتيجياً (1)، ولم يعد اعتماد برنامجه السابق الذي تغيرت معطيات استراتيجية استند عليها، أبرزها انهيار المنظومة الاشتراكية التي كان ينظر إليها كحليف استراتيجي لمشروع الحزب السياسي، واكتفى فعلياً، حتى اليوم بعدد من الشعارات ـ الأهداف، وبتبني مقولة التطور السلمي التدريجي الآمن نحو النظام الديمقراطي، دون تحديد دور القوى والطبقات الإجتماعية في هذا التطور، وما إذا كان لبعضها دور أساسي، أو داعم أو مناهض للتحول المنشود، وأي الطبقات مرشحة لقيادة هذا التطور ويتعين بالتالي تركيز الاهتمام عليها.
ولعل الخلل الأكبر في عمل الحزب في السنوات السبع الماضية أنه لم يعد بناء هيكليته التنظيمية، فما زال الناشطون ينشطون كأفراد وفق ما يرونه مناسبا وصحيحاً، دون تحديد للمعايير والضوابط التنظيمية الضرورية في عمل أي حزب: فمن هو عضو الحزب مثلا؟ ما واجباته وما حقوقه؟ وإن كان ثمة هيئات حزبية، فما واجباتها وما حقوقها وكيف تنظم علاقاتها ببعضها البعض؟ النظام الداخلي القديم لم يعد معتمداً، ولا يوجد نظام داخلي جديد ينظم العمل والعلاقات ويحدد الحقوق والواجبات، وما زال الوضع التنظيمي بالمحصلة، وبعد سبع سنوات من بداية النشاط، هيولياً يعتمد على المبادرة الذاتية للأفراد، وهو أبعد ما يكون عن الحالة الحزبية التي تستحق اسمها (2)، لا سيما بالمقارنة مع حزب العمل المعروف تاريخياً بالتحديد والتنظيم الدقيق الشامل لبنيته وعلاقاته الداخلية كلها، وبحرصه العالي على توظيف قواه وتثميرها على أفضل ما يمكن.
لقد طرحت في العام 2004 وثيقة تدعو لتأسيس حزب يساري من طراز جديد، وظلت هذه العبارة تتصدر جريدة الحزب على مر السنين، دون تقديم التحديدات والتوضيحات الضرورية لماهية هذا الحزب ووظيفته التاريخية وبرنامجه، وبماذا يختلف عن حزب العمل التاريخي... هذا في الوقت الذي استمر الناشطون يستخدمون اسم حزب العمل كعنوان لهم، ويصدرون أطروحاتهم باسمه، مع تسليمهم جميعاً بأن الكثير من مقولات الحزب وأطروحاته ووثائقه لم يعد صالحاً (وأيضاً دون تحديد ما الذي شاخ وانقضى عهده، وما الذي ما زال حياً ومعتمداً من قبلهم)!
فهل يكفي الحديث عن تعقيد الظروف التاريخية الذي يسود المرحلة، وضخامة المهام المتوجبة الإنجاز وصعوبتها، لتفسير كل هذا التقصير والخلل؟ أم أن ثمة قصوراً في القوى وفي الوعي هو الذي لعب الدور الأهم في استمرار هذا الوضع كل هذه السنوات؟ أم أن المشكلة أساساً تكمن في تحديد خاطئ للمهام ذات الأولوية على ما عداها وفي سوء تنظيم القوى وسوء توظيفها وعدم استنهاضها كما يجب؟ أم أن ما تم فعله هو ما يمكن فعله فحسب، وثمة عجز حقيقي للقوى الراهنة عن إنجاز المطلوب؟ أسئلة يتوجب على مناضلي الحزب وأصدقائه أن يجيبوا عليها، بكل العمق والصدق والحزم المطلوب مع النفس، إذا ما أرادوا تجاوز الوضع المأزوم، والانتقال من وضع هم فيه جزء من أزمة الواقع، إلى الوضع الذي يصيرون فيه عبر حزبهم رداً على الواقع المأزوم ومشروعاً لتجاوزه.
من جهة ثانية، جسد مناضلو الحزب فاعلية سياسية ملموسة (بالمعايير النسبية في ظل الجزر والانكفاء الشعبي والنخبوي عن العمل السياسي في سورية)، وصبوا طاقاتهم بصورة رئيسية في ميدان الممارسة السياسية في الميدان الذي وجدوه أكثر سخونة وإلحاحاً مما عداه، تاركين سائر القضايا لمرتبة تالية في الأهمية، الأمر الذي يلقي بعض الضوء على أحد أسباب ضعف أو عدم الإنجاز في حقول أخرى أساسية من حقول بناء الحزب، سواء كان ذلك الحزب (حزبا يسارياً من طراز جديد) أم (إعادة تاسيس لحزب العمل).
وعلى امتداد الفترة التي مارس (الحزب) فيها فعاليته السياسية، نشط لخدمة مهام سياسية عديدة وأساسية، من حيث التوجه العام الذي حرص على تجسيده على الأرض: التوجه الوطني الديمقراطي الحقيقي والجاد، سواء في صفوف المعارضة السورية، أو في ساحة الممارسة الميدانية (الرمزية تقريباً) التي سمح الظرف بها، ولعب دور ضوء كاشف، وقوة مواجهة نشطة للعديد مما اعتبره انحرافات وأخطاء سياسية اندفعت فيها قوى معارضة نحو الرهان الأميركي ـ الأوروبي، وأرادت جرّ الحركة الوطنية كلها إليها (في "إعلان دمشق" وفي "التجمع الوطني الديمقراطي"). ولم يكن أقل شأناً أو أهمية من هذا أن يلعب الحزب دوره المبادر والفعال في التحالفات السياسية التي نشأت، وأن يكون له هويته الواضحة وفعله المؤثر فيها، وتحديداً في بناء إطارين تحالفيين جديدين (من أصل ثلاثة نشأت في سوريا خلال العقد الماضي، باستثناء التحالفات القومية الكردية التي ظلت خاصة بالأكراد السوريين) يمكن أن تكون لكل منهما أهميته النوعية في الواقع والمستقبل السوري إذا تابع طريقه بنجاح يرتجى: تجمع اليسار الماركسي (تيم)، الذي يمكن أن يصير الحزب اليساري أو الشيوعي المنشود، إذا نجح في تطوير نفسه والتصدي بنجاح للمهام التي تنتظره ليكمل مسيرته. والتيار الوطني الديمقراطي (قيد التأسيس)، الذي هو إطار وطني ديمقراطي واسع أنجز تفاهمات أساسية، وما زال أمامه طريق طويل ليثبت وجوده على الأرض كتيار وطني ديمقراطي حق، يؤمل أن يصير قوة فاعلة لتجاوز أزمات الواقع ، لا أن يغرق فيها.
لكن هذا كله يظل أقرب ما يكون إلى الفعل السياسي الرمزي الذي لم ينجح حتى اليوم في التحول إلى حركة سياسية فاعلة على الأرض، شأنه شأن فعل الحركة السياسية السورية المعارضة كلها، كونه ينحصر في إطار النخبة الناشطة الضيقة، التي تزداد ضيقاً، في البلاد، والتي تنشد أناشيدها في واد، في حين يسير ملايين السوريين بوعيهم واهتماماتهم في واد آخر، يتقاسم التأثير فيه: النظام والطبقة الحاكمة من جهة، وقوى الخارج الإمبريالي والإقليمي من جهة أخرى، كما سبق وأشرنا.
الحصيلة: عمل سياسي ملموس ذو توجهات وطنية ديمقراطية واضحة وثابتة، مبادرة ونشاط وفعالية سياسية، وتعثر متكرر في إعادة بناء الحزب، سواء كحزب يساري من طراز جديد، أو كتأسيس جديد لحزب العمل... وماذا يجدي المرء إذا كسب العالم وخسر نفسه؟
ما زال الحزب يقف على رجل واحدة على أرض الأزمة، فيما رجله الثانية لم تثبت بعد على الأرض خارج الأزمة... فأين سيهبط بها؟
فهل ما زال الحزب ينطوي على إمكانات تجديد نفسه واحتلال الموقع الجدير بتاريخه وإنجازاته وتضحياته؟ وما المطلوب فعله لتحقيق ذلك... وكيف؟ أسئلة برسم مناضلي الحزب وأصدقائه جميعاً، ولا جواب حقيقياً عليها إلا في ساحة الفعل والإنجاز.


حول أزمة الحياة السياسية في سورية(3)
عبد العزيز الخير
لطمة كبرى للمعارضة الوطنية الديمقراطية
(نيسان2010)

الموجة الليبرالية الطارئة

لمحة تاريخية عن الليبراليين السوريين:

أغلق الانتداب الفرنسي على سوريا طريق التطور الاقتصادي المستقل، وأشرع الأبواب لتطور كولونيالي. وكانت تأثيرات الثقافة الرأسمالية الفرنسية ونظرتها للحياة قد بدأت تفعل فعلها في بعض أبناء النخب السورية والعربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، لتطعّم وتزيح ببطء الثقافة والرؤية العثمانية العتيقة شبه الاقطاعية. وازدادت هذه الإزاحة سرعة مع وصول جيوش الانتداب وتقسيم المنطقة العربية وفق اتفاقية سايكس ـ بيكو. في أواخر العشرينات بدأت بعض النخب السورية من العائلات التقليدية الأكثر ثراء بإنشاء بعض الاستثمارات الرأسمالية (إسمنت، صناعة غذائية، مياه) التي تزايدت مع السنين، وأخذ قطاع الغزل والنسيج يتوسع فيها لاحقاً، بالإضافة طبعا إلى التغلغل السريع لفروع ووكالات الشركات والبنوك الفرنسية الذي بدأ مع القرن العشرين.
بعد الاستقلال تسلمت السلطة توليفة من ملاك الأراضي والإقطاعيين والتجار والرأسماليين الجدد (وكلاء شركات غربية وصناعيين)، ينحدرون جميعا من عدد محدود من العائلات التي كانت تحوز السلطة والثروة تقليدياً في سوريا في ظل العثمانيين، حيث كان شكل الملكية الرئيسي للأرض والمال هو الملكية العائلية، واستمر كذلك في الاستثمارات الرأسمالية الجديدة، مما وفر أرضية قوية للشراكة والتصالح (وليس التناقض والصراع) بين الطبقات السائدة القديمة والجديدة (الإقطاع وملاك الأراضي والبورجوازية الناشئة)، وترك آثاره الرجعية على قيم وثقافة وطموحات الرأسمالية الصاعدة، التي ولدت ضعيفة وتابعة، في حاضنة الانتداب الرأسمالي ـ الإمبريالي. وذلك على عكس ما كان عليه الحال في فرنسا خصوصاً، وأوروبا عموماً، إبّان ظهور الرأسمالية هناك، في بداية العصور الحديثة، حين كانت الشروط التاريخية لولادتها تفرض عليها أن تكون ثورية وجذرية في مواجهتها للإقطاع وثقافته ونظامه السياسي، ناهيك عن أنها ولدت في زمن لا تنافسها على سوقها القومية فيه لا إمبريالية ولا رأسمالية أخرى، فنمت بسرعة واستقلالية وقوة تحسد عليها.
يطيب لبعض المثقفين وصف الشريحة الرأسمالية السورية التي تنامت تحت الانتداب وبعيد الاستقلال بـ (الليبرالية)، وهي ليست كذلك إلا بالمعنى المجازي والنسبي حين تقارن بالإقطاع وملاك الأراضي المحليين، حيث كان ما تحمله من محتوى ودور الليبرالية الغربية مجرد تقليد سطحي ومحاولة للتشبه بالغرب الرأسمالي، ناتج عن إعجابها بمدنيته وتقدمه. فلم يتجذر فيها ذلك المحتوى، ولم تكن مصالحها تشترطه. بل الأقرب إلى الحقيقة أن تلك المصالح كانت تسوقها لتبقى محافظة وأقرب إلى اعتماد ثقافة وقيم وعلاقات الإقطاع وملاكي الأراضي الذين انحدرت من صلبهم وتتشابك مصالحها معهم. (لنراجع مثلا طروحات الحلف الطبقي الذي عاد إلى السلطة مع الانفصال، والذي كان رئيس وزرائه خالد العظم، أحد أبرز رموز من يسمون بالليبراليين. وكذلك المطالب الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية التي طرحها معروف الدواليبي، الرئيس الثاني لحكومة الانفصال، كممثل لمصالح الحلف نفسه، قبيل تصاعد حركة الإخوان المسلمين ضد النظام أواخر السبعينات).
ولعل أهم سبب دفع إلى إطلاق صفة الليبرالية على تلك الشريحة هو اعتماد نظام السوق (من دون تصفية الإقطاع)، وشكل الحكم الذي تبنته في سياق تشبهها بالرأسمالية الفرنسية.
قاد عجز التحالف الحاكم عن مواجهة المشروع الصهيوني إبان النكبة 1948، أي عجزه عن معالجة المسألة الوطنية ـ القومية، إلى تدهور كبير في مكانته ونفوذه، وتسبب في سلسلة من الانقلابات العسكرية لم تتوقف إلا عام 1954 عندما عاد التحالف نفسه إلى السلطة معتمداً شكل الحكم نفسه، في سياق موجة واسعة من النهوض الشعبي، الطبقي والقومي المعادي للاستعمار، وقد تبلورت عدة أحزاب قوية على الأرضية الشعبية ذاتها من الطبقات الدنيا والوسطى: (البعث، القوميون العرب، الشيوعي) في حين احتفظ الحلف الحاكم بحزبيه الرئيسيين: حزب الكتلة الوطنية (دمشق) وحزب الشعب (حلب)، ببنيتيهما التقليديتين، وأهدافهما نفسها، حيث لم يباليا بمشكلة الأرض التي ظلت مملوكة للإقطاع وملاك الأراضي الكبار في حين يغرق 65% من الشعب (سكان الأرياف) في الأميّة والفقر المدقع والتخلف، كما لم يكن لديهما أي مشروع لحل المسألة الوطنية والقومية، في حين استمر توسع الاستثمار الرأسمالي في قطاع الغزل والنسيج بشكل خاص. كما نمت حركة الإخوان المسلمين التي كانت (شريكاً مضارباً) لذينك الحزبين. وقاد الاحتدام الحتمي للتناقضات الاجتماعية والوطنية، إضافة إلى تصاعد التهديدات الإمبريالية والصهيونية (العدوان الثلاثي، حلف بغداد، الحشود التركية شمال سورية) إلى مبادرة عدد من ضباط الجيش المنتمين للأحزاب الشعبية لمقابلة (الرئيس جمال) عبد الناصر وطلب الوحدة مع مصر، متجاوزين السلطة وحلفها الحاكم، طامحين لبناء الدولة القادرة على معالجة المسائل المطبقة على خناق المجتمع: الوطنية والقومية والاجتماعية، فقامت الوحدة عام 1958. وبذلك انتقلت السلطة إلى يد الطبقات الوسطى والشعبية، التي حكم النظام الناصري بالوكالة عنها، وطويت صفحة ما يسمى مجازاً بالمرحلة الليبرالية التي لم تدم سوى أربع سنوات قصيرة. وعجزت ردة الانفصال التي قادها ضباط موالون للحلف الإقطاعي الرأسمالي عن إعادة تثبيت السلطة رغم إعلانها الأحكام العرفية عام 1962، (استمرت منذ ذلك الحين)، فأطيح بها ثانية في 8 آذار 1963 على يد تحالف ضباط بعثيين وناصريين، لتتم في السنوات اللاحقة تصفية جذرية للطبقات القديمة ومصادر سلطتها، ومن ضمنها البورجوازية الحديثة العهد، عبر الإصلاح الزراعي والتأميم. بهذا أخرجت تلك الطبقات من السلطة ومن الاقتصاد أيضاً، وأخرج أفرادها أنفسهم من المجتمع، حين هاجروا ليلحقوا بأموالهم التي أودعوها خارج البلاد، دون أن تترك ليبراليتهم السطحية أي أثر مهم على ثقافة ووعي المجتمع السوري. اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن من سلطتها، انقرضت تلك الشريحة الصغيرة التي نشأت في مناخ تاريخي (سياسي وثقافي) لم يعد له أثر منذ ذلك الحين.
* * *

الأصوات الليبرالية الجديدة:
بعد أربعة عقود من الديكتاتورية، وفي بدايات القرن الجديد، بدأ يظهر في أدبيات وخطاب بعض القوى والشخصيات السورية المعارضة مصطلح (الليبرالية) من جديد، ولكن ليس من أوساط البورجوازية المتجددة هذه المرة، رغم أنها الطبقة المسيطرة بامتياز في البلاد (بعد أن جرت إعادة توليدها على مر السنين، ببطء ولكن باطراد، وتنامت استثماراتها بمقاييس كبرى في العقد الاخير، وبعد أن تمت تصفية طبقة الإقطاعيين وملاك الأراضي تصفية جذرية منذ عقود، على يد الناصرية والبعث، وسادت العلاقات الرأسمالية في السوق وإلى حد ملموس في المجتمع) بل، ويا للمفاجأة، من شخصيات سياسية وحزبية تنحدر من الطبقات الشعبية، كانت تاريخيا معادية للرأسمالية بشدة، وكانت مستعدة للتضحية بسنوات عمرها وبكل مصالحها الفردية دفاعاً عن مصالح الشعب! ("حزب الشعب" الذي كان حزباً شيوعياً، عديدون من "حزب العمل الشيوعي" و"حزب العمال الثوري" والقوميون العرب والاشتراكيون العرب وماركسيون رسميون سابقون).
فما الذي ولد هذه الموجة المستجدة من الأصوات (الليبرالية) في سورية؟ هل ثمة شريحة بورجوازية جديدة تتكون، حاملة وعياً متميزاً عن بقية الشرائح البورجوازية في البلاد، وتتطلب مصلحتها مواجهة الوعي المحافظ المتخلف السائد في طبقتها وفي المجتمع، وإحلال الفلسفة والنظرة الليبرالية وشكل الحكم السياسي الديمقراطي مكانه؟ (تقديس الملكية الخاصة والنشاط الاقتصادي الخاص والمبادرة الحرة، تقديس الحريات الفردية، الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية، تقييد دور الدولة في المجتمع إلى أقصى حد وإطلاق الحرية للمجتمع المدني ليقوم بمهامها بتنظيمه الذاتي ومبادرة أفراده ومجموعاته بقيادات بورجوازية، تنظيم الحياة السياسية وفق مبادئ فصل السلطات والانتخابات وتداول السلطة... إلخ). وهل ما نسمعه من أصوات تتحدث عن الليبرالية، بالتالي، هو نبت حقيقي ذو جذور في بلادنا؟
وإذا لم يكن للشريحة التي أشرنا إليها وجود ملموس، فما الذي تسبب بظهور هذه الظاهرة؟ أهي ظاهرة تكونت بحكم ظروف سياسية عارضة، وهي، بالتالي، بلا جذور ولا حامل اجتماعي له وجود مادي على الأرض، وستختفي، بالتالي، بالسرعة التي ظهرت فيها بمجرد زوال الشروط العارضة التي أوجدتها؟ أم هي غير ذلك؟
وما الدور الذي لعبته وتلعبه موجة من هذا القبيل في الظروف التاريخية والسياسية الراهنة، ولا سيما في أزمة المعارضة السورية التي هي موضوعنا الأساسي هنا؟
ثمة أسباب موضوعية لظهور الأصوات الليبرالية من جديد في سورية، وفي بلدان أخرى عربية وغير عربية (وليست الأسباب متطابقة بين مختلف الحالات، رغم وجود أساس واسع مشترك بينها)، وثمة أسباب ذاتية أيضا.

الأسباب الموضوعية:
1ـ ضعف الشريحة البورجوازية الليبرالية التاريخي في سورية والبلاد العربية وسطحية ليبراليتها، وسرعة الإطاحة بها وتصفيتها في بلادنا، بحكم مجمل شروط ولادتها وخصائصها التاريخية التي سبق أن تطرقنا إليها. وبالتالي:
بقاء المهام المناطة بها تاريخياً (قياساً على التاريخ الأوروبي والأميركي) غير منجزة، الأمر الذي يلقي بمهمة إنجازها على كاهل المجتمع، بقوى طبقات أخرى، وبكيفيات وأشكال أخرى. يصدق هذا بشكل خاص على احترام فردانية الإنسان وحريته في المعتقد والحياة الاجتماعية والسياسية، كما يصدق على إيجاد أشكال حكم تتيح للمجتمع اختيار نظام وآليات الحكم الذي يقتنع بصلاحه، سواء كانت هذه القناعة محقة أو خاطئة من وجهة نظر الآخرين.
2ـ فشل كل التيارات الإيديولوجية المعروفة في البلاد (القومية، الإشتراكية، الإسلامية، الليبرالية) في تحقيق أي من مشاريعها النهضوية وحل القضايا التاريخية العالقة بالنسبة للمجتمع. في حين يظل نجاح الليبرالية الغربية في تحقيق نهضة أممها جذاباً ومغرياً بتقليده بالنسبة للعديدين. كما يظل قصر عمر الليبرالية السورية في السلطة مسوغاً يجده البعض مناسباً للدعوة لإعطائها فرصة جديدة...؟!
3ـ نجاح الديكتاتورية في سد الطريق أمام مشاريع قوى المعارضة التي تكونت من مختلف الطبقات الشعبية، شيوعية كانت أم قومية أم إسلامية، بالعنف غير المحدود، وما ولده هذا من يأس وإحباط وارتداد عن هذه المشاريع والإيديولوجيات. لا سيما بعد انهيار النظام السوفياتي الذي جعل العديد من الماركسيين السابقين (يكفرون) بالحلم الاشتراكي، في ظاهرة ارتداد نموذجية.
4ـ انهيار التجربة السوفياتية واجتياح الرأسمالية ـ الإمبريالية لدول المنظومة الاشتراكية السابقة، فكرياً وسياسياً واقتصادياً، ومن ثم الاجتياح الإمبريالي للعالم عموماً، والمنطقة خصوصاً، في سياق مشروع الشرق الأوسط الكبير، لا سيما بعد احتلال العراق، وطرح أحلام تغيير خرائط المنطقة وأنظمتها وكياناتها السياسية، تحت يافطة اللبرلة والحداثة (والتعتيم التام على المحتوى الحقيقي التدميري للمشروع). وهو ما جعل البعض يقتنع بان الليبرالية الغربية قدر لا مفر منه، ولا طريق للحياة والتطور سواه، فكل ما عداه وهم زائف!
وشكل الهجوم الإيديولوجي ـ الفكري الإمبريالي الشامل بعد السوفيات محوراً أساسياً من ذلك الاجتياح، استقوى بسطوة الإعلام الحديث، وتقنياته وقدراته غير المسبوقة التي وظفت جميعها للترويج للنظام الرأسمالي والليبرالية، وجعلت كثيرين يتحولون إلى أبواق تردد بصورة واعية أو غير واعية ما ينتجه ذلك الإعلام، ولكن بحماس شديد دائماً!

الأسباب الذاتية:
1ـ دمرت سنوات السجن الطويلة القاسية نفوس وقناعات كثير من المناضلين، بل محقتها محقا بالنسبة لبعض هؤلاء. فانكفأ بعضهم كلياً عن الاهتمام السياسي، وانقلب بعضهم تماماً على قناعاته السابقة، فترك بعض من كان متديناً تدينه، وبعض من كان علمانيا صار متديناً، وصار بعض من كان يسارياً أو ماركسياً... ليبرالياً! معظم هؤلاء بدأ بالارتداد إلى الليبرالية مع البيريسترويكا الروسية (وحصل مثل هذا في مختلف بقاع العالم)، ثم جرفه مد الإمبريالية الكاسح بعد السوفيات. كانت الأرواح والعقول منهكة ومهزومة، تقاوم الموت السياسي والروحي، فتمسكت بأول خشبة ساقها السيل في طريقها. ولأن الإعلام الإمبريالي رمى بكثير من هذه الأخشاب في السيل الذي نتج عن انهيار السد السوفياتي، فقد تعلق كثيرون بها، وصاروا يتبارون في تبرير سلوكهم هذا بصفته التكيف الصحيح المطلوب مع (العالم الذي يتغير)، ولم يوفروا جهدا في السخرية من (الجامدين) الذين يتمسكون بمبادئهم وأحلامهم المختلفة، ولا يحذون حذوهم في (التجديد؟)، مستقوين بما يضخه ذاك الإعلام من: تنظيرات وتمجيد لليبرالية، وانطواء صفحة الاشتراكية، وموت الماركسية والقومية والوطنية، وضرورة تصفية الأحزاب بصيغها ومبادئها المعروفة، وانتهاء مفهوم السيادة الوطنية، ومضي عهد التنمية المستقلة، وبروز قوة العولمة المتوحشة التي ستمدن العالم رغم أنف الشعوب والتاريخ وتجلب له الازدهار... إلخ... إلخ.
2 ـ بعض آخر أعمل ذهنه لتبرير تحول أفكاره وانقلاب انحيازه السياسي والاجتماعي إلى نقيضه، فركز على حاجة الساحة السياسية والثقافية السورية لتمثل قيم الليبرالية السياسية، على ضوء تجربته التي خبر فيها مدى عمق وشيوع التفكير والسلوك المتخلف واللا ديمقراطي في الثقافة السياسية السورية، موالية ومعارضة، وعلى (فشل) كل محاولات التنمية والنهضة العربية السابقة، (وهو محق في كل هذا). فتبنى هذه الإيديولوجيا (وهنا جانبه الصواب) متناسياً أو متجاهلاً أن الماركسية تبنت وأدرجت في مشروعها التاريخي كل ما هو إيجابي في الفكر الليبرالي (وأهمه تقديس حرية الإنسان وحلم مجتمع الحرية)، ونقدت بعمق وجذرية الفكر الليبرالي الاقتصادي لأنه يقود إلى عبودية الإنسان واغترابه وتشييئه، وجعله مجرد أداة إنتاج واستهلاك، ضمن النظام العام للرأسمالية! لقد شطب ليبراليونا الجدد من رؤوسهم، أو لعلهم لم يعرفوا (؟) أهم وأكثر إنجازات الفكر الماركسي علمية ورسوخا، وهو نقدها للنظام الرأسمالي واستلابه للإنسان، على نقيض ما يعلنه من أهداف، وهو نقد يقره ويشيد بعمقه وأصالته معظم فلاسفة ومنظري الرأسمالية أنفسهم، لا سيما في القرن العشرين.
لقد شكل ارتداد ماركسيين سابقين عن انحيازهم للطبقة العاملة وحلفائها، وانقلابهم إلى التنظير للرأسمالية وتمجيد البورجوازية، عودة غير معلنة إلى مدرسة ستالين الفكرية (بكل بؤسها وانحطاطها) عن التطور الميكانيكي للتاريخ والمجتمعات، والتي تستوجب دعم البورجوازية والمرحلة الرأسمالية (بعد العهد الإقطاعي)، وعمل على تلميع وأسطرة مرحلة السنوات الأربع اليتيمة في الخمسينات وما تم فيها من (تطور وازدهار؟)، حين حكمت البورجوازية السورية البلاد بنظام سياسي ذي مظهر ديمقراطي، متجاهلا ضعف تلك البورجوازية وسطحية ليبراليتها، وعجزها البنيوي عن النهوض بالمسؤوليات التاريخية الأساسية التي يتطلبها المجتمع، والتي لا قيامة للبلاد بدونها (في الحقول الاجتماعية والوطنية والقومية). ومتجاهلاً أيضاً أن البورجوازية السورية (الطبقة وليس الدولة) الموجودة اليوم أكثر عجزاً وضعفاً من بورجوازية الخمسينات (تجاه حاجات المجتمع، وتجاه الخارج الإمبريالي المتوحش)، وبلا أي طموح تاريخي أو مشروع وطني نهضوي، وأنها لا تستطيع أن تسيطر بدون قوة الديكتاتورية وسطوتها، وبدون دور مركزي للدولة في الوظائف الاجتماعية وفي الاقتصاد، وأنها لهذه الأسباب بالضبط اختارت أن تتزاوج وتتشابك بعمق مع النظام الذي يضمن لها مصالحها العليا بطريقة تعجز هي ذاتها عن تأمينها. كما أنها خاوية تماماً فكرياً وثقافياً، ولا تستبطن سوى نتف مهترئة من التفكير المحافظ المتخلف ونتف أخرى سطحية مستوردة من الإعلام الرأسمالي العالمي مباشرة، ما يجعلها عدواً مبيناً لأي فكر ليبرالي يستحق اسمه، ما عدا جانبه الاقتصادي الذي يخدمها، والذي يمضي النظام على دربه بسرعة كبيرة بالتعاون التام معها ومع رأس المال العربي والعالمي. وبالطبع، فإن هذه المراجعة للتاريخ والفكر لا تستقيم بدون إدانة وتجريم كل التحولات الاقتصادية ـ الاجتماعية الكبرى التي تمت في عهد عبد الناصر والبعث (الإصلاح الزراعي، التأميمات، إنشاء قطاع اقتصادي كبير للدولة، سن القوانين التي تقيّد نهب رأس المال الخاص للعمال والفلاحين وسائر فئات الشعب، مجانيّة التعليم وإلزاميته، مناهضة المشاريع الاستعمارية والإمبريالية... إلخ) وبالتالي الدعوة للتراجع عنها وترك القطاع الخاص يسرح ويمرح على هواه ليحقق التنمية والازدهار الموهوم. وهو ما يتطابق تماماً مع شروط صندوق النقد الدولي سيئ الصيت، وهو نفسه ما يفعله النظام في الحقيقة، ولكن بحنكة وطول نفس يفتقده دعاة الليبرالية الجدد!
3 ـ الحقد الأعمى ونزعات الانتقام، أسوأ معلم وقائد سياسي. يزيد قبح نتائجه وضلالها، التعالي السخيف على الشعب وإدانته وتحقيره لأنه لم يتحرك ويتمرد وفق تصورات هؤلاء (المثقفين؟) ـ كم مرة سمعنا العبارة التافهة المشبعة بغرور المثقف وعنجهيته الغبية: الشعب السوري ليس سوى قطيع من الغنم ـ!
لقد شكل هذا الحقد بالنسبة لبعض (المتلبرلين) منبع طاقة أساسي أمدهم بالقوة المحركة (لوعيهم المستجد)، ولمواقفهم السياسية، لا تجاه النظام وحده، حيث باتوا يرون فيه شرا مطلقا يعجزون عن أي قراءة موضوعية لسياساته ومواقفه، بل أيضا تجاه أحزابهم التي هجروها، والتي بات مجرد استمرارها يذكرهم بكل معاناتهم السابقة في السجون وبالسنوات التي (خسروها؟) من أعمارهم في صراع لم يثمر بالنسبة لهم إلا هزائم مريرة، ناهيك عما يمثله هذا الاستمرار من تذكير حي لهم بانقلابهم الشامل على تاريخهم وعلى روحهم الكفاحية وقيمهم وأفكارهم السابقة التي حظيت بالكثير من الاحترام والإعجاب من جماهير واسعة، وصل عند بعضها إلى مواقع عميقة جدا في النفوس، في حين تنظر تلك الجماهير نفسها بدهشة وذهول وعدم احترام لأوضاعهم وطروحاتهم المستجدة. مما جعل من صراعهم ضد استمرار تلك الأحزاب هما مقيما بالنسبة لهم، فيحرصون على الحط من شأنها في كل مناسبة، ويتمنون فناءها واختفاءها بأسرع وقت وبأي طريقة!
وقد أسهم كل هذا بفعالية في بلبلة الأوساط السياسية المهتمة بالشأن العام، لا سيما أوساط الشباب التي أقبلت على المناضلين بعد خروجهم من السجون، منتظرة أن ترى فيهم صورة قادتها، وتسمع منهم ما تتعطش له من أفكار وإجابات على تساؤلاتها القلقة، فتلقت من المرتدين والمهزومين منهم (وهم كثر) تلك الصدمة المدوخة التي أثارت الذهول في نفوسها، فزادتها تشوشاً وإحباطاً حين رأت فيهم أناساً ضعفاء مشوشين ومستسلمين وخائفين، أو أشخاصاً انقلب عاليهم سافلهم، وباتوا نقيض ما كانوا عليه قبل سجنهم!
4 ـ ليس غياب الحامل الاجتماعي للطرح الليبرالي المستجد هو البرهان الوحيد على ظرفية الظاهرة الراهنة ولا تاريخيتها، فثمة أيضا انعدام أي نتاج فكري وثقافي محلي جديد لها، (باستثناء المقالات الصحفية، ولا سيما السياسية منها) واقتصار ما ينشر عنها في هذين الحقلين على النصوص المترجمة التي كتبت لمجتمعات أخرى وفي ظروف تاريخية اقتصادية وسياسية وثقافية مغايرة تماما لواقع حال بلادنا، وأسوأ من هذا: طباعتها في أكثر الحالات بتمويل غربي! وبقدر ما يقدم هذا برهاناً إضافياً على الغربة التامة للبورجوازية السورية عن الهم الليبرالي، الفكري والسياسي والثقافي، بحيث لا تجد في نفسها الدافع ولا الاهتمام لإنفاق قرش واحد على الترجمة والطباعة في هذا المجال (ناهيك عن الارتقاء إلى مستوى انتاج فكر ليبرالي سوري وعربي أصيل)، فإنه يقدم مثالاً متجدداً على استمرار ظاهرة (استيراد الأفكار الجاهزة) ومحاولة حشر الواقع في ثوبها، وهي ظاهرة قديمة تتكرر، تؤكد التخلف بقدر ما تؤكد العجز، ولم يقصر الفكر الفلسفي والسياسي العربي والعالمي في نقدها.
5 ـ وأسوأ ما في الأمر من الناحية السياسية، وأكثره دلالة، تواقت هذه الظاهرة مع موجة المد الإمبريالي بعد الانهيار السوفياتي، بداية، ووصولها إلى ذروتها مع هجوم مشروع الشرق الأوسط الجديد واحتلال العراق، تاليا. وهو ما يكشف بجلاء القوة الفعلية الحاملة لهذه الظاهرة، والمستفيد الحقيقي منها، وأسباب حضورها الإعلامي القوي رغم أنها تفتقد الحامل الاجتماعي ـ الطبقي لها كما سبق وأشرنا، ولا يتوفر لها محلياً إلا جزء صغير من الحامل الإعلامي: عدد من المثقفين والناشطين السياسيين المرتدين على إيديولوجياتهم وانحيازاتهم الاجتماعية السابقة، لصالح الإيديولوجيا والطبقة التي يفترضون أنها ستحملها (الإيديولوجيا الليبرالية، منزوعاً منها عمقها الفكري ودورها الاجتماعي والثقافي، بل وشكل حكمها السياسي أيضاً! أنظر أشكال الحكم، والدور الثقافي ـ الفكري لهذه الشريحة المزعومة في سائر البلدان العربية!).
6ـ ويسبغ على الطرح الليبرالي المعارض طابع المفارقة التاريخية المضحكة ـ المبكية، أن النظام الحاكم هو الصانع الفعلي لليبرالية الاقتصادية على أرض الواقع السوري، وهو قاطرتها القائدة محلياً. فهو من يخنق قطاع الدولة الاقتصادي ويذوبه يوماً وراء يوم، لصالح نظام السوق ورأس المال الخاص، المحلي والعربي والعالمي. وهو من يعيد إنتاج البنية القانونية والبيئة الاستثمارية والوعي الاجتماعي في المنحى ذاته، بحيث يسير في الاتجاهات الاقتصادية التي تحظى برضى الرأسمال العالمي ودعمه بصورة متزايدة.
فما الذي تفعله الأصوات الليبرالية المعارضة إذا؟ ولماذا تضع نفسها في موقع المعارضة أصلاً، إذا كان النظام بحكم مصالحه وما يمثله، يسير بسرعة قصوى بالاتجاه الذي تتمناه؟
لا يبقى سوى أن موجة الأصوات الليبرالية الجديدة (التي تتفق في الجوهر مع سياسات النظام الاقتصادية، ومع سيطرة طبقته، سواء اعترفت بهذا أم لم تعترف)، تعارض شكل الحكم الديكتاتوري فحسب، وتريد كما تقول، شكل حكم ديمقراطي بدلا منه. ولتحقيق هذا الهدف، تقول الأصوات الليبرالية، لا بد من قوة ما باتجاه تحقيقه. وبما أن (الرئة الداخلية)، التي هي الشعب السوري، معطلة لألف سبب وسبب (ويبدو أنها ستبقى معطلة إلى الأبد، وفق فهم تلك الأصوات لحركة التاريخ وتحركات الشعوب، أم لعلهم ما عادوا يطيقون صبرا على بطء حركة التاريخ باتجاه رغباتهم؟!)... فلا بد من الاعتماد على (الرئة الخارجية) لتحقيق التغيير المطلوب من قبلها! ومن تراها تكون هذه الرئة الخارجية غير قوى الخارج الإمبريالي: الأميركي والأوروبي و...؟! وحلفه العربي المنبطح؟!! لا أحد سواها!
ولكسب رضى تلك (الرئة الخارجية) وركوب موجتها والحصول على دعمها، يتعين تبني منطقها وطروحاتها وتوجهاتها السياسية!!!
لهذا وجدنا تلك الأصوات تعارض الديكتاتورية، وتعارض في الوقت نفسه سياسة النظام الممانعة للمشروع الإمبريالي، وتحالفاته الإقليمية التي تخدم في هذا المنحى (إيران، والمقاومة اللبنانية لا سيما "حزب الله"، والمقاومة الفلسطينية لا سيما "حماس")، وتريده أن يستسلم لذلك المشروع ويرتمي في (الحضن العربي السعودي والمصري) الأشد انبطاحاً أمام الإرادة الأميركية ـ الإسرائيلية. كما رأيناها تنبذ وتحارب الأحزاب الوطنية والقومية والماركسية المعارضة للنظام، لأنها تتبنى مشاريع وسياسات مناهضة للإمبريالية في الوقت نفسه، وتتبنى رؤية اجتماعية ـ اقتصادية ـ سياسية مختلفة جذرياً عن رؤيتها، حين تحصر رهانها بالشعب نفسه وحلفائه الحقيقيين، وترفض الارتماء في الحضن الأميركي تحت أي ذريعة كانت!
هكذا تتضح أسباب مناهضة الأصوات الليبرالية الجديدة للقوى السورية والعربية: الوطنية والقومية والشيوعية المناهضة للإمبريالية، وأسباب إصرارها على شق صف القوى السورية المعارضة للديكتاتورية إلى شقين: القابلون والراغبون بملاقاة المشروع الأميركي ـ الغربي للمنطقة، والرافضون والمقاومون لذلك المشروع! هذا في الوقت الذي تملأ فيه الجو صراخا حول (قبول الآخر)، ولم شمل كل المناهضين للديكتاتورية!
هل نحن أمام (طبعة سورية) من نظرية وممارسة القوى الرجعية اللبنانية (شمعون والكتائب، وآخرون كثر قبلهم في التاريخ) في الرهان على، وربما استدراج، قوى خارجية لحسم وضع داخلي لصالحها بعد أن عجزت بقواها الخاصة عن حسمه، ولو كان ثمن ذلك هو الطوفان؟ أم نحن أمام محاولة لاستنساخ الحالة العراقية الكارثية؟
نحن في أحسن الأحوال أمام أجواء شبيهة، تترك الأبواب مفتوحة لكل الاحتمالات، بما فيها أسوأها!
تكررت في بغداد المعاصرة قصة الطامعين في الخلافة الذين فتحوا أبواب المدينة للمغول، فأغرقوا الأمة في ظلام وتخلف دام ثمانية قرون، ما نزال نعاني من تبعاته وظلماته حتى اليوم. وحدثت وقائع كثيرة تماثل في الجوهر مسرحية (رأس المملوك جابر)...، فهل يفيد التذكير بالنتائج في كل حال؟

* * *

الطبقات الشعبية ليست في حسبان الأصوات الليبرالية التي تسمح لنفسها أن تغيبها تماماً، فتغامر أو تقامر بمصيرها ضد إرادتها وأهدافها (الاجتماعية والوطنية والقومية) التي طالما أكدتها تاريخياً. هي لا توجه خطابها إلى تلك الطبقات، ولا تأتي على ذكرها أو ذكر مصالحها في قليل أو كثير (إلا بالشتم والتسفيه والتعالي الفارغ عليها)، اللهم باستثناء مسألة واحدة عامة يفترض (نظرياً) أنها لا تخص الطبقات الشعبية وحدها، هي مسألة الحريات والنظام الديمقراطي، والتي هي على أهميتها بالنسبة للشعب، تأتي للأسف في مرتبة متأخرة عن قضية مستوى الحياة ومتطلباتها الأساسية (لقمة العيش والسكن والتعليم والصحة... إلخ)، وعن القضيتين الوطنية والقومية. واللوم في هذا الترتيب المختل للأولويات لا يقع على عاتق الشعب الذي يستسهل (المثقفون إياهم) إدانته وتسفيهه لتبرئة أنفسهم من مسؤوليتهم، بل يقع على عاتقهم (وبالتأكيد على عاتق الأحزاب الوطنية، ونحن منها) لأنهم لم يدركوا في الوقت المناسب ما يجب إدراكه، ولم ينتجوا بالتالي وعياً وثقافة توضح الترابط الجدلي بين هذه الأهداف وطرق التقدم نحوها تاريخيا، ليزرعوه في صفوف الجماهير ذات المصلحة، فيقنعوها به، ويستنهضوها ويقودوا نضالاتها على طريق مستقبلها المنشود... بدل شتمها والتعالي السخيف عليها!
وهي (نقصد الحريات والنظام الديمقراطي) مسألة عامة يفترض (نظرياً أيضاً)، أنها تهم البورجوازية السورية ولا سيما شريحتها الليبرالية (غير الموجودة!!)، لكن هذه البورجوازية بشرائحها المختلفة لا تبالي فعليا بقضية الحرية والديمقراطية، إلا عندما تكون بحاجة للقوى الشعبية لحماية مصالحها المهددة، أو لزيادة أرباحها التي يعاق نموها، وهي ليست كذلك، لا اليوم ولا في المستقبل المنظور، فمصالحها وأرباحها في ازدهار مستمر. وهي فعلياً شريك كامل الوعي والمسؤولية (والسرور أيضا!... بزواجها الناجح في السنوات الأخيرة) مع النظام، ولم يسبق أن سمع أحد صوت معارضة جدية من هذه الطبقة، إلا عندما كانت في شراكة تامة مع قوى الرجعية السوداء: الإقطاع وملاك الأراضي في حركة الانفصال، وفي الشراكة نفسها قبيل تحرك الإخوان المسلمين 1977 ـ 1982. وفي الحالتين كان صوتها هو الأخفض بين حلفائها، وكان معادياً معاداة جذرية وشاملة لمصالح الطبقات الشعبية (ضد الوحدة، وضد الإصلاح الزراعي، وضد التأميمات ـ في مرحلة الانفصال ـ ولاحقاً أضيف لكل ذلك في تحركها ضمن الحلف الرجعي الأسود في السبعينات: العمل بالعنف والدم لإشعال فتنة طائفية في البلاد، والركوع أمام إسرائيل على طريقة كامب ديفيد)... وفي هذه الخلطة من الأهداف جرعات قاتلة من السم، لن يبلعها الشعب السوري ولو جرت تغطيتها بكل سكر الحرية والديمقراطية المزعومة في العالم، وبأيدي أمهر طباخي السموم! فباسم من إذا من طبقات المجتمع أو شرائحه تتحدث الأصوات الليبرالية الجديدة؟
اليوم، وقد تعطلت (الرئة الخارجية) الموهومة لمثقفينا المتلبرلين، فسقط المحافظون الجدد، وتبددت الأوهام التي ارتبطت بسياساتهم في المنطقة، ما الذي سيبقى على الأرض فعلياً من تلك الظاهرة ـ الفقاعة؟ وماذا سيفعل أصحابها في ظل (رئتين معطلتين)؟! هل سيعمدون إلى تغيير جلودهم من جديد؟ أم سيعودون إلى جلودهم القديمة؟ أم سينامون طويلا بانتظار أن يأتي ظرف تتنشط فيه (الرئة الخارجية) من جديد؟
أي ثوب وأي صفة ستكون لهم أو لمن سيأخذ موقعهم ودورهم آنذاك؟
كنا، وما نزال نقول: إن قضية الحرية والديمقراطية في سورية (وفي كل البلدان العربية وأمثالها) كانت وما تزال قضية الطبقات الشعبية أساساً، إما أن تنهض وتنتزعها بنفسها وبقواها في سياق نضالها المترابط لتحقيق أهدافها ومصالحها، أو تظل محرومة منها، لأن أحداً لن يقدمها لها على طبق من ذهب، ولن تقودها نحوها لا قوى البورجوازية السورية ولا قوى الإمبريالية، ولا الأصوات الليبرالية الجديدة السائرة في ركابها... مهما كانت المزاعم والأوهام!

* * *

لقد شقّت الدعوات (الليبرالية) صف المعارضة السورية بعمق، وأثارت صراعات ومعارك هامشية كثيرة على امتداد عقد كامل من السنين تقريباً، فكانت أحد أهم أسباب تشتيت وإضعاف المعارضة وتعميق عجزها في هذه المرحلة، وتسببت بزعزعة الثقة الشعبية بمصداقيتها (وهي ضعيفة ومحدودة أصلاً)، لا سيما حين قرأ الناس تلك الدعوات على ضوء المثال العراقي الكارثي.
وشكلت ظاهرة ارتداد شيوعيين ووطنيين وقوميين سابقين، وانقلابهم على أحزابهم وعلى تاريخهم وعلى انحيازهم الاجتماعي، وما ارتبط به من أفكار ومشاريع، (وكانت مجاهرة بعضهم بهذا موتورة وفيها من الحقد، وإرادة قتل وتشويه التاريخ النضالي، وكل من وما يمت إليه بصلة، أكثر مما فيها من أي شيء آخر...) وانتقالهم إلى مواقع ملتبسة تحت عنوان (الليبرالية)، وفي سياق المشروع الأميركي للمنطقة، شكلت (تلك الظاهرة) صدمة كبرى للأوساط الشعبية والشابة المهتمة، زاد من قوتها دعم وتسليط الإعلام المسيطر (إياه!) لأضوائه عليها، ومحاولته طمس أو تشويه كل ما عداها، مما خلق حالة من الذهول والصدمة والاستغراب العميق. وكانت إحدى النتائج الأكيدة لتلك الصدمة فقدان الجمهور لثقته، ليس بأولئك المناضلين السابقين فحسب، (وهم الذين كانوا في يوم من الأيام قدوة ومثلا أعلى للكثيرين)، وإنما أيضاً بالعمل السياسي عموماً، وبمصداقية الأحزاب والقوى المعارضة (التي كانوا ينتمون إليها يوماً ما)، رغم كل ما قدمته من تضحيات وضرائب باهظة، فقد تزعزت الثقة بثبات مناضليها جميعاً على أهدافهم ومبادئهم، على ضوء الانقلابات الإيديولوجية لبعض من كان منهم ومعهم، على امتداد سنوات طويلة قاسية.
لقد حاول النظام على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي تشويه صورة المعارضة الوطنية الديمقراطية، وبذل جهوداً إعلامية وسياسية غير قليلة لهذا الغرض، لكن مردود محاولاته ظل ضعيفاً لأسباب عديدة لسنا بصددها هنا. لكن حين أتى هذا التشويه من داخل البيت المعارض نفسه، ومن أشخاص كانوا مناضلين وأعضاء أصيلين فيه يوماً ما، ولا سيما حين أتي بالكيفية والمحتوى والسياق الذي جاء فيه خلال العقد الماضي، فقد كان أكثر فتكاً وإساءة بكثير. وكان هذا كله هدية فادحة الكلفة، قدمت مجاناً وبكل رعونة، للديكتاتورية (التي يريد الليبراليون أن يقاوموها!)، ولأعداء الوعي الوطني والقومي والطبقي عموما.
وكان لما ترتب على ذلك من صراعات، ومن صدمات واستنزاف لقوى وجماهير المعارضة المحدودة أصلا، ومن ممارسات ودعوات مغتربة عن الواقع والتاريخ، كان لذلك كله دور كبير في إضعاف المعارضة السورية وإضعاف مصداقيتها أمام جماهيرها خلال العقد الماضي، مما عمّق أزمتها، وزاد اليأس من جدوى نضالها. الأمر الذي سيترك آثاراً مريرة لسنوات تلي. فاستعادة الثقة والمصداقية بعد شرخها... أصعب بكثير من بنائها للمرة الأولى.

( نيسان ـ 2010)
----------------------------------------------------------------------------------









حتى نلتقي .....
" سورية "..
رمال متحركة مستنقعة 2
* الشيخ *


أنّى وجهتَ انتباهك ، سواء لوسائل الإعلام - الموالية أو المعارضة - فهي وجهان لعملة واحدة .
الأول : لا يرى بالوطن سوى كرسي ليجلس عليه ويمارس سلطانه ، والناس ، الموتى والأحياء - إذا بقي أحياء منهم - لتثبيت أرجل كرسيه .
والثاني : لم ير في الوطن سوى مزرعة ، أو جزيرة نائية هو من أهّلها ، وناسها خراف يرعاها ، لتكون القربان الذي لا ينضب لنزواته ..؟!
يـــــــــــــــــــــــــــا الله ..؟!


تجمع اليسار الماركسي " تيم "

تجمع لأحزاب وتنظيمات ماركسية . صدرت وثيقته الـتأسيسية في 20 نيسان2007.
يضم (تيم) في عضويته:
1- حزب العمل الشيوعي في سوريا .
2- الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي .
3- الحزب اليساري الكردي في سوريا .
4- هيئة الشيوعيين السوريين .
الموقع الفرعي لتجمع اليسار في الحوار المتمدن:
htt://www.ahewar.org/m.asp?i=1715








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفكيك حماس واستعادة المحتجزين ومنع التهديد.. 3 أهداف لإسرائي


.. صور أقمار صناعية تظهر مجمعا جديدا من الخيام يتم إنشاؤه بالقر




.. إعلام إسرائيلي: نتنياهو يرغب في تأخير اجتياح رفح لأسباب حزبي


.. بعد إلقاء القبض على 4 جواسيس.. السفارة الصينية في برلين تدخل




.. الاستخبارات البريطانية: روسيا فقدت قدرتها على التجسس في أورو