الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن المعاصر في مصر بين الواقع والمؤسسة

يوسف ليمود

2014 / 8 / 3
الادب والفن


في منتصف تسعينيات القرن العشرين حدثت تغيرات عميقة في أشكال ومفاهيم ووسائط الممارسات الفنية البصرية في العالم الغربي، وكما هو معروف، كانت ثورة التكنولوجيا الحديثة وتطورها السريع، من أهم أسباب ومحركات تلك الموجة الجديدة من الحساسية المختلفة في منطق التفكير والتناول الفنيين. وكما كان يحدث دائما، كان لهذا المد أن يصل، بزَبده ورواسبه، إلى أرض الواقع الفني المصري ويترك آثاره فيها، خصوصاً أن ذلك المد جاء في وقت كانت الممارسات التقليدية، السائدة في مصر حينئذ، متوقفة بأريحية عند اتجاهات ومعطيات وتنظيرات الخمسينيات من تاريخ الفن الغربي. وكانت المؤسسة الرسمية، بفنانيها ـ الموظفين، مسيطرة منذ أحقاب على المنظر ومتحكمة في آلياته ورسم طرقه، من غير أن ينافسها في ذلك الدور أية جهة أخرى، اللهم إلا الصوت المختلف لبعض الجاليريهات الخاصة (أقل من عدد أصابع اليد الواحدة) التي بدأت نشاطها في منتصف الثمانينيات. حالة الاطمئنان الفني تلك، لمفاهيم تجاوزها الواقع، كانت أحد مظاهر تردي الوضع العام على جميع مستوياته، من صعود المد الديني في السبعينيات وانتشاره السرطاني في جسم المجتمع، وتغلغل الفساد في كل مؤسسات الدولة، وانغلاق المستقبل على أجيال الشباب الطامحين للحرية والإبداع. من هذا بالإمكان فهم الروح المتعطشة لكل ما من شأنه أن يبدو تمرداً على القيم التشكيلية السائدة وقتذاك، والذي هو في الأساس تمرد على المجتمع، بمنظومة قيمه، من خلال أشكال الفن.

رغم التسلل البطيء لأشكال ومفاهيم وممارسات الفن المعاصرة وتعرّف الوسط الفني المصري عليها رويداً، منذ نهاية الثمانينيات، عبر بعض نماذج المشاركات الفنية الأجنبية في المهرجانات الدولية والبيناليات التي كانت تنظمها المؤسسة الرسمية، بل وتشجيع الأخيرة لبعض الفنانين الناشئين على التجريب في أدواتها، إلا أن التحول النوعي في الانفتاح على الممارسات المعاصرة وتشجيع ودعم موجتها، كان بلا شك، على يد مؤسسات الفن الأجنبية التي بدأت في الظهور وقتذاك، وأسست لجيل من الفنانين هزت تجاربهم ونجاحهم الدولي المنظر الفني الرسمي المنغلق على نفسه والمطمئن لمفاهيمه وآلياته، حد انتشار الفكرة أو الشائعات التي تشكك في تلك المؤسسات أنها تقوم بدور تخريبي لمحو الهوية المصرية والتمهيد للعولمة، عبر توجيه هؤلاء الفنانين لإنتاج ما يُملى عليهم. معرفة النوايا الحقيقية التي تحرك جهات التمويل الأجنبية الداعمة لتلك المؤسسات يحتاج إلى براهين وأدلة قاطعة وهو ما ليس تحت أيدينا. كل ما نستطيعه هنا هو محاولة تأمل معطيات وتوجهات وتأثيرات ونتائج الممارسات الفنية المعاصرة في مصر والدائرة أو الدوائر التي تدور فيها وعلاقتها بالواقع المحيط.

نظرة سريعة على تاريخ الفن المصري الحديث، منذ نشأة، أو بالأحرى منذ دخول الفنون الجميلة مصر في مطلع القرن العشرين، تؤكد على تبعية هذا الفن لمدارس واتجاهات الفن الغربي المتعاقبة. كلما ظهرت مدرسة فنية هناك، تجد صدى لها هنا. بالإمكان رصد هذه التبعية في مجالات أخرى متنوعة كالأدب والسينما والمسرح والموضة… أي في كل مظاهر الثقافة بشكل عام. وبالطبع كانت هناك محاولات لتمصير تلك الاتجاهات الفنية المستوردة، انطلاقاً من فكرة البحث عن الهوية أو تأكيد الهوية، التي شغلت أجيالاً عدة من الفنانين منذ العشرينيات، بلغت أوجها في خمسينيات وستينيات القرن العشرين مع المد القومي في المرحلة الناصرية، عبر تقنيات وأشكال أملاها على الفنان شعوره الممزق بين التبعية من ناحية والرغبة في إثبات الذات من ناحية أخرى. ظل الفن يدور في تلك الأجواء حتى جاءت هزيمة يونيو وقوّضت أو قضت على فكرة المشروع القومي، ثم تغيرت التوجهات السياسية وجاء الانفتاح الاقتصادي، الذي كانت له آثاره في توجيه التفكير في الفن كسلعة. بيد أن فكرة "الهوية" ظلت حاضرة بشكل أو بآخر كأحد الملامح التي تستقي الممارسات الفنية التجارية منها مادتها. وحتى في الجانب الأنقى من تلك الممارسات، أي بعيداً عن المنطق التجاري في الفن، لم تكن الظلال التي ترميها فكرة الهوية على بعض النتاجات الفنية، حتى بداية التسعينيات، أو حتى منتصفها، وربما إلى الآن، لم تكن سوى نوع من اجترار تقاليدٍ تجذّرت بفعل الركود الفكري والعادة، غالباً، وكأن الفن لا يكون فناً أو لا يكون "مصرياً" إلا بالانشغال بتلك الأفكار والدوران في حقل أشكالها.

كان محكوماً على سؤال الهوية باللا وصول إلى أي مكان، ذلك أنه كان نهجاً في لَوْك واجترار الماضي، من دون امتلاك القدرة على أن ينتج فكراً يخدم الحاضر أو يضع خطوطاً للمستقبل. كان استغراقاً في ذاتية متخَيّلة، وهْماً، مثلما كان مصطلح "الأصالة والمعاصرة" الذي روّج له الإعلام الرسمي وأعلام الثقافة الرسمية طوال عقدين، من منتصف السبعينيات وحتى منتصف التسعينيات، وهماً. فالفن لا يعرف ولا يعترف سوى بإنسانيته هويةً. لسنا نبحث هنا فكرة الهوية أو نحاول تعريفها، لكن الذي لا شك فيه هو أن تلك الهوية الضيقة التي حرّكتها وروجت لها النزعة القومية، لم يكن لها من هدف سوى أن تُسكِن الحاضر في حيز زماني بائد زالت معطياته وأسباب توهجه، ناهيك عن تعددية طبقاته التاريخية وتنافرها، الأمر الذي من شأنه أن يضرب فكرة الهوية في صميمها. في الأخير، كان التشبث بتلك الفكرة في الممارسة الفنية نوعاً من الهروب من مواجهة واقع مأزوم، وهو ما يعدّ نقيضاً لفكرة الممارسة الفنية بمفهومها المعاصر. ففيما عدا استثناءات فردية متناثرة هنا وهناك على جسد التاريخ الفني المصري الحديث، بطبيعة الحال، كان الفن الصادر عن مثل تلك الأفكار والنوازع، أقرب إلى أن يكون ضد فكرة الفن منه إلى الفن. لم يكن ضد الفن بشكل واعٍ أو انطلاقاً من عقيدة فكرية، مثلما هو الحال مع بعض اتجاهات الفن المعاصر، بل كان، رغما عنه كذلك. على هذه الأجواء، دخلت الأشكال المعاصرة إلى الساحة الفنية لينشطر المنظر نصفين: الأول تقليدي، خرج، في الغالب، من مراسم الكليات الفنية، يسير في درب الآباء وترعاه المؤسسة الرسمية، والآخر جيل أو أجيال من الشباب، كثير منهم لم يدرس الفن بالمعنى التقليدي، وبعضهم عصامي لم يدرس الفن أصلاً، ولكنهم يمتلكون أدوات أخرى كإجادتهم الإنجليزية أو غيرها، ما أتاح لهم الاطلاع على نتاجات الثقافة الغربية والتواصل معها بسهولة (خريجي الجامعة الأمريكية على سبيل المثال)، تختبر أفق الوسائط والمواد والأفكار اللا محدودة وليدة فكر ما بعد الحداثة.

السؤال عن الدور الذي لعبته كل من المؤسسة الرسمية، والمؤسسات الأجنبية الداعمة للفن المعاصر في رسم خريطة الممارسات الفنية وتوجهاتها في مصر، يقودنا إلى أن نسأل أولاً: هل كان الفن والثقافة بشكل عام، هدفاً حقيقياً للمؤسسة الرسمية، إلى حد أن تعمل بكل ما تستطيع على دعم الإبداع والارتقاء بفكره؟ وإذا كانت هناك نية حقيقية لدعم الفن والنهوض به، في أي اتجاه كانت تلك المؤسسة تدفع الفن إليه؟
في العقود الثلاثة الأخيرة، تحولت آلية عمل وفعاليات المؤسسة الرسمية إلى صورة أو مرآة لتردي الوضع العام. فالتجريف الذي مارسته الدولة على كل ما تحت يدها من جغرافيا وموارد ومصادر طاقة، حاذاه تجريف فكري وثقافي وفني، من قِبل مؤسسة الثقافة نفسها. والعشوائية التي وسمت كل شيء، بدءاً من الحي السكني الذي يعيش فيه المواطن، انتهاءً بتفاصيل يومه الصغيرة، قابلتها عشوائية ثقافية، بدت وكأنها مدروسة وممنهجة وتخضع لنظام يعرف ماذا يفعل وماذا يريد، إلى حد التساؤل إذا ما كنا أمام مؤسسة ثقافية تعمل ضد الثقافة.

كان هناك، بطبيعة الحال، بعض الإنجازات، مثل تأسيس "صالون الشباب"، الذي ساعد بعض المواهب الشابة في أن تجد فرصتها في الظهور وتحقق ذاتها. إلا أن تلك التظاهرات الفنية كانت مركزية في الأساس واقتصرت على القاهرة والإسكندرية دون الأطراف، وكانت، إلى جانب ذلك، مغلّفة بروحٍ كرنفالية صاخبة حرصت المؤسسة علىها، كنوع من الإيهام بأن ثمة حراكاً ثقافياً كبيراً، في حين كان الواقع عكس ذلك تماماً. من ناحية أخرى، وتحت مسمى ضخ دماء جديدة في إدارة العمل الثقافي، وبعد أن بدأت المؤسسات الناشئة المدعومة من الخارج تسحب البساط من تحت أرجل المؤسسة الرسمية، في بدايات الألفية الثالثة، تم تعيين قيادات شبابية في أماكن حساسة كإدارة صالات العروض الرسمية وتنظيم المعارض الكبرى والمؤثرة بها، حتى بينالَيْ القاهرة والاسكندرية(1). تبارت تلك القيادات فيما بينها على تقديم عروض الميديا الجديدة بشكل أشبه بالهوس بها، كعلامة على تقدميّتهم ومجاراتهم روح العصر. غير ان المفارقة كانت كبيرة وبدت عبثية، حين نفكر في أن طرفي المعادلة كانا: عين متلقٍ يمتلك بالكاد الأدوات المعرفية التي تمكنه من الوقوف أمام لوحة تقليدية، وأجواء الميديا الجديدة الواردة، التي لم تكن قد بنت، أو راكمت لنفسها تاريخاً بعد في ذاكرة بيئة هي دخيلة عليها، كلغةٍ تحمل معها الأبعاد الثقافية والاجتماعية لطبيعة المجتمعات أو البيئات التي نشأت تلك الوسائط وتطورت فيها بشكل طبيعي. وبذلك اختفت من ضمير المؤسسة الرسمية، بشكل مهادنٍ أو استسلامي، وغير تدريجي تماما، الأفكار والنزعات التي كانت ترعاها منذ إنشائها، كالهوية والمصرية والأصالة… الخ. كانت تلك محاولة للحاق بركب المعاصر، أو بالأحرى لمجاراة الجو كي تستعيد سلطة مفقودة. بيد أنه لم يكن ثمة حوار أو حتى محاولات للحوار لتقليص المسافة وسوء الفهم بين أتباع الاتجاهين: التقليدي والمعاصر(2).

بظهور المؤسسات الأجنبية الداعمة للفن، في نهاية التسعينيات، بمنطقٍ وآلية عمل مختلفيْن جذرياً عن المؤسسة الرسمية، انقلب ميزان القوى واهتزت السلطة التي انفردت بها الأخيرة ومارستها على المنظر الفني لأحقاب عدة. كانت أشبه بثورة، فضلاً عن ثورية عملية التناول الفني وأشكال ومفاهيم ممارساتها، التي اقتصرت المؤسسات الأجنبية على دعمها كشكل معاصر داخل أجواء تقليدية. هنا السؤال: هل لفنانٍ شاب ذي طموح، لا يجد لنفسه مكاناً على أية درجة في سلم المنظومة الفنية الرسمية، بل لا يشعر بأي انتماء أصلاً إلى تلك المنظومة، بأفكارها وأدواتها التي تجاوزها الواقع والتاريخ، أن يرفض دعماً لعمله يأتيه من مؤسسة ناشئة، بحجة أنها تحصل على تمويلات من الخارج، ومن غير أن يعرف أحد بالظبط ما وراءها، أو هل عليه أن يتحرى أولاً
عن مصدر تلك التمويلات؟ السؤال الآخر يتقاطع مع هذا كعارضتَيْ صليب: إذا كانت الاتهامات التي وجّهتها الرؤوس القائمة على المؤسسة الرسمية، وكثيرٌ من الفنانين والمثقفين، إلى مؤسسات الفن المدعومة من الخارج بأن وراءها منظمات صهيونية أو يهودية، أو في أقله، مؤسسات أمريكية مشبوهة تستهدف التخريب ومحو الهوية، أين كانت إذن، أو أين هي إذن أجهزة المخابرات وحماية الأمن القومي من هذا الغزو وتلك المؤامرة؟ سؤالان ينسلّان من منسوجةِ واقعٍ معقد وغير واضح المعالم، لكن رغم ذلك تلحّ أسئلة أخرى عديدة: لماذا تنفق دولة ما أموالاً على الفن والثقافة في دولة أخرى، ما مصلحتها من وراء ذلك وما هدفها، ولماذا يقتصر هذا الدعم على اتجاه فني دون غيره؟ هل للفن البصري في بلد كمصر تأثير كبير على المجتمع بشكل يصبح معه تهديداً وعاملاً على التخريب؟ ما هي الآليات والخطط التي اتبعتها مؤسسة الثقافة الرسمية لمواجهة تهديد هذا التيار الدخيل؟ هل كان يتماشى هذا التيار مع أهداف المؤسسة الرسمية نفسها في عملية تفريغ الثقافة من محتواها واستخدامها كأداة للسيطرة، أم كان يتعارض مع مصالحها، سواء كانت تلك المصالح سلطةً أم احتكار تجاري للفن؟ ما هي طبيعة وأجواء الخطاب الفني الذي أفرزته تلك المؤسسات، وهل نتاجها الفني موجه أساساً للداخل أم للخارج؟ ما هي الأضرار الثقافية أو الاجتماعية التي نتجت عن الممارسات المعاصرة للفن في مصر وما هي الإيجابيات؟

هذه الأسئلة وغيرها مما تطرحه إشكالية المنظر الفني المعاصر في مصر، سنحاول، في الجزء التالي، النظر في مظاهرها وأبعادها بعين تأملية، عسانا نخرج بصورة واقعية للمنظر وما وراءه من محركات.

يوسف ليمود
المادة كُتبت خصيصا لمشروع "تقاطعات" بموقع مؤسسة بروهلفتسيا في القاهرة المعني بالتبادل الفني والثقافي بين مصر وسويسرا:

http://www.territorycrossings.com/ar

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:

(1) لم يكن ممكناً معرفة المقاييس التي يتم من خلالها اختيار تلك الكوادر الشابة وتصعيدها بذلك الشكل المفاجئ وغير الواضح، خصوصاً أنها كانت تبرهن دائماً على افتقارها الشديد للفكر والرؤية والموهبة، بل إنها لم تكن حتى مؤهلة، معرفياً، للقيام بعمل ثقافي جاد ومحترم، ولعل بينالي القاهرة في دورتيه الحادية عشرة والثانية عشرة شاهدان.

(2) نشأت حالة من الخلط بين مفهومَي الحديث والمعاصر، سواء بين جمهور الفن أو نقاده (مع التحفظ على الكلمة الأخيرة) أو حتى بين شرائح كبيرة من الفنانين وعلى الأخص التقليديين منهم. ربما تعود حالة الخلط تلك لسبب لغوي في الأصل، حيث إن لفظ modern (حديث) في العربية يشير إلى كل ما هو جديد، في حين أن لفظ contemporary (معاصر) يحمل بين معانيه فكرة المعايشة، بالمعنى الذي يصبح فيه فنان يعيش بيننا وينتج أعمالاً تقليدية، فناناً معاصراً. في الجانب الآخر، أي من زاوية ممارسي المعاصر، لا يعدم المنظر فنانين ينظرون إلى أي عمل منفذ بخامات تقليدية بنظرة فوقية، بغض النظر عن شكله أو محتواه. في الآن نفسه، ثمة من يستخدمون التقنيات المعاصرة بآلية من ينفذ عملاً تقليدياً، وكأن الوسيط المعاصر هو الذي سيُخرج عمله من شبهة "الحديث" ليُدخله في دائرة المعاصر. نماذج سوء الفهم تلك هي من المظاهر التي تؤكد على شكلانية كثير من الممارسات الفنية وافتقارها إلى أرضية نظرية أو معرفية متعمقة، فضلاً عما تشير إليه من أزمة في إيجاد معادل لغوي للمصطلحات الغربية، خصوصاً في مجال الفنون البصرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81