الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما يفعله البهاضمة يتكرر - 5 -

حسين الرواني

2014 / 8 / 4
الادب والفن



ما يفعله البهاضمة يتكرر - 5 -

إنه في جب وجودي، تكويني، جب من رفض كل ما هو ظاهر للعين، جب كلفه عناء معاندة كل الاتجاهات، والتشكيك في طعوم الاشياء ومذاقاتها، وفي والألوان، والأحجام، والاشكال، جب منسوج من خيوط التمرد، ومحاك بالإرادة القديمة التي خلقته، وسوته كما يعرف هو، وكما يجهل الاخرون.
خضر محاصر بين نفسه ونفسه، لا يرى فكاكا، ولا انطلاقة، وإذا كان قد نشدهما يوما، وتحسر على فقدانهما، فهو في الحقيقة لم يكن يشكو سوى ضائقة الحال، صفير الجيوب، أما جبه الذي يتراءى له شيئا مائزا، وضع على رأسه كتيجان الملوك القاجاريين، لا يتزعزع، ولا تحرك رياح الايام من مكانه القار قيد أنملة، بل يزداد خضر يوما بعد اخر، قناعة بأن الطريقة التي خلق بها هي الانسب، يشتد إيمانا بها كلما تقدم قاربه العمري الى الامام اربعا وعشرين ساعة كاملة، بأنها الجبلة التي تمكنه من رؤية كل المعاني قائمة في مخه الزئبقي القفاز دون ان يجد نفسه مضطرا لتلبيس المعاني ألفاظا ليفهمها.
بعد ان وصل مؤشر اقتناعه بالطريقتين، الطريقة التي خلق بها، او فلنقل ما جبل عليه، والطريقة التي يحيا حياته بها، الى الدرجة المئوية الكاملة، بدأ خضر يعود نفسه شيئا فشيئا على ما ينبغي لمثله، تجاهل كل رأي يخالف رأيه، وكل مبدأ لا يجاري مبادءه.
يتحسس الهواء الذي يشمه، غير مصدق أنه ما زال يشمه. يشرب كأس ماء متحسسا سيولته، ينقل قدميه من خطوة الى خطوة، مستمتعا بأننه ما زال حيا يرزق، يمشي، يأكل، يشرب، يستعمل حواسه الست، ينظر، يسمع، يشم، يتلمس، يتذوق ما يمضغ. كل هذا لا يعني إلا شيئا واحدا، هو أنه ما زال حيا.
كلما طرح خضر جسده إلى الفراش، تذكر كل مرة طرح فيها الجسد نفسه على أرصفة التشرد، إو في بيوت الأصدقاء، أو في بيوت الله لا عد لها ولا حصر، المفروشة بواثر الافرشة والزوالي، والمبردة بمكيفات عالية الجودة، او في الساحات العامة المظلمة، الكارتون كان هو الفراش، ونصف طابوقة هي الوسادة، وأحيانا، يتوسد نعليه، لأننه على الرصيف المقدس طوى.
اصبح له راتب يكفيه لشراء خبز بدل طلبه (استجدائه بحياء مصطنع)، ويكفيه لاستئجار سقف يأوي إليه، بدل التبيت على ارصفة ارض الانبياء والمقدسات، أو الانذلال لمنيوك اهون وأضحل من أن يبول خضر عليه، اصبح له أمان، واستقرار نفسي، وطمأنينة، بفضل شخصين من كل البشرية التي تعيش على الارض اليوم التي تزيد على السبعة مليارات، شخصان فقط من كل هذه الحياة وما فيها ومن فيها، زجا به في عمل، رزقاه فرصة عمل، منحاه فرصة للخلاص من رحلة العذاب التي اكلت من عمره خمسة عشر عاما.
اليوم، فكل ما يجيده هو الصمت، والتأمل في الحياة، منذ بدايتها، ومنذ بدايته فيها، ويتأمل في كل ما تورده إليه حواسه من محسوسات، مسموعة، مبصرة، ومشمومة، وملموسة، ومذوقة، مضافا الى التأمل في ما ينتجه خياله، ومفكرته، ما ينتجه مخه يحتاج الى قسط كبير من التأمل الذي يفقده في الكلام والكتابة.
الصمت يمنحه دنيا كاملة بكل ابعادها من مساحة فارغة يجلس فيها وحده، يصفن كثيرا، ويتأمل.
يلقم شفتيه ثدي سيكارة، ويثرثر:
أعيش بأُذني، أعيش سامعا كل ما قاله منير بشير، يردد ابو سعد أحاديثه على مسمعيّ يوميا، حفظت كل قصصه، وحكاياته، لكنني لم أمل ولم أسأم أبدا أن اطلب منه إعادة ما روى لي، وتكرار ما حدثني مرة وثانية وثالثة، هو أيضا لا يمل ولا يسأم من التحدث.
قال ابو سعد ما أردت قوله، تحدث عما في خاطري، فشكرا له.
أعيش عالمي الخاص مع الحجاز كار، فأتعبد حزنا، وأتجلل بعظموت الألم، ثم أغرق في نهاونديات ابو سعد، فتكاد أنفاسي تلزم الصمت، ذهولا بـ"من المقام الى الراغا"، ثم تطمع روحي أحيانا في شيء من الفرح المنسوج بحكمة لقمان، فأطّرح بذما مهجتي إلى أوج منيري. يتنقل بي من مخالف الى عراق، الى اوشار، الى سوزناك.
أعيش في الشد عربان، الذي تقطر نغماته من انامل ابو سعد، عرف كيف يمتلك أذني، عرف كيف يخاطب كوامن صدري، عرف كيف يغنيني عن الهذر وكثرة الكلام، عرف كيف يناغي احلامي الطفلة، ويأسي العجوز.
كيف يقع لي أن أشتهي جوار أحد او لقاء بآخر، أو حديثا مع ثالث، وأنا الذي بي نزوع الدنيا بأجمعها الى الانعزال عن نفسي، الذات الخربة رفيق قبور.
أفهم جيدا ما يقوله ابو سعد، أفهم بكل من عقلي وقلبي وحاسة سمعي، لكن حروف اللغة المخزونة في ذاكرتي وجملها وصياغاتها لا تقوى بكل أنظمتها وابتكاراتها ومستوياتها عن التعبير عن كل من الأمرين، ما يقوله منير بشير، وما يفهمه الرواني.
هل ينمو القبح في هذا العالم؟
أم جدران الرفض التي بين نفسي وبين هذا العالم ومن فيه وما فيه، تعلو يوما بعد آخر، لتصبح أكبر من محاولاتي الصبيانية السابقة على التقافز بمشقة وصعود جدران نفسي هذه، لأعيش شيئا مما يعيشه هؤلاء في دنياهم هذه..
لست قادرا على التعايش مع هؤلاء، جربتهم بأجمعهم، بأجمعهم، بأجمعهم، حتى سلامة، فهم إما جزء من الشسمة الاول، او من الشمسة الثاني، أكاد أنظر بأم بصيرتي، عشرة أجيال من سلالاتهم، لا أراهم يختلفون عن هؤلاء بقيد شعرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه