الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطريق السبعون السريع

جاسم المعموري

2005 / 8 / 8
الادب والفن


عجلات سيارته تطوي الأميال ميلا بعد ميل .. والخطوط البيضاء المتقطعة على الطريق تركضُ الى الوراء بسرعة شديدة حتى لتبدو خطا واحدا متصلا .. الطريق السبعون السريع يتلوى على الارض كأفعى لها أول وليس لها آخر .. طرق اخرى سريعة متقاطعة تمر من تحته ومن فوقه وهي مزدحمة بآلاف المركبات الذاهبة والقادمة .. سكك حديد القطارات .. المترو .. وعشرات الطائرات تهبط وتقلع .. عالم مزدحم غريب ضاج بالحركة السريعة المستمرة دون انقطاع على مدار الساعة .. لهاث وسائل النقل المختلفة لا يتوقف .. الى اين يذهب كل هؤلاء الناس ..؟ الى اين يذهبون ..؟ ووراء ماذا يلهثون ..؟ يتسائل وكأنه ليس واحدا منهم .. اشعل سيجارته .. قلــّب َ موجات المذياع .. خرج من بطن الأفعى السوداء ليدخل في احدى أرجل الأخطبوط الاحمر الذي له آلاف الأرجل الممتدة على الارض مكونة مدينة سانت لويس الحمراء القديمة .. رائحة العطر اخترقت حجم سيارته .. نظر الى ربطة عنقه في المرآة .. ففتح الباب ونزل .. كانت تنظر اليه من خلال الشباك .. فتحت له الباب قبل ان يطرقها .. جلس قبالتها .. اخبرها انه الآن فقط وجد التي كان يبحث عنها منذ سنين .. تحادثا حول الحب .. ضـَحِكا .. ناولته كأس خمر ٍ, فاقشعر بدنه لما رآه ..نحيه عني قال مرتبكا ..اعطته قدح ماء فوضعه على المنضدة , وعاد يحدثها انه صادق في دعواه .. طلبت منه ان يذهب معها الى غرفة النوم لمشاهدة التلفاز حيث قالت انها تحب مشاهدته هناك .. تعجب من سرعة استجابتها لعواطفه .. اطفأت الأضواء فعرف انها تريد الفراش .. قال لا أستطيع حتى يكون للزواج بيننا عقدا .. أهو الدين ؟ قالت مستفهمة .. فقال نعم .. طيب سأفعل ماتريد , فقال قبلتُ .. اعتنقها فأحست بقوته الشديدة وعنفوان رجولته .. فقالت انك كاذب , فانت في الثامنة عشرة وليس في الثلاثين من العمر كما قلت .. فقال ليس للعمر بين المحبين معنى .. وعندما أرادها امتنعت ..عصرها.. خافت , الا ان مقاومتها لم تكن مقاومة طبيعية نتيجة للخجل على سبيل المثال , بل كانت نتيجة خوف من شيء ما .. حاولت ان تشرح له امرا مهما , الا انه لم يمهلها .. بكت .. ترجته ان يتركها ويرحل , لكنه أصـر .. وعندما ازاح الستار انكشفت له الامور , فخرج مذعورا وانطلق بسيارته .. شعر بالاختناق ..والعرق يتصبب من جبهته ويديه فأخذ يحل ربطة العنق التي ما تعود على ارتدائها كثيرا .. اللعنة .. لماذا لم تخبرني منذ البداية .. لماذا كانت تحدثني عن الحب وكيف يجب ان يكون بين المرأة والرجل , وهو محال معها ؟! أيعقل ُ ذلك .. ؟ ايعقلُ ان يكون كل ذلك الجمال وسامة رجل ليس إلا ؟!! ..والمصيبة انها كانت تصر على انها لا تحب انجاب الاطفال .. ضحك َ .. ضحك َ من أعماق قلبه وهو يضرب على مقود السيارة بيده اليمنى .. تذكر اياما خلت , وليالي صيف كانت تفوح بالحب وتتفجر بالانس والمرح حتى لتسطو على اسطح الجيران , وتحلق حتى لتدغدغ القمر وتضاحك النجوم , وتقفز لتسبح في مويجات الفرات وتراقص سعف النخيل , وليالي شتاء حين كان الحب فيها يغلي ويفور في اعماق وجدانه , فيجعل الاشياء دافئة من حوله .. كانت جدائلها السود المعطرات بالمسك الطبيعي , وعيناها العسليتان المكحلتان بالكحل المحلي تأخذه الى جنات العشق والهوى , فلا يبرح يغازلها فتضربه على كتفه , فيضحك ويعلو صوت ضحكاته , وكلما ازداد ضحكا ومزاحا ومداعبة ازدادت له ضربا , فيمسك يديها فتطرق منه حياءا .. يالحيائها , فهي تستحي منه كلما ارادها رغم السنوات الثلاث التي قضاها معها زوجا نجيبا وحبيبا خالصا وصديقا حميما .. خنقته العبرات .. بكى وبكى ..
= لماذا احبك واشتاق اليك حتى وانت جالس امامي ؟
اعتقد اننا كنا قبل ان نولد روحا واحدة , فانشقت الى نصفين ليحلا في جسدين , فكلما ابتعدنا عن بعضنا تعذبا , وكلما اقتربنا سـُعدا , لذلك نريد ان نقترب من بعضنا اكثر واكثر حتى نلتحم ونلتصق في محاولة محمومة ومستمرة لروحنا ان تتحد , فلا نشبع من العناق والتقبيل وممارسة الحب , فاذا مارسناه اعتقدت الروح انها ستتحد في جسد مخلوق اخر قد ينمو كجنين صغير والذي سيكون مولودنا اذا شاء الله , فتستريح تلك الروح قليلا , الا انها سرعان ماتعود الى الشوق والحنين , وستعرف عما قليل انها سوف لن تدرك السبيل الى اتحادها مرة اخرى ابدا , لذا ستبقى الى الابد محبة عاشقة لنصفها الاخر لاتريد ان تبتعد عنه لانها من دونه ستموت ...

الافعى السوداء تتلوى امامه .. عبر نهر ميزوري , فبدا المدخل الى سانت جارلس قريبا .. وصل البيت .. ضغط على زر مسجل الرسائل الصوتية في هاتفه ..
السلام عليكم .. كيف الحال ياعامر .. ماهذا الانقطاع يارجل .. اتصل بي دعني اسمع اخبارك .. اخوك عبد الرحيم
فتح البرادة باحثا عن اي شيء يأكله او يشربه ..
مرحبا عامر .. انا مرتضى .. ساسافر غدا مبكرا لذا احببت ان اسلم عليك قبل سفري
اخذ يغيرملابسه .. حل ازرار القميص ..
( هاي ) انا أمـَندا .. كيف حالك .. انا اسفة جدا لعدم اتصالي بك في الاسبوعين الماضيين .. ارجو ان اراك هذا المساء لأريك بعض الحاجيات التي اشتريتها لشقتي الجديدة واسالك عن رأيك فيها .. انتظرك في البيت ..
شد ازرار قميصه مرة اخرى وعاد الى سانت لويس ..
الاشجار والزهور ترقص وتغني .. الهواء يبدو اكثر نقاءا .. وكل شيء يبدو اكثر لطفا وجمالا , فأمندا ليست امرا عابرا في حياته , فهي رقيقة الى حد لا يصدق , وخارقة الجمال والذكاء الى حد يركع اعتى الرجال تحت قدميها وهي تتألق كملكة جمال للدنيا بربيعها الثامن عشر ..
لاهم له سوى الوصول الى هذه العمارة القديمة الحمراء التي تقع في قلب الاخطبوط الاحمر سانت لويس وفي اكثر المناطق جمالا ورقيا وقدما .. كان يتمنى ان تأتي العمارة كلها اليه ليختصر الزمن .. المصعد الكهربائي الجميل يرن بضحكاتهما حين كان يساعدها في حمل اغراضها عندما انتقلت الى شقتها الجديدة .. عيناها اللتان تمتزج فيهما الوان عدة يرسلان بريقا ساحرا يجعله يطرق الى ارضية المصعد حياءا .. طلبت منه ان يبقى معها حتى الصباح لما راته تعب من جراء حمل الاغراض معها فرفض معتقدا انه بذلك ربما يحوز على اعجابها لاسيما انه تعرف عليها منذ اسبوع واحد فقط .. توقف المصعد على الطابق السادس .. احتضنته بحرارة وهي تستقبله على الباب
= اشتقت اليك
+ وانا كذلك
= وقت طويل لم نتصل ببعضنا
+ نعم .. انا اسف
= لاعليك فأنا الملومة
+ كيف حال والدتك
= جيدة .. لم تاتها النوبة منذ مدة طويلة
تبدو الشقة كمتحف يزخر بالحاجيات الثمينة جدا واللوحات القديمة وآلات الموسيقى والزهور ..
التقطت قطتها من الارض ثم جلست قبالته ووضعت القطة في حضنها ..
= جميلة ها ..؟
نظر اليها وهو يدغدغ القطة ويلعب معها ويضحك عليها , احس انها تحاول الاقتراب منه
+ أمـَندا ؟
= نعم
+ انا .. انا بحاجة اليك ..
رن جرس الهاتف , فكان كقنبلة انفجرت ومزقت اذنيه , فاتكأ على الكرسي منزعجا جدا
نعم يا أمي .. ماذا ؟ .. متى ؟ سأكون هناك حالا .. هل تريدين ان اجلب لك شيئا معي ؟ طيب .. طيب سأراك هناك .. باي
= يجب ان اذهب الان ياعامر .. انا اسفة .. ولكن عندي فكرة .. لماذا لاتذهب معي .. ؟
+ فكرة حسنة
= هيا اذا .. ولكن هل نذهب بسيارتك ام سيارتي ؟
+ سيارتي
قطرات من المطر لطـّفت الجو .. فتح النوافذ .. وادار جهاز المذياع .. موسيقى هادئة .. سألته ُ ان يكمل حديثه الذي قطعه رنين الهاتف .. قال احبك .. قالت اعلم ُ .. لذلك اتصلت بك لتأتي ليس فقط لترىالاغراض التي اشتريتها ولكن لاقول لك امرا هاما وارجو ان تاخذ الامور ببساطة , حقيقة انني معجبة بك جدا وافضلك على الكثيرين ولكنني ..
+ ولكنك ماذا ..؟ ارجوك لا تكوني محرجة .. قولي اي شيء فأنني انتظر منك قرارا بهذا الشأن منذ اخر اتصال بيننا ..
= الحقيقة .. انني قطعت علاقتي بصديقي وتركته بعد ستة اشهر فقط من علاقتنا ولم تكن بيني وبينه اية مشاكل ولكنني .. ولكنني في الحقيقة شعرت انني ..
+ ماذا ...؟
شعرت بعد علاقة بامراة تكبرني سنا انني ... انني افضل النساء على الرجال في المعاشرة ..
+ ماذا قلت ؟!!
= انا افضل النساء في العلاقات الجنسية ولم اعد اميل الى الرجال ..
انني اكتشفت انني اجد في جسد المرأة ما افضله وابحث عنه .. وانني ..
بدأت صور الاشياء في الشارع ترتبك في عينيه .. اخذت كلماتها تتكسر وتتلاشى شيئا فشيئا فلا تصل الى مسامعه .. انعكست الاتجاهات في ذهنه .. استدار على الجهة اليمنى ليدخل في احد الشوارع الفرعية .. اوقف السيارة .. رمى برأسه على يديه .. مرت دقائق عنيفة حارقة ملتهبة .. شعر بالجفاف والمرارة في فمه .. فتح باب السيارة ..
غادرها والدموع تنهمر من عينيه .. جلس على الرصيف .. فاقتربت منه .. حدثته ..
= خذ الامر بسهولة ..
+ ليتني استطيع ..
كلمته .. حاولت كثيرا ان تجعله يحرر رأسه من بين يديه وركبتيه .. سألته متوسلة ان ينظر الى وجهها مرة اخرى فلم تفلح , حيث لم تعد الاشجار والزهور ترقص فرحا , ولم تعد وجوه الناس جميلة , كل شيء قبيح ووقح وخسيس .. كل شيء شاذ وغريب وماسخ .. فلقد فقدت الاشياءُ اتزانها ومعناها وهي تريد ان تتجرد من فطرتها وطبيعتها .. الطريق السبعون السريع يتلوى كافعى سوداء ليس لها اول ولا اخر .. مئات الالاف من السيارات تعدو لاهثة وراء السراب .. وكأن الطريق لا يريد ان ينتهي الى نقطة ما الا بغلقه او بموت السائرين عليه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما