الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة بوصفها خلاصا من الكتابة - مقاربة شعرية لفهم (اختلاف) ديريدا

عادل عبدالله

2014 / 8 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1- انها الكتابة التي (تحرق وتبدد وتنهك الكلمات) وهي (لعبة التيه) التي يكون الانسان فيها منذوراً (لممارسة فعل النسيان والغياب) بحيث (يحرق نصه باشمئزاز ويمحو آثاره دوماً) وهي من ثم الكتابة التي تؤدي الى النسيان، لكن (دون اتكاء على المعرفة)
2- (تعالَ، أنظر ما يجدّ من جديد شاهد الحدث الفريد)
..... ألا تأتِ؟
3- ولأن هذا الآخر ليس بذي طبيعة لغوية، وهو اذ يلوّح بغيابه من بعيد
فنحن نستشعر حضوره دوماً، في شكل خطر ينذر بالوعيد، أو (في شكلِ شكلٍ لا شكل له).
-جاك ديريدا-



عبر لغة أدبية وجدانية مشبعة بالحس والخيال، ومن خلال صيغ تشبه الممارسة العملية لأداء طقس ما أو شعيرة مقدسة، يتخذ جاك دريدا من نفسه وسيلة وأداة، اذ تتولى فعل التقرب من لحظة (الآخر) فانها تحاول أن تصف وتوضح، عبر فعل التقرب ذاته، ذلك المعنى الغريب والمعقد لمفهوم الاختلاف في فلسفته.
ان تأكيدنا على اتباع جاك دريدا لذلك الاسلوب الأدبي التخييلي في انجاز مؤلفاته الأخيرة، يأتي من قناعتنا الشبيهة الراسخة بقدرة مثل هذا الاسلوب حقاً على بلوغ غايته، أي ايضاح تلك المعاني الخفية التي ينطوي مفهوم الاختلاف عليها، لذا فاننا سنحاول في هذا البحث اتباع الاسلوب التخييلي ذاته.
يمثل الاختلاف – بالنسبة لنا- اجابة تفصيلية عن سؤال (هيدجر) الغريب، السؤال الذي طرحه (شللنج) من قبله ثم استعاده (هيدجر) بنفس صيغته ثم انتقل السؤال ذاته لفلسفة الفيزياء الذرية المعاصرة : أي (لماذا كان ثمة وجود ولم يكن ثمّ عدم).
وإذ تكون الاجابة عن مثل هذا السؤال الغريب مستحيلة، فان صفة الاستحالة هذه، هي الطريقة التي تمثلها دريدا ووجدها مناسبة تماماً للاجابة عن هذا السؤال، فالاختلاف ، هو عملية تدوين المستحيل ومحاولة التعريف بسيرته، ما بقي محتفظاً بصفة الاستحالة هذه،
أما الوسيلة الممكنة لاجراء مثل هذا الفعل المعرفي، فانما تتم من خلال (الاحساس) الكامل به أولاً،
ثم (الايمان) بعد ذلك بكونه مستحيلاً، عصياً ممتنعاً عن (الامكان) بصورة مطلقة،
الأمر الذي يعني ان (ارادة) معرفته واستحضاره ستكون مدفوعة، مساقة بوعي صارم لا يداخله شك بالطبيعة المستحيلة لهذا الوعي الذي نتوجه بملكاتنا لاستحضاره،
ذلك لان نقطة انطلاقتنا في التعرف عليه هي (الايمان) باستحالته وامتناعه عن الامكان أبداً.
اذن فهي ليست محاولة تعريفه او بلوغ معنىً محدد له، انما هي محاولة دعم استحالته، مباركتها وتثبيتها لوهلة تصمد قليلاً خلالها أمام (النظر) من أجل لذة التطلع اليه عبر منافذ الحواس فقط،
وهي اذن – وبهذا المعنى- ارادة المستحيل حين تدوّن نفسها متخذة من هذا النوع من (الكتابة) اسلوباً وحيداً للتنازل عن الكتابة نفسها.
أو فلنقل بعبارة أخرى، انها الاقتراب من لحظة تحقيق حلم (كيركغارد) بالتخلي عن الكتابة، لكن، ليس على وفق اسلوب الكفّ عنها والاكتفاء بالتأمل كما تمنى، انما بممارستها بوصفها نوعاً من الكف عنها، حالة شبيهة الى حدّ بعيد، بمحاولة استحضار شيء ما عبر تغييبه، بوصف هذا التغييب هو ماهيته وهو الوسيلة الممكنة الوحيدة للاحساس بحضوره.
فهو تدوين التخلي لنفسه اذن، وهو وضع النفس خارج نفسها من أجل النظر اليها مرة واحدة بعين غيرها،
بعينها هي، لكن، بانزياح مختلف تفترضه خارجية الرؤية هذه.
من هنا، فالاختلاف هو تدوينٌ لسيرة لم تحدث، تدوين سيرة آخر العقل والحضور الذي يتطابق معه،
انه الاحساس بالغياب، بالموت، ذلك الذي نحس به فقط، نستشعر وقوعه، دونما اي مصدر حقيقي يبرز مثل هذا الاحساس لنا، لأننا لم نزل احياء بعد بامتياز مطلق، حيث لا مكان للموت في الجسد الحي بأي مقدار يذكر،
لكننا وبرغم ذلك نحس بهذا الموت/ الآخر،
نستشعر وجوده، بل ونكاد نراه أحياناً ماثلاً هناك فينا بالرغم من يقين كوننا أحياء تماماً،
أعني انها ذات الحال الذي يمتلكها العقل في علاقته بالحضور والآخر،
ان العقل حاضر في نفسه، ماليء اياها، متطابق مع حضوره وممتليء به،
لكن ثمة احساس ما بالغياب، بذلك الآخر الصامت الذي يقف على مقربة من مطلقه، ممثلاً بوقوفه هذا، شيئا ما خارج المطلق،
ذلك الذي تفترض تعالميه وماهيته ان لا يكون هناك شيء ما خارجه أبداً.
الاختلاف هو رفض العدمية بكل أشكالها، لأنها ليست عدمية مطلقة،
ولأنّ فلاسفة العدم، اكتفوا بالاشارة اليها وتمثيلها فقط، كان جاك دريدا يريد لها أن تحضر، أن تبدو للعيان وأن تتكلم هي عن نفسها، لا أن يقال الكلام نيابة عنها، لأن مثل هذه النيابة لا تصدر عنها أبداً، بل انها لتؤكد بهذا الفعل على وجود نقيضها وحضوره أبداً، أي حضور العقل والوجود والهوية.
هكذا تكون الفلسفة، العقل الفلسفي، غير قادر أبداً على استحضار وادراك ماهية الاختلاف، الآخر، الغياب والعدم – وهي تسميات لشيء واحد- لأن هذه الماهية لا تستحضر بوسائل العقل، الحضور، الوجود، الوعي، الهوية، أبداً.. انما تستحضر فقط من خلال الحس بها، بخيانة العقل لنفسه في لحظة وهن يمكّنُ الشعور بها من التطلع اليه وهو متلبس بحضوره ومتحد معه، متلبس بتفكيره ومنغلق عليه وعلى نفسه بعلاقة حميمة تؤكد بحزم انه من طينة تختلف عن هذا الشعور المراقب الذي يتطلع اليه بكل غربته واختلافه،
الأمر الذي يعني ضرورة تربية حواسنا بطريقة ما تجعلها قادرة على تمييز نفسها عنه،
بل وعلى تمكينها من نوع من الادراك المستقل، المكتفي بذاته،
أي ذلك الذي لا يرفع الى العقل ليدرك عنه طبيعة ماهي عليه،
بعبارة أخرى، ان علينا أن نمنح الحواس شيئا من طاقة العقل وملكاته، مع ضرورة التحفظ والمحافظة على بقائها حواساً، مشاعرِ متميزة عنه مكاناً وماهيةً، كيما نمكّنها من التطلع الى العقل وهو حاضر في نفسه، مفكراً بها وبحضوره وممتلكاته وتأريخه العظيم،
بعبارة موجزة، ان علينا أن نقيم بذواتنا مستعمرات صغيرة لتربية الآخر وتمكينه من رؤية نفسه أولاً، الرؤية الكفيلة باحساسه باختلافه عن العقل،
لكن على أن تتم آلية التمييز والرؤية هذه، به وحده ومن خلاله فقط، أي من خلال الحس وحده، بوصف هذا التمييز نتاجاً أولياً خالصاً له.
لكن، كيف يتمكن الحس من الاحساس بنفسه؟
أي كيف يتمكن (وعي) الاختلاف من أن يميز نفسه، كوعي مغاير مستقل قائم بذاته ومختلف، عن وعي الحضور المتحد بالعقل، بحيث يستطيع الوقوف خارجه، بكل ما يمكن أن تعنيه هذه الخارجية من واقعية الحدث، مع ضرورة التأكيد على أن لا يكون فعل المراقبة أو عملية (الادراك) تلك مستمدة من العقل ذاته كعملية تفكير أو كوعي نقدي متعالٍ مخالف له كلياً، رغم كونه مستمداً منه؟
هنا يلوح في أفق العقل فكر (هيدجر) ملوّحاً باحدى الاجابات الممكنة عن هذا السؤال على وفق الصيغ الوجدانية التي قدمها في بحثه الأصيل (ما الميتافيزيقا) أي في اطروحته (النفس – فلسفية) القائلة بقدرة الانسان على مواجهة العدم حقاً، عبر بوابة القلق التي تؤدي اليه،
يقول (هيدجر) متحدثاً عن ذكرى استحضار الانسان لهذه اللحظة :
(أما أن القلق يميط اللثام عن العدم، فهذا ما يؤكده الانسان نفسه، حين ينحسر عنه القلق، وبالنظرة التي ما برحت تحمل الذكرى الغضة لتجربة القلق نجد أنفسنا مدفوعين الى القول، بأن هذا الذي قلقنا عليه ومن أجله لم يكن في الحقيقة شيئاً، والواقع أن العدم نفسه -بما هو كذلك- كان موجوداً هناك) ص112.
ان الخلاصة العميقة التي نستشفها من نص هيدجر هذا تتمثل في تحول الاداء الفلسفي البرهاني – الذي يفترضه السياق الفلسفي- الى مقاربة نفسية تتخذ الأحاسيس والمشاعر ميداناً لها،
أي أن الحس هنا هو الذي يشهد للعقل، يبرهن له ويعلمه تجربة مصادفة العدم، أما دور العقل هنا فيقتصر على استذكار هذه التجربة حسب،
استعادة وقعها وصداها دون ادراكها وفهمها عن قرب حميم،
لأنها لم تحدث فيه ولم يكن هو الشاهد عليها،
أي أنها تجربة خارجية بالنسبة اليه كلياً، انها تجربة احساس الحس بنفسه، (ادراكه) – عبر الوسائل الوجودية/ الوجدانية لشيء ما يخص الكينونة الكلية لوجود الانسان.
لكن، يبقى السؤال الأهم بالنسبة لنا، هو، كيف يتسنى للانسان منح مثل هذه اللحظات النادرة، سريعة الزوال، شيئاً من الديمومة والثبات والتماسك، بحيث يتمكن الوعي من تأملها واتخاذها لوهلة، موضوعاً له؟
أحسب ان الاجابة عن مثل هذا السؤال تقول باستحالة امكان اتخاذ مثل هذه اللحظات موضوعاً للعقل أو لملكاته، ذلك لأنها ليست من جنسه أو من طبيعته، اذ لو كانت كذلك في طبيعتها، لأمكنه ضمّها له، ادراكها، ووعيها سبيلاً الى التطابق مع مقولاته ، اي مع وعي الحضور الذي يحظى على الدوام بامتياز امتلاكه ،
الأمر الذي يعني ببساطة، انها لحظة (الآخر) حسب،
برهة اشارته لوجوده،
ذلك النوع من الوجود الذي تتساوى عنده وفيه لحظة أدراكه وزواله،
أي أن تكون لحظة ادراكه، لحظة الانتباه لوجوده هي ذات لحظة فنائه وزواله،
الاختلاف، اذن،
هو احدى اللحظات النفسية الوجودية العميقة التي تعرض نفسها للعيان وحيدة مختلفة أمام ذلك اللوح الهائل المتجانس لمجمل زمن حياة الكائن نفسه،هو، لا سواه،
أي لا كما يحاول كائن آخر – تعرّض لرؤية هذه اللحظة- وصفها له والحديث عنها،
لأن مثل هذه المحاولة هي عبث محض لا جدوى منه أبداً،
بسبب من عدم قدرة اللغة – وسيلة العقل، على احتواء تجربة تقع خارج مسرد معانيه وقاموس الفاظه وامكانياته أيضاً،
كونها، أي كون هذه التجربة تحمل معنىً واحداً حسب،
هو حدوثها،
أي أن معناها الوحيد هو حدوثها،
إمكان مصادفة الانسان لهذا الحدوث باعتبارها أكبر، أوضح وأدق ما يمكن أن تعبّر به عن نفسه، دونما أية اضافة يمكن الحاقها بفعل الحدوث هذا سبيلاً لتقريب فهمها أو ادراك سرّها وطبيعتها،
بعبارة وجيزة ان الايمان بكون حدوثها هو المعنى الوحيد لها،
ثم الرجوع – بعد ذلك- الى العقل محمّلين بقناعة ما حدث هناك بنبأ وجود شيء ما مختلف كان قد أشار لنفسه بصمت هناك،
هو المعنى الوحيد لها،
من هنا، فان الطريقة الوحيدة (لفهم) معنى الاختلاف هي،
اكتشاف الانسان له في نفسه،
احساسه به،
عبر لحظة وعي – نفسية مختلفة، أنشأها وأطلقها استبطان وتركيز ذاتي شديد مأخوذ بحدس وجود شيء ما هناك أولاً، وبضرورة التخلي عن الوعي الحاضر، عن حضور الوعي، بواسطة (وعي) التخلي عن ذلك الوعي الحاضر، من بعد.
كيف يمكن التعبير عن (وعي) التخلي عن الوعي وهل يمكن لمثل هذا الوعي أن يوجد أصلاً؟
هذا هو السؤال الذي يؤدي الايمان بامكان الاجابة عنه، أي بامكان حدوث استحالته، الى الاجابة عنه حقاً.
أقول، الاجابة عنه، وأعني (استحالة الاجابة عنه) كإجابة وحيدة صادقة وممكنة، تؤمن، ترضى وترضخ لهذا النوع القدري من الاجابة،
أي تأخذ بالاعتبار وتستمد طبيعتها من واقع حال المواجهة الجائرة بين الخصيمين،
أعني، العقل بكل هيبته وحضوره واطلاقه وتأريخه، من جهة،
وبين خصيمه الآخر، ذلك الأعزل بامتياز، أي ذلك الذي يكتفي بالاشارة الى وجوده باعتبار هذه الاشارة أكبر وأقصى ما يستطيع فعله في لحظة صراعه القدري هذا،
النزاع الذي كُتب الانتصار فيه للعقل مسبقاً وبشكل قدري مطلق،
اذ تفترض كلّ طبيعة صراعية (إمكان) تفوّق أحد الخصيمين على الآخر.
هكذا، سيغدو الاختلاف حاملاً لمعنى التبشير بيقين ما يستمد ماهيته وحقيقته من رحم الشك نفسه،
يقين لايمكن بلوغه أبداً،
يقين بعدم بلوغ حامله لما يعد هذا اليقين ببلوغه،
لأنه يقين بلا مضمون ولا يعد بشيء أصلاً سواء أآمن حامله بوجوده أم لم يؤمن،
لكنه – من جانب آخر- نداءٌ داخلي،
أو ربما خارجي أيضاً،
انه ليس وهماً، كما يمكن أن توحي مثل هذه العبارات بطبيعته،
لانه لاشك للذات أبداً بيقين احساسها به،
وهذه هي لحظة الحقيقة التي تشوب كينونته بالرغم من كونه نداءً لا يسمع ولا يقول شيئاً ولا يشهد على شيء أبداً،
لكنه – ورغم صفاته السلبية هذه- يحمل يقينا ما بأنه غير صادر عن العقل ولا منتم الى لغته،
أي الى لغة الحضور التي يخاطب العقل بها نفسه وممتلكاته،
بل ان جاك دريدا ليذهب أبعد من ذلك في قضية تأكيد خارجيته حين يصفه بأنه نداء (يأتي من خارج الكائن ويخاطب فيه ما يتجاوز حدوده) كما يقول في (نبر) (ص94- الفكر العربي المعاصر- 48 49).
لقد وضع دريدا نفسه (وحدها) معلَنة بلحظة الاختلاف، إزاء التراث الفلسفي الانساني بكامله،
ما مضى منه وما سيأتي،
ذلك لأنه لم يضع فكره إزاء هذا المفكر أو ذاك،
انما قد اختار لنفسه المواجهة مع مشكلة العقل كلها،
في الفلسفة وفي غيرها،
مع اشكاليته في تحولها ونموها وآلية اشتغالها،
بعبارة موجزة، ادانته لماهية العقل وكينونته المتطابقة مع ما يحضر فيه فقط، بأسم شيء ما ينكره العقل ويتنكر لوجوده،
شيء ما يقع خارجه،
حين يفترض العقل ان كل شيء موجود حاضر فيه،
بل ليدعي بأن مثل هذه المواجهة لكامل انتاجه ولماهيته لايمكن لها أن تتم أو تنجز بغير وسائل عقلية من نفس نوعه،
الأمر الذي يسوّغ طرح التساؤل المشروع الآتي:
هل يمكن اعتبار التفكيك ووعي الاختلاف والآخر، بكل اراداته المضادة للعقل، وعياً عقلياً ينتمي الى العقل كأحد أساليبه النقدية المثالية المتعالية في التعرض لنفسه؟
بل لماذا لايمكن عدّ دريدا نفسه – خلال تعرضه لميتافيزيقا العقل هذه ومركزيته – مفكراً ميتافيزقياً (معبراً عن الوجه الآخر للميتافيزيقا المغاير لذاته) كما يقول (هنري ميشينك) – في كتابه (العلاقة والقصيدة) 490، المصدر نفسه-
بل لماذا لا يمكن عدّه مفكراً يهودياً كما أشار بعض الدارسين الى هذه المسألة، حين افترضوا – منطلقين من مقدمات صحيحة- علاقة فكر دريدا بالتعاليم اليهودية القديمة – القبالة وأسفار اليهود- وظهورها بشكل واع أو غير واعٍ في أدائه لأفكاره؟
ان السؤال المهم هنا، هو،
اذا أخذنا بالحسبان علاقة فكر دريدا بالديانة اليهودية القديمة وأسفارها ونمط ثقافتها الخاصة أولاً،
ثم أخذنا بالاعتبار من بعد،
مسألة تخليه – شأن نيتشه وهيدجر- في كتاباته عن الأداء الفلسفي البرهاني لأفكاره
ومن ثم اتباعه، تبنيه واستخدامه للغة ايحائية وجدانية مشبعة بالحس العرفاني والمعاني الغنوصية الصوفية ذات الصياغة الدينية أحياناً، لأداء مضامين أفكاره، أقول إذا أخذنا بالحسبان هاتين المسألتين أي المضمون الميتافيزيقي العميق، الخفي والمبتكر لفكر دريدا، من جهة،
ثم أداءه لهذا المضمون عبر لغة تخييلية رمزية بادية الحس والعاطفة، موحية على الدوام بمحبة غامرة يحركها قلب عاشق دنف مشغول بحبه ومستلب فيه، من جهة أخرى،
فان ما يمكن اضافته لهما أي ما يمكن أن يؤديا اليه، هو السؤال،
عن علة اتخاذ دريدا للآخر محوراً وخلاصاً لفلسفته،
عن الغاية الخفية لمثل هذاهذا الاختيار،
وعن السبب الذي يحتم عليه مخاطبته عبر هذه اللغة الوجدانية الشفيفة،
أي انه السؤال الذي تتضمن الاجابة عنه،
الكشف عن حقيقة اخلاص دريدا لغايته،
عن مقدار قربه منها ودرجة انتمائه لها،
ثم تضمنها الكشف أخيراً،
عن مدى صدق علاقة الحب هذه،
عن سرّها
وعن سبب اتخاذها مصيرا، قدراً يقدّم الانسان فيه نفسه برضىً كلي هبةً ونذراً لمن يتوجه بالخطاب اليه؟
وللاجابة عن هذا السؤال، نقول:
تنطوي فكرة (الاختلاف –الآخر) على بعد نفسي وجودي عميق يتخذ الذات نفسها (ذات دريدا وكل ذات) موضوعاً لها،
تماماً، كما اتخذت فلسفة هيدجر من قبل هذه الذات موضوعاً،
لكنها مأخوذة هنا بعلاقة أكثر قرباً وحميمية،
أعني مأخوذة بذلك المعنى المشبع بالعناية والندم والتوق لها،
المعنى الذي قصده (فوكو) حين سأله أحد النقاد، بعد انجازه الجزء الثالث من كتابه - تاريخ الجنسانية- إنْ كان ينوي اكمال مشروعه الفلسفي بكتابة جزءٍ رابع له، إذ أجاب:
(لا، سأهتم بذاتي)،
كأن الكتابة ليست اهتماماً بالذات
أو كأنها انصراف عنها كما يفهم.
إن السؤال الذي نطرحه عقب هذه الواقعة، هو،
إذا كانت الكتابة لا تعني الاهتمام بالذات، بل تعني الانصراف عنها أيضاً،
فما الذي يمكن أن يفعله الانسان المفكر للاهتمام بذاته؟
أعني ما نوع الفعل الذي يمكن أن يؤديه المفكر للتعبير عن اهتمامه بذاته؟
هذه هي المقدمة الصحيحة التي ستفضي بنا لمعرفة دوافع اختيار دريدا (الآخر) المختلف، نداء الذات، غير العقلي، موضوعاً لفلسفته.
فاذا كانت الاجابة عن سؤالنا المتعلق بنوع الفعل البديل للكتابة، ذلك الذي يمكن أن يمارسه المفكر كأعلان عن اهتمامه بذاته، هي،
تأمل هذه الذات واستبطان أحوالها وأسرارها، كأحد الاجابات الممكنة،
فان جاك دريدا قد اختار لنفسه نمطاً آخر من الاجابة عن السؤال نفسه، أعني سؤال فعل الاهتمام بالذات بعد اعتبار فعل الكتابة انصرافاً عنها، متمثلاً ذلك، بادائه لحركة مزدوجة،
اذ تنفي حاضر العقل وحضوره وسلطته،
فانها تستبدل هذا الحضور باتخاذها غياب الذات، الاختلاف والآخر، موضوعاً لها، بوصف هذه المسمّيات البديلة، مداخل أو علامات كبرى تفضي وتعبّر عن اهتمام الانسان بذاته وانشغاله بها، كمقابل للكتابة، لإرادة الكتابة التي هي احدى الوسائل الفاعلة لتكريس سلطة العقل والحضور، والتي هي وسيلة الانصراف عن الذات أيضاً.
لكن، أيّ نمط من الكتابة سيعمد دريدا الى اتخاذه سبيلاً لتنفيذ مهمة الاهتمام بالذات والانشغال بها اذا كانت كل كتابة تنطوي في جوهرها على الاتصال والاضافة،
اي على مبدأ تكريس سلطة العقل والحضور وتعزيز كيانه،
لأنها تصدر عنه أصلاً؟
أعني أثمة كتابة ما، نمط كتابي محدد، يمكن ملاحظة اختلافه عن أنماط الكتابة العقلانية الأخرى المأخذوة بارادة المعنى
بحيث يتم الاعتراف له باختلافه وتفرده،
أي بامكان القول المجازي عن هذه الكتابة – بعدم صدورها عنه، استناداً الى (وعي) مضمونها الحاد المخالف كلياً لارادة العقل ولمبادئ صلته بأنماط الكتابات التي تصدر عنه،
المهملة له،
والمتوجهة لسواه، بارادة مطلقة مشغولة بالنداء الذي يملي عليها وقتها وكينونتها؟
بعبارة وجيزة أقرب الى وصفها نقول،
انها الكتابة التي تخرج على قانون العقل بحيث يتنبه العقل الى خرقها السافر هذا فيضطر الى الالتفات عن الجهة التي يحضر فيها ويؤكد ذاته،
الى جهة سواها،
وهي أيضاً نطفة كتابة لقيطة
وضعتها ارادة الاختلاف في رحم العقل بحيث تتمكن من اعلان اختلافها عنه منذ اللحظة الأولى لولادتها.
انها الكتابة التي (تحرق وتبدد وتنهك الكلمات) كما يصفها دريدا في (الكتاب والاختلاف-403)
وهي (لعبة التيه) التي يكون الانسان فيها منذوراً (لممارسة فعل النسيان والغياب) –ص335-
بحيث (يحرق نصه باشمئزاز ويمحو آثاره دوماً) –هوامش167-
وهي من ثم الكتابة التي تؤدي الى النسيان،
لكن (دون اتكاء على المعرفة) – بطاقة بريدية ص85-.
هكذا يصف جاك دريدا كتابة الاختلاف،
أي كتابة الاهتمام بالذات،
الكتابة التي يمكن تحديدها بمزيد من الصفات،
عبر القول عنها،
انها تلك الكتابة التي لا معادل وجودها لها،
لا غاية ولا أمل في الوصول الى شيء ما،
لكن بوصف هذا اللا- أمل،
هذا الضياع واليأس المطلق حقيقة تقيم في جوهرها كمبدأ يحرضها على المضيء أبداً باتجاه تيهها القدري،
انها الكتابة المؤادة بفعل لذة الانسحاب من العقل وقرار مغادرته دونما رجعة اليه ابداً،
بعد خيبة الوصول الى ما كان يعد به من الكمال والحقيقة،
فهي اذن، قضاء المضي بالاتجاه الآخر المقابل له،
دونما التفات أبداً الى الجهة التي ينادي منها مستبقياً اياناً، حريصاً هذه المرة، على أن لا يكون نداؤه شبيهاً لأيّ من تلك النداءات التي غررّت بنا من قبل للكتابة عنه،
أي انها الكتابة التي لا تتحول ولا تصبح كتابة عنه وله
اذْ تعرض نفسها في البدء على انها كتابة (عنّا)،
فهي الكتابة التي تفضح ممارسات العقل اذن،
أي انها تلك الكتابة التي تتولى فعل الكشف للكائن عن كونه مخلوق غواية العقل وضحية وعوده،
تلك التي لا تعد بشيء حقيقي ولا تصل الى أي شيء عظيم يساوي عناء الرحيل ومحنة السفر باتجاهه، الأمر الذي يعني الكشف عن حقيقة:
ان الغش والخداع يقومان في جوهر نموه بوصفهما علة اتساعه ومبدأ صيرورته،
حين يقدم (الآخر) صدق محتواه ووعوده،
اذ يعترف ويعد منذ البداية بعدم امتلاكه لشيء وعدم وصوله الى شيء ابداً.
فهي الكتابة التي تعبر عن الاخلاص للذات اذن،
اذ تكون كلّ كتابة لموضوعات العقل خيانة لها،
انها الكتابة التي ينظر لها بوصفها مشاهدة حسية لما تبقى من عمر الكائن،
من أجل ملئه بها وضمّه بحنان اليها،
الاحساس به ومراقبة آناته وهي تمضي باتجاه الزوال واحدة تلو أخرى،
من أجل أن يغدو (اقتحام الموت، أمراً مرحاً ومريحاً) –الكتابة والاختلاف407- حين تذعن له آخر آن لنا في الحياة،
فهي الكتابة الحيّة اذن، كتابة الحي لوعيه بحياته واحساسه بها من خلال مراقبته التي لا تغمض عنها طرفة عين،
لأن هذه الحياة، حياة ذاته،
هي موضوعها الوحيد،
اذ تكون كل موضوعات العقل انشغالاً عن هذه الحياة بسواها، انصرافاً من الذات الى الآخر، ذلك الأنا العام، غير المعني بها أبداً.
انها كتابة لا ماضي لها ولا ذكرى ولا تصدر موضوعاتها عن ذاكرة
بل هي انبثاف أوليّ حرّ لا يتكرر،
انها توجه محموم الى الحاضر المتحد بلحظة الغيب والغياب والمستقبل،
انها الكتابة من خلال موقع الأثر،
ذلك الصدى الموحش الذي تخلّفه حركة الديالكتيك بعد امتصاصها العقلي لنقيضها (الآخر) الذي دأبت على تغييب كيانه على وفق قياساتها المنطقية الجائرة،
غير أنه موقع له صيرورته هو الآخر
فهو (الذي يتغير ولا يثبت على حال) –نبر95-
انها الكتابة التي لا ايصال ولا تواصل لها
وهي التدوين الذي يمحى لحظة كتابته
لأنه مدون على وفق سياقات وجدانية، نحوية وبلاغية مبتكرة تمليها رؤية (الآخر) فقط، ذلك الذي لا يثبت ولا يحل في مكان.
من هنا فاذ تتوجه كل كتابة عقلانية الى الحضور،
أي الى تاريخ الأنا العريق، من حيث ان هذا الانا مقيم في جوهرها
فأن (الاخر) هذا ، هو آخر هذا التوجه
نقيضه وضدّه،
ذلك الذي تحجب كل هذه الأنواع من الكتابات حقيقيته ووجوده المغيّب الطليق.

الهامش

- لمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع، ينظر كتاب عادل عبدالله ( التفكيكية ارادة الاختلاف و سلطة العقل) دار الحصاد، دمشق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إيران لإسرائيل: كيف غيرت قواعد اللعبة؟| بتوقيت برلين


.. أسو تخسر التحدي وجلال عمارة يعاقبها ????




.. إسرائيل تستهدف أرجاء قطاع غزة بعشرات الغارات الجوية والقصف ا


.. إيران قد تراجع -عقيدتها النووية- في ظل التهديدات الإسرائيلية




.. هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام