الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن والدستور

فالح عبد الجبار

2005 / 8 / 10
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


الانشغال بالدستور في عالم لا دستوري هو واحدة من مفارقات كثيرة، تتحول الى برزخ مايني يتسع بين العراق ومحيطه. لكن مشاغل الدستور مريرة. ذلك ان الانتقال الى دولة القانون، الذي طال انتظاره يأتي في لحظة وخيمة، من سقوط الايديولوجيات الجامعة، وتفتت القوى الاجتماعية، وصعود الهويات المحلية، اللابسة لبوس الاسلام التقسيمي (سمّه ما شئت: مذهبية، او طائفية، اسلامية او اصلاحية، اصولية او ظلامية... الخ).
وتتصارع الآن صيغ عديدة للدستور، الذي يفترض به ان يكون بمثابة عقد اجتماعي للكل، لا لأجزاء. والمباراة تبدو لي، حتى الآن، غير حميدة. ذلك انها تتركز على حذف والغاء كل ما هو مدني وحضاري في الدستور المؤقت، المسمى: قانون الادارة الانتقالي.
خرج قانون الادارة الى الوجود في ظل ادارة بريمر، وهذه الواقعة وحدها تكفي بنظر بعض النقاد والآيديولوجيين الى وسمه بميسم الرجس. فكل نص دُوّن في ظل الاحتلال يُعدّ، والحالة هذه، باطلا. ولا يهم هنا فحواه، بل توقيته. الواقع ان المدارس الآيديولوجية الاحتكارية والاسلامية المحافظة تزدري هذه المثل وتربأ بها، ولو دونت هذه المثل عينها في دستور بأقلام وطنية صرفا لوصموها بالتمزيق او بالكفر والزندقة. "فلا يحق لبشر ان يشرع" كما يقول فقهاء هذه المدارس، دون ان يلتفت أحد الى ما في هذا القول من ادعاء الإلوهية عند هؤلاء الفقهاء عينهم.
يمتاز الدستور المؤقت (قانون الادارة الانتقالي ) بنصوص حضارية، مستمدة من احدث تجارب النظم الدستورية في حل مشكلات تمركز السلطة، وتوزيع الموارد، وتنظيم العلائق بين الاثنيات والجماعات الدينية، وحماية الجماعات والافراد من غول الدولة، وارساء المؤسسات على قاعدة قانونية راسخة.
لعل اول ما يلقت الانتباه في الدستور المؤقت (قانون الادارة الانتقالي ) انه يلغي مركزة السلطة (استبداد السلطة التنفيذية)، ويعيد مبدأ تقسيم السلطات تنفيذا وتشريعا وقضاء. ومن سماته انه يعيد تنظيم السلطة القضاءية بارساء استقلالها المالي (ميزانية خاصة)، وتنظيمها في مجلس اعلى للقضاء، ومحكمة دستورية تحد من سلطة الجمعية الوطنية (ان ارادت تجاوز الدستور). السلطات في العهد الشمولي والعهود العسكرية تركزت في هيئة واحدة (مجلس قيادة الثورة)، تجمع سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء الدستوري.
واظن ان الدستور المؤقت(قانون الادارة الانتقالي ) يتفوق على الدستور الملكي البرلماني – الدستوري في هذا الجانب، حيث ان الدستور الملكي كان يمنح صلاحيات واسعة للعرش في حل البرلمانات والوزارات بالمراسيم.
ويمتاز قانون الادارة الانتقالي ايضا بوضع أسس اللامركزية الادارية، حلا لمشكلة النظم السابقة شديدة المركزية. فالمركزية باتت وباء يهدد النسيج الوطني بسبب تركز السلطات في بغداد يحصر جل الموارد في العاصمة، ويترك المحافظات في حال من الحرمان والتمرد. ولعلها سمة في عموم بلدان المنطقة، حيث تنحصر الخدمات في العاصمة، لتتوسع هذه توسعا سرطانيا. وان جل العواصم في المنطقة يضم نحو ربع السكان او اكثر (بغداد 6 ملايين، القاهرة15 مليون).
النظام اللامركزي لا يقسم البلد، بل يقسم السلطات، ويمنح للمناطق الادارية حصة مشروعة في الثروة الاجتماعية (النفط) وحقا في التصرف بهذه الموارد وفقا لحاجاتها الفعلية.
يمتاز قانون الادارة الانتقالي ايضا بوضع أسس جديدة اتحادية (فيدرلية) لحل المسألة القومية، من جانب، وتقوية النظام اللامركزي في جانب آخر، على القاعدة ذاتها: التوزيع العادل للموارد، والتصرف المحلي او الاقليمي بها تبعا لحاجات المناطق.
يفهم البسطاء والآيديولوجيون الفيدرالية (الاتحادية) على انها تقسيم للبلد، في حين انها تقسيم للسلطات على قاعدة وحدة البلد. ومعروف ان الحكومة الاتحادية تتولى الشؤون الاساسية من وظائف الدولة الحديثة (الدستور، القانون، الدفاع، الاقتصاد الوطني، التمثيل الدبلوماسي... الخ)، بينما تدير الاقاليم الشؤون الاخرى. وان تقسيم السلطات هذا ضرورة للحفاظ على وحدة الأمة متعددة القوميات والثقافات والاديان.
ومما يميز النظام السياسي الجديد، حسب منطوق قانون الادارة الانتقالي المؤقت، ايجاد ضمانات للجميع وعلى اساس مبدأ التوافقية. وهذا المبدأ جديد كل الجدة على الفكر السياسي في المنطقة عموما.
التوافقية في الاساس تقوم على ايجاد آليات للتوازن بين شتى الجماعات المكونة للأمة (العراقية في هذه الحالة) باعطاء عناصرها الرئيسية حق النقض، أي قوة التعطيل، من اجل حمل الاكثريات الاثنية على اخذ مصالح الاطراف الاخرى بعين الاعتبار.
وهذه مسألة بالغة الاهمية، اذا تذكرنا أمرين: ان الدولة الحديثة قامت على مبدأ الديمقراطية وهي الحكم بالرضى وحكم الاغلبية، لكن الدولة الحديثة قامت ايضا على مبدأ القوميات: لكل أمة دولتها. واوضحت التجربة التاريخية وجود تعارض بين مبدأ الديمقراطية (حكم الاغلبية بالاقتراع)، ومبدأ القوميات في الدول المختلطة قوميا ودينيا، وهو تعارض افضى الى استبداد الاثنيات الكبرى (ethnocracy)، ولحل هذا التعارض وجدت صيغ الفيدرالية، او التوافقية، او مزيج الاثنين.
ويتجلى مبدأ التوافقية حاليا في انشاء مجلس رئاسي يضم رئيسا ونائبين يمثلون الجماعات الرئيسية، ويتمتع كل عضو بحق النقض (الفيتو). ويمكن للفيتو الرئاسي تعطيل التشريعات الماسة بالتوازن.
زد على هذا ان التشريعات البرلمانية ينبغي ان تحظى باغلبية موصوفة (الثلثين)، بدل الاغلبية البسيطة (50%+1).
وبالطبع يرفض دعاة المركزية هذا المبدأ المقيّد.
هناك ايضا قيد توافقي على كتابة الدستور الدائم، اذ من حق ثلاثة ارباع المصوتين في أي ثلاثة محافظات رفض الدستور. وهذا يعطي عمليا للاكراد وللمحافظات غير الخاضعة للنفوذ الاسلامي، ان تصدّ او تعطل عملية كتابة الدستور اذا كان ماسا بمصالحها.
هذا الوضع يرغم الجميع على الاتفاق، ويعطل الاحتكار أنى أتى. الميزة الاخرى الهامة في الدستور المؤقت انه يعترف بالاسلام مصدرا للتشريع بين مصادر اخرى. ولا يقر تشريع اية مادة تنافي "ثوابت الاسلام المجمع عليها". وتعبير الثوابت هنا مقيد بالاجماع عليها من جانب المسلمين، وهي صيغة توفيقية تأخذ في الاعتبار صعود الاسلام السياسي المتمذهب، من جانب، وتراعي متطلبات الحياة العصرية من جانب آخر. ويحظر الدستور المؤقت تشريع كل ما يتناقض مع حقوق الانسان والحقوق المدنية ومبادئ الديمقراطية، والمعاهدات الدولية.
اخيرا يعطي قانون الادارة الانتقالي للمرأة دورا معقولا (في ظروف الذكورية الاصولية المنفلتة هذه الايام) بتخصيص 25% من المقاعد لها في هيئات الحكم، ويحافظ على قانون الاحوال الشخصية القديم، وهو العنصر الايجابي الوحيد من تشريعات الماضي.
هذا العرض المفصل بعض الشيء لقانون الادارة الانتقالي المؤقت يرمي الى تبيان ان مساعي الغاء هذه الأسس ستكون وبالا على العراق.
أزعم ان قانون الادارة الانتقالي المؤقت يبلغ من الرقي مبلغا يتجاوز به المستوى الراهن للمجتمع العراقي تجاوزا مرعبا. واقول "مرعبا" بوعي تام، لأن العراق فقد الكثير من سماته المدنية، وعاد القهقرى في مستواه الفكري والسياسي الى عالم ما قبل الدولة الحديثة. ولم يعد يقوى (مؤقتا كما نأمل) على استعادة عافيته الحضارية.
لقد صيغ قانون الادارة الانتقالي المؤقت في ظل توازنات ما قبل الانتخابات. اما توازنات القوى بعد الانتخابات فمغايرة.
ثمة ثلاثة كتل اساسية: الكتلة القومية الكردية في جانب والكتلة الشيعية في جانب، وكتلة اياد علاوي الوسطية مع قوى اخرى في جانب. حازت الكتلة الشيعية على48.1 % من الاصوات، لكنها حصدت اكثر من 50% من المقاعد، بسبب تبديد نحو نصف مليون صوت على القوائم الخاسرة.
ومن الواضح ان ثمة افتقار الى كتلة وسطية عربية نافذة. وتحاول الكتلة الشيعية استخدام مبدأ الاغلبية البسيطة، (لا الاغلبية الموصوفة) لالغاء مبدأ التمثيل النسبي حسب منطوق قانون الانتخابات كي يفضي الى تدمير الكتلة الوسطية (كتلة اياد علاني + الحزب الشيوعي + قائمة عراقيون وقوى اخرى)، وحرمان الاقليات الدينية والقومية من التمثيل، على امل ان يسفر دخول المناطق المحرومة من الانتخابات الكاملة (الموصل، الانبار، صلاح الدين... الخ) عن صعود تيار اصولي قابل للتحالف من اجل أسلمة كاملة للنظام السياسي على غرار ايران.
يخلط هذا المسعى بين الاغلبية كمفهوم اثني او ديني، والاغلبية كمفهوم سياسي. الاول حقيقة سكانية احصائية ثابتة، والثاني حقيقة انتخابية متغيرة. كما ان المفهوم القانوني/الدستوري للاغلبية لم يقم ولم يقوم على الاغلبية البسيطة (50+1) بل على الاغلبية الموصوفة او المطلقة (اغلبية الثلثين)، مشفوعة باشتراك كل الاطراف حسب مبدأ التوافقية. ان مساعي تغيير الأسس المتوازنة ستدمر كيان الدولة العراقية، ان كتب لها النجاح.
ثمة الآن مساع حثيثة لما يلي:
1 – الغاء مبدأ التوافقية (تمثيل الكل في مجلس رئاسي مع حق الفيتو).
2 – الغاء مبدأ اغلبية الثلثين الدستوري.
3 – الغاء او تشويه الطابع الاتحادي (الفيدرالي) للنظام السياسي.
4 – استبدال المواد الناظمة للعلاقة بين الدين والدولة المشار اليها بمواد مقاربة في فحواها للدستور الايراني.
5 – الغاء النسبة المخصصة للمرأة في هيئات الحكم.
6 – الغاء التوقيع على المعاهدات الناظمة للحقوق المدنية بحجة تعارضها مع الاسلام.

خلاصة:

يترتب على ما تقدم وجوب الحفاظ على تقسيم السلطات، والتمسك بصلاحيات النقض (الفيتو) للرئاسة، كيما تكون بمثابة الثقل الموازي للشق الآخر من السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء).
وهذا ضروري لاسباب عديدة:
اولا- نحن لا نتوفر على مجلس (برلمان) للقوميات يوازن سلطة الجمعية الوطنية، ويمنح لكل القوميات حقا متساويا في تقرير الامور الاساسية.
وثانيا – ان الحد من غلواء السلطة التنفيذية يتطلب وجود نظام قضائي (بما فيه محكمة دستورية) متين وراسخ، وهذا لا يتوفر في العراق.
وعليه نستخلص ضرورة الحفاظ على حق الفيتو الرئاسي لكي يكون أداة للتوافقية، والتوازن. كما نستخلص وجوب النص على ان يكون تشريع او تغيير أي قانون قائما على مبدأ الاغلبية الموصوفة (الثلثين، او ثلاثة ارباع نواب الجمعية الوطنية)، مشفوعا بنظام التمثيل النسبي.
هذه ركائز ضرورية للحفاظ على النظام السياسي المتوازن، رغم اننا نقر بأن مثل هذه الترتيبات تبطئ سير العملية السياسية، لكن الافضل ان نخسر بعض الوقت من ان نخسر الافق الديمقراطي الفيدرالي التعددي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نواب في الحزب الحاكم في بريطانيا يطالبون بتصنيف الحرس الثوري


.. التصعيد الإقليمي.. العلاقات الأميركية الإيرانية | #التاسعة




.. هل تكون الحرب المقبلة بين موسكو وواشنطن بيولوجية؟ | #التاسعة


.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة علما الشعب جنوبي لبنان




.. المتحدث باسم البنتاغون: لا نريد التصعيد ونبقي تركيزنا على حم