الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفقهاء في النجف :الجواهري و التمرد الأول :

فالح عبد الجبار

2005 / 8 / 13
الادب والفن


القسم الاول
للكتابة عن الجواهري مذاق خاص. فعملاق الشعر هذا ناهز عمره قرنا او قرنا ونيف. ويشكل عمره تاريخا كاملا بحرفية التعبير لا مجازه.
فهو، ان قسمنا صروف السياسة، يسبق في ميلاده تشكل الدولة العراقية الحديثة بعقدين. وهو، بالمعيار ذاته، يتجاوز حمقها وضيق رؤيتها عقودا. وينبغي لهذه الدولة ان تستمر عقدين ونيف كيما تلحق بمداه الزمني، وان تتعقل قرنا ان رغبت في ان توازيه نضجا ورحابة رؤية.
غير ان للجواهري بعدا تاريخيا آخر، يتمثّل في صعوده على التخوم الفاصلة بين عصرين، عصر النقل والتراث، وعصر العقل والعلم. وكان تمرده الأول على الانتماء لعالم الفقه الديني، من المعالم الواضحة على بداية هذا العصر الانتقالي.
وبودي ان ابحث قضية هذا الامتناع عن الانتماء لطبقة الفقهاء. فهي اول قضية حكمت وعيه، واول قضية اختبر فيها خياراته. وتنطوي هذه القضية، في رأيي، على تناقضات عصر فكري كامل، كما تستبطن تناقضات شخصية الجواهري التي جبلت، بفعلها، من معدن قلق، وروح مشاكس.
كان الجواهري، شأن كثرة من الشعراء الذين سبقوه او جايلوه، ينحدر من اسرة دينية كريمة، اسرة الفقيه محمد حسن النجفي، المعروف بالجواهري، نسبة الى سفره الكبير في اصول الفقه الموسوم "جواهر الكلام". وعلى هذا فان ولوج عالم الفقه والتبتل، والانغمار في دقائق الاصول والفروع من العلوم الدينية، والانتماء اخيرا الى طبقة الفقهاء، يبدو بمثابة "تطور طبيعي" لحفيد صاحب "جواهر الكلام"، احد اكبر وأهم مراجع الفقه الشيعي في النجف، مركز الاشعاع الديني عصر ذاك، وعصرئذ، رغم ما تعانيه من ابتلاء راهن.
ويحملنا التخيل على الافتراض بأن الجواهري لو ولد قبل عقدين لدخل التاريخ معتمرا عمامة فقيه مبجل. ولو تأخر ميلاده عقدين لطلع علينا متمردا يساريا، او متمردا فكريا من حملة لواء الحداثة، جيل التمرد الثقافي المجدد. لكن الجواهري انسلّ الى موقع فريد، موقع خاص خارج اهم طبقتين في عصره: طبقة الفقهاء منتجة الثقافة المقدسة، والطبقة السياسية الصاعدة حاملة لواء التحديث في عراق مفتتح القرن.
وقف الجواهري، رغم محاولات الدمج او نوازع الاندماج، خارج هاتين الطبقتين، حاملا راية الشعر الكلاسيكي المفعم بمضامينه الحديثة، مولّدا مزيجه الخاص، الفريد، في تلك التخوم الفاصلة والموصلة، حيث تتداخل اطياف الماضي بأطياف الحاضر.
احاول في هذا المبحث ان اتلمس استجابة الجواهري الثقافية في هذا العالم الانتقالي، وان اتلمس ايضا رؤيته لنفسه خلال هذه الاستجابة، وصولا الى تشخيص علّة اوعلل خروجه على طبقة الفقهاء، واختياره ملكوت الشعر وسيلة للانفصال.
ويلح السؤال الاساس في هذا: كيف تأتى له، وهو اليافع، ان يخرج على رغائب وتقاليد اسرة عريقة، محافظة، في بيئة شديدة التقيلد، بيئة النجف العريقة؟ وأية شروط جعلت من التجاذب بين قطبي الرضوخ والتحدي، ذلك النسيج الروحي الذي لازمه حتى آخر لحظات شيخوخته، والذي اسبغ عليه ذلك العناد المناكد، وتلك المشاكسة الجامحة، وظللها بذلك التوق المعاكس الى القبول، والرضا، والتصالح مع النفس ومع العالم في آن.
وسجّل هذا الوقوف على الحبل المتأرجح، فوق هاوية مفغورة الأشداق:

عجيبّ أمرك الرجراج
لا جنفاً ولا صددا
تضيق بعيشة رغدِ
وتهوى العيشة الرغدا
وتخشى الزهد تعشقه
وتعشق كل من زهدا
ولا تقوى مصامدةً
وتعبد كل من صمدا
وتطمح تجمع القمرين
فخرهما ان انفردا
اعتمد في هذا المبحث على مذكرات الجواهري بدرجة معينة، دون الاقتصار عليها وحدها، فهي محملة برؤياه الذاتية، الباطنية، للقضية، ولا بد من الالتفات الى مراجع تاريخية عن الحياة الاجتماعية والفكرية في حاضرة النجف، موئل علوم الدين.
قبل الايغال في هذا الموضوع ينبغي لي ان اعرّف القارئ بكتاب "ذكرياتي" الذي دوّن فيه الجواهري بعض ما يعتمل في خياله.

المذكرات واللامذكرات

في منتصف الثمانينات حزم الجواهري أمره اخيرا على وضع مذكراته بعد ان شارف على التسعين او نحوها. كان تردّده قبلذاك في الشروع بالتدوين نابعا من وخزات عقل موسوس: ان كتابة المذكرات هي بمنزلة الوصية الاخيرة، الولوج الى عتمة القبر. ولما كان الجواهري يرى، وهو محق في ذلك، ان لديه بعدُ عقدا او يزيد لأن يطأ هذه الارض، ويخدش أديمها، فقد أرجأ وماطل، حتى استقر به الرأي على انهاء التسويف.
سجل الجواهري ذكرياته على اشرطة فيديو في حديث طلق، متصل، دون اعتماد بنية محددة. وعمل بنصيحة الاقرباء في ان يرتب الذكريات في السياق البديهي: تسلسل الروزنامة، المتتالي، المتوالي، حتى لو كانت الذكريات ستفقد بذلك رونق التشكل في محاور وقضايا واحداث، او ستمتنع عن الانطلاق في عالم التأملات الفسيح. دخل الجواهري خانة هذا التقسيم التقويمي طوعا، فكان بذلك كمن يدخل قفصا محكم الغلق بلا كوّة.
يقال ان لصا تشيكيا سطا على الاشرطة والكاميرا في شقة الجواهري في براغ، فاضطر الشاعر الى ان يعيد الكرّة، مسجلا ذكرياته بلغة محكية (العامية العراقية المفصّحة) على اشرطة تسجيل صوتي هذه المرة.
وفي دمشق، المقر الثاني لاقامة الجواهري، تطوع عراقيون منفيون مثله، لتفريغ النص الصوتي على الورق خلال عامي 1984 و 1985. اما صوغ النص مجددا في قالب لغة عربية فصحى، فأسند الى متطوعين كنت واحدا منهم. وممن ساهم في التحريري، التراثي الراحل هادي العلوي، والكاتب زهير الجزائر، وآخرون. غير ان تحرير او اعداد جلّ النص وقع عليّ بالكامل، بينما تولى الشاعر عبد الكريم كاصد الاشراف اللغوي على عموم المذكرات بجزئيها.
كانت عملية التحرير منهكة: اخراج النص المحكي من اسر ثلاثة اقفاص:
الاول، يتمثّل في عبور تلك المسافة، العصية احيانا، بين لغة الكلام ولغة الكتابة.
يعرف اللسانيون، خيرا مني ألف مرة، ذلك البرزخ الفاصل بين المحكي والمدون، الذي يفصل بين عالمين من نظم الاشارات والمعاني والدلالات، رغم تداخلهما.
كنت اتلمس معالم هذا البرزخ في صوره الحسية: نبرة الصوت، ثم (بعد استنطاق الجواهري) لغة الايماء (او لغة الجسد كما يقولون)، من ارتفاع سبابة، الى التواء شفة، الى تقطيبة حاجب، فهزّ منكب.
وهناك، بالطبع، البعد الفيلولوجي الخاص في اللغة المحكية، بما فيه من رموز، وعلامات، وبناءات خاصة لعلاقات الدال بالمدلول، الشائكة، أي العصية على كل غريب عن البيئة الثقافية، سواء كانت هذه البيئة ضيقة (مدينة، او فئة اجتماعية) او واسعة (بلد، فترة تاريخية).
حاولت في ثنايا التحرير، ان اخرج من هذا القفص، قدر الممكن، بالتماس الجواهري نفسه، ايضاحا، واستزادة، او ايغالا في بعض التفاصيل. وكنت أرى، في مجرى هذا التوغلن وجود نص وراء النص، عالما كاملا يفترض المؤلف ان وجوده "تحصيل حاصل"، فهو مشترك ثقافي، ماثل في المخيلة الجمعية، دون ان يفطن (كما يحصل عادة) الى الفارق الزمني (الأجيال) او الثقافي، أي وجود متلق لا يعرف الدلالات إما بحكم وقوعه خارج حقل الزمان او حقل المكان المشترك.
اما القفص الثاني، الذي انحبست فيه المذكرات فيتمثل في بنيتها. اشرت الى انها زُجّت في اطار تقويمي اعتمد تقسيمات عشرية: العقد الاول، فالعشرينات، فالثلاثينات، فالاربعينات، وهلمجرا. لعل مثل هذا التقسيم ينشط فعل التذكّر ويذكيه، في جانب، مع ان هذا آخر ما يحتاجه الجواهري صاحب الذاكرة الصورية المذهلة التي تحتفظ بقدرة عجيبة، تختزن الالوان والروائح والاسماء والامكنة بوضوح سحري. لكن للتحقيب بالروزنامة فعله السالب: تمزيق الروابط العضوية للحكايات والاحداث المتصلة بشخوص ومصائر، خصوصا حين يدور الحديث (على سبيل ابسط الامثلة) عن التعرّف على شخصية ما في العشرينات، والاصطدام بها في الاربعينات، والتصالح معها في الخميسنات.
كانت نماذج السير و/او المذكرات الماثلة امامنا عديدة: لا مذكرات اندريه مالرو، او مذكرات نيرودا، او سيرة ارنست همنغواي (بابا همنغوي)، او اعترافات جان جاك روسو الكلاسيكية، او "مذكرات كاتب" لفيودور ديستويفسكي، او سيرة ماري انطوانيت لستيفان زفايج. كانت هذه النماذج تعتمد إما على التداعي الحر، ذلك التطواف الطليق في الزمن المفعم بالتأمل الفلسفي (مالرو، روسو)، او السرد التسجيلي الروائي (نيرودا)، او مزيج البحث الادبي والبوح الذاتي (همنغواي) او التأمل الانساني في العصر والابداع الادبي (ديستويفسكي)، او الرواية التسجيلية الموثقة (زفايج).
لم يقو الجواهري على تغيير الدفة من مسار الروزنامة الى مسار بنيوي لوضع مذكراته، كان قد شارف على التسعين، ولم تعد تتوقد فيه جذوة حركة مدومة كهذه. زد على هذا ان مثل هذه النقلة تستدعي سردا مفصلا روائي الطابع ما كان للجواهري قبل به، بما اعتاده من كثافة الشعر وايجاز القول، ناهيك عن غربته عن غزارة وتقنيات النثر الحديث (كما يتمثل في الرواية). ولعل نصه النثري الادبي الوحيد المعروف ("على قارعة الطريق") افضل برهان على ذلك.
اما القفص الثالث الذي بقيت فيه المذكرات فهو بعد اجتماعي/ فكري خالص يخصنا جميعا. غياب الحرية الباطنية. لقد احكمت كل الثقافات ادوات التحكم الجمعي بوجود الفرد، فكره، حركته، وايضا (كما بيّن فوكو) جسده. ومن ابسط التنظيمات الاجتماعية (الاسرة، الحارة، الصنف، النقابة، العشيرة) الى اعقدها (الاحزاب، الأمم، الدول، الجيوش، المؤسسات) ثمة قوى ضاغطة تدمج، وتعدّل، وتوجه، وتكافئ، وتعاقب، لأجل بقاء المونادات البشرية خاضعة للقواعد الجمعية، بما فيها من محارم (تابوات) ومباحات، لا فكاك للموناد من اسارها.
لقد طوّرت ثقافات اخرى (غير ثقافتنا العربية) بناء مؤسسات محتربة، تصنع، باحترابها، ذاته، فراغا وفجوات، وهوامش، يكسر بها الفرد، اي فرد، بحدود الممكن، سطوة المؤسسات، فاتحا بذلك الباب امام تدفق الباطني، ذلك الوعي الجواني الحبيس، الخائف من معاينة نفسه، لكي ينعم بهناءة الافصاح.
أما ثقافتنا العربية فانها تساحل على هامش هذه الحرية، او قل تخومها الخارجية، خائفة من الاعتراف والكشف، هيّابة من القول، في الجسد والفكر، في النقل والعقل، في الماضي والحاضر، في الموت والحياة. انها في انحباس دائم، متأرجحة بين المضمر والمعلن. فارضة قيما جمعية مستحكمة، تحبس الوعي الفردي تماما.
لهذه العوامل مجتمعة تقدم المذكرات، رغم عناد الجواهري المشاكس، الجزء الظاهر من جبل الجليد. ثمة، اذن، في مذكرات الظاهر ذلك الباطن المقموع، مذكرات ما وراء المذكرات، بوح ما قبل البوح، ستر البيان وكبته. لقد وعيت، وانا اعمل مع الجواهري، وأجس احترازه واحتراسه، اننا مقصرون عن هذه الحرية الداخلية بكل الاصفاد الباطنية، واننا نتمرغ في شقاء الوعي المحروم من معاينة شقائه. وهو يشبه في هذا حبيبة كافكا التي يرى اليها وهي محاطة بدائرة حرّاس يشكّون رماحهم الى الخارج. لكن المشكلة كما قال كافكا في هذا الترميز، انه هو الآخر محاط بدائرة من الحرّاس يشكّون رماحهم نحو الداخل، فكيف السبيل للوصول الى المراد، دون ان يجتاز دائرة حراسه وهو مدمّى؟
هكذا هو حال الجواهري رغم ما كان ينعم به من مكانة، وسلطة ثقافية، فكيف حال الأدنى؟
كان يردد، كلما انبجس قيد لاجم للقول: "لو قلت هذا لشنقوني ألف مرة!"
ولعل هذا الشقاء الروحي أحد منابع تصديره للمذكرات بالقول الصيني الشهير: "ولدوا فتعذبوا وماتوا!"، مقابل ذلك الاحتفاء الجذل والغبطة السرمدية مما نجده في تصدير
بابلو نيرودا لمذكراته: اشهد انني قد عشت!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية