الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حيوات النص في مفترق القراءات النقدية

أبو الحسن سلام

2014 / 9 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


حيوات النص
في مفترق قراءات بن زيدان

د.أبو الحسن سلام


- منهج مفترق القراءات عند بن زيدان

مابين زهو النص كلمة وزهوه صورة ؛ تعلو راية المسرح زمنا وتهبط زمنا فيشيد بعض الباحثين بسلطة النص كلاما ناطقا ، ويعيب بعضهم النصوص الناطقة.

حيوات النص :
النص حيوات تتوالد مع كل قراءة . النص صار وثيقة .. النص أصبح عائقا .. النص عاش. مات النص ميتة كلاسيكية؛ بعث واقعيا ، ثم تعبيريا ورمزيا، ثم ملحميا فتسجيليا.. ثم عبثيا بعث .
تعددت المدارس المسرحية كتابة وأداء وعرضا وسينوغرافيا. وتبعتها مدارس النقد في قراءاته المتعددة ما بين قراءات تحليلية وقراءات تفكيكية ؛ فكان من النقد قراءة نفسية وكان منها قراءة اجتماعية وقراءة انعكاسية ؛ عدها بعض الباحثين في الدراسات النقدية قراءات متطفلة على الإبداع ؛ لأنها تدخل من باب تأثيرات اللا وعي الطفولي أو تأثيرات المجتمع وتفاعلاته القيمية على إبداع المبدع المسرحي ، أو انعكاسات الصراع الطبقي وصوره على إبداعه. ولأنهاقراءات نقدية فهي تتبع منهجا ما ؛ إلا أن خللا ما يصيب منهجها إن هي حصرت نفسها في بؤرة سطحية فوقفت نفسها على المضمون دون ربطه بأسلوب البناء الفني وتقنيات إبداع لحمة نسجية الخيوط الفكرية والقيمية مع سدى الخيوط الفنية ؛ وتلك ملاحظة بن زيدان المنهجية الأساسية في إمساكه بالخلل الإشكالي في منهج قراءات النقد المسرحي العربي إذ يأخذ علي النقاد " تلك القراءات السطحية " " لأنها تكتفي بما يقوله المضمون ، دونما بحث في الكيفيةالتي يتم بها استخراج الدلالات المعرفية والجمالية من حركية النص"
ولئن كان اقتصار القراءات النقدية على المقولات المضمونية
قراءة بنيوية في مظهرها إلا أنها بنيوية ضامرة لأنها لم تتغلغل في التراكيب البنائية الفنية ؛ التي هي مناط الإبداع الادبي والفني ؛ حيث الكيفية بوصفها مكمن الإبداع .

ظلت القراءات النقدية على ما تعودت عليه نظرة النقاد للنص أو للعرض من خارجه إلى أن قيض للنص من تنبه إلى بنيته الداخلية في مجمل صياغتها ومضمونها ؛ بعيدا عن المؤثرات الخارجية سواء الاجتماعية في مجمل تفاعلاتها أو المنتمية إنتماء طبقيا بعينه ، أو الممتطية لذات الكاتب قفزا من لاوعيه الطفولي المرتد إليه على كبر؛ هبوطا إجباريا على بنية نصه أو المرتدة إرتدادا أنثربولوجيا من تراكمات اللاوعي الجمعي لأمته. ظل ذلك تمثيلا فعليا لواقع القراءات النقدية مسرحيا وفنيا إلى أن تفجرت ينابيع النقد الحداثي وما بعد الحداثي
فكان من النقد ما يتوقف عند استنطاق إبداعية النصوص وجمالياتها. إلا ما كان من النقد ما يتجاوز ذلك فيستهدف إبداعية العروض وجمالياتها ؛ ارتكازا على أن النص إبداع مؤجل .
يقول د. عبد الرحمن بن زيدان (1)
عن الكتابة النقدية للمسرح إنه " كتاب نسخت به ، وفيه ، شرايين التجربة المسرحية المغربية والعربية في حيوية أفهم بها كيف استنطقها إبداعية النصوص وجماليتها وفينتها، ، وأحاور بناياتها ودلالاتها؛ لتكوين خطاب النقد الذي يعيش التحولات ، ويعيش الأزمنة التي يشتغل فيها المتخيل الدرامي بلغته وكلامهوخيالية فيالدراما . "

مخيلة الناقد:
في تساوق آليات فعل النقد يرتب الدكتور عبد الرحمن بن زبدان طقوس الفعل في خطابه النقدي ترتيبا منهجيا ؛ ينطلق بداية من تحديد هدف الناقد أولا ، ثم يلحق به آليات الوصول إلى هدف فعل النقد. غير أن تلك الإشكالية عنده ؛ ليست في تمكن آليات النقد من الإمساك بخطاب النص أو العرض المسرحي ؛ ولكن مكمنها في إدراكه لكيفية تكوين الخطاب النقدي ، نفسه لتحولاته الدرامية ؛ عبر معايشته لأزمنة تلك التحولات.
وهنا نستبين أن إشكالية فعل القراءة النقدية عند " عبد الرحمن بن زيدان" ؛ إشكاليتان الأولى تتأسس على استقراء النصوص في أشكال كتابتها .. أنساقا متنوعة الأساليب والتقانة والجمالية ، وكيفية حملها للخطابات المتعددة الدلالات . أما الإشكالية الثانية فتتمثل في جهد القراءة في الإمساك بخطاب النقد المسرحي العربي على امتداد جغرافية الفعل النقدي العربي المعاصر .
وهنا تتوهج مخيلة الناقد العربي الكبير وهي توظف آليات فعل النقد ؛ الذي يعني - عنده- ( نسخ شرايين قراءته للتجربة المسرحية ؛ مغربية وعربية) . لكن ماذا يعني النسخ هنا ؟!
هل يعني توحد الفعل النقدي مع الفعل الدرامي ؟! إذا كان ما بداخل شرايين التجربة المسرحية مستعاد بقراءة الناقد . فذلك يعنى أن الموجود موصوف محتواه ومضمونه.
وهنا لا محل لمخيلة النقد . غير أن قولا كهذا ؛ هو اتهام لا محل له عند أولى العلم في حقل النقد . لذلك وجدنا بن زيدان يصل قوله مستدركا بأن نسخه القرائي لشرايين التجربة المسرحية ؛ مشروط بحيوية فهم الكيفية الإبداعية للنصوص المسرحية من حيث دلالاتها وفنية بنائها وجمالياتها .
ولأن فهم كيفية ما للبناء من دلالة هى الهدف أو المغزى ؛ وتقانة تتمثل في مراوغات الوسيلة أو العبث الفني بمفردات الطريقة أو الأسلوب ، وجمالية هي المؤثر الإيهامي اللغوى والبصري ؛ لذا يتركز جهد الناقد في محاورة بنايات النص ودلالاته . وهنا تتجاوز القراءة النقدية مرحلة استعادة محتوى شرايين التجربة المسرحية نصا أو عرضا وصولا إلى معايشة تحولاته الدرامية مقترنة بأزمنتها. وذلك هو التجاوز الأول في منهج بحث القراءة النقدية المفارقة لمحتوى التجربة المسرحية( نصا أو عرضا) في منهج البحث عند ( بن زيدان) وصولا إلى مرحلة فعل قراءة الخطاب النقدي الإطاري الأعم للمسرح المغربي ، والعربي ؛ الذي يتفجر عبر مساءلة الخطاب النقدي عن تحولاته مقترنة بأزمنتها .
وتبعا لتغير الأزمنة تتغير الثقافات في تزاوجها وتوالدها تباعدها وتدانيها ، وتتوالد أشكال الإبداع وتتعدد ؛ وتتعدد أساليبها. ويتابعها توالد المناهج النقدية وتعددها. ولأن عمليات التوالد الأدبي والفني عملية تجريبية في الأساس ؛ لكونها تنبع من غريزة ال والتنوع التي تحملها جينات المبدع نفسه ؛ لذا فتجريبية النقد ضرورة من حيث هو عمل ينطلق من المنتج الإبداعي نفسه . وفي ذلك ما يؤيدني من فكر بن زيدان النقدي " على الرغم من هذا التعدد الذي طال تعدد المناهج النقدية وعلى الرغم من تلك المتغيرات التي طرأت عليه إلا أنه يظل نقدا تجريبيا ؛ موازاة مع تجريبية المسرح نفسه . "
( تجديد رؤية النقد المسرحي العربي في كتابات الدكتور عبد الرحمن بن زيدان ، برانت شوب ، مكناس ، المغرب ، 2013 ، ص 73 )

القراءة النقدية للشعر
والقراءة النقدية للمسرح:
إذا كان من بداهة القول إن النقد لا يسأل بل يجيب عن تساؤلات المنتوج الإبداعي ؛ إلا أن منهج النقد عند بن زيدان يسائل المنتج الإبداعي ثم يتولى عنه الإجابة . وهذا هو المدخل الجديد في منهجه النقدي . ترى ما مصدر هذا عنده !! لا شك هو تمرسه أستاذا أكاديميا يلقى بالفرض ثم يستكسف حلولا أو إجابات عن تساؤلاته وفروضه البحثية ، وقد علقت بقراءاته النقدية أينما توجهت نحو النصوص أو نحو العروض .
ونتساءل إذا ما صح هذا المنهج في قراءة النثري ؛ فهل يصح في قراءة المسرح الشعري ؟!
اتفق مع الدكتور عبد الرحمن بن زيدان في أن " النقد يتنوع بتنوع الجنس الأدبي الذي يواكبه " وأن المسرح باعتباره فنا مركبا جامعا لعدد من الفنون المختلفة؛ " فمن ثم فقراءته - بكل تأكيد- ستكون قراءة خاصة ، لا تشبه قراء ة الشعر" وأضيف إلى رأيه : ( أنها لا تشبه قراءة النثر أيضاً) فبما أن الشعر فن أدبي أدائي والمسرح فن أدبي أدائي نشأ نشأة أدائية ؛ سرعان ما أصبح فنا أدبيا أدائيا ، واستمر على هذا النحو حتى كانت الحداثة وما بعد الحداثة ؛ فانحرف عن الأدب وتمرد عليه ليدخل في حوزة فنون الصورة ولغة الجسد المرئية. وهي مرحلة وإن عدها بعض النقاد والباحثين مرحلة أداء لشعر الصورة غير الكلامية ؛ إلا أنها تضع إشكالية جديدة أمام منهج القراءة النقدية . تتطلب منهجا مغايرا لمنهج القراءة النقدية للشعر ، ولمنهج القراءة النقدية للمسرحية الشعرية أيضاً ؛ باعتبار كل منهما فنا قائما بذاته ؛ لا يحتاج إلا ناقد كسول بتأبط نظرية يدور بها على أبوابى المنتج الإبداعي ؛ بل يستدعي منهج قراءة نقدية يراها المناسبة لفهم كيفية صياغته لمضامينه وأسلوب تعبيره وجماليات تأثيره . فقراءة المسرح الشعري قراءة نقدية لا يحققها المنظور البلاغي كما هو واقع الحال بالنسبة للقصيدة الشعرية بسبب خصوصية التعدد الصوتي وتباين دوافعه المحمولة على جوهر المشاعر والإرادات المتعارضة أو المتصارعة في الحدث ؛ سواء أكانت بنيته شعرية أم كان نثري البنية ؛ ففي كلا الأمرين فإن البعد البلاغي مع تعدد خصوصيته ؛ منبعه هوية تعبير كل شخصية من الشخصيات المتصارعة في الحدث المسرحي أو المشتبكة في إحدى الحالات الدرامية ؛ فضلا على كونها أحد عناصر البنية الدرامية في تعبير الشخصية في تلازمها مع الحدث في مسير تطورهما أو في تلازمهما مع صنع حالة تغريب فعل الشخصية عن ذاتيتها باعتبارها حاملة لهوية الطبقة التي تنتمي لها - كما هو الحال في المسرح الملحمي- أو تلازمها مع عدمية الإنتماء باعتبارها معادلا لفكرة غير حاملة لهوية ما..أي باعتبارها شيئا أو مظهرا بلا هوية ، عنوانه: " إنسان" غير مميز تمييزا جنسيا - كما هو الحال في المسرحية الوجودية وفي المسرحية العبثية -


العلوم الإنسانية وإشكالية المنهج النقدي:
يقول د. نور الدين الحديدي ونعيمة الحرشي في استعراضاهما لرؤية عبد الرحمن بن زيدان في النقد المسرحي العربي : " ثمة مأزق آخر تحدث عنه الناقد بن زيدان ، ويتمثل في غياب منهج يستمد قوته من العلوم الإنسانية ، كما هو الشأن في أوروبا الشئ الذي يدفعنا لاستهلاك منهج غريب عن سياقها العربي ، منهج دخيل على ثقافتنا العربية ؛ مما يجعل المسرح العربي ؛ يعيش انفصامه، ويعانى من توزعه الكبير بين ثنائية الغياب والحضور، وبين الأصيل والدخيل في النقد العربي . "
( د. نور الدين الحديدي ، نعيمة الحرشي، المرجع نفسه، ص 74)

وهنا لنا وقفة ذات وجهتين .. الأولى : حول القول بحاجة منهج النقد المسرحي إلى الاستقواء بالعلوم الإنسانية كما فعل النقد الغربي ؛ وهي حاجة إن تحققت بمنهجها النقدي العربي ؛ توقعه في مأزق الانفصام عن أصيل ثقافته العربية . وهذا مردود عليه.. بأن المنتج المسرحي الغربي هو نتاج تفاعل الشرط الذاتي للمبدع في توأمته مع الشرط الموضوعي لبيئته ولمعطيات عصره ؛ فأسخيلوس في مسرحه ينتصر للشعيرة الدينية تأثرا بتفاعلات نشأته مع بيئته ؛ مقترنة بفاعلية تلك الشعيرة في مجتمعه . وسوفوكليس في محاولة انفلات مسرحه من قيود النزعة الدينية ؛ كان بسبب نشأته العسكرية ، لذا انشغل في أنتيجوني بالتعبير عن صراع إرادة البشر مع إرادة الغيب ، صراع هوية النظام المدني مع هوية النظام الكوني الغيبي ، وكانت تلك قضية مثارة في زمانه. ويوريبيديس في انحراف مسرحه بعيدا عن حوزة التدين ورد أفعال الشخصية لقرار استباقي للغيب ؛ قفزا إلى البيئة الاجتماعية ، كانت إحدى قدمية على أرضية الفلسفة المثالية ؛ بينما الأخرى على أرضية الفلسفة المادية ، متزامنة مع تيار في المجتمع الإثيني عصرذاك . فالمسرح كان يحاكي واقع بيئته ، كان ابن بيئته من هنا كان المنهج النقدي لذلك المسرح المرتكز على نظرية المحاكاة أرسطيا لا أفلاطونيا ؛ على أساس نظرية القياس الاستدلالي التجريبي ، وليس على أساس نظرية القياس الاستقرائي النقلي التي تتبع نظرية المثل في المحاكاة الأفلاطونية للفكرة المثالية المطلقة ، على نقيض محاكاة الفعل في نظرية أرسطو التي يتخذها النقد الأرسطي قياسا استدلاليا على الفاعل ؛ فالشخص بفعله هو نفسه ؛ وليس بمحاكاته صورة مستنسخة من فكرة الفعل المحفوظة في عالم المثل السرمدي اللدني . هنا عرف النقد منهجه سواء استمد المنهج من نظرية المحاكاة الأرسطية أم استمد من نظرية المثل في محاكاة الفكرة المجردة المطلقة . بغض الطرف عن لجوء المسرح إبداعا ونقدا وبحثا إلى تفعيل نظرية محاكاة الفعل الأرسطية وإزوراره عن نظرية أفلاطون على مر الأزمنة ؛ إلا في حالات شحيحة نادرة نجدها فيما كتب ونظر إدوارد جوردون كريج ؛ أو أبدع حيث يهمش الفنان الممثل ؛ فيحوله إلى دمية مثالية ( سوبر ماريونيت) باعتباره مدنسا لقدسية الفكرة/ الصورة ، شأنه شأن الحوار - الأمر الذي جعله يحط من شكسبير ومن موليير ويقول إنهما (متطفلان على فن المسرح ) - وكذلك كان شأن ييجي جرتوفسكي حول فكرة التقديس والتدنيس في فن الممثل.
ونقول إن الإبداع المسرحي قد ربط نفسه في كل العصور بفاعل أساسه نظرية علمية ؛ فاعل فلسفي مثالي أو مادي، فاعل إجتماعي ، إقتصادي ، إنثربولوجي أو سايكلوجي ، وكذلك ارتبطت مناهج النقد بالعلم ؛ فرأينا نقد مسرحية طبيعية لا ينفصل عن مبدئي : ( الوراثة ، البيئة) في قياس التعبير الدرامي ؛ وهما عمودا نظرية ( التطور) القائمة على فكرة النشوء والإرتقاء لدارون. ورأينا النظرية السيكولوجية أو نظرية التعبير فاعلة في منهج نقد المسرحية التعبيرية وفي نقد الوحشية أو ما يناظرها عند( أوبو) صاحب مسرح القسوة ، ورأينا الفلسفة الوجودية المادية فاعلة في منهج نقد المسرحية الوجودية ، قياسا على ربط حرية الأنا بحرية الآخر ، ووجود الأنا أو عدمية وجودها بوجود الآخر ، وربط غياب التفاعل بين تلك الثنائيات بالغثيان ؛ لذا اعتمد منهج نقد المسرحية الوجودية على قدرة المبدع المسرحي فى تفعيل تلك العناصر في منتجه المسرحي، وعلى امساك أو عدم إمساك قراءة الناقد للمسرحية الوجودية لتلك الركائز الفلسفية . وكذلك ذهب منهج النقد الماركسي. أو الانعكاسي عند. إلى الأسس والعلوم التي بنت عليها الفلسفة الماركسية نظرية الصراع الطبقي مسيرا وحيدا لتحقيق مجتمع العدالة على الأرض. وذهب منهج النقد الحداثي مذهب تعدد الخطاب في النص الواحد ، وذهبت السيميولوجية نحو ربط الدلالة بمنظومة علامات النص أو العرض ،
أما القول بأزمة النقد إن هو وظف العلوم الإنسانية في منهجنا النقدي بنا يؤدى إلى الانفصام أو إزدواجية المنهج ؛ فهو قول مردود عليه ؛ بأن نظرية التعدد الحداثية لدلالة المنتج الإبداعي الواحد في منهج الاستدلال النقدي هي في أصلها عربي ؛ حققته نظرية ( المتوسطات القرائية) عند "حازم القرطاجني الجزري" في القرن السادس الهجري ، أما علم الدلالة والنظرية السميولوجية فقد حققتها نظرية النظم عند "عبد القاهر الجرجاني" في القرن الثاني الهجري ، وهي النظرية التي تأسست على السياق حيث عنده (لا مزية للفظة دون ارتباطها في سياق الجملة) وهي نفسها التي قال بها كروتشه( لا مزية للون دون ارتباطه بالصورة) ونظيرها عند " أ.إ. ريتشاردز" حيث ( لا مزية للنغمة بعيدا عن سياق الجملة اللحنية ) فاللفظة علامة مفردة تعطى دلالتها خلال منظومة سياق دلالة الجملة ، وكذلك الأمر بالنسبة للنغمة بالنسبة للحن واللون بالنسبة للصورة أو اللوحة .
فإذا جئنا لفكرة التشويه أو إنحراف الصورة أو التعبير الذي تقول به النظرية الشكلانية سنجدها متحققا في صورة من صور الإبداع عند المتنبي حيث مارس تشويه الصورة وآنحرافها في نسق البنية عن معناها المألوف:
( أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم )
وقراءة نقد المعري لهذا البيت جاءت نقدا شكلانيا - قبل أن يخلق كل من " شكلوفسكي وبروب ومدرسة براغ" بأكثر من ألف عام- يقول أبو العلاء : " أنا الذي نظرت أدب أحمد"
هذه القراء النقدية هي (قراءة تلق ) ؛ تستجيب لما هي عليه حال القارئ نفسه ؛ لكنها تشير إلى منهج في القراءة النقدية يذهب بالوالد إلى أسلوب تحليلي ينبش بحثا عن المسكوت عنه .. عن فجوات النص .ليملأها بالمعنى الضمنى المورى في خلف البنية الظاهرية للصياغة الشعرية. إذن لا انفصام ولا إزدواجية ؛ لأننا نستعيد مناهج كانت لنا ؛ مناهج من إرثنا النقدي سبقنا الغرب إليها - لكن قراءتنا لكنوز تراثنا ربما تحتاج إلى كثير من الاهتمام -

النص المسرحي
وتأسيس الخطاب النقدى

لنا أن نلحظ بلاغة صياغة( بن زيدان) لمنطوق مشروع بحثه المؤسس لخطاب نقدي للنص المسرحي العربي ؛ آنه لم يتوقف عند محاورته المسائلة للإبداع المسرحي عن كيفية تحولاته في عبر معايشته لها ؛ ولكنه ربطها بالسببية ؛ عندما قرن تلك التحولات بمعايشتها لأزمنتها. وبذلك النهج البحثي الكيفي / السببي يتمكن الناقد من استنطاق خرس مادة البناء لمهارات الإبداع الدرامي والجمالي على طريق تفاعلات التحولات الجوهرية لعصرها مقترنا بدلالة خطاب مؤلفها.
وبذلك لا ينفصل فعل الخطاب النقدي عن المجتمع والعصر الذي أنتج الخطاب ؛ وهنا استشف تماس مشروع ( بن زيدان) النقدي مع عدة مناهج نقدية منها: نظرية " برونتيير" في معانقتها لكل من نظرية " هيبوليت تين" ونظرية ( النقد الانعكاسي) عند " لوكاتش" ولنظرية ( إنحدار الفكرة) عند " ميشيل فوكوه" - باعتبار مضمون الخطاب النقدي أساسه في فكرته الأساسية التي تفرعت فروعها وتشابكت أغصانها-
مع تضافر تلك النظريات مع المنهج البنيوي . وهنا يمكن القول : إن مشروع (بن زيدان) النقدي قد تشابك مع منهج ( البنيوية التوليدية) عند " لوسيان جولدمان"
- على أساس أن محاورة الناقد متدرعا بوعيه النقدي عند قراءة خطاب تحولات النص أو العرض ؛ مشتبكا مع عصر تلك التحولات ، وصولا إلى كيفية استنطاق إبداعية خطابها الدلالي الدرامي والجمالي ؛ تشكل لب البنيوية التوليدية .
لكن ما الذي يحسب لعبد الرحمن بن زيدان ؟!
يحسب له دون أدني شك أنه استطاع بمهارة الناقد والمفكر المسرحي الموسوعي أن ينسج سدى نظرية نقدية مسرحية عربية معاصرة على لحمة من خيوط نسجيات عدد من نظريات نقدية منها الحديث ومنها المعاصر ومنها الحداثي.
وهو جهد ما كان ليتحقق إلا على ضوء فهم عميق ورؤية ثاقبة قادرة على الفصل بين جهود النقاد المسرحيين العرب وتنظيم حركة مسيراتهم النقدية وتحويل بعضها إلى مسير ثقافة نقدية عربية تضع نصب عينيها المفاصل التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للتحولات المفصلية في حيواتنا التي انعكست آثارها على كتابات مسرحيينا المعاصرين متأثرة بتفاعلات
لحياة ووعيهم الجمعي أو الطبقي بذلك في اتجاه الكشف عن موقف من الكون .
فإذا كان هذا ما يتعلق بمشروع بن زيدان النقدي من حيث التنظير ؛ فماذا عن التعامل النظري على أرضية واقع الإبداع المسرحي نفسه ؛ خاصة خلال ممارسات بن زيدان التطبيقية لها !!
هذا ما سنراه في عرضنا لنماذج من كتابات قراءته النقدية المفارقة لمسيرات قراءات نقاد المسرح العربي.
وهي قراءة شمولية النظرة تركز على التحولات التي طرأت على مجمل إبداعات الكاتب ؛ بمعنى تركيز النظرة النقدية على مصيصة بعينها في كتابة فلك المبدع المسرحي - وهنا تنحو القراءة النقدية منحي الأسلوبية - ولننظر إلى مدخل قراءة بن زيدانةلمسرح القضية في مجمل أعمال الكاتب المسرحي الاحتفالي " رضوان احدادو" حيث يعنون قراءته بالعنوان الآتي:( الاحتفالية الحالمة في " أهل المدينة الفاضلة " )
ثم يصدر قراءته وعينه على للبنية الكلية ( نظرة الكاتب للعالم) في خطاب " أحدادو" المسرحي ؛ بعبارة تحمل خلاصة استخلاصه للبنيات الدرامية والفنية والجمالية من منظور انعكاسات وعي الكاتب القومي على مجمل إبداعاته المسرحية . يقول ( بن زيدان) في مقدمة نقده : " تتحد في كل الأعمال المسرحية الاحتفالية التي كتبها "رضوان احدادو " خارطة المواضيع والقضايا التي يقدمها في خطابه المسرحي بمحددات ترسم له مجال الكتابة، ومساربها، وأهدافها ؛ برؤية تريد أن تجعل العالم يبدأ في صياغة نفسه من جديد ويبدأ في إزالة الأقنعة عن الأدوار الباهتة في تقدم الوجود والإنسان والأحلام والأسئلة كمسلمات ثابتة ساكنة ، تحافظ على المواقع ، والمصالح دون قراءة أو كتابة هذه المواضيع ، وهذا الوجود ، قراءة مخاض في الإبداع "

( د. عبد الرحمن بن زيدان، المسرح المغربي في مفترق القراءة ، إصدارات أمنية للإبداع والتواصل الفني والأدبي ( السلسلة المسرحية 4) ط: سيدي مومن 2002، ص 113)

أحوال النص المسرحي
بين محيط العرض ومحيط النقد :
من الطبيعي أن يستوعب صاحب المشروع النقدي جهود غيره الذين يتصادف أن يكون لأحدهم مشروعا نقديا ؛ قبل أن يقرر ما إذا كانت هناك له حاجه أو ضرورة لمشروع نقدي جديد ؛ ولذلك رأينا " بن زيدان" عاكفا على اسيعاب قراءة جهود " محمد الكغاط النقدية " للنص المسرحي باعتبارها تشكل - من جهته- " دائرة الاهتمام الذي أولاه للمسرح العربي وتاريخه وتطوره ، وتاريخ أشكاله ، وتاريخ بنياته " فمع الوجهة التاريخية في منهج قراءة الكغاط للنص المسرحي العربي ؛ إلا أن وعي " بن زيدان" يلحظ فيه البعدعن الحيادية ؛ خاصة- عندما تصل قراءة الكغاط للقالب المسرحي؛ " فهو حين يتحدث عن " القالب المسرحي" فإنه

يؤكد " عبد الرحمن بن زيدان " على ما قال به " محمد الكغاط " عن أحوال النص ؛ فالنص" لا يمكن أن يكون بمعزل أو بمنأى عن التغيير والتبديل " تبعا لما تقتضيه ظروف العرض" ويرى بن زيدان في ذلك " الفهم العميق لمكونات المسرح الذي يقدم به الكغاط مفهوما للمنهج النقدي وأدواته لفهم جميع مكونات العملية المسرحية "







2- قراءة ماقبل القراءة
النقد يجيب ولا يسأل والمسرح يسأل ولا يجيب .

كثيرا ما يكون ضروريا قبل قراءة النص الإبداعي أن تستبق القراءة بقراءة ما كتب عنه من نقد سابق ؛ فنقد النقد كثيرا ما يشير أو ينبئ عن نقاط عمياء .. في محطات قراءات نقد سابق لذلك النص ؛ عبر عليها الناقد الأول عبور الكرام ؛ على الرغم من وجاهة مداخل نقده ، أو أن سؤالا استشكاليا عنّ للناقد الثاني ؛ فأوقف مسير استخلاص النقد الأول !! كأن يقول : هل من يقرأ هذا النص يعلم تفصيل التاريخ حول القصة ، أو شيئا حول الأسطورة . أو ثنى بسؤال عن تجريبية الشكل ، حداثته هل يحقق التمهيد لتاريخية الحدث المتواصل بين متلق ومبدع ، بين إبداع وقارئ أو يشط في المطالبة سائلا مبدع النص الذي بين يديه ..
( لماذا لم تعالج مؤلفك المسرحي وفق ما نظرت له من قبل ؛ إشادة بما يعرف بالاحتفالية ؛ لماذا لم تعالج نص إبداعك ذاك الذي هو بين يدينا ليجئ احتفاليا ؟! )

واذا ما النقد هم وامتطي دابة سؤال لا محل له في عالم الإبداع ؛ حل نفسه محل المبدع !! وهنا تجوز مساءلته من باب نقد النقد .. فالنقد كالعلم يقبل الصواب والخطأ وهو مناظر للعلم حيثما يصوب نفسه بنفسه ؛ خلال مساءلته لنفسه ؛ عبر صوتين للناقد الواحد نفسه ، أو عبر صوت ناقد ثان لنقده أو لنقد النص الإبداعي من مدخل نظرية نقدية أخرى يستدعيها النص . وفي مثل تلك المساءلة النقدية يجوز القول:
- لماذا لا تحل أنت نفسك محل مبدع النص ؛ فتبدع أنت نفسك بدلا منه ؟
وهو تساؤل يرد الناقد إلى تخوم إدراكه بأن للناقد فعل الوصف والتحليل والتوصيف والرأي فيما هو واصف .. إن يكن سلبا فسلبا أو إيجابا فليكن .. حكما محمولا على أسبابه . فإذا أصّل في أسباب الحكم بربط نقده بمنهج ما ؛ صار الأرقى بوصول نقده إلى مصاف البحث إذا انتهت دلائل استخلاصاته بثبت مرجعي .
خلاصة ما أبغي قوله ؛ هو أن الناقد واجد واصف فمحلل ؛ فمقوم تقويما محمولا على أسباب موضوعية لفعل الإبداع وأثره..إيجابا أم سلبا والنقد فعل مساءلة فكرية وقيمية للمنتج الإبداعي ؛ سواء اقتصرت مساءلته على البنية الإبداعية للنص ؛ أو اعتمد على ما اتصلت به البنية من خارجها.. تاريخا أو تراثا أومجتمعا أو أثرا سيكلوجيا . فإذا ما دهب النقد مذهب مساءلة محصلة ما سبق من نقد لذلك النص أو العرض ؛ متتبعا النقاط العمياء في القراءات السابقة على قراءته للنص ؛ فإنه بذلك يخرج عما هو متبع في مسيرة النقد والنقاد ؛ حيث تتعدد قراءاته لنقد نص بعينه ؛ ويقارب بينها ليخلص بالمنهج الفكري لمسير نقد النص ، ومدى وعي النقد بوعي المبدع بمضمون خطابه ووعيه بالسياق الفني لبنية منتجه الإبداعي ؛ فهنا يقف الناقد على مفترق القراءات النقدية . وهذا قريب – جزئيا - مما رمى إلي إليه مشروع د. عبد الرحمن بن زيدان النقدي ؛ مع فارق واحد هو أن مشروعه لا يقف عند نص بعينه ، ولا عند ناقد محدد ؛ وإنما هو نقد قارئ لتوجهات النقد العربي المعاصر ؛ في مقارباته لتلك التوجهات ؛ منتهيا من قراءتها إلى موقف مفارق متصل قبل أن يشرع في تأسيس مشروعه المفارق لتلك القراءات النقدية المعاصر.

زنوبيا والنقطة العمياء في القراءة النقدية :
من النقطة العمياء فيما قرأت من نقد تضمنته مقدمة نص ( زنوبيا في موكب الفينيق) من تاليف الدكتور عبد الرحمن بن زيدان ؛ قد تمحورت حول سؤال طرحه الناقد د. عمرو دواره :
( هل يمكن تصنيف هذا النص تحت مسمي " المسرح الذهني" الذي يمكنه تحقيق المتعة للقارئ أكثر من قدرته على تحقيقها للمشاهد؟ "
(د. عمرو دواره ، مقدمة نص : زنوبيا في موكب الفينيق ) للمؤلف د. عبد الرحمن بن زيدان ، سلسلة نصوص مسرحية (120) القاهرة ، وزارة الثقافة ، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2012 ص 22)

ومع أن المسرح لا يعطى إجابات ؛ لكنه يلقى بالتساؤلات . والنقد لا يطرح تساؤلات ؛ لكنه منوط بالتوصل إلى إجابات .. إلا أن الناقد "عمرو دواره" يطرح أسئلة في مقدمته للمسرحية . هو يلقي بسؤال كبير حول المسرحية الذهنية ؛ هو سؤال؛ الحكم فيه يعجز كبار النقاد ؛ حتى أننا نرى د. محمد زكي العشماوي - وهو من هو - ( لا يجد فرقا بين مسرح الفكرة ومسرح الأفكار والمسرحية الذهنية ؛ فجميعها في رأيه ذاب في مصطلح مسرح الفكر . )
ومن الغريب أن يلقي د. عمرو دواره سؤالا كهذا يحكم فيه جمهور قراء نص ( زنوبيا في موكب الفينيق ) ليقرر من يقرر منهم إذا ما كان انتماء هذا النص للمسرحية الذهنية أم لا !!
وأعلم كما يعلم د. عمرو ، وسائر النقاد الأكاديميين أن للنقد اتجاهاته القديمة والحديثة والمعاصرة ولكل اتجاه منها عدد من النظريات ؛ ويعلم كما نعلم أن الناقد لا يتأبط نظرية يعملها في منتج إبداعي مال إلى نقده ؛ وإنما يترك للمنتج الإبداعي أن يشير إلى ما يناسبه من النظريات النقدية ؛ باستثناء النظرية السيميولوجية والنظرية الهرمونطيقية : نظرية التأويل - ربما- فكلاهما - من جهة نظري - صالحتان للتعامل مع كل ألوان الإبداع في كل نزعاته أو مدارسه . . فالسيميولوجيا تعتمد العلامة دالا يؤدى إلى المدلول ( المعنى) من خلال قراءة منظومة العلامات في سياق البنية الفنية للمنتج الإبداعي موضوع النقد ؛ والتأويل عمل فوق التفسير لدور التأمل فيه وفلسفة توليد معطيات البنية في المنتج الإبداعي ؛ عن طريق المقاربات المعرفية أو المتوسطات القرائية بين ثقافة الناقد وثقافة المنتج الإبداعي الذي بين يديه . وكلا هذين المسيرين النقديين يحتاج ناقدا حصيفا مؤهلا وصاحب دربة فى القراءة السيميائية في حالة النقد السيميولوجي ؛ ورؤية تفلسفية في حالة التأويل . وكلاهما ليسا مجالا تحتمله ًمثل تلك المقدمات . وعمرو ملم بذلك.
لذلك كنت أرجو أن يواصل د. عمرو دواره تحقيق مسألة الإشكالية التي طرحها ؛ فيما إذا كانت هذه المسرحية مسرحية ذهنية أم لا ؛ تحقيقا مسبوقا بتأصيل منهجي حول مفهوم الذهنية والمسرح الذهني أولا ؛ ليراكم عليها فصله المنهجي بين ما هو مسرح ذهني مقصور تلقيه على القراءة الفردية على صفحات منشورة ، ومسرح غير ذهني صالح للعرض على خشبة المسرح أمام جمهور ؛ ذلك أن لا إجابة عن سؤاله : إذا ما كانت مسرحية ( د. عبد الرحمن بن زيدان) هي مسرحية ذهنية للقراءة فحسب ؛ أم هي صالحة للعرض على المسرح ؛ وربما نفاجأ بأن مخرجا نابها واسع الخيال قد أقدم على إخراجها فأبطل مقولة مسرح للقراءة ومسرح للعرض ؛ فقد أدهشنا الفنان كرم مطاوع ؛ حينما قام بإخراج مسرحية عدها كبار النقاد وكذلك مؤلفها مسرحية ذهنية ، وهي مسرحية ( إيزيس) لتوفيق الحكيم ؛ حيث عرضت أمام رئيس الجمهورية في إعادة افتتاح المسرح القومي في منتصف الثمانينيات . ولا أظن أن رأيا حصيفا يغامر بعرض مسرحية ذهنية - لا مجال للشك في ذهنيتها - في حفل افتتاح يحضره رئيس الدولة وحاشية المسؤولين ؛ الذين تعودوا على العروض الاحتفالية والمناسباتية الخفيفة الغنائية والاستعراضية ؛ ومع ذلك انبهر الحضور الرسميون بعرض. ( إيزيس) الذهني ؛ بعد أن فعل خيال مخرجه منابع الفرجة بجمالياتها وحرك مشاعر جمهور صفوة المجتمع بما فيهم رئيس الدولة وحواشي نظامه وخلفهم كبار المثقفين العضويين .. المسألة إذن تكمن في مخيلة التناول الإخراجي ؛ ومقدرة المخرج على فهم جوهر المسرح من حيث كونه ملعب فرجة وفكر ؛ يمتع قبل أن يقنع فيؤثر إيهاما أو يؤثر إدهاشا وإدراكا ؛ فالفرجة هي المدخل الأساسي للإقناع بالمضامين الفكرية،بقيمها الإنسانية الاجتماعية

و يعيدنا تساؤل د. عمرو دواره إلى سؤال سبق أن طرحه د. عز الدين إسماعيل عام 2003 بإحدى ندوات مجلة (فصول ) حول تلك القضية ؛ قضية الاستغناء بقراءة النص المسرحي عن عرضه .
( فصول ، مج الثاني ، ع الثالث ، أبريل / مايو/ يونيو1982 ص203 )
حيث صدم د. عز الدين إسماعيل رجالات المسرح المصري المشاركين في الندوة بطرح مضاد لأصل قام عليه فن المسرح منذ نشأته الأولى وامتد عبر مسيرته وهو يقول :
" القارئ يجعل الدراما ملائمة للحدث الذي يباشره ذهنيا من خلال القراءة ؛ فيحرك الأحداث والمشاهد بقدر ما يلزمه لكي يستمتع بها .. ويصبح في وقت واحد المؤلف والمخرج والممثل وصانع الديكور ، وما إلى ذلك من كل العناصر المصاحبة للعرض المسرحي أو التي يصنع فيها العرض المسرحي .
ويؤسس د. عز الدين على هذا المهاد سؤالا ؛ يطرحه على نخبة من كبار رجال المسرح المصري : ( سمير العصفوري ، د. فوزي فهمي ، فؤاد دواره ، المخرج أحمد زكي ، المخرج عبد الغفار عوده )
قال د. عزالدين : " هل يمكننا القول إذن بأنه قد يكون في النص المسرحي غناء عن العرض المسرحي في ظروف بعينها "
ويبدو أن د. عزالدين إسماعيل قد لاحظ عدم الإرتياح على وجوه كبار المسرحيين مخرجين و نقادا؛ فخفف من وطأة الغرابة في سؤاله أو غير من صيغة عرضه:
" ألا يمكننا ؛ على سبيل المثال المقارنة بين المتعة التي يمكن تحقيقها من قراءة عامة ثم مشاهدتهاوالاستمتاع بها عرضا مسرحيا ثم التمتع بها فيلما سينمائيا . من المؤكد أن أنواع التوصيل الثلاثة متعة فنية. ولكل منها وجودها المشروع ومذاقها الخاص "
جاءته الإجابة المسرحية ، رافضة لذلك الطرح. قال : فؤاد دواره " عملية الاستمتاع بقراءة النص المسرحي تحتاج إلى ملكة معينة وتدريب معين وإلى عملية إخراج يقوم بها القارئ في ذهنه . ولابد للكاتب المجيد في كل العصور أن يكتب وفي ذهنه تصور لعرض مسرحي . وحتى الذين زعموا أنهم لم يكتبوا للعرض المسرحي ثبت أنهم كانوا يفكرون في العرض المسرحي، الحكيم حينما قال إنه كتب شهرزاد للقراءة وليس للمسرح ؛ ثم عثرت على نص يقول فيه إنه انتهى من كتابة المسرحية وهي في حاجة إلى موسيقى كموسيقى استرافنسكي فإذا كان كتبها للقراءة فحسب فكيف يفكر في الموسيقى المصاحبة لها ؟ "
لكن د. فوزي فهمي يجيبه بسؤال يبدو استنكاريا : " هل يمكن أن تستمتع بقراءة نوتة عمل موسيقي ؟ من نوعية السيمفونية الخامسة. مثلا ؟ "
أما المخرج سمير العصفوري فيقطع بأن : " مثل هذه التجربة على مجتمعنا لا مكان لها " ويشفع جوابه بأسبابه :
- لارتفاع نسبة الأمية والبعد عن إرساء أرستقراطية مسرحية.
- الفن المسرحي لعبة ؛ فما لا يشخص على خشبة المسرح ليس مسرحا.
- المسرحية نصا ؛ مشروع غير مكتمل . قليلون جداً من يحبون رؤيته ناقصا ؛ حبذا لو قرأت المسرحية وشاهدتها بعين القارئ ثم شاهدتها عرضا مسرحيا .
- النص المسرحي حياة من الكلمات تتحرك إذا لبست اللحم والعظم ؛ كما يقول فيلار."
المخرج أحمد زكي - رئيس البيت الفني للمسرح- :
" المسرح أولا وأخيرا هو فن الممثل . الممثل يثير خيالنا ويوصل إلينا المعنى الذي يريده المؤلف " ويضيف : " قال المخرج المعاصر جان فيل بارتور : إن المسرح يتكون من مؤلف ومخرج وممثل . وفي ساعة العرض يتوارى المؤلف والمخرج ويبقى الممثل وحده في مواجهة المتفرج . وهو الذي يجسد النص لكي يستمتع المتفرج بعمل المؤلف والمخرج . النص وحده لا يستقيم بدون الممثل . "
ويبدو أن طبيعة المراجعة والتدقيق وتنويع الطرح؛ التي هي طبيعة الباحث الأكاديمي لا تفارق د. عز الدين إسماعيل في موقعه ناقدا ؛ لذا يعيد طرح تساؤله بدون كلل ، بصيغة أخرى :
" إذا كان من حق عدد قليل من المخرجين أن يفسروا النص لعدد كبير من المتفرجين ؛ ألا يكون من حق العدد الأكبر من القراء أن يفسر كل منهم النص نفسه ؟
وهنا يقطع الأستاذ فؤاد دواره قول كل خطيب - كما فعلت " جهيزة " في تراث العرب - " أنت في المسرح تستعمل أكثر من حاسة "
أبدا لا تستسلم روح الباحث الأكاديمي عند د. عز الدين إسماعيل ؛ ويبدو أن إصراره على إعادة تلوين مقترحه والتنويع بصيغ تساؤلات جديدة كان نتاج تأثير النظريات النقدية الحداثية وبخاصة نظرية التلقى الغربية ونظرية المتوسطات القرائية العربية عند "حازم القرطاجني" - التي كتب عنها دكتور عز الدين نفسه - هي التي تطيل نفس طرحه ؛ لذا يواصل الدفاع عن مقترحه باستماتة ؛ يقول :
" متعة المشاركة في إبداع النص ؛ وهي أبلغ وأقوى في تصوري من أن أجلس لتلقي الأشياء بالحواس من خلال تفسير شخص آخر . قد يكون صاحب تفسير رائع ومقنع إلى أبعد الحدود .. يهزني .. كل هذا عظيم ؛ لكن أيهما أكثر ارتباطا بكياني أن أتلقى التفسير من الخارج وانفعل به أم أصنع هذا التفسير بنفسي ؟
ويأتيه رد قاطع من المخرج عبد الغفار عودة : " إذا أردت مسرحا فالرأي الأول وإن أردت أدبا فالرأي الثاني . "
واتصور لو كنت موجودا بينهم لكان ردي : لو تركت النصوص لتفاسير الأفراد ؛ كل واحد يفسر بنفسه ما يقرأ ؛ لو فرض أن جميع أفراد المجتمع قارئون ؛ لاستغنى المجتمع عن المفسرين والخطباء وأهل الفتوى في مجال النصوص الدينية ؛ ولتحول المجتمع عندئذ إلى حرب أهلية تبدأ بقذائف التفاسير وتقوى وتشتغل لتدمر المجتمع بقذائف من بارود ودماء .
التفسير موهبة وتأهيل وخبرة ؛ وليس الناس كلهم على موهبة أو تأهيل وخبرة .
ولكنني في نهاية الكلام عما أثاره الناقد و المخرج الدكتور " عمر دواره " حول نص ( زنوبيا في موكب الفينيق) مرجحا تصنيفه مسرحا للقراءة لا العرض ؛ أحيله إلى رأي الأستاذ دواره (الكبير) في رده الذي أفخم به د. عز الدين : " أنت في المسرح تستعمل أكثر من حاسة " وبرأي توفيق الحكيم نفسه ؛ في رده على أسئلة مجلة فصول " إمكانات العرض المسرحي أظن أنها تشغل مؤلف المسرح في الغالب "
وفي موضع آخر تقول د. سامية أسعد : " الكتابة المسرحية لم تجعل أساسا لكي تقرأ ، وإنما لكي تعرض أمام جمهور من المتفرجين . ، صحيح أن هناك ما يسمى بمسرح الكتاب ؛ اي المسرح الذي يكتب لكي يقرأ ؛ لكن هذه الكتابة لا تمت إلى المسرح بصلة اللهم إلا بالحوار . إذن النزر إلى النص المسرحي فقط نظرة قاصرة لا تكتمل إلا بالبحث عن ظروف العرض أو العروض المسرحية المختلفة التي اعتمدت على ذلك النص "
( د. سامية أحمد أسعد ، " الدلالة المسرحية" (عالم الفكر) مج 10 ع4، يناير/ فبراير / مارس 1980 ص65)
والسؤال الذي يتبادر للذهن أمام تساؤل د. دواره الذي يميل إلى إجابة ترى ما يراه من أن نص مسرحية (زنوبيا في موكب الفينيق ) ينتمي لما عرف بالمسرح الذهني . هو : هل تعتمد تلك المسرحية على الحوار ولا شئ غيره ؟ فلننظر في نص المسرحية :

النص والقراءة الإطارية:
ما بين حرب انتهت وحرب تبدأ ؛ أطياف الأسرى تتحرك وشعوب من دمي قد علقت بذيول أهواء الحاكم المستبد تتلهف .. تتسمع خبرا من غيب يكنى ( عراف حداثتنا ) فعسي ينبئ عما هو حادث .. ماذا يحدث .. انتصر الجيش .. انهزم الجيش الأمر سيان .. انتهت الحرب .. الحرب ابتدأت.. ليس يهم . شعب من دمى فالأمر سيان .. ففي الحالين هو الخسران ! في الغيب يعايش حاضره ؛ وهمزة وصل تربطه ما بين الماضي والحاضر ، ما بين الحاضر والحاضر .
في النص .. دمى وخيالات وعراف وطائر الفينيق وزانوبيا عناصر فرجة شعبية مرئية ناطقة بما يعبر عن جوهر ما تريد بوصفها شخصيات نمطية مؤنسنة :
" الدمية : ماذا تحمل معك من أخبار أيها العراف ؟
العراف : خبر عاجل.
الدمية : ماسبب الدعوة إلي هذا الاجتماع الطارئ ؟
العراف : أمر مستعجل .
الدمية : كل الأخبار الواردة علينا لا تطمئن .
العراف : أفكار تغزو المدينة وأحياءها وسراديبها
وردهات البيوت والسجون .
الدمية : هل من أثر لهذه الأفكار في عقول الناس ؟
العراف : معها كل شئ سار سريع التبدل .
الدمية : للأحسن أم للأسوأ ؟
العراف : طبعا للأسواء .
الدمية : ( مخاطبا نفسه ) لتتقاسم متعة هذه اللحظة .
دعنا نستمع إلى ما جاء به العراف.
العراف : لا تخلط بين العمل والمتعة والجدية .
الدمية : (بحزم) لا تخف لقد جعلنا لكل جدران المدينة
آذان.
العراف : وبدأنا في تعطيل العقول والكفاءات.
الدمية. : وجعل الناس ....
العراف : ( مكملا) دون ألسنة.
الدمية. : ودون عقول .
العراف : سخريتك السخيفة تفسد منعتي بحضوري
بينكم .
( يشير إلى الدمي المعلقة في الهواء ) أطياف ، خيالات ظل ، دمي، عراف، طائر الفينيق
وقد كان المناسب في تلك المقدمة النقدية الشيقة أن تؤصل لمفهوم المسرح الذهني ؛ طالما أنها تطرح شكوكا أو اشتباها في نسبة نص مسرحية ( زنوبيا في موكب الفنينيق) إلى المسرح الذهني ؛ بديلا عن إلقاء السؤال في وجه المتلقي . وأن يبين لنا أن القائلين بوجود ما يعرف بالمسرح الذهني في مصر كان استنادا إلى ما قاله توفيق الحكيم عن ثلاث مسرحيات من تأليفه ؛ ربما تحسبا منه لعدم قدرة مخرجينا التقليديين في فترة كتابته لتلك المسرحيات على إخراجها ؛ أو تحاشيا لفشل عرضها؛ وبذلك يعلن منذ البداية عن أنه نبه إلى أنه قصد بها القارئ وليس الفرجة المسرحية على خشبة المسرح - وكلنا يعرف أن توفيق الحكيم فنان مراوغ وبارع في نحت المفاهيم - حيث قال الحكيم وقتذاك : " إني اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن ؛ لهذا اتسعت الهوة بيني وخشبة المسرح ولم أجد قنطرة تنقل مثل هذه الأعمال إلى الناس غير المطبعة . لقد تساءل البعض : أو لا يمكن لهذه الأعمال أن تظهر كذلك على المسرح الحقيقي ؟ أما أنا فأعترف بأني لم أفكر في ذلك عند كتابة روايات مثل : أهل الكهف، شهرزاد، بيحماليون "
( توفيق الحكيم ، مقدمة نص مسرحية بيحماليون ، القاهرة ، مكتبة الآداب ومطبعتها بدرب الجماميز 1950 ص10)
هو يتهم القنطرة الأخري - جسر عبور نص المسرحي الى الجمهور - أي فن العرض المسرحي الذي لا يتحقق بدون فن الإخراج -
ولنا أن نلاحظ أن تاريخ هذا التصريح هو عام 50 من القرن الماضي ، ولم يكن لدينا من المخرجين المجددين آحد ؛ ومع ذلك أخرج زكي طليمات مسرحية ( أهل الكهف) ، وأخرج "نبيل الألفي" العائد من بعثة إلى فرنسا حديثاً - في الستينيات ( إيزيس وشهرزاد؛ وأخرج بيحماليون ) ، فضلا على عرض مسرحية :( شهرزاد) التي يركز النقاد على أنها مسرحية ذهنية وقد عرضت على المسرح الفرنسي كما عرضت. " إيزيسئ" بإخراج المبدع كرم مطاوع في منتصف الثمانينيات .. فما القضية ؟! هي مشكلة وجود مخرج مبدع يمتلك مخيلة تعادل مخيلة الكاتب ، مخرج يزن المسرحية بميزانها فكرا أو فرجة أو تأملا ذهنيا ؛ ليقدمها للجمهور نسجية مشهدية فرجوبة يمتزج فيها الفكر بالفرحة الممتعة المقنعة .
كنت اتمنى لو أن الصديق د. عمرو دوارة قد رجع إلى ما أثاره كبار النقاد وكبار مخرجينا المسرحيين ، ومنهم الأستاذ فؤاد دواره والدكتور عز الدين إسماعيل حول قضية المسرحية الذهنية المقروءة .. أو يسترجع
تفريق د. عز الدين إسماعيل بين المسرح الفكري والمسرح الذهني ؛ إذ يرى أن " الحوار هو المعول الأساسي في التفرقة بين المسرحية الذهنية ومسرحية الأفكار ؛ فالحوار في الأولى هو حوار فلسفي. يهدف إلى الكشف عن الفكرة في ذاتها ، أما الحوار في الثانية فيهتم بالكشف أولا عن الشخصية ، فالحوار فيها حركة بالشخوص نحو الاكتمال خلال مراحل التجربة ؛ أما في الذهنية فإنه( أي الحوار) حركة بالفكرة التي هي جزء بالشخصية مقدما من أجل إبرازها "

( د. عز الدين إسماعيل، قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر ، القاهرة، دار الفكر العربي صً ص 39- 40)
العملية الفكرية والعملية الذهنية:
وأقول .. في العملية الفكرية يترجم المتلقي الصورة الكلامية أو المرئية ترجمة فورية جزئية مباشرة فور تلقيه لها. وفي العملية الذهنية يحتاج المتلقي إلى الموازنة والمقارنة بين صورة وصورة أو عبارة وعبارة ، فهي ترجمة كلية للمشترك بين الصورتين أو العبارتين ليصل إلى معنى التعبير . في الصورة الذهنية تحتاج إلى نوعية خاصة من المتلقين .
يقول د. أبو الحسن السلام مفرقا بين المسرح الفكري والمسرح الذهني ، فالمسرحي الفكري : " هو المسرح الذي يعطيك نتيجة المعادلة بين معنى ومعنى آخر ؛ اي يعطيك مغزى صراع بين مفهومين أو مجردين تمثلا في شخصيتين مسرحيتين أو اكثر. " الشخصيات فيها تنوب عن فكر ؛ أو هي أفكار دبت فيها الحياة الإنسانية ، وهي نموذج لفكر كاتبها "
أما المسرح الذهني : " هو المسرح الذي يعطيك طرفي المعادلة بين معنى ومعنى آخر ولا يعطيك المعنى نفسه بشكل مباشر .. أي يترك لك إيجاد النتيجة . يعطيك عناصر الصراع بين مفهومين دون المغزى من وراء ذلك الصراع ؛ إذ يترك لك الاجتهاد في الكشف عن ذلك. في كل صورة أو حدث ؛ باستخدام ذهنك في عمليات تفكير متلاحقة تبعا لتلاحق الصور المعروضة على ذهنك . "

( د. أبو الحسن سلام ، اتجاهات النقد المسرحي المعاصر بين النظرية والتطبيق، القاهرة ، وزارة الثقافة ، المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية 2001،ص 37 )

إشكالية التلقي في المسرح الذهني :
" تتم عملية التفكير في المسرح الذهني على مراحل عند الشخصيات، وعند المتلقي أيضاً ؛ لذلك تفشل عروض المسرحيات الذهنية جماهيريا ؛ على حين تكون ممتعة لقارئها؛ ذلك لاعتمادها على تصور المتلقى دون أدنى مباشرة للمبدع لتحرير عناصر الصورة وتجريد جوهرها ؛ بعكس المسرحية الفكرية التي يباشر المبدع تصوير خلاصة الصور أو الفكر المجرد "

( د. أبو الحسن سلام ، اتجاهات النقد المسرحي المعاصر بين النظرية والتطبيق ، القاهرة ، وزارة الثقافة ، المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية 2001ص 41)
يقول حامد عبد القادر : " أما الصورة الذهنية المقيدة بالإحساسات البصرية؛ فهي صورة تنشئ مباشرة عن رؤية الكلمات نفسها أو تصحبها ، ذلك أن الإحساس بالكلمات إحساسا بصريا لا يحدث وحده دائماً ، بل يصحبه أو يعقبه مباشرة في غالب الحالات حضور صورة ذهنية معينة ، يشتد ارتباطها برؤية الكلمات ؛ بحيث يصعب فصلها عنها . وتعتبر هذه الصور ظلالا للإحساسات أو من مخلفاتها التي تخلقها وتبقى في الذهن حتى انقضاء الرؤية ."
ويفرق حامد عبد القادر بين الصورة الذهنية وبعضها بعضا ؛ إذ منها " الصورة الصوتية، اي صوت الكلمة الذي يرن في أذن العقل ؛ حيث حيث يقع البصر على الكلمة ، ثم الصورة الذهنية الشفهية ؛ أي ما يستحضره الخيال من حركات اللسان والشفتين والأسنان ، تلك الحركات التي تحدث في حالة ما إذا نطق اللسان بالكلمة وتسمى الصورة الصوتية . " ويخلص عبد القادر إلى أن الصور الذهنية صور تتوارد على الذهن ( طبقا لتداعيات المعاني ) لذلك تكون منها " صور معنوية ترابطية " تتوقف غزارتها أو قلتها على تجارب السامع أو القارئ فحسب "
والصور الذهنية إما أن تكون حرة ؛ وإما مقيدة ، اما الصور الذهنية الحرة في فهم حامد عبد القادر " فيراد بها تلك الصور التي لا علاقة لها برسم الكلمات، ولا بصوتها ولا بحركات النطق بها ؛ وإنما هي صور تنشا قي الذهن عند قراءة تلك الكلمات

( حامد عبد القادر ، دراسات في علم النفس الأدبي، القاهرة ،ط. النموذجية1949ص165 )

والمسرح الفكري " يغلب الأفكار على عناصر الفرجة. يتوجه مباشرة إلى الإقناع ؛ دون التعويل كثيراً على عناصر الإمتاع بالفرجة عن طريق الصور الحركية أو المرئية . وهو يحقق ذلك عن طريق الاشخاص الذين ينطلقون في الصراع بوصفهم ممثلين لأفكار متعارضة أو نوابا عن افكار نقيضة لبعضها بعضا ؛
إذ يتخذ شكل الصراع عندهم شكل الحصانة وراء فكرة ، شخصية تتحصن بفكرة ، أو تتحرك بطاقة الفكرة وليس بطاقتها البشرية الذاتية ؛ فالدافع يأتي للشخصية المسرحية الفكرية من خارجها وليس من داخلها "

( د. أبو الحسن سلام، اتجاهات النقد المسرحي المعاصر بين النظرية والتطبيق ، القاهرة ، وزارة الثقافة ، المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية 2001، ص49)

على ضوء ما تقدم من تأصيل للمفهوم يمكن الدخول دون استئذان إلى حرم البنية الدرامية والفنية لمسرحية عبد الرحمن بن زيدان ( زنوبيا في موكب الفينيق) لترى إذا ما كانت تغلب الفكر على الفرجة أم أنها تقيم الصور المركبة متلاحقة في ذهن المتلقى الذي عليه تبعة
استخلاص مغزاها عبر القراءة . وعند التوصل إلى قيمتها الدرامية والفنية يمكن نسبتها إلى الأسلوب الفني الذي هي عليه .

قراء ما بعد القراءة :
ترتكز البنية الدرامية لنص ( زنوبيا في موكب الفرجة والفكر ) على أربعة ركائز أساسية :
# الاستلهام التراثي ؛ محطة انطلاق بالهوية في اتجاه المأمول .
# الاعتماد علي شخصيات نمطية ( صفات أو أفكار أو رموز ) عصرية تزيح شخصيتها التاريخية وتحل محلها ظلالا تجريدية رمزية :( زنوبيا - الفينيق- العراف - الدمى )
# تضفير الحدث الدرامي بالمزج بين أسطورتين :
( أسطورة تاريخية : طيف زنوبيا- أسطورة رمزية : الفينيق ) زنوبيا : رمز المقاومة القومية للغزاة حفاظا على الوطن وعلي هويته . والفينيق : رمز الظاهرة التاريخية للمقاومة المتجددة المتوالدة بفعل جينات الهوية القومية على مر العصور . كلاهما يسكن بداخل الآخر ؛ باستهداف تأكيد مغزى حتمية مقاومة الشعوب للاستبداد ولطغاتها؛ فهي مقاومة لا تموت ؛ فما أن تختفى إلا وتبعث من جديد لأنها تتوالد باستمرار .
# تداخل عنصر الزمن الدرامي ؛ تحقيقا لاستمرار حالة توالد الرمز / مقاومة الشعوب .
# تعددودلالة الخطاب الدرامي للنص .
# رسم شبكة العلاقات الدرامية على بنية التناظر بالتصفير بين الواقع والحلم ، بين التاريخي والمتخيل ؛ استلهاما أو ابتكارا .

# نسج اللغة حوارية شاعرية محملة بالاسقاطات السياسية في صياغة تتراوح ما بين لوحة درامية ولوحة درامية أخرى منها الجمل التلغرافية البسيطة ومنها الجمل المركبة المحملة بالأفكار الفلسفية ؛ التي تحملها الشخصية القناع.
# العتماد علي الشخصية القناع التى يتخفى المؤلف من ورائها ويتخذ منها قناعا ينوب عنه في قول أو رأي أو إسقاط سياسي على الواقع المعاصر المعيش ؛ سواء أكان التقنع مراوغا متقنا أم كان غير متقن ؛ الأمر الذي يضع اللغة في حالة اختبار حتى ينجو الأداء التمثيلي من مزالق الرتابة أو الاستغلاق على فهم الجمهور العادي في بعض العبارات المركبة أو الترميزية - مع أنها قد تكون لغة متطابقة مع الشخصية الدرامية من حيث مستواها الفكري والثقافي )

# اعتمادالبنية الفنية التوليدية للنص على المعادلات الرمزية والتاريخية : المعادل الرمزي يولد المعادل التاريخي ويتوافد عن المعادل التاريخي معادله الرمزي فالفينيق معادل رمزى متجدد لزنوبيا الرمز التاريخي الوطني المقاوم للغزو الأجنبي ؛ فهو / هي في كيان متوحد رمزا للمقاومة المتوالدة للشعوب الحرة الأبية . والدمى معادل رمزي للتبعية والاستماتة الممزمنة للاستنامة على سرير حكم الشعوب قهرا ؛ تلك التي ينتهي دور تبعيتها فور نجاح المقاومة في إزاحتها بفعل ثوري جماعي . لأن مقاومتها ببطولات فردية ليس لها الأثر الذي ينهي وجودها بالمقاومة الفعالة عندما تتحول إلى مقاومة جماهيرية واسعة ومنظمة.

# أسلوب الخطاب الدرامي:
يتداخل بين تيارىالشعور وتيار الوعي ؛ الذي يتكشف منوخلال الحوار في مواقف النقد الاجتماعي والسياسي الذي توجهه الشخصية القناع ( الفينيق) لتلك الدمى التى ترمز إلى أعضاء نظم الحكم الاستبدادي

# عناصر الفرجة المرئية:
الدمى: ومناط الفرجة كامن في أنسنتها . وهي لأنها فاعلة بغيرها ؛ فإنها بحكم المفعول بها باعتبار أفعالها ردود أفعال لدافع من خارجها ؛ حركتها من خارجها ؛ لأن إرادتها منزوعة منها لذلك تبدو بدون استطاعة .

# العراف : وهو مناط فرجة من حيث نمطية رسمه دمية ومن حيث ارتباط العرافة بالغيبيات ورواجها في مجتمع ناسه من دمى ؛ مع مقاربة ذلك الارتباط بما هو ماثل في واقعنا التاريخي ثم المجتمعي العربي المعيش ؛ فهو مالك لكل المقولات الماضوية مثلما هو حال المتشيخين علينا دينيا بمناسبة وبغير مناسبة ؛ المدعين بملكية الحقيقة المطلقة .
# الأطياف: وهي فرجة شعبية تحيل إلى خيال الظل.
وهي بذلك تأصيل لفركة شعبية ذات تأثير في وجداننا الشعبي على مر العصور .
# الفينيق : فرجة شعبية تحيل إلى الأسطورة . والفرحة في رسم المؤلف لها شخصية قناعية تحمل بعض رأيه فيما هو حاصل في الواقع المعاصر المعيش
الذي يتخطى حدود مجتمعنا العربي إلى الواقع الدولى في ظل الهيمنة العولمية العسكرة الأمريكية.
الفرجة التأملية:
لايخلو الحوار من بعض التعبيرات التأملية المركبة ذات البنية الشاعرية المكثفة التى تستدعى تهيئة التلقي ؛ خاصة في مقاطع من حوار الفينيق : " لا تعدد في الاحتمال الواحد ، ولا خيار أمام تعدد الاختيارات اليابسة ، ولا تعدد أمام قلة المسارات الحية. ولا تعدد أمام الخطو الذي يتمرد على الخطوة ببلاهة عمياء. مع الاختيار اصطفى الصمت الذي يختارني كي ألون به نبض الكلام ، وأواخر الإعلان عن وجوده لأقرر الخروج من عزلة النفس عن النفس ، وعزلة المكان عن الأماكن، وعزلة العزلة عن وحدتها . "
( د. عبد الرحمن بن زيدان، زنوبيا في موكب الفينيق، سلسلة نصوص مسرحية 120، وزارة الثقافة المصرية ، هيئة قصور الثقافة 2012ص 66)

حوارية المواجهة الدرامية:
من المنطقي في مواقف المواجهة أن ينحو مستوى التواصل في لغة الحوار منحى أقرب إلى روح الجدل أكثر من تدفق لغة التعبير عن جوهر ما تشعر به الشخصية وعن جوهر ما تريده ؛ وهنا يصبح الاتصال بين طرفي الجدل إلى الجمل القصيرة والمادة النبر :
" الفينيق : حلمي حلم جماعي.
الدمية: بل أضغاث أحلام .
الفينيق: أحلامنا دوما خارقة.
الدمية : أنا لا أخشى الموت ؛ بل أتمناه.
الدمية : لا تحلم وسأعطيك من المال ما يكفيك .
الفينيق: لا أحد منكم يحتفظ بالمال بعد اختبائه.
الدمية: لك نصيبك من الودائع والذهب الأسود والدتنات والياقوت والمرجان والأسهم
الفينيق: ماذا تعبدون ؟ ومن يكون معبودكم ؟
الدمية: أتباعها من كل الألوان والأمصار يأتون لأخذ نصيبهم من الغنائم إلا أنت .
الفينيق: لأن المتسولين يصلون قبل وصول المال...
الدمية : وأنت ماذا تعبد ؟
الفينيق: أنا لا أعبد المال.. أعرف .. أعرف أن لك من المال ما يجعلك ثملا طول حياتك .
الدمية: بمالي أغير عالمك .
الفينيق: وبأحلامي أواجه مكرم. ولرئيس حزب الأغلبية في بلاد الواق واق.
الدمية: أحلامكم ستدمرك.
الفينيق: إنكم تدورون روحي في المدينة. وتدمرون من أحب .
الدمية : لنا مفاتيح مدينة تدمر وبغداد والقاهرة ومكناس وفاس ومراكش والقدس وبابل وطرابلس .
الفينيق: طقوس تسلمكم هذه المفاتيح كانت مزورة ( النص ، نفسه، ص-ص73-74)
" الدمية: إذا أعطيتنا صمتك سنعطيك عفوا كاملا.
الفينيق: وإذا تكلمت؟
الدمية: اصمت وستعلن عنك .
الفينيق: وبع العفو.
الدمية: نتركك تغادر المدينة.
الفينيق: لا.. ثم لا.. لأن مدينتي بنيت بوهج الإيمان في وسط الظلام الذي تنشرونه ، باحت بصوتها لتقول لا لمن يؤسس الخرافات باسم الدين لتصير مدينة التباغض والتناحر والاقتتال . قالت لا.. ثم لا. " ( نفسه ص 77)
نخلص مما تقدم إلى أننا أمام مسرحية لم تعتمد بنيتها الدرامية على شخصيات تسيرها الفكرة بعد الفكرة على طريق ذهنية حوارية متراكبة الصور بما يحتاج من المتلقى إلى زمنين لفهم معنى ما تقوله الشخصيات ؛ زمن لترجمة الصورة الذهنية إلى صورة معنوية حتى يفهمها المتلقي ؛ ولئن تمثلت مثل تلك الحالة الذهنية في بعض محطات على الخط الدرامي لبنية النص فهي بسبب توالد الصور في بنية بعض المواقف من حوارية الفنيق متقنعا بقناع المؤلف أو العكس ؛ غير أن تجسيدها لا يتم بعيدا عن فرجة من نوع خاص يناسب الموقف ؛ هي فرجة التأمل .

ولذا أرى أن هذا النص يحتاج إلى مخرج .. مخرج قادر على آن يزن إبداعه الذي يوازن بين الفكر والفرحة بميزانه ؛ مخرج مفسر ؛ أو مخرج مؤول يعادل مستويات لغة البنية المتعددة للنص بمستويات لغة مسرحية سحرية تمتع فتقنع كي تؤثر .













خاتمة البحث
من الطبيعي أن يستوعب صاحب المشروع النقدي جهود غيره الذين يتصادف أن يكون لأحدهم مشروعا نقديا ؛ قبل أن يقرر ما إذا كانت هناك له حاجه أو ضرورة لمشروع نقدي جديد ؛ ولذلك رأينا " بن زيدان" عاكفا على اسيعاب قراءة جهود نقاد مسرحنا العربي المعاصر ، متأملا جهود " محمد الكغاط النقدية " للنص المسرحي باعتبارها تشكل – من جهته- " دائرة الاهتمام الذي أولاه للمسرح العربي وتاريخه وتطوره ، وتاريخ أشكاله ، وتاريخ بنياته " .
ومع الوجهة التاريخية في منهج قراءة الكغاط للنص المسرحي العربي ؛ إلا أن وعي " بن زيدان" يلحظ فيه البعدعن الحيادية ؛ خاصة- عندما تصل قراءة الكغاط للقالب المسرحي . وهنا نلحظ تأكيد عبد الرحمن بن زيدان " على ما قال به " محمد الكغاط " عن أحوال النص ؛ إذ " لا يمكن أن يكون بمعزل أو بمنأى عن التغيير والتبديل " تبعا لما تقتضيه ظروف العرض" بمعنى أن منهج بن زيدان النقدي يسعى إلى ضرورة " الفهم العميق لمكونات المسرح الذي يقدم به الكغاط مفهوما للمنهج النقدي وأدواته لفهم جميع مكونات العملية المسرحية "

في النهاية يمكن القول إن القراءة النقدية الاستعادية لمشروع ( بن زيدان) النقدي من منظوره التوفيقي ؛ تكشف عن جهد قراءة – تحليلية أو تفكيكية – مزدوج الوحهة ؛ إذ يبدأ بقراءة بنيوية توليدية لنصوص الكاتب المسرحي نصا بعد الآخر راصدا لمفارق التحولات الدرامية في انعكاسات وعي الكاتب تحت راية إنتمائه الاجتماعي في صبغته الطبقية ليصب في اتجاه نظرته الكونية ، يعقبه جهد ثان لربط استخلاصاته النقدية لمجمل قراءاته لتلك النصوص وصياغتها في رؤية كلية وصولا إلى دور خاصية أسلوب الكاتب المسرحي في رصد تحولات مجتمعه من ناحية واستشفاف مسير تلك التحولات في اتجاه مستقبلي أو بث روح التحريض أو رياحه عبر مراوغات فنون الكتابة وتقانتها ؛ لتحريك ضمير الهوية والإنتماء نحو تكوين نظرة كلية للوجود . هكذا تتلمس قراءة ( بن زيدان) النقدية خاصية خطاب الكتابة المسرحية عند تفعيل قراءته النقدية ( وفق مشروعه)" على مسرح (رضوان احدادو) أو على مشروع محمد أبي العلا السلاموني المسرحي . أو غيرهما . منطلقا من مساءلة المنتج الإبداعي نفسه عن أسرار بنيته الدرامية والفنية وجمالية انطلاق حطابه الفكري عبر منعطفات البهجة المسرحية.


أبو الحسن سلام
[email protected]
الإسكندرية في الحادي عشر من أغسطس 2014


بعد تصفح الدراسة :


عزيزي الدكتور أبو الحسن البريد عرف طريقه إلى العنوان لقد وصلت الدراسة في ثلاث وثلاثين صفحة وسأتولى الآن القراءة شاكرا لك هذه الاهتمام الراقي

أخيرا .. الحمد لله أرجو أن أكون قد قرأت مشروعكم النقدي قراءة يرضى عنها العلم أي ترضى أنت عنها
تحياتي


بكل صراحة في قراءة ما كتبت عزيزي الدكتور متعة وعلم و عمق وهذا يؤكد مدى ما تمتلك من ثقافة عالية لا يملكها إلا أصحاب الباع الطويل في حياة أﻷ-;-دب والفن والنفد شكرا لك

حفظك الله وأدام عليك نبلك ورقيك وموضوعيتك التي يشهد بها كل مطلع بانصاف وموضوعية على جهدك المتفرد والمنظور إليه باهتمام يستحقه











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشكل طريف فهد يفشل في معرفة مثل مصري ????


.. إسرائيل وإيران.. الضربات كشفت حقيقة قدرات الجيشين




.. سيناريو يوم القيامة النووي.. بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم


.. المدفعية الإسرائيلية تطلق قذائف من الجليل الأعلى على محيط بل




.. كتائب القسام تستهدف جرافة عسكرية بقذيفة -الياسين 105- وسط قط