الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ساسكولوجيا الحرف (21)

سامي فريدي

2014 / 9 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


سامي فريدي
ساسكولوجيا الحرف (21)
الكذب والمبالغة لغويا..
اللغة العربية من اللغات الوصفية، والوصف هو التعويل على صورة الشيء المنعكسة نحو الخارج، وتدعى بالمظهر، وهو مقابل الجوهر (الداخل) المحجوب عن الخارج.
لكن المعيار الاجتماعي للشيء لا يتمثل بما يظهر منه للخارج، وانما بعتمد على ما يراه - شخص- الرائي من الصورة. وهنا تتدخل ذات - الرائي- بما تمثله من منظومة فكرية شعورية نفسية في وضع لمساتها على صور ومسميات الأشياء المنظورة. ولذلك تختلف صورة الشيء ومعياره من شخص لآخر، وذلك بحسب مكنوناته وطبيعته وثقافته وغرضه.
اللغة العربية لغة غير متوازنة في أبوابها الرئيسة [اسم، فعل، صفة، صفة مشبّهة، حال]، وتقابلها بالانجليزية [noun, verb, adjective, adverb]. ويلحظ عدم وجود (صفة مشبّهة) في اللغة الانجليزية مثلا. تستخدم اللغة الانجليزية في لغة العلم والتكنولوجيا والفلسفة واللاهوت لتميزها بالدقة العلمية، وهذا جعلها الأكثر انتشارا في العالم في القرون الأخيرة. بينما اللغة العربية تنعدم فيها الدقة لهيمنة الاسماء والصفات والصفات المشبّهة بالفعل عليها، مما يجعل منها لغة أدب وانشاء ووصف ومبالغة [البلاغة هي الاسراف في المبالغة، والمبالغة هي الكذب وتزويقه].
فالسائد في كلام العرب هو الوصف، والمبالغة في الوصف.
ان الجملة التعبيرية تتكون من [فاعل- فعل- مفعول به - أو تتمة لازمة]. والتعويل على هذا النظام في الكلام يكفي المعنى ويغنيه عن الحشو. بينما كثرة الكلام والحشو والمبالغة وتعدد الرواة وتنافسهم في الخبر، ينتج حالة سوء فهم، وهذه تضرّ بحقيقة الخبر، وتتسبب بنشر البلبلة والفوضى والمشاكل الاجتماعية. والقسم الأعظم من مشاكل العرب الأسرية والاجتماعية والسياسية والدينية منبعها الكلام وكثرة والكلام وعدم الدقة في الكلام. فالكلام آفة العرب - سكان الشرق الأوسط عموما-، وهم أكثر الشعوب فوضى وتخلفا ورداءة في التعبير والسلوك. وفي لغة المصريين - لا يشتهون الكلام مطلقا!، وصفهم الاغريق بالفم الواسع- يشيع القول [هات من الآخر!]. والعراقي يلف ويدور في الكلام حتى يخرج من موضوع لسواه وهو لا يدري. وقد احتسب ابو حيان التوحيدي ذلك فنا [كتابه: الامتاع والمؤانسة- الليلة الأولى (تفنن البغداديين)].
ومن مظاهر التعويل على الصفات، استخدامها بدل الاسماء في الدلالة على شخص أو شيء. والصفات الدارجة في الكلام هي في واقع الحال (صفات مشبّهة/ مبالغة) فيقال عن فلان: [كذّاب، طمّاع، دجّال، قتّال، عرّاف، بصّار، كفّار، مكّار، سيّار، سوّاق، عمّار، عتّال، حمّال، بتّار.. إلخ]. ويلحظ ان الصفة - المشبهّة بالفعل/ صيغة المبالغة- تخرج بالقصد عن الوصف والاخبار عن حدث طارئ، إلى تثبيت صفة دائمة الحدوث وطبع راسخ بالشخص المنعوت. فالكاذب، شخص ورد في كلامه خبر غير دقيق مرة، أما (الكذّاب) فهو الذي سمته الكذب، وليس في كلامه صدق البتة. وهذا يعني بالتالي: ان استخدام صيغ المبالغة في النعت، هي أحكام قاتلة تصدر بحق الناس، حكما عشوائيا من أفراد غير مسؤولين ولا يبعد أن يكونوا مغرضين، لتشويه وتسقيط عدو أو منافس لهم.
هذه اللغة -العدائية- يتداولها الطفل العربي ويتعلمها ويعتادها دون أن يدرك حجم الأذى والعدوانية وعدم الدقة فيها. واللغة هي التي تؤسس الشخصية وتبني المجتمع، وتقود قاعدته. وبهكذا لغة، يتشوش الفكر ويضطرب المجتمع، وهذا ما أعاق العرب أن يكونوا شعبا أو أمة مثل بقية الأمم.
وتهيمن الصفات هيمنة تامة على لغة القرآن القائم على السّجع الموسيقي. وعمل قائمة بألفاظ السجع، ونسبة ما فيها من صفات، يقدم نتيجة مؤسفة عن حجم المبالغة في بناء الجملة القرآنية، وبالتالي بناء لغة العرب. ولما كانت اللغة أداة رئيسة في هندسة نمط التفكير وتركيز الانتباه على صيغ التعبير، ينعكس ذلك على الجوانب النفسية والعاطفية والاجتماعية لشخصية مشوشة مضطربة، تفتقد النسق الطبيعي في الفكر او اللغة أو السلوك والتكيف مع المحيط.
راجع هذه الصفات المبالغة [كتاب حفيظ، زوج بهيج، الحصيد، طلع نضيد، كثيبا مهيلا، قعيد، عتيد، كفّار عنيد، منّاع للخير معتدٍ مريب، قلب منيب، محيص، شهيد، لغوب، مبين، متين]. وهي في باب السجع الذي هو قوام لغة القرآن وامتيازه على لغة الشعر التي اشتهر بها العرب. وكان للعرب ضرب من الكلام يتوارده العامة في وصف الأحداث والملمات، يقف ما بين الشعر والسجع، هو (الأرجوزة)، ويقوم على جمل خبرية قصيرة مباشرة الاخبار سريعة الوقع، وهي أقرب لكلام عادي مسجوع [أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب]. وما بين الشعر الموزون والسجع الفني (خطب القس بن ساعدة، سور القرآن)، كان كلام الارجوزة الجامع بينهما. وينسب الدكتور كامل النجار سجع القرآن إلى (سجع الكهّان)، لما تعارف عليه من لغة دينية خاصة تتناول موضوعات الغيب والوصايا الدينية المنسوبة لوحي خاص. وكان السجع - بحسب النجار- أفضل وسيلة لمساعدة الناس على حفظ السور، ولم تكن الكتابة - والقراءة- متعارفة بين اهل الجزيرة يومذاك. [وفي بعض الأحيان يشتق القرآن بعض الكلمات اشتقاقا على غير المعهود لتماشي السجع]*. فالاهتمام بالسجع قد يخرج بالكلام عن السياق ويشتت المعنى وتتداخل الأغراض والموضوعات، في عبارة، أريد لها أن تكون جملة تعبيرية واحدة.
من أحد عيوب الشعر القديم هو تعدد الأغراض والموضوعات في القصيدة أو المنظومة الشعرية الواحدة. والواقع أن مصطلح القصيدة، باعتباره وصفا نقديا، ظهر لاحقا، مع تبلور أدوات النقد العربي، وكان من شروط القصيدة وحدة العروض والموضوع وتعدّيه السبعة من الأبيات. والقرآن الذي ظهر قبل قرنين أو ثلاثة من تبلور قواعد النقد الأدبي واللغة العربية، عانى من نفس عيوب الشعر العربي القديم، في انعدام الوحدة الموضوعية والفكرية في نسيجه. وبالاضافة لتعدد الجمل والأفكار والأوامر والنواهي داخل (آية) واحدة، ثمة (آية) قرآنية، أطول من سورة ، مما يضر بالمنطق الفني - لغويا وفكريا- للنص.
النزوع للمبالغة والتوكيد والمجادلة والمنافسة والتحدي أساس من الأسس النفسية (السايكولوجية) التي تصدر عنها لغة القرآن، وتتولى قيادة اتجاهات المعنى وموضوعات المجادلة والتحدي، والتي لم تكن تجد قبولا أو اقتناعا في محيطها الاجتماعي، مما دفعها لمزيد من المبالغة والتأكيد والعدوانية في الطرح.
فاللغة القرآنية، ليست لغة عادية هادئة، تصدر عن طبيعة ذات سياق طبيعي تتولى اصدار بيان أو اعلان فكرة أو حالة، وذلك عند مقارنة نص القرآن مع نص توراتي أو انجيلي أو أفستي أو من كنزا ربا. وانما هو خطاب انفعالي مبالغ يصدر عن ذات مشوشة مضطربة مزاجية متبدلة تتلاعب بها الانفعالات والظروف، مما ينعكس على اسلوب الخطاب وطبيعة النص.
ان استخدام (القَسَم) في كلام العامة هو أمر مستهجن، ويكاد يقتصر على المسلمين بالدرجة الأولى، وهو يخالف الوصايا العشر (لا تقسم)، كما نهى عنه الانجيل؛ هذا الاسلوب في الكلام، والمنتشر كثيرا في لغة القرآن، هو أحد علائم الكذب والتدجيل. فمن الناحية النفسية، لا يحتاج الشخص الصادق، الواثق من نفسه وكلامه، لمن - وما - يؤيد كلامه، من صيغ المبالغة والقسم والتاكيد والتكرار والوعيد والانذارات الدموية التي لا طائل منها.
وقد جاء في مفتتح (البقرة2: 2): [ذلك الكتاب - لا ريب فيه- هدى للمتقين] وكان الكلام كافيا بالقول: ذلك الكتاب هدى للمتقين. بل هو هدى للجميع. ومن الناحية اللغوية تعرب جملة (لا ريب فيه) كجملة اعتراضية، مقحمة على النص، لا ترتبط بها من جهة المعنى أو التعبير، وحذفها لا يؤثر في النص. ولكنها، إذ استخدمت - بوازع التأكيد والتوكيد- أثارت من الريب أكثر مما قصدت رفعه. فالريب، - الريبة- هي ما شغلت نفس صاحبها من أمر نفسه و- كتابه- حتى سالت منه رغما عنه وجاءت في نسيج النص، لتجمع بن التأكيد والتفنيد في آن واحد. وللقارئ الحصيف التساؤل، إذا كان الكتاب - لا ريب فيه-، فلماذا يستدعي مثل هذه الاشارة؟.. لا بد أنه كتاب مرتاب فيه، ويحاول كشف الريبة عنه بهذا القول. ومما يدعم عنصر الارتياب - في الكتاب- هو تكرار هذا المعنى وتوارده عبر السور وبشكل يكشف مدى اضطراب ما ورائيات النص، وما يعانيه من حرب في ذاته، يحاول معها، عبر هذه المتواليات المسجوعة، أن يدفع نفسه هو للتصديق، عندما يرى علائم السكوت والقناعة على وجوه المستمعين. لذلك نصت أوامره بوجوب التلاوة الصائتة للسور، وبذلك يتدعم تصديقه لنفسه، عبر تسويغ الناس لذلك، ويحصل على مصدر نشوة نفسية وخيلاء غامر، تعمر ذاته الحالمة بالعظمة والتعظيم والتمجيد، وها هم الناس يرددون كلماته وأساجيعه كما لو كانت - كلاما منزلا-. ها هو جلجامش يتخلد عبر سطور ملحمته الاسطورية، ملكا عظيما، يتسيد عرش التاريخ. ماتت سومر، وبقي جلجامش واسمه. مات الاسلام وبقي اسم مبتدعه وساجعه.
من أبواب المبالغة اللغوية استخدام صيغ التفضيل (خير امة، أحسن الخالقين، خير الماكرين)، وكذلك التعويل على صيغ (المفعول المطلق): [الذاريات ذروا، رتل القرآن ترتيلا، وتبتل اليه تبتيلا، أخذناه اخذا وبيلا، اقرضوا الله قرضا حسنا، العاصفات عصفا، الناشرات نشرا، الفارقات فرقا، الناشطات نشطا، السابحات سبحا، السابقات سبقا..].
المعيار في كل ذلك، إعادة صياغة الجمل صياغة عادية بعيدة عن المبالغة والتاكيد والتكرار والقسم وما يدخل في باب البلاغة والمبالغة والتدجيل، لنقف على المعنى المطلوب، ثم نحكم فيه:
هل ينسجم مع العقل السليم؟..
هل ينسجم مع النفس القويمة.,,
هل ينسجم مع الواقع الانساني المستقر؟..
هل ينسجم مع الظرف الاجتماعي الهادئ والصحيح؟..
هل يصدر مثل هذا الكلام من شخص طبيعي، تفكير طبيعي، انسان اجتماعي مسالم محبّ للخير والسلام؟..
هل يصلح هذا الكلام مبدأ للحياة والمؤاخاة بين البشر؟..
لقد ورث العرب تراثا مشوشا، ولغة سقيمة، وتفكيرا مشوّها، وعلى عرب اليوم والمستقبل، تهذيب تراثهم وتنظيف لغتهم وتقويم أفكارهم، بما يجنبهم دوامة التكرار، ويخرجهم من ظلمات العنف واستعداء العالم، ويؤهلهم لرفع قاماتهم نحو الشمس والمساهمة في المنجز العلمي الحضاري للانسانية.
*




ـــــــــــــــــــــــ
* سيرة ابن هشام- دار الحديث- القاهرة- 1995
* د. كامل النجار- قراءة نقدية لللاسلام- ف4 (القرآن).
* أبو حيان التوحيدي- الامتاع والمؤانسة- ذار الكتب العلمية- بيروت- 2003








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عشرات المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى


.. فلسطينية: العالم نائم واليهود يرتكبون المجازر في غزة




.. #shorts - 49- Baqarah


.. #shorts - 50-Baqarah




.. تابعونا في برنامج معالم مع سلطان المرواني واكتشفوا الجوانب ا