الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لم يحن الوقت بعد - قصة قصيرة

كلكامش نبيل

2014 / 10 / 6
الادب والفن


شعرت بأنّ ظهرها يؤلمها، لم يكن ألما بقدر كونه شعورا بالإنهاك بسبب فترة الرقاد الطويلة التي يبدو إنّها قد قضتها مؤخّرا. كانت تشعر بأنّها مصنوعة من حجر، لا روح فيها و لا حياة، تمطّت و هي تجلس على سريرها الحجري، لم تكن هنالك ثمّة أفرشة تغطّيه و لا شراشف و لم تكن هنالك ستائرها الرائعة. وضعت يدها الرقيقة على عنقها الرخامي و حاولت تدليكه فقد أرهقها النوم كثيرا حتّى جفّ نبع أحلامها و أصبح النوم كالموت تماما، لم تكن واثقة إذا ما كان وصف غيبوبة سيكون مناسبا لما مرّت به، لأنّها لا تعلم إن كانت الأحلام تراود من يدخل في غيبوبة أم لا. لم تشغل نفسها بذلك كثيرا فقد سيطرت عليها الرغبة في إكتشاف المكان الذي توجد فيه الآن، كما إنشغل بالها بمعرفة طول الفترة التي قضتها في نومها العميق هذا أو سباتها كما فكرّت.

كان شعرها الأسود طويلا و منسدلا على كتفيها الناعمين، كان نظيفا و متلألئا كالعادة و قد تموّج كشعر راقصة إسبانيّة، لم تجد فيه أثرا للشيب، لقد كان جميلا و نضرا و لا يوحي بأنّ الفترة التي قضتها في النوم طويلة و قد أثار هذا الأمر دهشتها، فقد كانت متأكّدة بأنّ ما ينتابها من إرهاق كان بسبب نومها الطويل، فطول النوم يتعب تماما كقلّته، و كلّ شيء بالقدر المناسب و المتّزن هو الأفضل دائما. سارت بخطى متثاقلة خارجة من هيكلها المبني من الطوب المفخور، إستغربت شكل منزلها الغريب، كان مظلما و خاليا من الأثاث و الجواهر، أخذت تتذكّر ما كان في هيكلها من أثاث و أفرشة و جواهر و ستائر، لقد إستغربت ذلك الإختفاء المفاجيء لكلّ شيء. ما الذي حصل؟" تساءلت في نفسها من دون أن تجد إجابة لذلك. تذكّرت خادماتها و وصيفاتها، نعم لقد كانت لديها خادمات يجلسن ليحرّكن مراوحهنّ الكبيرة المصنوعة من ريش النعّام كي يبعدن حر أشهر الصيف عن سيّدتهنّ. أين ذهبت تلك اللعينات؟ هل قمن بتجهيز الطعام فأنا أشعر بالجوع؟ قالت في نفسها. لكنّ المكان كان خاليا و كئيبا و مظلما، لم تكن المشاعل مضاءة و لا حتّى الشموع، هل سرق الخدم كلّ شيء؟ تساءلت في نفسها و هي تمرّر يديها على عنقها الطويل كعنق فينوس و من ثمّ إلى الأسفل، شعرت بردائها الممزّق الذي يكشف عن نهديها المستديرين الجميلين، كان جسدها لا يزال ممشوقا و جميلا كما كان و لم يزدد وزنها بسبب ذلك الرقاد الطويل ممّا جعلها تشك في أنّه كان طويلا أصلا.

إنزعجت كثيرا لرؤية ردائها الممزّق و فقدان مجوهراتها الذهبيّة التي كانت تغطّي عنقها الرقيق و تتدلّى على صدرها و تلك الأساور التي زيّنت معصمها و عضدها لم تعد موجودة، قرّبت يدها من أذنها لتتحسّس أقراطها التي كانت تتدلّى يوما ما كعناقيد عنب ذهبيّة مزيّنة بالعقيق الأحمر و اليشب. لقد كانت كالعمياء في ذلك الظلام الذي جعلها تشعر بالوحدة و الحزن، لم تكن الأقراط موجودة هي الأخرى، و بسرعة رفعت قدميها لتضعهما على ذلك السرير الصخري الذي لم تعلم كيف أمكنها النوم عليه طوال تلك الفترة المجهولة، تفحّصت خلخاليها الذهبيّين و الذين لم تتوقّع بأنّ وقاحة الخدم قد وصلت إلى حدّ إنتزاعهما من قدميها و تركها هكذا من دون زينتها، لكنّهما لم يكونا موجودين فقد إقتلعتهما أيادٍ قاسية تركت أثرا على كاحل ساقها اليسرى الناعمة. كانت أذيال الثوب مهلهلة، غضبت لكونهم قد تركوها هكذا بدون رحمة متناسين بأنّها كانت يوما ما السيّدة هنا.

نهضت بسرعة راكضة فوق الأرض المصنوعة من الطابوق المفخور هي الأخرى، تماما كالسقف و الجدارن التي غابت عنها الستائر الحريريّة و اللوحات و التماثيل الرخاميّة و الذهبيّة، لقد أخذوا كلّ شيء حتّى تلك الدمى الفخاريّة التي أحبّتها على الرغم من كونها مصنوعة من أرخص مادّة عرفها الإنسان ألا و هي الطين، لكنّها كانت تقدّس عناصر الطبيعة كلّها و تنظر إلى الذهب و الياقوت و الطين بنفس العين مدركة بأنّ الماس ما هو إلاّ فحم مرّت عليه آلاف السنين تحت تأثير ضغط و حرارة شديدين. تسلّل البرد سريعا إلى قدميها العاريتين فلم تعد هنالك سجّادات تغلّف الأرضيّة و تكسب هيكلها دفئا كالسابق. كان البرد شديدا و تمكّن من جعلها ترتعش سريعا، لم تدرك ذلك الدفء الذي كان يلفّها و هي نائمة من دون أغطيتها المصنوعة من جلود النمور و الأسود، كيف تمكّن ذلك الثوب المهلهل الذي شعرت بالخجل من إرتدائه من منحها ذلك الدفء أم تراها برودة الموت التي فاقت برودة ذلك الشتاء هي ما جعلها تشعر بالدفء الذي تلاشى سريعا بعودة الحياة إليها بعد تلك الفترة التي لا زالت تجهلها و لكنّها متأكّدة من أنّها طويلة جدّا. ندمت لأنّ نبض الحياة فيها و جريان الدماء في عروقها من جديد جعلاها تشعر ببرودة الحياة و قسوتها التي لا تستثني أحدا.

حاولت العثور على شيء ترتديه و لكنّ المكان كان خاليا تماما عدا ذلك السرير الصخري الذي ظنّت بأنّه قبر لوهلة، فكرهت تلك الفكرة و فضّلت أن يكون دكّة المذبح في المعبد، كانت الفكرتين أسوأ من بعضهما البعض و لكنّها فضّلت الثانية لسبب مجهول كما كان عليه واقعها تماما. حاولت معرفة السبب الذي جعل الخدم يسرقونها و يهربون، كيف ضعفت سطوتها إلى هذا الحد، هل ماتت و هذا ما جعلهم يتجرّأون على القيام بما قاموا به، مع إنّها لم تكن متأكّدة بأنّهم من قاموا بذلك أصلا. لقد كانت أوّل فكرة تخطر على بالها و لم تحاول التفكير في بديل آخر، حاولت المضي في تخيّلاتها بدل البدأ من جديد فيكفيها محاولتها لإكتشاف نفسها أصلا.

في النهاية غضبت و كرهت ذلك المكان و قرّرت الخروج علّها تجد أجوبة لأسئلتها، خرجت من فتحة الباب الذي لم يعد موجودا أصلا، تذكّرت ذلك الباب الخشبي المزيّن بوجه أسد مهيب تتدلّى من فمه حلقة معدنيّة ثقيلة، كانت عيناه تثيران الرعب في قلوب من يفكّر في طرقه فيراجع نفسه ألف مرّة قبل أن يقدم على ذلك. حاولت العثور على أسديها المهيبين اللذين كانا يقفان عند باب الهيكل يحرسانها و يحرسان ما تمتلكه، لكنّهما لم يكونا هناك، تخيّلت بأنّ ترك المنزل من دون الباب و وجه الأسد الذي كان يزيّنها و هروب الأسدين الضخمين هما السبب في تعرضه للنهب، لقد حصلت ثورة للعبيد ههنا." هذا ما توصّلت إليه في النهاية، فلعنت العبيد و أيّامهم و لكنّها تذكّرت بأنّها سمعت عن ثورة العبيد في روما بقيادة سبارتاكوس، نعم لقد كان ذلك في روما و لم تفلح تلك الثورة أصلا. و لم يحصل أمر مماثل هنا في بابل، إنزعجت لأنّ ذاكرتها بدأت تخلط الأمور و هي من كانت تتباهى بقوّتها، هل أصابتها الشيخوخة أم تمكّن منها مرض ألزهايمر الذي بدأت تسمع مؤخّرا.

رفعت نظرها بإتّجاه السماء التي زيّنتها بالنجوم وترصّعها و بأضواء متباينة فكأنّها أحجار كريمة تتباين في أحجامها ممّا يمنحها بريقا متفاوتا في اللمعان. أخيرا وجدت شيئا يفرحها فها هي السماء كما عهدتها لا تزال متألّقة كما كانت دائما و أبدا. لم تكن الطبيعة للتتغيّر كما هو حال ما تصنعه أيدي البشر، هذا ما فكّرت فيه في تلك اللحظة. كان الليل جميلا و أنساها تلك الأفكار عن ثورة العبيد و نست غضبها عليهم و لو مؤقّتا. كان الصمت غريبا في ذلك المساء، لقد إفتقدت أصوات الموسيقى و القيثارات التي كانت تميّز ليالي بابل الصاخبة و الرائعة، لم تكن هنالك أصوات ضحكات الرجال السكارى و لا أصوات الراقصات بنعومة على أنغام قيثارات رقيقة و كأنّهنّ ستائر حريريّة تحرّكها نسمات هواء عذب في ربيع نيسان أو رقصات عنيفة على إيقاعات قويّة لطبول و دنابك "طبلات" و دفوف تذكّر بعنف الحياة المضاد لذلك السكون الذي كان يخيّم على المكان. لقد كان الحزن يخيّم على كلّ شيء فشعرت بالحاجة للإنصات لصوت ناي حزين، لقد كان مناسبا جدّا لذلك المساء كما كان صوت الكمان سيكون ملائما أيضا لو إنّها سمعته من قبل و لكنّها لم تكن لتعرفه و تعشقه بالتأكيد.

فجأة مرّ شيء أسود ضخم في السماء مصدرا صوتا عاليا قبيحا لم تسمعه من قبل، مرّ من فوقها على إرتفاع ليس بالكبير فحرّك شعرها الجميل كعاصفة هوجاء، سيطرت الدهشة عليها فلم تستطع أن تتبيّن طبيعة ذلك الوحش الأسود، هل كان طائر الآنزو؟ سألت نفسها و لامت تنانين الموشخشّشو على فشلها الذريع في حماية المدينة، هل ماتت هي الأخرى؟ أرعبتها تلك الفكرة و أشعرتها بفقدان الأمن و إنعدامه و أدركت بأنّ الحرب وحدها هي من يؤدّي لمصير شنيع كهذا. لم تستطع تمييز معالم مدينتها الجميلة التي كانت محطّ أنظار العالم كمدينة للرخاء و الرفاهيّة و السحر و الجمال. لقد كان الظلام يغطّي على كلّ شيء، أين أضواء مدينتها و لياليها الرائعة التي يصفها بعض من يكرهها بالماجنة أيضا؟ هل كانت هنالك ذكرى أليمة أو عيدا حزينا أجبرهم على إطفاء كلّ الأنوار؟ لم تستطع، بعد كلّ تلك الأسئلة الملحّة و المخيفة في الوقت نفسها أن تمنع نفسها من النزول من معبدها الكبير، نزلت السلالم التي كانت محطّمة الأطراف و صعبة الإستعمال، لقد حلّ شيء ما في المدينة، فها هي تعجز عن رؤية برج بابل أو أشجار الجنائن المعلّقة أو زقّورة معبد إي-ساكيللا، هل يمكن أن تظلّ عيناها النجلاوين هذه المعالم البارزة على الرغم من ذلك الظلام، فقد كانت النجوم كفيلة بأن تعينها على أن تستدلّ دربها في شوارع المدينة المقفرة، كان قلبها ينبض بقوّة و لم تعد تسمع غير ضرباته المنبثقة بقوّة من صدرها الذي سيطر الحزن عليه، كانت أصوات ضربات قلبها تتناوب مع أصوات لهاثها ووقع أقدامها و هي تركض في شوارعها الخالية. شعرت بالضياع و بفقدانها للشعور بالمكان و الزمان، لوهلة شكّت بأنّها قد أخطتفت أو تمّ سبيها من قبل الأعداء إلى مكان ناءٍ مجهول. لقد فضّلت تلك الفكرة أيضا على حقيقة أن تكون هذه المدينة هي بابل التي تعشقها، كانت تفضّل أن تكون أسيرة في مكان ما على أن تصدّق بأنّ هذه المدينة المهجورة هي مدينتها الجميلة التي تعشقها.

لقد تناست البرد و هي تركض في ذلك المساء و تسمع أصوات كلاب أو ضباع تعوي من بعيد في الصحاري القريبة، نسيت أمر الأسود فهي في بابل و لا زالت تشعر بالأمان الكاذب حتّى الآن، كانت واثقة بأنّ أسوار المدينة لا تزال قائمة و حصينة و لن تسمح لتلك الأسود بالدخول كما إنّها تابعة لها و لن تجرؤ على إيذائها. لكنّ وضع المدينة المؤلم أزاح ذلك الإحساس بالأمن، فلم تر جنديّا واحدا في طريقها ولم تر مواطنا عاديّا و لم تصادف حانة مفتوحة و لا حتّى السكارى و المتسوّلين. كانت هي وحدها من تركض في شوارع المدينة، مرّت بالقرب من البوّابات الواسعة المقوّسة للقصر الملكي، أخيرا عرفت طريقها و لكنّ كلّ شيء كان غريبا، لا حرس و لا أحد يمنعها من الدخول، مع إنّها كانت ستدخل حتّى في وجودهم. دخلت القاعات الفسيحة التي إزدادت إتّساعا بخلوّها من الأثاث و الساكنين، لم تكن هنالك حفلات ملكيّة في تلك الأمسية، و لم يكن هنالك سقف أصلا ممّا زاد من شعورها بالفضاء. لم تجد العرش في القاعة الملكيّة و لا حتّى الملك فظنّت بأنّها قد نست كلّ شيء، لربّما ظلّت المكان و لكنّها كانت متأكّدة بـأنّها كانت تقف حيث مات نبوخذنصّر و حيث مات الإسكندر العظيم في فراشه فيما بعد.

كانت الذاكرة تعود إليها شيئا فشيئا، تساءلت عن سبب حفاظها على شبابها الدائم، لربّما كان ذلك لكونها حفيدة أوتانابشتيم، و هو من أورثها الخلود الذي لم يحصل عليه عاهل الوركاء "أوروك" الشهير، كلكامش الذي وقع في حبّها يوما ما. إبتسمت عندما تذكّرت عشّاقها الكثر الذين كانت قاسية مع الكثير منهم و ها هي الآن تشتاق إليهم و تندم على ما قامت به معهم يوما ما، لو إنّها لم تمسخهم إلى كائنات أخرى لوجدتهم يحيطون بها الآن و لربّما كانوا سيدافعون عنها قبل أن يؤول حالها إلى ما هو عليه اليوم. تركت القصر و هي حزينة و إذا بها ترى رجالا يرتدون ملابس غريبة و يحلقون شعرهم كالعبيد أو ككهنة سومر عندما كان إسمها إينانا في حينها. حاولت الإختباء لأنّها لم ترغب في أن يراها هؤلاء الغرباء بثوبها المهلهل هذا و هي حافية القدمين و من دون زينتها و بهرجها المعتادين. إختبأت خلف عمود ضخم محطّم على الرغم من أنّها شعرت بأنّها لم تعد مرئيّة، مرّ الجنود بالقرب منها و سمعتهم يتكلّمون بلغة لم تفهمها، حاولت أن تتذكّر جيّدا، لم يكن أولئك جنود كورش الكبير، فلم تكن ملابسهم تختلف كثيرا عن ملابس البابليين كما إنّ أحد الجنود كان يبدو غربيّا كما إستنتجت، لا بدّ و إنّهم جنود الإسكندر، و لكنّهم لم يكونوا يرتدون الخوذ الإغريقيّة المميّزة و التنانير القصيرة و تلك الأحذية الطويلة، إزدادت حيرتها في معرفة من يسير على أرض مدينتها و هي من كانت تعتقد بأنّها لن تهزم و لن يسير الأجانب على أرض أهم شوراعها. لقد كان أحد الجنود ببشرة داكنة ممّا زاد من حيرتها، لم تكن تتذكّر بأنّ الأفارقة قد إحتلّوا بابل يوما، لم يفعل النوبيّون أو الأثيوبيّون ذلك من قبل. لم تتمكّن من معرفة هويّتهم، فقد بدت ملابسهم غريبة و أسلحتهم كذلك، لم يكونوا فرسا و لا عربا و لا مغولا و لا أتراكا و هذا ما خطر على بالها في ذاكرتها التي أنهكها النوم كثيرا. في النهاية كانوا قد إبتعدوا فقرّرت نسيان الموضوع الذي لم يعد مهمّا في تلك اللحظة. كانت أولويّاتها في تلك اللحظة الخروج و البحث عن أبناء شعبها البابلي، فقد أقلقها إختفاؤهم المفاجيء ذلك، هل قام أحدهم بطردهم أو تشريدهم؟ هل هذا هو ما جعلها وحيدة و مكّن الغرباء من نهب كل ما إمتلكته في هيكلها؟ و تركها عارية من عدا ملابسها الرثّة تلك و التي لم تكن لتحميها من رياح شهر شباط العاصفة و التي يقول عنها الناس في العراق اليوم بأنّ برد شباط يلف العجوز بالبساط.

إنطلقت بعد إختفاء الجنود تماما في طريقها و إستغربت تلك الأسيجة الحديديّة السوداء التي تحيط بأجزاء معيّنة من الشارع، جثت على ركبتيها بجوار السياج و مدّت يدها لتتحسّس الأرض، لقد عرفت ذلك الملمس للقار البابلي الذي كان يأتي من مدينة إيتو في الغالب، لكنّه كان قد تغيّر بمرور الزمن، هل كان ذلك هو شارع الموكب؟ تساءلت بدهشة، لكنّه كان مقطّعا و غير متّصل كما كان في السابق و لم تتمكّن من رؤية تلك الأسود و الثيران و التنانين التي تزيّن الآجر البابلي الأزرق المزجّج، لقد كان الشارع بالكامل مزيّنا و فخما كما تذكره أيّام أعراس مردوخ المقدّسة. من الذي تجرّأ على إقتلاعها؟ تساءلت و هي تتمنّى أن يكون ذلك مجرّد كابوس فضيع، سارت في طريقها بسرعة و إندفاع باحثة عن أيّ شيء عرفته في السابق. كانت تتوق لرؤية شيء ما يزال كما هو، فعدا جسدها المحتفظ بشبابه، لا شيء بدا كما هو أبدا و حتّى ذلك الجسد ضمّ قلبا عجوزا الآن و لم يبق من شبابها سوى المظهر الزائف الخادع و الذي يتعرّى ما أن تتكلّم عن أحزانها ليكتشف الناس شيخوختها التي قد يظنّونها مبكّرة في حينها. لقد كانت الجدران كئيبة و مملّة و قد نزعت زينتها و سرق بهاؤها بالكامل، أخيرا مرّت من خلال دروب ضيّقة وجدت على جدرانها تنين موشخشّشو يتيما وحيدا، فلمسته بأناملها و مرّرتها على تفاصيله المنحوتة و التي تأثّرت بمرور الزمن و لكنّه لا يزال صامدا بشموخ، مصرّا على البقاء رغم زوال كلّ شيء.

صعدت السلالم و هي في حالة توهان، لم تكن تعرف إذا ما كانت تعود في نفس الشوارع مرّات عدّة أم لا، فقد فقدت المدينة معالمها و خصائصها المعروفة. فجأة وجدت نفسها في ساحة فسيحة يتوسّطها أسد يقف فوق سيّدة تضطجع تحته، لقد كان وجهه غامضا و سرجه الذي وضع على ظهره من أجل أن تقف عليه هي لم يعد صالحا للإستعمال، كان غريبا و هو يغتصب تلك المرأة و تخيّلت لوهلة بأنّها هي و قد غدر بها أسدها المطيع بعد أن أصبح مطيّة للأطفال ممّن يصطحبهم آباؤهم إلى مدينتها في الأعياد أو للسوّاح الذين هجروا المدينة منذ أن جاء أولئك الجنود. غادرت الساحة و الحزن يسيطر عليها، مرّت بالقرب من البيوت المهجورة و حاولت سماع ضحكات الأطفال في داخلها و الأمّهات و هنّ يعددن وجبات الطعام لأسرهنّ في ذلك المساء أو أصوات أسرة يحتسي أفرادها الخمر و هم يغنّون و يرقصون أو أصوات سيّدة حزينة تتلو تراتيلها قبل أن تنام، لقد مرّ وقت طويل على ذلك حتّى نسيت الجدران تلك الصور و ذهبت خيالاتها و ساد الصمت بعد أن إختفى حتّى صدى تلك الأحاديث و الضحكات و حتّى الأغاني و التراتيل.

غادرت الحي الذي هجره الجمال و أضحى صحراء مقفرّة كما هجرها سكّانها من قبل. إنطلقت بالقرب من معبد مردوخ و معبد ننماخ الذي لم يعجبها الترميم الذي أجري مؤخّرا كما يبدو، لقد بدت الجدران باهتة و صمّاء و أحزنها كون الباب الخشبي الكبير مغلقا. مضت في طريقها محاولة التخلّص من ذلك الألم بالعثور على شيء يسرّها، لم يكن هنالك أثر للجنائن المعلّقة و لا زقّورة بابل و لا برجها الشهير الذي لم يبقى ممّا يخلّده سوى لوحات بعض الفنّانين الفلمينك و الهولنديين و بعض اللوحات في كنائس إيطاليا و غيرها. لقد إستحالت تلك الأبنية العظيمة بطوبها و إرتفاعاتها و نباتاتها و كل ما تحمله من معانٍ للفخامة و المجد و الحب الذي إستحال جهدا عظيما لإسعاد زوجة ملك أصابها الحنين إلى الوطن إلى خربشة فرش رسم بألوان زيتيّة تتمازج معا لتخلّد تلك العظمة إلى الأبد و التي أثّرت في أذهان العالم بأسره تاركة بصمات خالدة لا تزول صاغت الفكر الإنساني في الشرق و الغرب و أضحت كالقيود التي تسيطر على عقول الكثيرين، قيود لم تصنع من حديد بل من مادّة غريبة لم تعرف بعد يصعب كسرها و التحرّر منها بالنتيجة، لكنّها قيود جميلة على أيّة حال ألهمت فنانين عظام ليضارعوا ما قام به فنّانون مبدعين قبل آلاف السنين ليتركوا أعمالهم حيّة لأجيال قادمة بعد أن زالت أعمال من سبقوهم أمام قسوة الزمن و همجيّة البشر. لقد كانت تلك الأعمال محاولات لإحياء ذلك المجد الغابر و بعثه من جديد لينبض و إن كان في حالة من الجمود.

جالت عيناها الواسعتان المرسومتان بالكحل باحثة عن الخضار الذي عرفت به بلادها. لكنّ كلّ شيء كان قد تغيّر، حتّى النخيل كان متناثرا و قليلا و لم تعد هنالك غابات كثيفة منه كالسابق كما تناثرت بعض أشجار اليوكالبتوس التي أدخلت إلى العراق في خمسينيّات القرن الماضي، بالإضافة إلى بعض أشجار الصفصاف الباكية بسبب وحدتها. سارت بسرعة و هي تلعن أختها أرشيشكيكال معتقدة بأنّها السبب فيما حصل لمدينتها الحبيبة، لقد كانت أختها تجسيدا للشر و شياطينه في تلك اللحظة، رغبت في العثور عليها و قتلها، و لكنّها و فجأة وجدت نفسها قرب بوّابة ضخمة، إقتربت منها و قد تسارع نبضها كثيرا، لقد كانت تلك البوّابة بوّابتها الخاصّة التي كانت تمرّ منها كل المواكب الإحتفاليّة في رأس السنة البابليّة "الأكيتو"، لكنّها تبدو اليوم بنصف حجمها الأصلي. إقتربت منها و أحتضنت جدارها، كانت مزيّفة و غير حقيقيّة، رأتها محاولة يائسة لمحاكاة عظمة تلك البوّابة. لقد سرّها وجودها على الرغم من ذلك، فقد كانت عيناها تبحث عنها منذ أن نهضت تلك الليلة، لقد كانت تلك البوّابة منفصلة عن السور المحيط بها حتّى إنتفت ضرورة وجودها و زالت الحاجة إليها، لقد كانت إحدى ثماني بوّابات تمثّل الإتجاهات الجغرافيّة جميعا و التي تمثّلها برمزها النجمي. لقد أضحت الآن بوّابة مجرّدة محاطة بسور صغير لم يكن يشبه سور معبد صغير لا سور بابل الحصين بقلاعه المميّزة. كانت الأسود و الثيران و التنانين موجودة على تلك البوّابة و لكنّها بدت جامدة لا حياة فيها في عينيها في تلك اللحظة.

كان كلّ شيء قد مضى في جمود غريب و تخيّلت بأنّ كلّ شيء سيعود فجأة لينبض من جديد كما نهضت هي قبل ساعات لم تعرف عددها في جولتها الأليمة التي تخيّلت بأنّها دامت سنة بحالها. فجأة تذكّرت إعتقادها بأنّ الطبيعة هي وحدها من تبقى و لا تتغيّر فقرّرت البحث عن نهر الفرات لتسأله عمّا حصل ههنا في غيابها، قرّرت الخروج للبحث عنه لكنّ أصوات الضباع و الكلاب أرعبتها و ذكّرتها بأنّ هنالك أسود أيضا في الخارج، لكنّ إحساسا داخليّا جعلها تتأكّد بأنّ الأسود قد إختفت بالتأكيد كما إختفت أسودها الجميلة التي كانت تزيّن الشوارع بطولها و قد نحتت ببراعة على آجر أخضر كالفيروز و كأنّها توحي بغابات بابل الخضراء و هي تسير على أطر من آجر أصفر وأسود كأنّها أسورها العظيمة و تحدّها إطارات زرقاء لازورديّة تمثّل النهرين العظيمين تتوسّطها زهور بيضاء جميلة بقلوب صفراء، كانت متأكّدة بأنّ إختفاء تلك الأسود الحقيقيّة الشجاعة التي تحرس المدينة هي من سمحت لتلك الأسود الآجريّة التي تزأر في صمت بالإختفاء.

تشجّعت و خرجت من أسوار مدينتها الحزينة باحثة عن النهر الذي يمثّل آخر أمل لها في أن تستعيد السعادة التي فقدتها منذ أن أفاقت من نومها الطويل. كانت متأكّدة بأنّه نوم طويل و إلاّ ما كان ليسمح وقت قصير بحصول كل تلك التغيّرات الجذريّة. إنطلقت بسرعة على الرمال المحيطة بالمدينة و هي تبحث عن الفرات الذي عشقته منذ الأزل، كان معشوقها الوحيد الآن بعد أن بذّرت بهم جميعا و إستهانت بحبّهم. ركضت و ركضت في كلّ الإتّجاهات و لكنّها لم تتمكّن من العثور عليه، لم تكن تكن تملك خريطة على لوح طيني كما رسم أبناء شعبها أوّل خريطة عرفها العالم، لم تكن تملك تلك الخريطة و لم تكن لمياهه العذبة الصافية رائحة تستدلّ بها عليه لتروي ظمأها من مياهه المقدّسة. حاولت العثور على نهرها العظيم و لكن من دون جدوى، في النهاية خرّت أرضا و هي تذرف الدموع التي جعلت الحكل يسيل من عينيها الجميلتين ليرسم نهرين سوداوين كالحبر على وجهها الناصع، كانت الدموع تتفجّر بغزارة منهما كما تتفجّر المياه من جرّة الإلهة ذات الإناء الفوّار. لقد أرعبتها فكرة أن يكون النهر قد جفّ هو الآخر و أصبح من الماضي كما أصبح كلّ شيء أحبّته، لم تستطع أن تتخيّل ذلك و أرعبتها فكرة بابل بلا موانئ نهريّة و لا ضفاف و لا شواطيء. أفزعتها فكرة بابل بعيدة عن الفرات.

جفّ لسانها من كثرة العطش و شعرت بأنّه سيتشقّق كما تتشقّق الترب الطينيّة أيّام القحط و الجفاف، لم تشعر بعطش كهذا من قبل و شعرت بأنّ عليها أن تتوقّف عن البكاء لأنّها بحاجة لكلّ قطرة ماء في جسدها الآن. لكنّ فكرة إختفاء الفرات الذي كان سيثبت لها بأنّها ما تزال في مدينتها قطّعت قلبها إربا إربا بسكّين أعمى. لعنت أختها مرّات عدّة و هي تبكي ملقاة على الأرض و من ثمّ أطلقت صرخة عاتية إعتقدت بأنّها كانت بلا صوت، لم تستطع هي نفسها سماعها، أو إدراك ما قالته في حينها، و فجأة ردّت عليها نجمة الصباح، نجمتها الخاصّة المكرّسة لها و التي إشتاقت إليها كثيرا فأبتهجت عندما سمعت صرخة سيّدتها التي غابت عنها كثيرا تاركة إيّاها تتشاطر الأحزان مع النجوم و الكواكب البعيدة عنها بمسافات لا يدركها العقل البشري حتّى و إن تمكّن من وضع حسابات لتقديرها و وحدات قياس لتحديدها. لقد أبهجتها صرخة سيّدتها على الرغم من كونها صرخة ألم نابعة من الأعماق. لم يسأل كوكب الزهرة أو نجمة الصباح عشتار عن أسباب حزنها، فقد كانت معروفة و واضحة لها جدّا و هي تراقب العالم بأسره من مكانها البعيد من دون أن تتدخّل.

لم تكن تلك التغيّرات مفاجئة بالنسبة لها فقد مرّت أمام عينيّها ببطء و تدرّج شديدين و قد حزنت منذ فترة طويلة و لكنّ دموع سيّدتها أرجعت لها تلك المشاعر الحزينة. طمأنتها النجمة بأنّ النهر الخالد ما يزال موجودا و لكنّ مجراه قد تغيّر بمرور الزمن هاجرا مدينته الجميلة التي هجرها السكّان أيضا مجبرين و مكرهين على ذلك تحت ضغط الحروب و الدمار الذي ألمّ بها نتيجة سنين قست على أسوارها و معابدها و سكّانها. لقد كانت الطبيعة أيضا تتغيّر بالتأكيد كما تتغيّر نفوس البشر و ليس هنالك ما هو ثابت أبدا. شعرت عشتار بالراحة لسماعها بأنّ نهرها الحبيب لا يزال موجودا، و تمنّت أن يعود للجريان بمحاذاة أسوار مدينتها يوما ما، عندما يغيّر مجراه مرّة أخرى في المستقبل، و عندما يعود السكّان إلى هذه المدينة و يتكلّمون لغتها مرّة أخرى و التي أضحت حبيسة في كتب ألّفها أجانب من دول بعيدة و أصبح نطقها محصورا على عدّة آلاف من الباحثين ممّن تنهض أرواح السكّان الأوائل في أجسادهم مجدّدا. أدركت عشتار بأنّها ستعجز عن التفاهم مع أبناء شعبها الآن بلغتها التي أضحت مبهمة بالنسبة لهم منذ أمد بعيد. لم تجب النجمة بعد ذلك و لكنّ عشتار إستعادت ذاكرتها بالكامل الآن، لقد إستغربت موقفها عندما تنحّت جانبا متخلّية عن واجباتها في تحديد نتائج المعارك التي خاضها قومها، لماذا دخلت في سبات عميق تاركة مدينتها تجابه مصيرها لوحدها، لقد حزنت لقيامها بذلك فقد كانت إلهة للحب و الحرب، كان ذلك يبدو غريبا لها الآن، كيف يمكنها أن تجمع وظيفتين متناقضتين معا؟ تساءلت في نفسها و لكنّها إقتنعت بأنّ الحب قد يؤدّي إلى نشوب حرب دفاعيّة في الكثير من الأحيان ولذا لم ترى فيها تناقضا الآن.

تساءلت فيما إذا كانت مدينة أوروك و غيرها من المدن التي تعرفها و التي كانت تبجّل فيها قد لقيت مصيرا مشابها، و هل كانت إيزيس و أفروديت و فينوس، شقيقاتها في الأمم الأخرى يبكين مدنّهن هنّ الأخريات، لم تجد أجوبة لتلك الأسئلة فقرّرت نسيانها قبل أن يحلّ الصباح. لقد كان البرد شديدا و أدركت بأنّها قد إستيقظت من رقدتها مبكّرا و كان لا بدّ أن تنتظر حلول الربيع حتّى ينتصر مخلّصها تمّوز على أختها أرشيشكيكال، ملكة العالم السفلي، و يحرّرها في نيسان المقبل، كان يتوجّب على شعبها أن يجدّ في مناحاته من أجل تمّوز حتّى يأتي من جديد، كانت فكرة المخلّص فكرة رافدينيّة صرفة و ستبقى كذلك و قد يكون هذا المخلّص دمّوزي أو تمّوز أو المسيح أو المهدي أو غيرهم، و قد يكون المخلّص الحقيقي هو التحرّك الجاد للتغيير بواسطة البشر أنفسهم وفق مفاهيم أخرى حتّى إذا ما فشلوا في القيام في ذلك، إحتفظوا بالأمل في التغيير حيّا في نفوسهم عن طريق إيمانهم بوجود مخلّص رمزي يستيقظ يوما ما في نفس كائن بشريّ مثلنا تماما نجد فيه تجسيدا لذلك الرمز أيّا كان.

كانت الشمس على وشك أن تشرق لترسل أشعّتها الذهبيّة لتغمر نصف الكرة الأرضيّة بالضياء بعد أن تركت النصف الآخر غارقا في ظلام دامس، هكذا هي الحياة المتجسّدة و المختزلة في يوم واحد، الليل و النهار، لن تشرق الشمس على كامل أرجاء الكرة الأرضيّة في الوقت نفسه، و لا بدّ أن تتبدّل الأشياء يوما ما. لم ترغب عشتار في البقاء حتّى شروق الشمس فأسرعت لتنام من جديد نوما عميقا إستيقطت منه عن طريق خطأ لا تعرف سببه، ستنام من جديد حتّى يوقظها تمّوز الحبيب أو منقذ بشري و سترحّب به أيّا كان و ستقع في غرامه و تجعل منه زوجها المقدّس في عرسها الشعائري الذي ستحلم به في رقدتها هذه كوسيلة لتسليتها و تسهيل الإنتظار و تقليل الملل. قد يطول إنتظارها سنين طويلة أو يكون نيسان القادم موعدا لزفافها، لم تكن تعرف جوابا لهذا و كل ما عرفته في ليلتها تلك بأنّه و في تلك اللحظة لم يحن الوقت بعد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب