الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية العلمانية. نهاية الدين.

حميد لشهب

2014 / 10 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


. العلمانية بين "الهنا" و "الهناك"
قد يبدو عنوان هذه الدراسة حكما مسبقا، أو يأطر في خانة خدعة "النهايات: نهاية الأيديولوجيا، نهاية الفلسفة، نهاية الإنسان" إلخ. لكن المقصود من مفهوم "النهاية" هنا هو نهاية تاريخ صراع بين منظومتين فكريتين و ثقافتين و إيديولوجيتين تحكمتا في النقاش الفكري الإنساني منذ قرون طويلة و طبعتا الفكر البشري إلى يومنا هذا، بل تسببت في إنشاء معسكرين فكريين: العلماني و اللاهوتي. أتحدث عن "النهاية" هنا في الفضاء الفكري و الديني الغربي، و بالخصوص في جناحه الأوروبي، لأن كل ملامح هذه "النهاية" قد اجتمعت – سأتطرق لها فيما سيأتي – و لم تعد مناقشات لا العلمانية و لا الدين تحضى باهتمام كبير، سواء أكان ذلك عند المفكرين أو عند الناس العاديين. ما حصل في الغرب هو هذا النوع من فَرْقَعَة فقاعات الصابون التي كانت العلمانية و الدين معا يتسليان بها، في نقاشات عديمة الجدوى تقريبا.

قد يكون تاريخ 21 يناير 2004 توثيقا "للنهاية" التي أتحدث عنها. فبهذا التاريخ جلس على منصة إحدى أعرق الكنائس في ألمانيا الفيلسوف الألماني المشهور يورغن هابرماس إلى جانب الكاردينال الكاثوليكي راتسنغر (الذي أصبح بابا الكنيسة المسيحية) ، ليعلنان أمام الملئ بأن المشكل ليس لا هو الدين و لا العلمانية، بل الإنسانية برمتها، لأن خطر مسحها من على خارطة الكوكب الأرضي هو خطر فعلي، و ليس خيالي، و بأن العدو الحقيقي بالنسبة للإثنين هو العلم التطبيقي، و بالخصوص البيولوجيا، التي أصبح بإمكانها "خلق" أو "صنع" الإنسان، بكل ما يتضمن ذلك من نتائج أخلاقية و إنسانية. شَخَّصَا معا إذن الخطر المحذق بالإنسانية و تمت "هدنة" بين العلمانية و الدين من أجل التصدي للعدو المشترك، مع العلم أن "المعركة" بين العلمانية و الدين لم تحسم و لم تنته، بل تم نوع من الإتفاق على حط السلاح، إلى أجل غير مسمى. للإشارة فحتى في زمن احتدام الصراع بين العلمانية و الدين في أوروبا، و باستثناء التجربة الفرنسية العنيفة من الجانبين، فإن هذا الصراع كان في مجمله فكري، و لربما اجتماعي، أكثر منه نضالي دموي.

في المقابل نجد وضعا خاصا في العالم العربي، ابتداء من احتكاك المفكر العربي مباشرة بالثقافة الغربية، في عز السيطرة السياسية و الإقتصادية على كل الدول العربية. ذلك أن البعثات الطلابية إلى أوروبا، بقدر ما كانت إيجابية، بقدر ما كانت سلبية. من سلبياتها الأساسية هي ذاك النوع من الإنبهار أمام عالم الفكر الأوروبي، الذي كان قد قطع أشواطا كبيرة و طويلة في تطوره. فالحماس للعقل و اليبرالية و الحرية و العدالة الإجتماعية و العلوم الحقة إلخ، كانت توهم بحلم "عتق" الأمة العربية من براثين مشاكل كثيرة. لكن كان في هذا الحماس نوع من السذاجة، لأن المرء كان يعتقد أن هذه الأفكار، التي كانت تُلقن في مدرجات الجامعات، هي ما يعيشه الناس في الواقع الإجتماعي الفعلي في الغرب الأوروبي. زد على ذاك، أن طلاب البعثات هذه، لم يهضموا بما فيه الكفاية ما كانوا يتلقونه من أساتذتهم، بل لم يعوا حتى بأن ما يوصلونه لهم قد عرف تاريخا طويلا لبلورته فكريا.

إلى جانب رواد البعثات الطلابية، كان هناك شيوخ و فقهاء في العالم العربي، حاولوا "تأصيل" الحرية و العدالة و العلمانية إلخ في الإسلام، كوسيلة لتحرير الأرض بداية و "الإستلاء" على السلطة أخيرا. و هذا ما حصل في الكثير من الدول العربية. و بدأ الصراع بين ممثلي العلمانية على النمط الغربي و ممثلي الإلتصاق بالتراث (بالدين)، إلى أن انتهى إلى ما انتهى إليه حاليا: تمزيق المناظرة العلمية و فتح الباب على مصراعية للإقتتال الفعلي و محاولة تصفية الآخر، كل بطريقته و مرجعياته.
السؤال الذي يجب أن يقلق راحة كل مفكر عربي يستحق هذا الإسم هو هل يعي "العلماني" العربي ما يدافع عنه من أفكار و لماذا تُهرق دماء عربية طيبة باسم منظومة فكرية؟ هل يعي "المسلم الملتزم" دينه، أو يلوك و يقاتل و يَقتل و يُقتل من أجل أيديولوجية فرقة مسلمة معينة؟ بأي منطق للعدالة و الحرية و الفكر و الوعي ينشط هؤلاء "الأعداء"؟ لماذا أوصلا أكثر من مليار نفس مسلمة للعيش في قلق وجودي و تذبذب عقائدي و خوف مستمر و سقم من الدنيا و ما فيها و هدم مجاني للأخلاق و الحياة؟ ألم يكن من الضروري نظريا على الأقل أن يكونوا مثالا و قدوة للمسلمين البسطاء الغارقين في هموم الحياة، الغاطسين في الجهل و الأمية و قصر اليد، من أجل تنويرهم و تحريرهم من عبوديات حقيقية، إن على المستوى العقائدي أو الإقتصادي أو السياسي؟ ألا يتصارع الفريقان على أوهام محققة على حساب كرامة الإنسان المسلم و حقه في العيش في سلام؟ سأتطرق فيما سيأتي لضعف فهم كلا الفريقين لما "انخرطا" فيه، و أختم باقتراح حلول.

2. العلمانية كممارسة سياسية و سلوك فردي في الواقع الإجتماعي الغربي.

تعتبر التجربة العلمانية الغربية، و الأوروبية بالخصوص، نموذج المدافعين عن المنظومة العلمانية في العالم العربي. و كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن الأسس التي بنى عليها "العلماني" العربي هي في العمق أكاديمية أسسا. لم تحتك الغالبية العظمى من "المدافعين" المسلمين عن العلمانية بالواقع الغربي الفعلي و المُعاش اليومي للإنسان الغربي العادي، لتتيقن من الأفكار التي تشبعت بها و مدى مطابقتها للواقع الذي أُنتجت فيه. يعني غابت كل الأبحاث الأنثروبولوجية و الإثنولوجية الجادة لدراسة هذه القضية من الجانب العربي في الغرب. و هذا أمر جد مهم، قبل أخذ موقف إيجابي أو سلبي من أفكار، قد تكون نبيلة على المستوى المثالي، لكن تطبيقها في الواقع، لا يفشي بأنها متجدرة في الغرب بالطريقة التي يتوهمها "جنود العلمانية" في العالم الإسلامي.

سوف لن أعود إلى تاريخ صراع الأفكار بين "العلمانية/العقل" و "الكنيسة/الدين"، ما يهمني في هذا المقام هو تقديم بعض النماذج الحية من الواقع الفعلي للغرب فيما يخص تطبيقات العلمانية.

أ. الواقع الفعلي لتطبيقات العلمانية في الغرب

- "إعطاء ما للقيصر للقيصر و ما لله لله" هو الشعار العام الذي يبتغي التفريق بين الممارسة السياسية و الممارسة الدينية. على المستوى الفكري القح، هو مبدأ نبيل جدا، لكن هناك شروخ واضحة على مستوى التطبيق في الواقع. باستثناء النموذج الفرنسي، الذي قد نلمس فيه هذا الأمر نسبيا، فلا أرى لحد الساعة أي بلد غربي يطبق هذا الأمر. لا أتحدث عن الولايات المتحدة الأمريكية، لأن „God bless America“ هو المؤسس لدستور هذا البلد. هناك أمثلة لا حصر لها يمكن تقديمها في هذا الإطار و سأكتفي بأهمها في نظري:
- هناك بلدان أوروبية لحد كتابة هذه السطور في إطار مناقشة التفريق بين السلطة الدينة و السطة السياسية، كإمارة اللكتنشطاين.
- كل المملكات الأوروبية مؤسسة بديهيا على "انتمائها المسيحي" الواضح، بل لها قساوسة القصور و كنائس معينة لصلاة يوم الأحد أو أيام الأعياد.
- في كل الدول الأوروبية هناك أحزاب سياسية تمثل القيم المسيحية و تدافع عنها في برامج انتخاباتها. و هذه الأحزاب هي التي تحاول إدخال "الله" في "الدستور الأوروبي" بكل الوسائل.
- تخصص الكثير من البلديات الأوروبية، و خاصة في العالم الجرماني، نصيبا من ميزانيتها السنوية لترميم كنائس و أديرة تعبد، دون حرج و لا مناقشات مبدئية.
- تمنح الكثير من الحكومات الغربية مبالغ مالية جد مهمة، سنويا، لمنظمات إحسانية إجتماعية دينية لمزاولة أنشطتها الخيرية داخل بلدانها و خارجها. المنظمة الخيرية الأكثر استفادة من هذا هي "الكاريطاس"، النشيطة في إفريقيا و أسيا و أمريكا الجنوبية. طبعا هناك في كل أنشطتها، سرا أو علنا، نفحة تبشيرية دينية.
- عند إنهاء بناء الكثير من المنشآت العمومية: مدارس، مسارح، مستشفيات إلخ. يبارك القساوسة هذه المنشآت في الكثير من الدول الأوروبية، في حفلات افتتاح عمومية و علنية، جنبا إلى جنب مع الساسة و المنتخبين.
- يبدأ و ينتهي الموسم الدراسي في الكثير من الدول الأوروبية بقداس ديني و حظور الصليب في أقسام الدرس، لا يمثل أي مشكل لأي أحد.
- تنقل صلاوات الأحد أو الأعياد الدينية المهمة (عيد ميلاد المسيح، الفَصح مثلا) على شاشات التلفزات العمومية، الممولة من طرف الدول.
- استمرار تعليم الدين في المدارس العمومية في الكثير من الدول الأوروبية.
- تعميد الكثير من الأوروبيين لأبنائهم بعد الولادة في كنائس.
- البرنامج السنوي للعطل مليئ بالعطل الدينية.
- المسيحيون الأوروبيون، الذين يعترفون بروما و كنيستها، يدفعون ضرائب سنوية للكنيسة مباشرة، حسب ما يربحونه.
- ما تزال أجراس الكنائس تدق يوميا و لمرات عديدة في قرى و مدن أوروبا، كما دقت في العصور الوسطى و أزمنت القياصرة و الملوك قبل الثورات الفكرية و السياسية ابتدء من عصر الأنوار.
- يصادف المرء و هو يتجول في الكثير من أزقة المدن الأوروبية و أريافها الصليب في المجال العمومي أو في الحدائق الخاصة للمواطنين.
ماذا يمكن أن نستنتجه من هذه الأمثلة الحية؟ بأي معنى يمكن الحديث عن العلمانية و عن الدين في الغرب؟ أتخلص الغرب كليا من موروثه الديني كما نتوهم؟ ألا تستغل السياسة الدين، و يستغل هذا الأخير الأولى؟ أين نحن من مبدأ التفريق بين الدولة و الكنيسة في الغرب؟ أتعتبر كنيسة روما دين أم دولة؟

ما يمكن تأكيده كبديهية لا نقاش فيها هو أن الدين لم يفارق العلمانية، و لم تفارق العلمانية الدين في الغرب، بل يمشيان يدا في يد في المجال العمومي الغربي كشقيق و شقيقته، يتبادلان المساعدات و الخدمات و يقفان معا أمام كل المخاطر التي تعترضهما. فكم مرة مثلا دافع الدين في الغرب على مواقف علمانيين أسائوا عمدا للإسلام و المسلمين (كاريكاتورات و أفلام و كتب إلخ)، و كم مرة دافعت العلمانية على مواقف رجال دين هاجموا الإسلام مباشرة، بما في ذلك هجوم بابا الفاتيكان السابق (بينيدكت 16).

ب. العلمانية كسلوك اجتماعي نفسي في الغرب.

ما تحقق بالتأكيد و أصبح بديهية واضحة عند الإنسان الغربي العادي هو القضاء النهائي على الإكراه الديني. كل إنسان، بغض النظر عن مستوى تكوينه و انتمائه الطبقي، يسلك طبقا لاختياراته الشخصية و قناعاته، حتى و إن كان تربى في وسط عائلي متدين أو علماني. فكم من إنسان تلقى تربية دينية و أخذ موقفا من دينه عندما أصبح راشدا، و كم من آخر تربى تربية "علمانية" و أصبح متدينا فيما بعد.

ما حدث بالتأكيد في الغرب هو أن الدين فقد هالته القدسية عند الإنسان العادي و أصبح من الممكن الحديث عنه دون إكراهات و لا مراقبة و لا حساب و لا عقاب أو خوف من المتابعة تحت ذريعة الهرطقة و الإسائة للدين.

لا أحد يحاكم أو يلقى القبض عليه لتشكيكه بالدين أو الجهر بعدم وجود الله أو إظهار إلحاده علانية أو التصريح بعدم إيمانه بالتثليت و كل المنظومة الدينية.

وصل السلوك العقائدي العادي/الشعبي إلى مرحلة يقرر فيها الشخص/الفرد مصيره بمصيره بوعي تام و دون إملاءات لا أسرية و لا اجتماعية، بل انطلاقا من قناعاته الذاتية و ميولاته في الحياة. و بهذا فإن الوعي بتقرير المصير النهائي للإنسان، يعني بعد الموت، لم يعد مؤسساتيا لا دينيا و لا سياسيا، بل فرديا خالصا. و معنى هذا أن حرية المعتقد قد تحققت بالفعل.

ما وصلت إليه أوروبا "العلمانية" بالتأكيد هو فهمها بأن الدين المسيحي، الذي أسس الوعي و اللاوعي الغربي طيلة قرون، ليس إلا دينا من بين الأديان، ليس هو الأفضل أو الأسوء، بل يعيش – و لربما يتعايش- مع مجموعة من الأديان الأخرى في رقعة جغرافية واحدة. و يعني هذا واقعيا، بأن "امتلاك الحقيقة النهائية" لم يعد حكرا على دين دون سواه، بل أتيحت الفرصة ليعبر كل معتقد عن حقيقته، و بفعل منطق المقارنة بين الأديان، استطاع الإنسان العادي في الغرب أن يصل إلى وعي مبدأ تعدد الحقائق الإيمانية.

3. الواقع الفعلي للإسلام سياسيا و اجتماعيا و نفسيا

نجد على طول خارطة العالم المسلم، بل حتى الإسلام المهاجر، صورة رهيبة و مخيفة لما آل إليه الإسلام عقيدة و شريعة، و هي صورة – إذا أخذنا عواقبها محل الجد – توحي بما لا يدع مجالا للشك بالنهاية الفعلية لهذا الدين، ليس فقط بسبب المخاطر المحذقة به من الخارج، بل أساسا لأنه يُنخر من الداخل كجسم متعفن، فَقد كل طهارته و مُثله العليا و أصبح إيطارا دون محتوى، أو بمحتويات فارغة، على شكل العرائس الروسية. و المسؤول الأول و الأخير على "نهاية" الإسلام، ليس العلماني أو الأيادي الأجنبية الخفية، بل قبل كل شيئ "أشباه مسلمين"، ممن يقتاتون من "بيع" آيات من الذكر الحكيم و الإستغلال الواعي و المقصود لأغراض شخصية، سواء أكانت إيديولوجية أو اقتصادية، لسذاجة و جهل ملايين المسلمين بدينهم. و نعني "بشبه المسلمين"، كل من هب و ذب و في يده مصحفا و سيرة، يمتطيهما لقضاء مآربه، مدعيا امتلاكه للحقيقة النهائية عن الله و عن الرسول و عن مصير العالم و الإنسانية بعد الموت و توزيعه لـ "صكوك الغفران" و فيزات الدخول إلى "الجنة" أو "النار".

أ. "السوبرماركت" الديني في الإسلام.

وُجد هذا "السوبرماركت" مباشرة بعد وفاة الرسول، عندما تفرق المسلمون إلى فرق متعددة، كل واحدة تدعي بأنها الممثلة الشرعية الوحيدة للإسلام. و حطت المذاهب الفقهية بضائعها في باب هذا السوبرماركت و وقع ما وقع في جمع القرآن و الأحاديث و أُدخلت في روح الإسلام مع مر الزمان عناصر غريبة عليه. كان هذا في واقع الأمر مهم و يوحي بحيوية صحية للإسلام، على الرغم من أن تأويلات بعينها هي التي احتكرت السوق، لأنه كان يحمل منذ بدايته عنصرا مهما يتمثل في التعددية.

بعد أكثر من أربعة عشر قرن و بفعل التغيرات الهائلة التي وقعت في تاريخ البشرية اتخذ هذا "السوبرماركت" الإسلامي شكلا لم يسبق له مثيل. وقع نوع من فرقعة الرمانة من الداخل و لم يعد أي أحد قادر لا على جمع حباتها و لا أكلها لوحده. كان الإنشقاق حاصل في الرمانة و ها هي الآن قد انفلقت مشتتة الأمة المسلمة في عمقها الداخلي. و الخاسر الأول و الأخير لانفجار الرمانة هو المسلم العادي البسيط، الذي أصبح ضحية و رهينة "سلطات" متعددة.

يتميز هذا "السوبرماركت" بنشر البضائع بطريقة عشوائية دون تنسيق و لا تنظيم، و احتدام الصراع على أمكنة حط البضائع و محاولة كل بائع تسويق بضاعته لأكبر عدد ممكن من الناس. نشرت الأبواق و لم يعد بإمكان المسلم البسيط لا سماع ما يُباع و لا اختيار سليم لما يود اقتنائه. لا يعد هذا تعددية سليمة، يُعترف للآخر فيها بحق الوجود و تتعايش المذاهب و الفرق في جو سلم، بل بإقصائية ممنهجة للرأي الآخر. أكثر من هذا، لم يعد العدو الحقيقي "للمجموعات" المسلمة هو "العلماني" وحده، بل أصبح مفروضا عليها الإقتتال داخليا، في عمليات تكفير و تكفير مضاد لبعضها البعض. و هذا بالضبط هو جوهر القضية حاليا، ذلك أن هذه الإصطدامات الدموية بين الفرق هي السبب الرئيسي في بزوغ نوع جديد لفهم الإسلام لم يسبق له مثيل. لم يعد يحدث هذا على مستوى منطقة أو قطر أو جهة في بلد ما أو مدينة أو حي من هذه المدينة، بل تعداه ليشمل الأسرة الواحدة، لنجد في نفس العائلة الشيعي و الأصولي و السلفي الجهادي و لربما "الملحد" و "العلماني". بهذه الطريقة أُقحم الكل، ليس في إيمان عميق، بل في الأزمة العميقة لإسلام يحتضر و يلفظ أنفاسه ببطئ، و لم يعد قادر حتى على الصراخ و طلب النجدة، لأنه أُنْهِكَ إلى الحد الأقصى.

ب. التمظهرات الإجتماعية-السياسية و السيكولوجية لـ "نهاية الإسلام"

اجتمعت مجموعة كبيرة من الأسباب التي أدت إلى سلوكات اجتماعية-سياسية ضَمَنَت "نهاية الإسلام" في الأوساط الإجتماعية في العالم المسلم. ذلك أن حدة الصراع على السلطة السياسية وصل أوجه و اتسم بفضح نيات الكثير من الفرق و التجمعات التي جعلت من الإسلام مطية لها. أصبحت طريقة عمل هذه التجمعات واضحة حتى بالنسبة للمسلم العادي البسيط، ذلك أن البعض منها يبدأ "مشروعه السياسي" بمعارضة الأنطمة القائمة و يلوح بشعارات كانت توهم الشعوب المسلمة برجوع إسلام سياسي قد يقلب الأمور. لكن سرعان ما تُدجِّن السلطات هذه المجموعات، إما بالترغيب أو بالترهيب، بمساعدة أيديولوجية مزدوجة تجمع فيها السياسي و الديني في عجين غريب و خطير، يُخلط الأوراق باستمرار و يوزعها في جلسات "بوكر" كما يحلو له موهما باقتسام أرباح اللعبة. في نفس الوقت، فإن أمراء المؤمنين يمدون أيديهم للقوى العلمانية بأشكال مختلفة و بدرجات متفاوتة و يُفتح مجال مُراقبة باستمرار، "يُسمح" فيه بنقد كل شيئ بما في ذلك السلطات، لأن سياسة الترهيب لم تأت بأكلها. نجحت الأنطمة القائمة في الكثير من الدول المسلمة في إيصال الفرق الإسلامية و العلمانية إلى حلبة صراع مُقفلة، كحلبات مصارعة الثيران، و استفادت من اقتتال العلماني و "المتأسلم"، أي عدوان تاريخيان، لتستمر في الإنفراد بالسلطة. تضرب الواحد بالآخر و توهم بعضهما بأنه "طفلها" المدلل، المسموح له بقطعة كيك من سلطتها، تملأ فاه بها و "تُنحيه" عندما يطيب لها ذلك، ليصمت إلى الأبد، لأنه يفقد كل مشروعية و كل ثقة، مادامت يداه قد لُطختا بكعك السلطة. بل يُفضح للملئ و "ينعزل" "ليتفرغ" لأمور أخرى، ذاتية شخصية محضة، و من حين لآخر يفاجئ بنص يلمس فيه المرء نوسطالجيا ما قبل التذوق من "طارطا" السلطة.

ساهم لهث الفرق الإسلامية على السلطة و وصولها لها أو المشاركة فيها إلى تعريتها و فضحها أمام "محبيها"، لأنها لم تتجاوز في كل الأحوال القفص الذي حددتها لها السلطات في العالم المسلم، باستثناء الوهابيين في شبه الجزيرة العربية و الشيعة في إيران، اللذان ما يزالان ماسكان على زمام الأمور، بكل ما يتضمن ذلك من مخاطر على الأمة المسلمة، وعيا بأنهما يجسمان في العمق الصراع التاريخي بين السنة و الشيعة. ذلك أنه في الوقت الذي كانت الفرق الإسلامية تبحث عن "مضايقة" السلطة لتتمكن في آخر المطاف من الوصول إلى فُتات المأذبة، كانت الحداثة الكولونيالية الغربية تعجل الخطوات ضاغطة بكل قواها و إغراءاتها على العالم المسلم، موظفة بلا هوادة الجناح العلماني، لينتهي المشهد بإفراز شخصية عربية جديدة كل الجدة و معقدة كل التعقيد، على المستوى الإنفعالي و المعرفي.

ما يمكن لأي مهتم بالسيكولوجيا في العالم المسلم ملاحظته هو قيام توجه سيكو-اجتماعي يمكن إطلاق اسم "التوجه المابعد علماني و المابعد ديني" في العالم الإسلامي عليه. الخاصية الأساسية لهذا التوجه هو أن التركيبة النفسية للفرد المسلم قد عرفت هزة لم يسبق لها مثيل. يحمل الفرد المسلم عامة كل متناقضات تاريخ أمته في وعيه و لاوعيه و يُراكم عليها كل ما وصل إليه من الحداثة الغربية، لينتهي المطاف بفرد معزول في وحدته الوجودية، قلق، مكتئب، غير متوازن، واثق من نفسه، عنيف، عنيد، إلخ. لم يعد لقيم الأمس أية قيمة تذكر، اللهم اعتبارها ديكورا سوسيولوجيا و لم يعد للأخلاق الموروثة أي نفع ، لأنها لم تعد قادرة على كبح "الهُو" الفردي و الجماعي. اختلطت إذن القيم و الأخلاق و لم يعد المرء يعي بما فيه الكفاية التمييز بين "الأصيل" و "الدخيل"، يُحتفل بعاشوراء و المولد النبوي بنفس الفوضوية التي يُحتفل بها بـ "البابا نويل" أو "عيد الحب". لا يعيش الإنسان المسلم هذه الأمور كمتناقضات وجدانيا، بل يعتبرها عادية، بل مؤسسة لهويته المتعددة و نتيجة تنشأة اجتماعية تخلى الكل فيها عن مسؤوليته (الدولة و العائلة و المجتمع). تمظهرت في هذا المناخ النفسي و الإجتماعي الغير المسبوق في العالم المسلم سلوكات فردية و عادات جماعية كانت في الأمس القريب، ليس فقط منبوذة، بل سببا في مشاكل قانونية و محاكمات أخلاقية. و مظاهر هذا الأمر لا تُعد و لا تُحصى، سواء في الأمور اليومية البسيطة أو في الأمور الكبيرة. لم يعد أي أحد يخاف على رقبته من السيف إذا جهر بإلحاده و تشكيكه في الملة و الدين و الصحابة و التابعين و حتى وجود الله و القيامة و الجنة و النار، و لم يعد بالإمكان مراقبة كل من يُصبح بين عشية وضاحا "جهاديا" قد يقطع رأس أخته إذا لم "تتلثم" أو قتل أناس عزل باسم حماية الملة و الدين أو الإنضمام طواعية إلى صفوف "جيش الله" للمحاربة ضد "الكفار" في أفغانستان و سوريا و العراق إلخ. بين هذين النموذجين، هناك نموذج ثالث لا يجد أي تناقض في ممارسات متناقضة في جوهرها كأن يسهر في حانة بعد صلاة العشاء مثلا.

هناك إذن "كوكطيل" بمقادير مختلفة و مضبوطة "مضروبة" ضربا متقنا في زجاجة اجتماعية شفافة، أنتجت فردا مسلما أساء فهم "الفردانية" الغربية، لتصبح في واقع المسلمين أنانية غير مضمرة و نرجسية متقاسمة. اختلطت الرموز، إلى حد أصبح من الصعب فيه تطبيق أدوات السيمياء القديمة لتفكيكها و إعادة تركيبها، فاستعمال "الحجاب" مثلا بمرافقة التبرج و كل أنواع الزينة أو الدخول به إلى ملهى ليلي أو حانة في فندق أصبح أمرا لا يناقش. و تقام القيامة بسببه هل هو اختيار فردي أم مفروض اجتماعيا و سياسيا. و لم يعد هناك أي حرج للـ "متأسلم" في طلب الزواج بقاصرات، باسم تطبيق "الشريعة" و الإقتداء بالنبي.

قد يقول قائل، بأن كل هذا ما هو في واقع الأمر إلا التطبيق الصحيح للإسلام، لأنه دين يحمل بين ضلوعه كل هذه "المتناقضات" على المستوى النفسي و السلوكي للمنتمين له. فالكتاب و السنة و الحديث مليئة بمثل هذه الأشياء و في غياب أي تأويل حكيم، هناك كثرة التأويلات، يجد كل واحد ما يبحث عنه في "تراثه" و يقدم الحجج على سلوكاته من الكتاب و السنة. و يصيح الكثيرون بأعلى صوتهم بأن هذا فتنة و علامة على قيام الساعة و ينتظرون بفارغ الصبر طلوع الشمس من جهة المغرب و ظهور المسيح الدجال إلخ.

كانت هذه إذن إشارات عامة، لا ندعي من خلالها بأننا شخصنا الإشكالية بما فيه الكفاية، بقدر ما أوصلناها إلى مستوى آخر من الضروري إتمام نقاشه. إذا كان "الصراع" في الغرب بين الدين و العلمانية قد انتهى مؤقتا بتشخيص العدو المشترك لهما: العلم، و خاصة البيولوجي منه، فإن نفس الصراع في العالم المسلم قد انتهى بالقضاء على الإثنين، لم يعد لخطاباتهما أي تأثير يذكر في الواقع السياسي و الإجتماعي و النفسي للمسلمين، نظرا لولوجهم مرحلة تاريخية سميناها "ما بعد علمانية و ما بعد دينية". المشكل الرئيسي في العالم المسلم هو شبه غياب تام لمفكرين لا يتبنوا مبدئيا مبادئ هذا الفريق أو ذاك. المطلوب في اعتقادنا هو بزوغ تيار فكري جديد، قد نقول محايدا، من أجل فهم الوضع الحالي و وصفه و تشخيصه بعيدا عن العلمانية و عن الدين معا، بل بحياد فكري و عقائدي عميق من أجل فهم التركيبة الإجتماعية-النفسية للإنسان المسلم حاليا. مشكلتنا الحالية في العالم المسلم الحالي ليست هي: "إعطاء ما للأمير للأمير و ما لله لله"، بل تفكيك العلاقة بين الأمير و الله كمقدمة لتحليل الواقع الفعلي و فهمه و من تم إعادة بناء وعي فردي و جماعي قد يساعد على تكوين شخصية اجتماعية و فردية تعي ذاتها و تُعقلن عقلنة لاعقلانيتها، لأن هناك ممارسة يومية لعقلنة اللاعقلي في العالم المسلم حاليا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 10 / 12 - 00:22 )
مناظرة العلمانية والإسلام : د. هيثم طلعت و مصري ملحد :
http://www.youtube.com/watch?v=RJijFFi01aA

اخر الافلام

.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع


.. #shorts yyyuiiooo




.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #