الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهار اليقظة في المسرح المصري

أبو الحسن سلام

2014 / 10 / 13
الادب والفن


نهار اليقظة في المسرح المصري
- بين وهج التحريض ولهيب التعريض -
د. أبو الجسن سلام

لا تكتسب أي حركة من حركات المجتمع صفتها التي تنتسب إليها تاريخياً إلاّ بالقدر الذي تغيّر فيه من مصير مجتمعها في اتجاه التقدم وتحقيق المستقبل الأفضل المأمول من جموع الشعب في ذلك المجتمع ، أو في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ رجوعاً إلى ماضوية مظلمة .
وقياساً على ذلك فإن صفة الثورية التي يكتسبها مجتمع من المجتمعات في طور من أطواره التاريخية ترتبط بحجم التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي تحدثها ثورة ذلك المجتمع .
فإذا وقفنا عند ثورة يوليو 1952 نجدها قد أحدثت تغييرات جوهرية ؛ غيرت مصائر عدد من الطبقات الاجتماعية المصرية إذ رفعت من شأن الطبقات الشعبية على حساب الطبقة العليا ؛ مع أن منابع رجالها ترجع إلى الطبقة المصرية الوسطى . ولأن من مصائر ما قد تغير في مصر بعد ثورة يوليو 1952 ، فكان من الضرورة بمكان أن تتغير وسائل التعبير عن تلك التغيرات سواء في الحقل الثقافي أو في الحقل الأدبي والفني بل لابد من استحداث وسائل جديدة أكثر وفاء بالحاجة إلى التغيير المطرد لحاقاً بالفكر الجديد والمتجدد وبأساليب التفاعل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي .
ولقد جرت على المسرح بوصفه وسيلة الحضور التأثيري الفعّال الكثير من التغيرات في البنية الإنتاجية وفي الإمكانات المادية بما يمكن أهله والقائمين عليه من تفعيله لينهض جنباً إلى جنب مع وسائل الاتصال الجماهيرية الفاعلة في كسب التأييد لفكر الثورة ولتوجهاتها التنويرية والتثويرية فأنشأت المعاهد الفنية المتخصصة في فنون التمثيل والموسيقى والباليه والسينما وأنشأت مؤسسة المسرح والسينما ودور النشر والعديد من دور المسارح والسينما ودار التليفزيون وجهاز الثقافة الجماهيرية في كل ربوع مصر وهيئة الفنون والآداب .
كما شجعت على ظهور العديد من المواهب الفنية في الأدب وفي الفن فظهرت كتابات موالية للثورة متفاعلة مع توجهاتها فكانت ( الأيدي الناعمة ) لتوفيق الحكيم تجسيداً للشعار الذي أطلقته الثورة على لسان قائدها (جمال عبد الناصر ) حيث ( العمل حق . العمل واجب . العمل شرف ) فرأينا البرنس العاطل عن العمل حسب العادة ورأينا الأستاذ الحاصل على الدكتوراه في ( حتى ) كليهما عاطلين عن العمل ؛ الأول بإرادته والثاني لعدم حاجة المجتمع إلى دكتوراه في ( حتى ) .
ورأيناه يسوغ للحاكم الفرد المطلق أسلوب حكمه شريطة التزامه بنصرة القانون في مواجهة البطش في مسرحية ( السلطان الحائر ) ويرسخ في وجداننا فكرة ( تقسيم العمل ) ومبدأ عدالة التوزيع على قدر حاجته ) في أسلوب مسرحي تعليمي حمله مسرحيته ( شمس النهار ) . غير أنه عندما يرى توجه الدولة في الستينيات وجهة بوليسية ينقد توجهها في مسرحيته ( بنك القلق ) ومن الغريب أن الدولة لم تصادرها بل نشرتها مسلسلة في كبرى جرائدها ( الأهرام ) في عصرها الذهبي برئاسة هيكل غير أنه يضمر موقفاً معارضاً لفكرة التأميم فيكتب ( مجلس العدل ) وينقلب على قائد ثورة يوليو بعد موته في ( الحمار يفكر ) و ( الحمار يؤلف)
كذلك أسهم ألفريد فرج بالعديد من المسرحيات التي دعمت فكر ثورة يوليو ودفعت من أجل كسب التأييد الجماهيري لتوجهاتها فكتب ( حلاق بغداد ) طلباً لحق الكلمة على لسان"أبو الفضول " . ذلك المثال الشعبي للمعارضة التلقائية الذي يطلب المثالي على المستوى الاجتماعي ويطالب دائماً ودون كلل ( منديل الأمان ) من السلطان .
وكتب ( سليمان الحلبي ) في أوج الدعوة القومية نحو وطن عربي من " الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي" التي أرتفع بها صوت قائد ثورة يوليو ليعيد النظر في بطولة بطل عربي كان رمزاً لمواجهة حضارة الإسلام لحضارة الغرب الغازي ، ويدعونا إلى إعادة النظر فيما كتب عنه ظلماً وإقلالاً للدور الذي قام به في جرح كرامة العدو الغازي وإخصاء غطرسة جنرالاته .. ولاشك أن ذلك نوعٌ من تكريم أبطال أمتنا وتعظيم دور النضال ضد الغزاة والمستعمرين في سبيل تحرير الوطن .
وكما كتب ممجداً دور الكفاح الفلسطيني المسلح في ( النار والزيتون ) في وقت المد الثوري المصري وكشف عن تواطؤ هيئة الأمم المتحدة وبريطانيا وأمريكا في التوطيد لعصابات الصهيونية في اغتصاب أرض فلسطين العربية وتشريد شعبه ؛ كتب عن الأسلوب التلفيقي في نظام الحكم داعياً إليه وحاضاً على كسب التأييد له في مسرحية ( الزير سالم ) حيث الصراع على كرسي الحكم بين أفراد عائلة واحدة في أصولها (بكر - تغلب ) فلقد اتفق كل من الزير سالم وحساس وكليب على حيلة ما تنفذها ( جليلة ) أخت جساس وزوج كليب لتمكنهم من الدخول على حسان ( التبع ) مغتصب ملكهم ليتخلصوا منه ويقتله كل من الزير سالم وجساس في الوقت الذي يحجم كليب عن إخراج سيفه من جرابه ومع ذلك يتنازل الزير سالم لأخيه كليب عن العرش فيحقد عليه جساس وينتهز أول فرصة تسنح لقتل كليب على إثر مشادة تافهة ، وهنا يرفض الزير سالم الدية ويطالب بالعدالة المستحيلة ( أريد كليباً حياً ) وتدور المذابح وتسيل الدماء ولكن بعد مقتل الزير وجساس يجتمع رأي القبيلة على لسان ( مرة ) شيخها على تنصيب ( هجرس ) ابن كليب ملكاً لأنه يحمل دم كليب ودم عمه الزير سالم وأمه جليله وخاله جساس فعنده اجتمعت دماء القبيلتين المتصارعتين لذلك فهو أهل للجلوس على العرش حقناً للدماء . وهو أسلوب يرفضه هجرس دون أن يفهم أبعاد الصراع . ولقد أراد ألفريد فرج أن يسوغ لفكرة التحالف في أسلوب الحكم ، وقد كانت وليدة في فكر الثورة المصرية آنذاك حيث الدعوة الحارة ( لتحالف قوى الشعب العامل ) وهي دعوة تلفيقية لأن التحالف لم يكن بين كيانات حزبية لكل منها فلسفة وبرامج ولم يحدث التحالف وفق حوار نقدي يجري بين أحزاب وإنما المسألة عبارة عن نماذج طبقية جمعت جمعاً تعسفياً فنأت التجربة بذلك عن فكرة التحالف (التوفيقي) ووقعت في براثن التلفيقية مع أن لفتة ألفريد فرج إلى رفض هجرس تولي العرش دون أن يكشف له عن أسباب الصراع كانت محاولة منه إلى الإشارة إلى أن التحالف تم بعد كشف أسباب الصراع ليضفي على الفكرة التلفيقية التي انبنى عليها جلوس هجرس على العرش صفة التوفيقية عبثاً .
وهو قد أدرك أنه كان تلفيقياً في محاولته كسب التأييد لفكرة تحالف قوى الشعب العامل المصرية بعد ذلك فكتب مسرحية ( جواز على ورقة طلاق ) وفيها يؤكد استحالة التزاوج بين الطبقات ، تلك التي تبناها في مسرحية ( الزير سالم ) .
وكتب ألفريد فرج رائعته المسرحية ( علي جناح التبريزي وتابعه قفه ) مروجاً أيضاً لفكرة التأميم التي أقدمت عليها ثورة يوليو كخطوة حتمية أولى نحو بناء النظام الاشتراكي وفق تصوراتها ، وإن كانت قد توقفت عند فكرة التأميم ولم تتخطاها مما وضع تجربتها في دائرة ( نظام رأسمالية الدولة ) دون أي ادعاء بأن نظامها قد كان نظاماً اشتراكياً . وفي المسرحية يوزع شخص غني نبيل ما ورثه عن أبيه على الفقراء ويدور في بلاد العالم ليحتال على الأغنياء والحكام ويستولي على أموالهم وكنوزهم ويعيد توزيعها على الفقراء الذين لا عمل لهم موهماً التجار والأغنياء والملوك بأن له قافلة كبيرة سوف تصل وعندئذ سيرد لهم ما حصل عليه منهم أضعافاً مضاعفة . وهؤلاء وأولئك لطبيعتهم الجشعة ولطمعهم يأملون في الحصول على المزيد من المال والغنى فيصدقونه ويعطونه طائعين مفاتيح خزائنهم وعناصر تجارتهم فيوزعها على الشحاذين والمعدمين الخاملين الذين لا عمل لهم ولا دور لأحد منهم في دورة الإنتاج التي تحقق الوفرة وتشكل الطرف الأول من معادلة مجتمع ( العدالة الاجتماعية ، والرفاهية ) .
والمسرحية ترسخ فكرة البعد الواحدي لحركة التاريخ فهذا الشخص ذو السمات الكريزمية هو الذي يغير بمفرده مصائر البلاد وأحوال ناسها . وهذا ممالئ لفكر ثورة يوليو وتوجهاتها نحو التأميمات . غير أن سمات فكرة الاشتراكية الطوباوية واضحة في تلك المسرحية وهي كمسرحية شوقي عبد الحكيم (الملك معروف ) التي يوزع فيها الملك كل ما يملك على شعبه الخامل الذي لا دور له في حركة الإنتاج وعندما لا يتبقى في المملكة شيء ليوزع على أحد يخرج الملك معروف وشعبه زاحفين نحو مملكة ( العون ) المجاورة ليتسولوا جميعاً قوت يومهم . فكلتا المسرحيتين تنتقضان الفكر الاشتراكي الطوباوي .ولو أعدنا قراءة مسرحية توفيق الحكيم ( مجلس العدل ) لوجدناه يعري فكرة التأميم حيث ( الفران ) المكلف بإنضاج رأس مال رجل ما (صاحب الأوزة ) فإذا به يستولي عليها يؤممها لصالح القاضي ( الحاكم ) الذي يتخذه صديقاً وعندما يحضر صاحبها يحكم عليه بغرامة وتتوالى نماذج التحالف ( فلاح - واعظ " مثقف " صرماتي " عامل متدني " ) فيحكم عليها القاضي بغرامة .
فالمسرحية أشبه بالتحالف الذي يضم ( الفلاح والمثقف والعامل والمؤمم والقاضي حاكم فوق هؤلاء جميعاً). وتلك وقفة نقدية لفكرة التأميم ولفكرة التحالف .
ولو تأملنا المشهد الأول من ( مأساة الحلاج ) لصلاح عبد الصبور سنجد شكلاً من أشكال التحالف الشكلي لعناصر أو نماذج طبقية لا تأتلف . وتحضرني هنا مناقشة تمت بيني وبين الشاعر العربي " شوقي عبد الأمير " في ( ندوة صلاح عبد الصبور ) التي عقدت ( بالمجلس الأعلى للثقافة في أوائل 2002 ) وقد طرح تساؤلاً حول توقفه عند حلاج عبد الصبور ، ذلك التساؤل الذي عبر به شوقي عبد الأمير عن حيرته أمام هذا النص مما جعله يتساءل بصيغة تعاكسية واحدة :
" أين ينتهي الحلاج ليبدأ صلاح عبد الصبور ؟ وأين ينتهي صلاح ليبدأ الحلاج ؟ "
فكانت مداخلتي تقوم على أن الحلاج لم يمثل في المسرحية في مفتتحها ، كما لم يمثل في نهايتها لسببين : أحدهما خاص بالشكل - حيث يصوغها الشاعر المسرحي وفق دائرية الأسلوب ، إذ تبدأ المسرحية بالحلاج مصلوباً وعند قدميه فقراء الناس من الحرفيين وحثالتهم ، أولئك الذين سلموه للسلطة نظير " دينار من ذهب قان" وانتهت المسرحية كما بدأت وهي في ذلك تتقارب أسلوباً مع (بيكيت ) جان أنوي .
أما السبب الثاني فهو خاص بالفكر في هذه المسرحية .. فالحلاج ثوري فاقد لثوريته ( مصلوباً في ساحة الكرخ ) وتحت قدميه حرفيو البلاد وحثالتهم باكين ندماً على ما فعلوه به إذ سلموه للسلطة وهو طليعتهم - وهذا شبيه بطليعة الحركة العمالية واليسارية المصرية التي تم اعتقالها من قبل ثورة يوليو في نهاية الخمسينيات ومع توجه الثورة المزعوم نحو ما زعمت أنه الاشتراكية - .
وفي المشهد الافتتاحي للحلاج في مقابل الثوري المصلوب والحرفيين نجد رموز الطبقات الاجتماعية المصرية لا البغدادية ( الواعظ - التاجر - الفلاح ) فالتاجر ممثل الطبقة الرأسمالية العليا والواعظ ممثل المثقفين ( مثقف الطبقة العليا أيضاً ) والفلاح ممثل البرجوازية الصغيرة .
وفي رأيي أن صلاح عبد الصبور يجمع بين نماذج تحالف قوى الشعب العامل في تجربة مصر الستينية (رأسمالية وطنية - مثقفين - عمال - فلاحين ) يجمعهم في مشهد واحد أو شكل أو إطار هو سياسي حزبي على مستوى واقع ستينيات حركة يوليو التي أذاع لسانها أنها مباركة يجمعهم جمعاً تلفيقياً (مجموعة باكية مهمومة - مجموعة ضاحكة صاخبة مخمورة ) ولا اهتم بما إذا كان توفيق الحكيم أو صلاح عبد الصبور قد قصداً ذلك أم لا ؛ فالناقد واجد واصف فمقوّم لما يصف وفق نظريات يستدعيها الإبداع .
وخلاصة الرأي عندي أن صلاح عبد الصبور قد سكن الحلاج أكثر مما سكنه الحلاج . وقد سكنهما معاً فعل نظام حركة يوليو دون أن يرضى عبد الصبور أو النظام عن تلك السكنى .
لاشك أن إيقاع الفكر السائد في المجتمع يؤثر على الكاتب المسرحي فلقد ساد المجتمع إيقاع الفكر التلفيقي الذي تمثل تجسيداً سياسياً فيما عرف بنظام تحالف قوى الشعب العامل - الذي ضم عينات من العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسماليين وهذا التلفيق العلوي لنماذج متضاربة المصالح والأهداف من بين الطبقات في مصر الستينيات فرض نفسه فرضاً على إيقاع مجتمعنا المصري ، ومن ثم فرض نفسه على الكثيرين من كتابنا ومبدعينا ومفكرينا ، فلقد تأثر يوسف إدريس في قصصه وفي مسرحه وظهر ذلك في باكورة أعماله القصصية التي أصبحت باكورة مسرحياته وهي ( جمهورية فرحات ) حيث تناول فيها فكرة الاشتراكية الفابية ( نسبة إلى فابيوس القائد الروماني الذي خطط للتصدي لاكتساح هانيبال للإمبراطورية الرومانية وإلحاق الهزائم المتكررة بها فرأى فابيوس أن يترك جيوش هانبيال تتقدم نحو روما عبر الجبال والوهاد فينال منها التعب الكثير وتعمل القوات الخاصة على مهاجمة تخوم فيالق جيش قرطاجنة تحت قيادة هانيبال ، في حين يدخر فابيوس كل قواه ويحشدها على أبواب روما قوية عفية مستعدة للمعركة الفاصلة بين جيوش قرطاجنة المنهكة والمتراخية وجيوش روما بقيادة فابيوس وبذلك حقق النصر عن طريق معارك فدائية متفرقة يعقبها بالمعركة النهائية الحاسمة وبذلك حقق فابيوس هدفه الاستراتيجي مسبوقاً بتحقيق أهداف مرحلية. ولقد رأى بعض مفكري إنجلترا ومنهم الكاتب المسرحي المفكر جورج برنارد شو تكوين الجمعية الفابية التي تستهدف تحقيق التحول الاشتراكي في المجتمع الإنجليزي على مراحل - تماماً كما فعل فابيوس في مواجهته لهانيبال - تمهيداً لتحقيق النصر النهائي ) .
ولقد اتبع يوسف إدريس التكنيك نفسه في تحقيق الصول فرحات لليوتوبيا ( دولة العدالة حيث يحصل كل من فيها على قدر حاجة جنباً إلى جنب مع تحقيق الوفرة الإنتاجية ففرحات يحلم بتحقيق المدينة الفاضلة على مراحل متقطعة ويتداخل مع حلمه عرض لقضايا السلوك الاجتماعي في الدولة البرجوازية من قضايا ضرب ونهب وسرقة وسب وما يحيا فيه مجتمع البرجوازية الصغيرة وحثالة الطبقة العاملة غير أنه يجمدها واحدة وراء الأخرى ليستكمل حلمه مرحلياً وصولاً إلى المدينة الفاضلة التي يتخيلها ويسرد خطوات تحقيقها في حلم يقظته على معتقل سياسي يساري يدعى محمد لا يكتشف أنه معتقل سياسي إلاّ بعد أن يفرغ من إتمام حلم اليقظة بمدينة فاضلة عادلة . ولاشك أن نهاية مسرحية ( جمهورية فرحات) تنطوي على نقد لسلوك ثورة يوليو. إذ كانت - وقتذاك - تنادي بتطبيق عربي للاشتراكية وهي تعتقل المفكرين الاشتراكيين . ولم تتعرض هذه المسرحية مع ذلك للمصادرة بل تم عرضها على الجمهور ولا أدري هل كان ذلك لعدم إدراك الجهات الرقابية لمحتواها النقدي الذي تبلور في النهاية أم بسبب صحوة تنوير تلامست مع التوجهات الرقابية - آنذاك - .
وتأثر نجيب سرور في شعره وفي مسرحه بالثورة وبرحلة الخلاص الوطني على المستويين الاجتماعي والاقتصادي فكتب :
ياسين وبهية ليكشف عن فشل فكرة المخلص الغائب وكتب آه ياليل يا قمر - قولوا لعين الشمس - حيث عنى بتسجيل مدى التحالف النضالي وتواصله بين ( الفلاح )أو نموذجه في ( ياسين وبهية ) وبين العامل أو نموذجه في ( آه ياليل يا قمر ) وبن الجندي عطية الذي تعاطف مع أم بهية ومه بهية في نهاية (آه يا ليل يا قمر ) والذي ارتبط ببهية ( الوطن / الرمز ) في نص ( قولوا لعين الشمس ) :
عسكري 4 : أنا عايز مصلحتكم
عندي سر يهمكم
بهية : سر إيه ؟
الأم : قوله يابني
عسكري 4 : بس لو عرفوا إني قلته .. يجلدوني
الأم : قوله يابني .. فك عن نفسك وقول . دانا زي أمك تمام
عسكري 4 : الليلادي هايدفنوهم . بس مش هايطلعوهم من هنا إنما من باب ورا ..
أوعي ياامه السر ده .. يطلع لحد "
فهذه المحاولات الثلاث - كما نرى - محاولات توفيقية - من حيث الشكل - بين فكرة واحدة وهي فكرة ( الخلاص ) عن طريق النضال الفردي وروح الفردية في الريف وعن طريق الجماعات وروح التشرذم - وهي روح فردية في مضمونها - وفي المدن أو التحالفات الآنية ضد المحتل . ثم عن طريق الجيش حيث الفرد القائد يأمر فيطاع . العمل الجماعي شكلاً ، ولكنه فردي مضموناً . جماعة ساعية للعمل دافعها إرادة فردية ديكتاتورية . وربما فسر ذلك بأنه جعل نهاية ( ياسين وبهية ) هي بداية ( آه يا ليل يا قمر) فالجديد ينبع من القديم حقاً كما هو معلوم في القانون الطبيعي لذلك فمراحل النضال من أجل الخلاص متصلة ونابعة من بعضها .
ومن الملاحظ أن ثلاثية نجيب سرور المسرحية تلك منقادة بالتحولات الاجتماعية بمعنى أن إيقاع الفكر السياسي الاجتماعي لثورة يوليو وتحولاتها هو الذي يقود إيقاع ذات الفنان وليس العكس فالأعمال تسجل رحلة الخلاص الوطني من الاستغلال والقهر ببطل مخلص غائب ثم بحركة تحالف فلاحية عمالية باعتبار أن تاريخ الحركة العمالية بدأ مع عمّال محالج القطن وهي صناعة رأسمالية ريفية ولما تفشل يتسلمها العسكرتارية حيث يتزوج عطية ( العسكري ) من بهية بعد مقتل أمين الذي يتمثل فيه العنصر الريفي والعنصر العمالي معاً .
وليس في الثلاثية استشفاف مستقبلي ، إنما هو الماضي يعاد رسم صورة له ، يستحضر مجسداً بالسرد والرواية والمباشرة لذا فهو أقرب إلى المنحى التعليمي ، وربما عبّر جلال العشري عن ذلك حيث اعتبر الثلاثية ( وثيقة تاريخية بل وثيقة نفسية واجتماعية وإنسانية )
وأخلص مما تقدم إلى أن ذات نجيب سرور كانت ذاتاً وسطية ، لأنه وفق بين عمل الشاعر والكاتب المسرحي وعمل المؤرخ . لأنه تقيد بوظيفتين ( التأريخ والاستشفاف ) قيد واقعي تاريخي أو شبيهه مع تحليق فهو مقيد محلق في آن واحد .
وربما كان مرجع ذلك هو المحيط الاجتماعي وإيقاعه العام الذي ربط الشاعر نفسه به في الثلاثية . حيث تجري تحولات اجتماعية عظمى وقتذاك رأى نجيب سرور أن يسجل نضال الطبقات الكادحة المصرية في تاريخ التحولات الاجتماعية والسياسية على عكس الذي رآه يوسف السباعي الذي سجل دور ضباط ثورة يوليو في إجراء التحولات الاجتماعية والسياسية . وسرور متقارب في ذلك - وإلى حد ما - مع سعد الدين وهبة الذي سجل في مسرحه مراحل القهر التي مرت بها الطبقات المصرية الكادحة خاصة في الريف المصري وإن نحا نجيب سرور نحو المباشرة في سخريته من الإقطاع في ياسين وبهية وسخريته من المحتل والحكومة في نص آه يا ليل يا قمر :
" بهية : ينتقم لك ربنا يا أبو العيال
عسكري 4 : وانتي رخره ما تشتميش
بهية : أنا بادعي ع اللي يتم لي العيال
عسكري 4 : تبقي برضو بتشتمي .. الدعا زي الشتيمة
بهية : وانت مالك . ياطويش ؟
عسكري 4 : أنا مالي إزاي يا ست . وانتي بتسبي الحكومة "

الخلاص إذن هو محور الثلاثية أما المسرحية الرابعة ( منين أجيب ناس ) فهي تكشف عن سبب عدم تحقيق الشعب المصري لأهدافه في الخلاص ذلك لأنه ( لا يوجد ناس ) والخلاص لن يتحقق أبداً إذ أن ياسين مخلص بهية في نصه الأول يحمل عبء خلاصها وهو لا يعدو أن يكون فرداً وهي رمز لمصر - طبقاتها الشعبية - بدليل أنها ثابتة لا تتغير من مسرحية إلى أخرى بينما يتغير المخلص ( مين في آه يا ليل يا قمر ) وعطية في ( قولوا لعين الشمس ) رمز العسكرتارية . ومن مرحلة النضال الفردي إلى مرحلة النضال شبه الجماعي المسلح إلى النضال بالعسكر ومع ذلك لا خلاص لبهية الوطن ذلك أنه ( لا ناس ) ومعنى ذلك إلغاء لكل أطروحات الخلاص الثلاث السابقة .

أما سعد الدين وهبة فقد كرس بدايات مسرحه لقضايا المجتمع وللفساد السياسي والاجتماعي وآثاره السلبية على الطبقات الدنيا وخاصة في الريف المصري فكتب ( المحروسة - كوبري الناموس - السبنسة - كفر البطيخ ) وانشغل في المرحلة التالية على بداياته المسرحية بنقد تجربة الثورة في مسرحيات ( المسامير - سكة السلامة - يا سلام سلّم الحيطة بتتكلم - ومجموعة مسرحياته القصيرة: الوزير شال التلاجة وغيرها )
واهتم نعمان عاشور بقضية الحراك الاجتماعي قبل الثورة وتفاعلاته المرهصة بقدوم الثورة في ( الناس اللي تحت ) وفي ( الناس اللي فوق ) وتفاعل مع قضايا المجتمع في عهد الثورة فكتب ( برج المدابغ ) وكتب (عيلة الدوغري ) حول صراع الأجيال حول تقسيم الموروث وإن كان قد اقتبس فكرتها من (بستان الكرز ) لتشيكوف .
وفي حين تناول محمود دياب مجتمع الريف في سمره وفي تداوله لقضاياه ومشكلاته ( ليالي الحصاد ) وعرّج على القضية الوطنية والقومية في ( باب الفتوح ) وفي ( رسول من قرية تميرة للسؤال عن الحرب والسلام ) و ( أهل الكهف 80 )
كتب عبد الرحمن الشرقاوي للمسرح الشعري ( الفتى مهران ) معبراً عن روح التمرد الثوري وكتب (النسر الأحمر ) وكتب حول كفاح الشعب الفلسطيني : ( وطني عكا ) وكتب ( عرابي زعيم الفلاحين ) في أيام السادات حتى أنها عرضت بميدان قصر عابدين بإخراج أحمد زكي بناء على طلب السادات نفسه.
ولأن المسرح يقوم على ربط الفكر بالحياة مهما كان مجرداً كما يقوم على كشف القيم الضرورية لإنقاذ الأرواح وتعميق وعينا بالواجب ، لذلك فإن الحماس بوصفه عاطفة لا يغيب مطلقاً عن الإبداع المسرحي كتابة أو عرضاً أو إنتاجاً أو نقداً ؛ فالحماس والفكر لا يفترقان في مجال المسرح . ولأن التجربة المسرحية لا تكتمل دون حركة نقدية نشطة لذلك شهدت مصر الثورة حركة نقدية في المسرح وعلى وجه الخصوص في نقد نصوصه . من هنا ثارت القضايا بين النقاد حول كتابات المبدعين المسرحيين المصري منها والعالمي فنشط ذلك كل من محمد مندور ولويس عوض ورشاد رشدي ورجاء النقاش وبهاء طاهر وفؤاد دواره وجلال ا لعشري وفتحي العشري ورشدي صالح وأحمد عباس صالح ومحمود أمين العالم وفريدة النقاش . وفاروق عبد القادر وسمير سرحان ومحمد عناني ولويس مرقص ولطيفة الزيّات وفاطمة موسى وشفيق مقار ونسيم مجلي وأمير سلامه وغيرهم وغيرهم . فاشتعلت المعارك النقدية بين الكتاب والمخرجين وبين الكتاب والمخرجين والنقاد وبن النقاد والنقاد ؛ ويكفي أن نقف في هذا الحيز عند قضية أو قضيتين نقديتين لندرك ضراوة تلك المعارك النقدية وجدواها في إزكاء حركة المسرح أدباً وعرضاً .
• ارتباك العلاقة بين المؤلف ومخرج نصه :
ولعل أول القضايا التي أود الوقوف عندها هي القضية التي ثارت بين مؤلف مسرحي هو ( يوسف إدريس ) ومخرج مسرحي هو ( سعد أردش ) حيث اضطلع الثاني بإخراج مسرحية الأول وهي ( الجنس الثالث ) من إنتاج المسرح القومي وعند مشاهدة المؤلف لعرض مسرحيته تلك أرْبَدَ و أزْبَدَ ولجأ إلى تقطيع أوصال نصه وإلصاقه على جدران المسرح القومي وسوره الخارجي صفحة صفحة ، محتجاً بأن سعد أردش قد ارتبك في فهم نصه ذاك ، محتجاً بأن سعد أخرج النص إخراجاً قائماً على الإيهام في حين أن النص - كما يزعم يوسف إدريس نص يقوم على التغريب لا الإيهام ؛ ذلك لما رأى المخرج أردش يجسد مشهد لقاء البطل ( عبد الرحمن أبو زهرة ) بشخصية أخرى هي ( عشماوي ) في ميدان العتبة في السابعة من مساء اليوم المحدد مستخدماً الإضاءة الإيهامية ( الترا فايلوت ) التي تنعكس على معطف الدكتور ( أبو زهرة ) وهو يصعد درجاً أو مدرجاً مظلماً في عتمة تامة حتى لا تظهر سوى الألوان البيضاء أو الفسفورية وهي ألوان ملابس ( البطل الدكتور العالم ) فيبدو وفق الحركة الانسيابية التي رسمها له المخرج كما لو كان يطير نحو الفضاء وذلك بحق تجسيد إيهامي كما قال المؤلف يوسف إدريس لكن هل نص يوسف إدريس نص تغريبي حقاً حتى يمكن القول إن سعد أردش عندما جسده وفق عناصر إيهامية قد ارتبك في التصور أو الفهم؟! واقع الأمر .. لم يكن النص ملحمياً ولا صلة له البتة بنظرية التغريب الملحمية ! لأن الحدث انبنى على الإيهام حيث عالم في معمله لا يعطيه جهاز الحاسب الآلي في كل التجارب التي يجريها إلاّ نتيجة واحدة وهي رقم سبعة (7) حتى أنه يحدد له السابعة من مساء اليوم السابع ( الجمعة ) بميدان العتبة ليلتقي بعشماوي الذي ينقله إلى صحراء وسور كبير خلف أبوابه ( هي ) التي يناديها عشماوي فتفتح له ليدخل العالم بستاناً شاسعاً تتحول فيه الأشجار إلى نساء فاتنات راقصات ( وهو استلهام من رسالة الغفران ) للمعري وارتباط رقم سبعة بوجداننا وتراثنا الديني معلوم وارتباط اسم عشماوي بمنفذ أحكام الإعدام في حياتنا المصرية المعاصرة معلوم وسور البستان وارتباط دخوله بشخصية رضوان في تراثنا الديني معلوم وانقلاب أشجار الرمان والفاكهة إلى فتيات حسان وحور عين معلوم من ثقافتنا الدينية وقصة الإسراء والمعراج واستلهامها أدبياً ( رسالة الغفران ) ثم ( الكوميديا الإلهية ) لدانتي ومن قبلها (التوابع والزوابع ) لابن شهيد الأندلسي . إذن فالحدث في مسرحية ( الجنس الثالث ) حدث إيهامي البناء والعناصر والتقنيات وتأسيساً على ذلك كان فهم المخرج سعد أردش ومن هنا يتضح لنا أن ارتباك في تعقيب يوسف إدريس الإنتقادي وليس النقدي هو الذي أثار تلك القضية المفتعلة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد