الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موقع الهوية

سعد محمد رحيم

2014 / 10 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ولا يُطرح سؤال الهوية بقوة إلا حين تجد أمة ما نفسها في حالة تحوّل حضاري حاسم، أو حين تكون فكرة الأنا عن نفسها غائمة وملتبسة. أو حين تواجه تحديات كبرى لا قبل لها بها. وقد أصبحت الهوية اليوم في القلب من اهتمامات البحث النظري، وكذلك في القلب من ساحات الصراعات والحروب في ميداني الواقع والتاريخ.
ليس موقع الهوية ما ننتهي إليه وإنما ما نبدأ منه. وهو ليس امتيازاً بل شرط كينونة وفعل إنسانيين. وهو موقع لا يتعين على الأرض بقدر ما يتعين في الوعي والشعور والضمير.
يشتمل موقع هويتك على الآخر لا بمعنى التماهي أو التشارك معه بل بحضوره مرآةً ومعياراً ودليلاً.. إن جزءاً منك لا ينعكس إلا في الآخر، وهو معيار بطريقة ما للتعرف على موقعك ومنجزك وموقفك.. فهو دليلك لا إليه وحسب، لا إلى العالم وحسب، وإنما إلى نفسك أيضاً.. تعترف بالآخر لا لأنك غير قادر على الانعزال عنه أو محوه بل لأنك تعي بأنه يمتلك الحق بالحياة والحرية والكرامة مثلما تمتلك. والسؤال الآن؛ كيف لي أن أقرأ الآخر من خارج المركز/ مركزي، أن أضع نفسي موضعه قدر الإمكان، وأن أقرأه بتمعن وتفهم وموضوعية متحرراً من القيم الذاتية المتحيزة والأحكام المسبقة الجاهزة، والتعالي المعرفي.. فوجود الآخر هو الذي يفرض مسألة الهوية.. حين يأتيك الآخر غازياً أو مفاوضاً أو صديقاً، وحين تكون في مكان الآخر زائراً أو دارساً او منفياً، ستواجه الأسئلة الصعبة والشائكة عن الذات والهوية.
نحاول فحص موقع الهوية في الترسيمة المعرفية ـ السياسية الآنية، وهو موقع يكاد يحتل المركز من تلك الترسيمة في اهتمامات المعاصرين من المفكرين والمثقفين. وعلينا أن نعي أن اتخاذ الموقع المركزي لموضوعة ما، في زمن ما، داخل الحقل المعرفي تفرضه مقتضيات السياسة والمصالح والصراعات القائمة أكثر مما تفرضه الضرورات المجردة للمعرفة. كما أن التعاطي مع تلك الموضوعة معرفياً يمكن أن يكون، في إطار أجندات معينة، استراتيجية سياسية في نهاية الأمر، لها آثارها في حقل المعرفة، وفي حياة المجتمع ومستقبل البلاد، على حد سواء. وبذا يستدعي مفهوم موقع الهوية، في سياقنا النظري وأفق فهمنا الكلام عن الممرات والتخوم المشتركة ومناطق التفاعل. ليحيلنا إلى توجه هومي بابا ( مثلما لخصه ثائر ديب ) لاستكشاف "الموقع الثقافي الهجين والبيني، مدافعاً ( بابا ) عن موقع نظري يفلت من ثنائيات الشرق والغرب، والذات والآخر، والسيد والعبد، والداخل والخارج. موقع يتغلب على الأسس التقنية ويكشف عن فضاء من الترجمة لا تكون فيه الهويات منسوبة إلى سمات ثقافية متعينة مسبقاً وغير قابلة للاختزال وقائمة خارج التاريخ".
لا يتحدد موقع الهوية في ضمن حدود صارمة قارة. وليس هو بالسجن الأبدي للأفراد والجماعات.. إن حد الهوية مفتوح ومخترق.. يستطيع المرء أن يتوهم المكوث في الهوية الواحدة المغلقة والدفاع المستميت عن موقعه، لكن الخسارة، مؤكدة في هذه الحالة وادعاء خلاف ذلك عبث. فالفاشيون وحدهم من يقولون بالهوية الواحدة الصافية المتبجحة والمتكلسة.
موقع الهوية مجسّم، والفرد في اللحظة الواحدة يمكن أن يكون متموقعاً في حدود أكثر من هوية، فمكانه الجغرافي يضفي عليه هوية، وأسرته تمنحه هوية، ومن انتمائه الطائفي يكتسب هوية، وعمله يعد له بمثابة هوية، وبفضل أنشطته الاجتماعية والسياسية يستمد أكثر من هوية. فالهوية إذن متعددة مركبة، جزء منها قدري، وموروث، فيما الجزء الأكبر يتأتى من طريق الاختيار.. هويتك صورتك مثلما تقدمها للآخرين، ومثلما يراك من خلالها الآخرون.. هي من صنع اختياراتك إن أحسنت الاختيار أو أسأته. إنها نتاج وعي وإرادة، وهي بطريقة ما موقف من الذات وتاريخها، وموقف من الآخر والعالم. والهوية ليست صورة ما تظهر به فقط، بل وأيضاً ما تقوم بحجبه ومواراته، وما تمارسه من تضليل لأجل ذلك. وهذا يقودنا إلى إثارة أسئلة أخرى؛ إلى أي مدى نصوغ صورتنا في ضوء تصورات الآخر عنّا، وإلى أي مدى نقدِّمها لإرضاء توقعات الآخر أو إثارة دهشته أو معاكسة تصوراته، ومن غير الالتفات إلى ما نحن عليه في حقيقتنا؟.
ولأن الهوية قابلة للحركة والتحوّل فهي إذن ليست صافية تماماً. وحين نتكلم مستعيرين مفاهيم هومي بابا عن الفضاءات البينية والهجنة والترجمة والتفاوض، ونحيل الهوية إلى هذه المنطقة المتداخلة نكون قد أرسينا قواعد للحوار والفهم المشترك والتسامح. أما أولئك الذين يتخذون موقعاً متعيناً ثابتاً لهويتهم في مواجهة ما يظنونه عن الموقع المتعين الثابت للآخر هم الأكثر عرضة للإصابة بلوثة التعصب والكراهية وممارسة العنف.
موقع الهوية يتمرأى في موقع الثقافة وبالعكس، ولكن لا يمكن تصوّر أحدهما ظلاً للآخر.. الظل يتحرك خارجهما ملتبساً وغامضاً وغير مؤكد بإطلاق.. هو دالة لهما، وقوة مجازية، في فضاء العالم.
يتحدد موقع الهوية، وإلى حد بعيد، بأثر السلطات الفاعلة في ضمن الحيّز الاجتماعي. ويلتبس كلما احتدمت صراعات السلطات في ذلك الحيّز. فموقع الهوية يعكس موقع المرء والجماعة في خريطة الصراعات الاجتماعية القائمة، وعمليات التكيف مع المكان/ البيئة المحيطة. المكان الذي ليس فقط الفضاء الهندسي ـ الجغرافي بل ما يشهد من أحداث وتحولات، ويخضع لممارسة سلطات، وللقوى التي تقاوم تلكم السلطات.. موقع الهوية هو الترسيمة الحيّة لذلك الجدل في سياق تاريخي/ اجتماعي/ ثقافي.
* * *
حين نقول الهوية فإنما نتحدث عن التماثل والاختلاف؛
التماثل لا يعني التطابق لأن ذلك يكاد يكون مستحيلاً في المحيط الإنساني.. إنه يعني وجود نسبة لافتة من المشتركات البيئية والإنسانية بين أفراد الجماعة الواحدة، أو عدد من الجماعات.
الاختلاف هو ما يميّزك أو يميّز جماعتك عن الآخرين. وقطعاً ليس هناك أيضاً من اختلاف مطلق.. نحن البشر متماثلون بنسبة معينة ومختلفون بنسبة معينة.
الاختلاف بمعناه المتأزم هو أن تضع نفسك في موقع الاختلاف الحاد، أو يضعك فيه الآخر.. هنا يكون الاختلاف وعياً وشعوراً متوترين بالتفوق أو الدونية.
إقرار التماثل أو الاختلاف في الوعي والشعور ليس حالة واقعية، بمعطيات واضحة ومؤكدة على الأرض دائماً، بل يمكن وغالباً ما يحدث هذا أن يكونا متخيلين.
نتحدث عن التخييل بوصفه واحدة من وسائل تعيين الهوية، وهو ما يسبغ على موقعها هالة مرمنسة ويمنحها بعدا ميتافيزيقياً.
هل يمكن لهوية ما أن تكون زائفة؟
نعم، تلك التي تصدر عن وعي زائف، وسوء فهم، ونظرة قبلية للآخر، أو عن نظرة متورمة خدّاعة للذات.
أما النظرة المتسامحة، الواثقة من نفسها، الموضوعية، فهي التي تغطي المساحة الواسعة من المشتركات بين البشر.. المساحة التي نعوّل على تنميتها بأدوات الثقافة والسياسة واستراتيجيتيهما.. فالهوية تغتني ويتسع أفقها إذا ما وعى حاملها كونية وجوده في العالم، وأدرك جوهر ماهيته الإنسانية.
تنطوي الهوية على قوة مقاومة للاغتراب، فهوية المرء تشحب وتكون موضع شك بمقدار ما يزداد شعوره بالغربة.. ولكن هل أن الإنسان في مرحلة عليا من تطوره العقلي والعاطفي والأخلاقي لن يكون بحاجة إلى هوية محددة؟ أو أن هويته ستكون من الاتساع إلى الحد الذي يقصر أي تعريف ( تحديد هووي ) على الإحاطة بها؟.
يجمع موقع الهوية ثلاث سلاسل من المفاهيم حيث لا يجري التعاطي معها كثنائيات مجردة، متضادة أو متعاضدة، وإنما كعلاقات بينية متداخلة، تتفاعل جدلياً:
الذات ـ الآخر
الثقافة ـ الفرد ـ الجماعة
السلطة ـ الجسد ـ المكان
وهذا ما يشكل الخريطة السوسيو ـ ثقافية للموضوعة برمتها، والتي نُعنى بفحص بناها وتحولاتها عبر إثارة الأسئلة التي تخصها، مع محاولة صياغة فرضيات وتقديم إجابات والعثور على مفاتيح نظرية وإجرائية لمعالجتها، من غير الادعاء بأنها الفرضيات الوحيدة والصحيحة بإطلاق، والإجابات النهائية التي لا يطولها الشك.. ومع اليقين أن الموضوعة يمكن الولوج إليها من أبواب متعددة، حيث لكل باب مفتاحه الخاص.. وعلى تلك الخريطة المعقدة تتمفصل المفاهيم أعلاه مع أخرى تتآزر معها في عمليات الكشف والتحليل والتقويم، منها؛ ( التمثيل، الهوية الوطنية، الطبقة، الهوية الطبقية، الجماعة، المكانة، التعددية، الفردانية، هوية الدولة، السردية التأسيسية، المجتمع المدني، المجتمع السياسي، المجتمع الأهلي، التسامح، العنف، الاغتراب ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هي نعمت شفيق؟ ولماذا اتهمت بتأجيج الأوضاع في الجامعات الأ


.. لماذا تحارب الدول التطبيق الأكثر فرفشة وشبابًا؟ | ببساطة مع




.. سهرات ومعارض ثقافية.. المدينة القديمة في طرابلس الليبية تعود


.. لبنان وإسرائيل.. نقطة اللاعودة؟ | #الظهيرة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف بنى تحتية لحزب الله جنوبي لبنا