الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البناء المعماري والصوت في قاعات الموسيقى

حسين الرواني

2014 / 11 / 5
الادب والفن




أهدي هذا النقل، إلى بلادنا العربية التي استيقظت بعد ستة عقود وأكثر من ظلامات أنظمة ما بعد الاستقلال، لتصحو شعوبها متعفنة ملتحية مجاهدة، إلى العراق الذي يولد الموسيقيون فيه ويموتون وهم يئنون ويشكون من عدم وجود قاعة يقدمون فيها موسيقاهم، بل قاعة يتدرب فيها الطلاب، إلى بلدي الخرب، في كل شيء، إلا في تصدير النفط، والانشغال بالحروب، وتفاصيل العيش العراقي.
يقول الدكتور يوسف السيسي في كتابه دعوة الى الموسيقي، الصادر عن مجلة عالم المعرفة في عددها الـ 46 "إن بناء قاعات الموسيقى والأوبرا يدخل في تخصص قلائل في العالم من علماء السمعيات، الى جانب المهندسين المعمارين، وقبل أن نبدأ حديثنا المختصر عن بعض أسرار هذه السمعيات، لا بد لي من التقديم بأن الصوت الجيد في قاعات الاستماع، ينتج عن أن القاعة نفسها آلة موسيقية كبيرة، أو على الأصح كصندوق مصوت، (كصندوق الفيولينه مثلا)، لآلة موسيقية وترية، أو كأنبوبة هوائية (كأنابيب آلات النفخ)، لآلة نفخ موسيقية أيضا.
ولما كان لكل جسم مادي رنينه الخاص الذي تحدده ذبذبات صوتية محددة أو ترددات محسوبة، فكذلك توجد لكل قاعة استماع تردداتها السمعية التي يحددها حجمها ونسب بنائها والمواد الداخلة في تكوينها، والدرجة والأبعاد التي تتردد فيها وخلالها خطوط الموجات الصوتية، ومقدار ونوعية ما تمتصه الجدران والأجسام التي تصدم مسارات الصوت، وأيضا مقدار ونوعية الامتصاص من هذه الأصوات، او درجة الانعكاسات والتكبير لهذه الأصوات ذاتها، أو لمكوناتها، وينتج عن ذلك الطبيعة الصوتية ( السمعية) للقاعة التي تجعل منها مصدر سحر وجمال، وإضافة حية للأداء الموسيقي، أو قتل وتدمير وتشويه، وما يسمى بالصوت الميت.
ولا بد لكل قاعة من أصداء، ولكن بدرجة محسوبة، كما أن لكل صوت في الطبيعة، وفي الموسيقى بالطبع، من مجموعة أصوات مصاحبة تسمى بالسلسلة التوافقية، او الأصوات الهارمونية المصاحبة، وهذه اًلأصوات لا تسمع عادة بالأذن المجردة، ولكنها تعبر عن سر الجمال في الاستماع الموسيقي الحي المباشر، كما أنه لو زادت ترددات قطاعات منها عن الحد المعقول، نتيجة عيوب معمارية في القاعة، فإنها تسبب أصداء للقاعة تكون رديئة وغير محببة، وخاصة في القاعات الكبيرة، وإلى جانب ذلك فإن امتصاص الصوت، بدرجة غير مدروسة ومحسوبة تماما وفقا لمسارات الصوت وتردداته، يؤدي الى ما يسمى بالموت الصوتي، وبالتالي تسمى القاعة بالميتة سمعيا.
وبالاختصار فإن قاعة الاستماع هي عبارة عن آلة موسيقية كبيرة، تعزف بداخلها الموسيقى المنفردة أو الجماعية، وكما أن أعظم العازفين يكون اداؤه ميتا بآلة رديئة، وبراقا ولامعا بآلة ثمينة، ستراديفاريوس مثلا، فإن سمعيات القاعة الموسيقية تؤدي الى تشكيل الصوت وتحديد طبيعته وتأثيره، وأسرار السمعيات تعتبر من أغرب العوامل الملازمة للبناء المعماري الخاص بصالات الكونسير ومن أغرب ما يحير المهتمين بقاعات الموسيقى بوجه عام.
منذ سنوات عديدة قام نخبة من أقدر الأخصائيين في علم الصوت باختبار مختلف الصالات الموسيقية في العالم لتحديد أجودها وأصلحها على الإطلاق، وجاءت النتيجة مؤكدة أن قاعة (جمعية أصدقاء الموسيقى) في فيينا، هي الأولى في العالم في مجال النقاء الصوتي، وانعدام الانعكاسات الضارة التي تنتج عنها أصداء غير محببة للصوت، ودار السؤال بعد ذلك، هل يمكن بناء صالة كونسير بنفس النسب الهندسية وبنفس الخامات التي بنيت بها هذه القاعة النمساوية؟ وكانت الإجابة على ذلك دراسات ومحاولات ونتائج عجيبة.
فمنذ قرون انهمك المعماريون في الإجابة على شتى الأسئلة الخاصة بالعمارة المثلى لقاعات الأوبرا او الاستماع، وانحصرت أبحاثهم في مجال خطوط تصل بين آلات الاوركسترا من مواقعها على المسرح، وبين آذان المستمعين في مختلف أماكن الصالة، وكانت خطوطهم على الأوراق تمثل دراسة أمينة لانعكاسات الصوت ولشتى الاحتمالات التي تؤثر فيه حتى يصل الى آذان المستمعين، وهم يتحكمون بذلك في شكل وزوايا تلك القاعة التي يتمثلونها على الورق لتكون من الناحية النظرية المكان المثالي للاستماع، ولكن للأسف يكون ذلك في معظم الأحيان هباء ومضيعة للوقت والطاقات، فهناك أسرار أخرى تتعلق بالصوت انتبه اليها واستخلصها المعماري الكبير أدولف لوس، الذي يعتبر حجة العالم في السمعيات، فهو يقول إن سمعيات أية صالة لا ترتبط بنسب بنائها التي تتشكل من عصر الى عصر وفقا للتطور المعماري، فحسب، ولكن المهم في الموضوع، هو مواد البناء التي تدخل على وجه الخصوص في التكوين الداخلي للصالة، وهو بذلك يزيل الستار عن حقيقة مهمة لم تخطر ببال علماء السمعيات من قبل، ولكنه مع ذلك اكد استمرار الحيرة والغموض أمام مشكلة السمعيات، فمواد البناء تختلف في تفاصيل دقائقها من بلد إلى بلد، ومن عصر إلى عصر، بل ومن فصل إلى آخر.
وفي مانشستر بإنجلترا، قاموا ببناء صالة للكونسير على نمط صالة فيينا الشهيرة وبنفس نسب مكوناتها ومواد بنائها، ولكن النتيجة كانت سلبية، وهناك مثل آخر مهم، وهو دار بلاط الأوبرا في فيينا التي افتتحت منذ ما يزيد على الثمانين عاما، وكان حفل افتتاحها مخيبا للآمال من الناحية السمعية، ولكن ما يثير الدهشة أن هذه القاعة تعتبر اليوم نموذجا لما يجب أن يكون عليه المسرح الغنائي من دقة ونقاء صوتي، والسبب في ذلك لا يرجع الى تغيير طرأ على الدار في نسب بنائها الداخلي، أو إلى أي تعديل في مواد بناء كيانها الباطني، وإنما يرجع إلى أن هذه الدار شهدت خلال هذه الثمانين عاما أحداثا موسيقية غيرت في تكوينها، فقد استقبلت خلال هذه السنين الطويلة موسيقى جيدة على أعلى المستويات ومن نوع واحد وعلى طابع واحد على الدوام، وهذا هو السر في الموضوع، فما نستطيع طبعه من أصوات على إسطوانة أو شريط في ثوان قليلة، يمكن ان ينطبع في كيان قاعات الكونسير والأوبرا في سنوات طويلة، إذا كان النشاط الموسيقي مستمرا فيها، وإذا كانت مواد ونسب بنائها جيدة، إن هذا السر العظيم يتكامل مع ما سجله بعض المؤرخين والعلماء عن القاعات القديمة بوجه عام، والخشبية منها بوجه خاص، فمما هو متفق عليه أن الخشب بالذات يتأثر بالصوت بشكل أكبر من سائر المواد، ويتمكن بشكل خاص من الاحتفاظ بالصوت، بل ومن اختزانه أيضا، وإعادته عندما يتجاوب مع ذبذبات صوتية مماثلة من رياح وخلافه، وما يقال عن بيوت الأشباح خاصة في البلاد ذات الحضارات القديمة مثل الهند والصين، يرجع في الواقع إلى أن الأخشاب المكونة لهذه المنازل تعيد اصواتا احتفظت بها منذ مئات من السنين عندما كانت تعزف الموسيقى في هذه القصور أو المعابد العتيقة.
وعلى أية حال فإن أداء الموسيقى الجيدة بشكل منتظم ودائم في قاعة للاستماع الموسيقي، ينتج عنه انطباع للموجات الصوتية الصادرة عن العزف، في المواد المكونة للبناء الداخلي للصالة، وهذه الانطباعات تؤدي الى تشكيل طفيف يساعد على امتصاص بعض الاصوات بنسب معينة، فيمنح الصوت جمالا توافقيا، ويقيه من الانعكاسات الضارة بالطبيعة الصوتية للقاعة، ومن الأسرار الغريبة المؤكدة، أنه لو عزفت موسيقى نحاسية (عسكرية مثلا)، لفرقة ما لمدة أسبوع واحد في صالة فيينا الشهيرة، لنتج عن ذلك، كما يؤكد أدولف لوس، ضياع وتدمير للقيمة الصوتية، التي تنفرد بها هذه الصالة، ولذلك يجب علينا تحديد أنواع الأداء الموسيقي في كل دار من دور العرض في بلادنا.
وللاختيار الاكيد للامكانيات الصوتية لصالة حديثة، يجب الاستماع فيها من كل ركن، بل ومقعد، الى شتى ألوان الأداء الاوركسترالي، والمنفرد، ولكل أنواع التعبير مثل القوي والضعيف وبشتى ألوان المزج الاوركسترالي، ومن ارتفاعات مختلفة على المسرح، وبذلك تتحدد لنا مواطن القوة والضعف في الصالة، لأنه حتى في الصالات الرديئة صوتيا توجد مواقع يكون فيها الصوت مثاليا، واخرى تكون فقيرة في استقبالها، بسبب أصداء وانعكاسات شاذة للأصوات، أو بسبب امتصاص زائد عن الحد المعقول للصوت، وقد قال المايسترو الشهير فورتفينجلر في ذلك "عندما أقود الاوركسترا في قاعة ألبرت الشهيرة بلندن، فإني أسمع الاصوات الخفيفة نقية جدا واضحة اكثر من اللازم، وعلى العكس من ذلك فإن الأداء الجماعي القوي جدا بالاوركسترا، يكون مشوشا وضعيفا".
وهناك آراء أخرى لمشاهير من الموسيقيين، منها أن الصوت في قاعة ألبرت هذه مثالي في أماكن معينة، أما من مقاعد أخرى فيكون استقبال الصوت باهتا ومشتتا ورديئا.
إني أتذكر جيدا قاعة الموسيقى الصغيرة بقصر بيتي بمدينة فلورنسا بإيطاليا، فقد وجدت الاوركسترا فيه تجلس بترتيب لم يسبق له مثيل على الاطلاق بأي مكان في العالم، فالفيولا مثلا، يجلس عازفوها بين عازفي التشيلو والكونترباص، والفلوت بين الفاجوت والكورنو، ولما تساءلت عن السر في هذا قالوا إن سمعيات القاعة تتناسب مع هذا الترتيب، وإننا بذلك نحصل على أعظم إمكانيات سمعية من هذه القاعة، ولولا ذاك لاستمعت الى أداء موسيقي ضعيف حتى لو قام بيتهوفن من قبره ليقود الاوركسترا بنفسه، هكذا يدرسون ويطوعون حياتهم للجودة، ويبحثون عن أفضل الامكانيات بالدراسة والبحث عن الحقيقة بالعلم والتجربة والمناقشة.
وعلاج الصوت في قاعة حديثة يعتبر امرا ممكنا في اغلب الاحيان، فهو يتم بدراسة الانعكاسات الصوتية في الصالة، وبتحديد خطوط الاصوات الصادرة من مواقع الآلات على المسرح إلى آذان المستمعين، بما في ذلك الانعكاسات ومدى قوتها، والقدر والنوعية اللذان يتم بهما امتصاص الاصوات بعد كل انعكاس، وتوضع في الصالة وفقا لوسيلة العلاج ستائر من القطيفة مثلا، أو ألواح خشبية رقيقة تثبت في مواقع معينة على الجدران، وذلك لتقوية الصوت او لامتصاصه بنسب معينة، وتنجح هذه التجربة مع مرور الوقت ومتابعة العلاج، إلا ان هذا البحث عن الجودة بدرجة اكثر من اللازم وإزالة الانعكاسات الصوتية تماما من الصالة يضر أيضا بالطبيعة الصوتية نفسها، بل ويقتل الأداء الموسيقي.
يقوم خبراء موسيقى الكنيسة في اوروبا منذ زمن بعيد باختبار الصوت في القاعات الموسيقية وخاصة قاعات الكنائس وهي خالية من الجمهور، ويدرس رئيس موسيقات الكنيسة بدقة مدى تجاوب الصالة مع مختلف أصوات السلم الموسيقي وتآلفاته حتى يتمكن في النهاية من اكتشاف الصوت الرئيسي الذي تتجاوب معه الصالة، وهذا امر يسير، إذا عرفنا أن كل صالة تعتبر كالصندوق المصوت لآلة موسيقية، وهذا الصندوق له رنين خاص يتجاوب مع أحد الأصوات الموسيقية بدرجة اكثر من تجاوبه مع الأصوات الأخرى، وبعد ذلك يقوم الموسيقي بعزف الصوت المميز للصالة لمدة طويلة يوميا على الاورغن قبل بدء النشاط الموسيقي بالكنيسة، فإن ذلك من شأنه تقوية امكانية التجاوب الصوتي للقاعة، وتجميل الاداء الآلي فيها، كما أن ذلك يكون من شأنه إزالة الشوائب الصوتية قدر المستطاع.
تلك الشوائب التي تنتج عن ترديدات زائدة وغير متوازنة للأصوات الطبيعية العليا التي لا تسمع بسهولة بالأذن المجردة، والتي تؤثر كثيرا على الطبيعة الصوتية للأداء الموسيقي، وتسمى هذه الترديدات غير المسموعة بشريا، بالاصوات الهارمونية او السمعية.
ويؤخذ في الاعتبار دائما أن الصالة وهي خالية من الجمهور، تكون ذات رنين وأصداء أكثر منها وهي مزدحمة بالبشر، وكلما ارتدى الجمهور ملابس صوفية أكثر، يزداد امتصاص الصوت، الامر الذي يكون في احيان كثيرة جدا ضارا بالأداء الموسيقي نفسه، واحيانا يكون مدمرا له، ويتوقف كل ذلك على طبيعة القاعة، فربما كان من الأفضل أن يخلع الناس معاطفهم قبل الدخول الى القاعة، واحيانا يكون ارتداؤهم للمعاطف إحدى وسائل العلاج السمعي للصالة.
وهذا ما يحسب له العازفون المنفردون وقادة الاوركسترا المتمكنون الف حساب في بروفاتهم النهائية.
هناك أخطاء سمعية تؤدي الى الاستماع الى صوت موسيقي غريب لم يقم أحد العازفين بأدائه، ومهما شد قائد الاوركسترا شعره، فالخطأ لا يكون من العازفين، بل يكون في احيان كثيرة خطأ سمعيا ينتج من ترديد أكثر من اللازم لأحد الأصوات التوافقية المصاحبة، والتي عادة لا تسمع بالأذن المجردة، ويزول الخطأ بمصادفة أخرى، مثل فتح باب ودخول تيار هوائي، أو تغيير في حركة شخص في القاعة، مما ينتج عنه تغيير في الصوت انعكاساته.
إن دراسة جيدة للطبيعة الصوتية للقاعة تمكن الموسيقي المتمكن والمثقف من اختيار افضل البرامج المناسبة من الناحية المقامية والهارمونية، بل ومن ناحية التوزيع، فهناك صوت رئيسي مفضل للقاعة، تماما كما يوجد صوت رئيسي لكل وتر او صندوق مصوت أو أنبوبة هوائية لآلات النفخ، وعلى ذلك يتم اختيار البرامج وأساليب التأليف المناسبة.
إن الأوركسترا والكورال بكنائس اوروبا الشهيرة لا يؤديان أعمال باخ الا في كنائس معينة، وذلك لعوامل معمارية بصرية وسمعية، فالعمارة القوطية تختلف عن عمارة عصر الباروك، ولا تتناسب مع الروكوكو، ولكل ذلك مقابل سمعي.
يوسف السيسي ـ دعوة إلى الموسيقى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير