الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في نتائج الإنتخابات التشريعية و الرئاسية التونسية

وائل بنجدو

2014 / 11 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


بعد أن عجز أيّ من المترشحين للإنتخابات الرئاسية التونسية (27 مترشح) على الحصول على نسبة 50% + 1 من أصوات الناخبين فإن الدور الثاني سيكون الفيصل بين المترشح الحائز على أكبر نسبة الباجي قايد السبسي(مرشح « حزب نداء تونس ») ، و صاحب المركز الثاني المنصف المرزوقي .
لكن القراءة المتأنِّية في نتائج الإنتخابات لا يمكن أن تتمّ بمعزل عن الظُّروف الموضوعيّة و الأحداث التي صاحبت الإنتخابات و فرضتها ، و أهمها هو الحدث الذي عاشته تونس منذ 17 ديسمبر 2010 و تحديد ماهيته . إن ما عرفته تونس هو إنتفاضة شعبية ، كان الأساس المادي لها هي الحالة الإقتصادية و الإجتماعية المتردية التي تعاني منها الطبقات الشعبية ، و سياسة الإفقار المتواصلة و التهميش الجهوي التي ينتهجها النظام التونسي منذ عقود . هذه الإنتفاضة أسقطت رأس النظام أما النظام بتشكيلته الإقتصاديَّة الإجتماعيَّة و الطبقيَّة و إرتباطاته الدوليّة لا يزال على حاله ، و لا يزال جاثما على صدور المضطهدين ، و هو ما يختلف عن مفهوم الثورة التي تعني الإطاحة بالطبقات الحاكمة المرتبطة بالإستعمار و وصول الطبقات المحكومة و من يعبِّر عنها للسلطة . وجد النظام نفسه مجبرا لتقديم تنازلات للمحتجين و إيهامهم بتغيير جوهري في بنيته و توجهاته ، و التي كانت بالأساس تنازلات سياسية مثل الحريات العامة و الفردية و حرية التنظم و التظاهر(بشكل نسبي) و التضحية برأس النظام مع المحافظة على النمط الإقتصادي السائد في تونس . كما أدرك النظام ، بعد الضربات المتتالية التي هزت أركانه ، أن السيطرة على المجتمع و السلطة لا يمكن أن تتواصل بنفس الطريقة ( أي الحزب الواحد و الرجل الواحد و الفكر الواحد ) ، فأدخل آليات و ميكانيزمات جديدة تتماشى مع متطلِّبات المرحلة و تضمن إستمراريَّته ، و منها الإنتخابات و التعدديَّة الحزبيّة ( و هي تُعد من المكاسب الجدية لإنتفاضة 17 ديسمبر التي لا يجب الإستهانة بها ) .
فكانت الإنتخابات التشريعية ، في 26/10/2014 ، لإضفاء شرعية جديدة على النظام بعد تآكل شرعية حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة الإسلامية الناتجة عن إنتخابات 23 أكتوبر 2011 ، وتَلتها الإنتخابات الرئاسية في 23/10/2014 .
أولا و قبل الخوض في تفاصيل هذه النتائج ، هناك ملاحظة مهمة يجب أخذها بعين الإعتبار و هي نسب المشاركة في هذه المحطاَّت الإنتخابيَّة التي بلغت تقريبا 63 بالمائة من المسجلين في قوائم الناخبين . و إذا حوَّلنا هذه النسبة إلى أرقام ، حتى نقترب من الواقع أكثر، فسنجد أن عدد المقترعين يساوي تقريبا 3 ملايين و 300 ألف من جملة أكثر من 8 ملايين نسمة تتجاوز أعمارهم 18 سنة (حسب المعهد الوطني للإحصاء في تونس ) أي من يحق لهم الإنتخاب . أضف إلى ذلك أن عدد المقترعين في الإنتخابات التشريعية تراجع بمليون فرد بالمقارنة مع إنتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 2011. و قد شهدت محافظات القصرين و سيدي بوزيد و القصرين أقل نسب مشاركة بالمقارنة مع باقي محافظات البلاد و هي مناطق معروفة تاريخيا بالتمرد و الحركات الإحتجاجية ضد النظام . إن هذه الأرقام تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الغالبية الساحقة من الشعب التونسي قاطعت العملية الإنتخابية سواء في مرحلة التسجيل أو الإقتراع . و يعود ذلك أساسا لإهتزاز ثقة الطبقات الشعبية، التي فجرت الإنتفاضة و قاطعت الإنتخابات ، في العملية السياسية برمتها و في الأحزاب السياسية بشكل خاص التي روَّجت الأكاذيب و أوهمت الجماهير بالجنة المنتظرة في حال وصولها للسلطة فلم تر منها غير إزدياد الفقر و البطالة و غلاء الأسعار بشكل غير مسبوق و إنتشار التنظيمات الإرهابية الظلامية. إن الثورات الحقيقية هي التي لا تقصي صنَّاعها من المشاركة في بناء الوطن الجديد و لا تخدعهم مثل ما هو حاصل الآن ، و لنا في إشراك الجماهير في الثورة و البناء أمثلة تاريخية لا تُمحى مثل الثورة الروسية في 1917 و الثورة الصينية في 1949 .

بعد سيطرة اليمين الديني المتمثل في حركة النهضة على المشهد السياسي لمدة ثلاثة سنوات ، جاءت الإنتخابات التشريعية لتعيد ترتيب الأوراق ، حيث عاقب الناخبون ـــ وإن بشكل نسبي ـــ حركة النهضة التي تراجعت للمركز الثاني بينما إحتلت حركة نداء تونس المركز الأول . و تعود خسارة حركة حركة النهضة أساسا للأسباب التالية:
ـــ عجز « الحركة » عن الوفاء بوعودها للناخبين و إفتضاح زيف وعودهم و كذبهم ( وعد القيادي نور الدين البحيري بحركة النهضة في إنتخابات المجلس التأسيسي في 2011 بتوفير 400 ألف موطن شغل ).
ـــ تدهور الظروف الإقتصادية و الإجتماعية للجماهير خلال فترة حكم الترويكا، بسبب المواصلة في نفس الخيارات الإقتصادية اللاوطنية و اللاشعبية ، من رفع للدعم عن المواد الأساسية و توجه نحو خوصصة بعض المؤسسات العمومية ، و الإرتهان لإملاآت صندوق النقد الدولي و البنك العالمي و الإتحاد الأوروبي .
ـــ إطلاق حركة النهضة الإسلامية العنان للسلفيين و لميليشيات « رابطات حماية الثورة » التابعة لها للإعتداء على النقابيين و المعطلين و المبدعين و الطلبة في كثير من المناسبات .
ـــ بروز ظاهرة الإرهاب بقوة ـــ و هي تعد غريبة عن المجتمع التونسي ـــ و الإغتيالات السياسية و إنتشار السلاح ، و إتهام حركة النهضة من قبل الأحزاب السياسية و « المجتمع المدني » و الجماهير الشعبية بالتورط في هذه الجرائم.
ـــ إحساس الناس أن النمط المجتمعي التونسي مهدد في ظل حكم الإسلام السياسي ، و هو تهديد حقيقي كشفت عنه بعض ممارسات و تصريحات قيادات حركة النهضة ، و لا أدلُّ على ذلك النسخة الأولى للدستور التي تقدمت بها الحركة و التي لم تتمكن من تمريرها بفضل رفض بعض النواب و تصدي بعض منظمات المجتمع المدني لتلك النسخة . ( تظاهر آلاف في عدة مناطق في تونس ضد مصطلح ورد في تلك النسخة يقول »المرأة مكمل للرجل » و طالبوا بتغييرها ب « المرأة متساوية مع الرجل » ).
ـــ مواجهة حكومة النهضة لبعض الإحتجاجات بأسلوب قمعي أعاد للأذهان فترة حكم « بن علي » ، و فضح زيف الإدعاآت الديمقراطية التي يتشدق بها الإسلاميون مثل أحداث سليانة الشهيرة التي فُقِئت فيها أعيُن بعض المحتجين بسبب إستعمال قوات الشرطة ل »الرّش » . و للتذكير هنا أن « الصادق شورو » النائب في المجلس التأسيسي عن « حركة النهضة » قد طالب بصلب و تقطيع أوصال المحتجين ، في إحدى مداخلاته ، مستشهدا بآية قرآنية ، كما حرّض « الحبيب اللوز » القيادي بالحركة و النائب بالمجلس ضد الشهيد شكري بلعيد الذي تم إغتياله لاحقا بتاريخ 6 فيفري 2013 .
ـــ إنطلاق خطوات تحديثية مهمة منذ فترة ما قبل الإستعمار للبلاد ، خلافاً لكثير من الدول العربية والإسلامية.
ــــ إنحسار « الإخوان المسلمين » على المستوى الإقليمي منذ سقوطهم المدوي في مصر إثر الإنتفاضة الشعبية ضدهم في 30حزيران 2013 ومحاصرتهم من قبل الجيش المصري .

أدَّت كل المعطيات السابقة لعزل الإسلام السياسي شعبيا و سياسيا و تُرجم هذا العزل إنتخابيا ، لكن الأسباب السابقة و إن كانت تفسّر خسارة « حركة النهضة » فإنها لا تفسّر إنتصار اليمين الليبيرالي المتمثل في « حركة نداء تونس ». صحيحٌ أنَّ الناخب التونسي قرر معاقبة « الترويكا » و مكونها الرئيس « حركة النهضة » لكنه بَحَث، في المقابل، عن القوة السياسية التي تُطمئِنُه على مستقبله ، فوجد في « حركة نداء تونس » ظالّته لأنها صوَّرت نفسها أثناء حملتها الإنتخابية القوة الوحيدة القادرة على الدفاع عن المكاسب الحداثية للمجتمع و إعادة الأمن للبلاد ، بعد أن كاد يصبح خبر العمليات الإرهابية و قتل الجنود يوميًّا . و هنا يأتي دور الإعلام و المال السياسي و القصف الممنهج للعقول بهدف صناعة الرأي العام وتهميش القوى اليسارية و الوطنية ، حيث تحوَّلت مؤسسات سبر الآراء لوسائل لصناعة الرأي و ليست لإكتشافه . أضف إلى ذلك الدعم الذي تقدِّمه الدول الإمبريالية( خاصّة فرنسا و أمريكا) لهذا الحزب و غيره من الأحزاب اليمينية التي تضمن لها مصالحها الإقتصادية بالبلاد . إن ما يتمّ إنتاجه ، منذ هروب « بن علي » يوم 14 جانفي 2011 ، و ما أصبح يعرف ب »الإنتقال الديمقراطي » لا يعدو كونه إيجاد صيغة للحكم يتنافس في إطارها اليمين الليبيرالي و اليمين الديني للوصول للسلطة مع المحافظة على جوهر النظام و إختياراته الأساسية و بنيته الطبقية و ما يترتب عنها من تبعيَّة و فقدان للإسقلال الوطني الفعلي . و هو شبيه بما حدث في بعض بلدان أوروبا الشرقية إبَّان سقوط الإتحاد السوفياتي ، التي تحولت في ما بعد لقواعد ل « حلف الناتو ».

و لم تكُن الإنتخابات الرئاسية في يوم 23 نوفمبر 2014 ، سوى محطة جديدة تعزِّز هذا التوجه حيث كانت تكرارا لسيناريو الإستقطاب الذي حدث في الإنتخابات التشريعية بين « حركة النهضة » و « حركة نداء تونس » . و قد ركَّزت الحملة الإنتخابية ل »الباجي قايد السبسي » (مرشح « حركة نداء تونس » ) على إستهداف « المنصف المرزوقي » من منطلق كونه يمثِّل المرشح غير المعلن لحركة النهضة ، بعد أن إتّضح لها من خلال الإنتخابات التشريعية أنه إذا ما إنحصرت المنافسة بينها و بين الإسلام السياسي ، الذي يعيش خسائر سياسية إقليمية و دولية ، فإنَّها ستكون أمام طريق مفتوح للوصول إلى الرئاسة . هكذا إذن تجنَّبت « حركة نداء تونس » بخُبث الدخول في نقاشات و سجالات مع مرشحين يصعب هزيمتهم حتى تُبعِد أنظار النَّاخبين عنهم ، و سعت إلى أن تسحَب معها « المنصف المرزوقي » للدور الثاني و هو ما نجحت فيه . كما تبيَّن أن الفارق بينها بعيد نسبيًّا و أن مهمة حليف النهضة المنصف المرزوقي أصبحت صعبة .
أمّا المركز الثالث فقد كان من نصيب المرشح اليساري عن الجبهة الشعبية « حمَّة الهمَّامي »بنسبة تقارب 10 بالمائة و قد كان واضحا أن حملته الإنتخابية مدروسة و ذكية سواء من حيث الأداء الإعلامي على شبكات التواصل الإجتماعي أو من حيث إختيار مناطق الزيارات الميدانية بعناية و الخطاب الموجه للناخبين . و قد أثبتت الإنتخابات الرئاسية و من قبلها الإنتخابات التشريعية أن « الجبهة الشعبية » ستكون رقما مهمًّا في المشهد السياسي الجديد ، و هو ما جعل « عدنان منصر » رئيس الحملة الإنتخابية للمنصف المرزوقي يطلب دعمها بوضوح في الدور الثاني كما بدأ قادة « نداء تونس » في مغازلتها آملين بنصيب من أصوات قواعدها . يبدو جليًّا أنَّ « الجبهة الشعبية » تحقق تقدُّما لافتا في ما يخص آليات عملها الدعائية و قاعدتها، و ستواصل تقدمها إذا حافظت على وحدتها في المحطات السياسية الهامَّة مثل الإنتخابات البلدية و الموقف من الدخول في الحكومة أو البقاء خارجها ، و خاصة إذا كان لها خطّ تمايز واضح مع اليمين الديني (أي « حركة النهضة ») و اليمين الليبيرالي (أي « نداء تونس ») عملا بمقولة لينين: » لو خُيرت بين اليمين و اليمين لاخترت خوض معركتي « .

إنّ تغيير النظام ، الذي تبيَّن أن اليمين سيسطر على مؤسّساته كافّة ( حكومة ، برلمان ، رئاسة جمهورية ) ، يتطلَّب التوجه لقاعدة بشرية واسعة مهمَّشة و منسيَّة ، تتمثَّل في الملايين التي قاطعت العملية الإنتخابية (سواء في التسجيل أو الإقتراع) و في الآلاف التي إنحازت للليسار في الإنتخابات ، بهدف تنظيمها و الإرتقاء بوعيها لأنّ الفكرة حين تشقّ طريقها إلى عقول المضطهدين تصبح قوّة مادية للتغيير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد كيف تحولت رحلة فلسطينيين لشمال غزة إلى كابوس


.. قتلوها وهي نائمة.. غضب في العراق بعد مقتل التيكتوكر -فيروز أ




.. دخول أول دفعة من المساعدات الإنسانية إلى خانيونس جنوبي قطاع


.. على وقع التصعيد مع إسرائيل .. طهران تراجع عقيدتها النووية |#




.. هل تتخلى حركة حماس عن سلاحها والتبعية لطهران وتلتحق بمعسكر ا