الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عربة الليل

عقيل الواجدي

2014 / 12 / 2
الادب والفن


(( عَرَبة الليل ))
قصة قصيرة
عقيل فاخر الواجدي
وحدها الشوارع المتربة تمنح الاجساد طعم المدن ، ووحدها من تزرع الحنين زرع الفسائل على ضفة نهر ، لغبارها ذاكرة تخالط الصدور ، لسواقيها احجية الاقدام التي تجتازها حذراً ، مولعة بالقرابين التي ما انفكت تقدمها تقدمها ،فالفقراء وحدهم من يمنحون بسخاء ، اللافتات السود اوسمة تتشح بها واجهات البيوت ، العمر محطة لاتقف فيه الا العربات الصدئة ، المارون لا يتركون اثراً فالريح تسفُّ البقايا من خطواتهم ، عوّده الحنين ان يمر من هنا ، يرقب الوجوه التي يخط الزمان تجاعيده عليها اسرع مما ينبغي ، والاطفال التي تنبت من الارض لم يستعص عليه معرفتهم فهي تكرار لوجوه شاخت الان ، الشارع الترابي يمتد طويلا يحمل في كفيه صفين من البيوتات التي اصطبغت بلون العتمة الا من اضواء خافتة تنبعث من بعض الشبابيك التي تخلت عن ستائرها ، التصاق الدور ببعضها هو شأن البيوت البسيطة واناسها ، لا وجوه يتصفحها في هذا الليل الصيفي فقد حط متأخرا بعض الشيء عائدا من مدينة اخرى ، صوت عربات القطار لازال يدوي في رأسه ، مذ عشرين عاما وذات الدرب والبيوتات لم يتغير منها شيء ، لذا لن يعيقه الظلام في ان يستدل خطاه ، فهو يعرفه خطوة خطوة ، وبيتا بيتا ، اعمدة الكهرباء اشباحا تقف على طرفي الشارع تتشح ظلمتها بلا اضوية الا ذلك العمود الواقف نهاية الشارع كأنما هو دليل نهايته فلازال مُنارا كعادته ، هي عادة صاحب الدار المقابل له في ان يستبدل المصباح كلما تلف ..
هو العمود الذي يتحلق من حوله الصبية حتى اوقات متأخرة من الليل هربا من حر البيوت ، كان مبهجا بنوره لأرواح سئمت الظلمة ، لوجوه وجدت فيه الاُنْسَ لتصطف من حوله ، تبعثر منها الافواهُ كلمات المُزْحِ واحاديث الفطرة وافشاء الاسرار ، كان ما ينشره من ضوء هو حدود العالم الذي تدركه حواس الليل الغارق بالصمت الا من همهمات تتنفسها السطوح التي هي ملاذ الفقراء في الصيف . اقترب منهم – الاطفال – واسند ظهره للعمود متلافيا نظرات الاستغراب التي بدأت تسوقها الاطفال نحوه ، الغرباء لا ينبغي الاختلاط بهم ، هكذا هي وصية الاجيال لبعضها ، لكنهم لم يستشعروا غربته ، هو واحد منهم شمّوا غبار الشارع المترب فيه وانفاس البيوت الطيبة 0 قرأوا في عينيه وجوه الصحب الذين غيبهم الموت - ولمّا تخضرّ احلامهم – ضريبة لأحلام نَزِقٍ لا تنتهي في ان يسود الدنيا ، ووجه حبيبة ربما هي امُّ احدهم ، دلّهم على البيت الذي كان يقطنه هنا مع ابويه قبل ان يغادروه من عشرين عاما ، كما هو ببابه الخشبي يحفظ وقع انامل مرت به ..
النعاس يداهم الوجوه التي تسمرت ليلتها تصغي لهذا الزائر الذي حط ببساط ريحه ليحدثهم عن اناس كانوا هنا ، عن وجوه اتشحت صورها بأشرطة السواد ، لتنسحب تباعاً نحو البيوتات التي لا توصد ابوابها الا بقدر ما يمنع المارين رؤية ما فيها ، ابوابنا قلوبنا - هكذا يردد صاحب احد البيوت – فلا نغلقها لأنه لا يدخلها الا من نريد ، دلف من الباب بخطواته المتعبة مارا نحو السلّم من الفسحة المربعة التي تجمعهم معا اثناء النهار ، صعدت به السلمَ خطواتُه المترنحة ثقلا مستندا الى الحائط ، ارتمى بثقل جسده الى السرير المركون في زاوية الغرفة الوحيدة التي تقبع في الطابق العلوي ، المطلة على باحة السطح الذي يتوسده الجميع .
الشمس التي تسللت اليه عبر النافذة جعلته يتقلب على فراشه تلافيا لها ، الهروب من الشمس في فصل الصيف كالهروب من الجوع حال العوز كلاهما لا يجديان نفعا ، استند الى حافة السرير متلافيا ما استطاع ضوء الشمس الذي اشعره بظلمة الجدران ، حاول ان يجرب اغفاءة اخرى لولا لحظة الدهشة التي مرت به كصعقة ، تفرس فيما حوله فكل ما في الغرفة ليست له ، لا الصور المعلقة ولا لون الحيطان ولا حتى السرير الذي ينام عليه حتى خاله انه لازال نائما وانما هو حلم لا غير !!
بادره الباب بوجه اطل عليه بصوت كمالنسمة من جوف ناي ، انعقد لسانه عن رد التحية فقد ابهره الوجه حتى نسي ما كان به ، أية امرأة تلك التي تسوّرت محراب دهشته فأشغلته عما هو فيه !! هو وجهها ، باستدارته وعينيها السوداوين ، بتقاسيم الزمن الذي عزف على ذؤابتيها لحن البياض ..
الصمت يبتلع الوقت لولا انها اردفت : كيف حالك الان ؟
ضياع المفردات هو المعتاد في هكذا امر ، حقبة مظلمة مرت بذاكرته حالت دون تذكراي شيء ، دهاليز مظلمة هي الذاكرة لا انفراج فيها . انتصب في جلسته ، مـَ .. مـَ .. من انت ؟! وانا اين ؟! بشاشة الوجه منحه الاطمئنان وتلك البسمة التي تسلقت خلسة الى شفتيها ، اتمنى انك الان بخير ، التعب كان باديا عليك ليلة البارحة ، حقيبتك تحت السرير وضعتها لك ،
- اها .. نعم ، حقيبتي !! امتدت يده ساحبة اياها من تحت السرير لعله يجد فيها اجابات لهذا الكم من التساؤلات التي ارتسمت امامه ، نعم انها حاجاته وملابسه ، ضغط بكلتا يديه على فوديْ رأسه محاولا التذكر ، ما لذي جاء به هنا !
- كنتَ نائما الى العمود وقد احضرك ابي حين عودته ، اجابة قطعت عليه كل حيرته وتساؤلاته ، كنتَ في غيبوبة تامة 0
- آه .. العمود ، يالغبائي ، انه القرص المنوّم
- اظن انك الان افضل
- نعم اظن هذا .
قطعت عيناها عليه محاولته للاستئذان كإنما بثت الخدر فيه ، تداركت تبريره بالتعب الذي جاء به الى هنا بابتسامة اشعرته بالسذاجة ان تحجج بالتعب في مدينة لا تعرف سوى التعب !
النوم وحده من سيجلد هذا الحرج بسكونه ، عليه ان يعود له ، ووحده من يمنحه البقاء حيث وجهها يرقبه ، يتماوج وجهها امامه وهو يستسلم للنوم ، ليس الاّ وجهاً بلا ملامح يختفي رويدا رويدا من امامه ، العربات تخبّ الليل ، تسحب نفسها عابرة به باتجاه مدينة اخرى غير ملتفتة لوجوده ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا