الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رمزية الفنانة فيروز في الثقافة الفلسطينية.

فيليتسيا البرغوثي

2014 / 12 / 10
الادب والفن


الجزء الأول

لا تهمني كل التحليلات التي حاولت أن تضعها والرحبانة في دائرة "الاتهام الطبقي او الطائفي أو غير ذلك. ما يهمني أنني أدمنت صوتها كما أدمنه الملايين". والإدمان يحدث حين يضرب المادة الفاعلة فيه، تكوينة أجسادنا البيولوجية، ليستقر في عروقنا ودمنا. وهكذا فعل صوتها بنا. فعلت بنا الحنجرة والكلمة واللحن ما فعلته، فتسلل الغناء الفيروزي صوتا ولحنا وكلمة لعروقنا، بحيث أدمناه على "طقوس" صباحاتنا اليومية، في احتفالاتنا الوطنية، في بكائنا على القدس والهوية، في حلمنا بالعودة للأرض "المنسية"، وفي تعبنا من الحلول الدبلوماسية.

نعم توقفت فيروز عن الغناء لفلسطين في فترة مبكرة من السبعينيات، إلا أن حنجرتها كانت سخية كل السخاء في الفترة التي تبلورت فيها مكونات القضية الفلسطينية بتفاصيلها. سخت حنجرتها علينا كسخاء دم الشهداء فداء للأرض، فلسطين الوطن الذي عشقته حنجرتها، كان بوصلة لصوتها الذي عرّى كل ما سكن الفلسطيني من هم وألم وقهر وحلم.

أصبح صوت فيروز يشكل جزء من ثقافة الفلسطيني، كمؤشر على ما يكنه القلب الفلسطيني الباكي على وتر اللحن والموسيقى الراقية والكلمة المسؤولة. وكأن صوت فيروز استحضر معه ما يختزن داخل الضمير الفلسطيني والعاطفة الفلسطينية تجاه فلسطين. الضمير الذي تنهض من صلبه صور الصمود والمقاومة والقدس والعودة، تلك الصور التي شكلت "الذاكرة الجماعية" للفلسطينين، ورسمت معالم "القصص المشتركة وملامح الحلم. فالأرض في "وسلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة"، والعودة في "راجعون" والقدس في زهرة المدائن. والذاكرة الفلسطينية في " فيكن تنسوا"، "ونهار أخر""سنرجع يوما" و "بيسان" و"جسر العودة" و"سنرجع يا يافا" و "أجراس العودة" و " سيف فليشهر" و " سافرت القضية" . كل هذه الأغنيات وغيرها أصبحت رمزا في ثقافة الفلسطيني الوطنية والسياسية، حين وجدت لنفسها حيزا هاما نبع من حاجة الفلسطينيين للتنفيس العاطفي عن القهر الذي حلّ بوطنهم، فجاء هذا التنفيس عبر الغناء المتمثل في(الحنجرة الفيروزية)، والموسيقى المتمثلة في (الألحان الرحبانية) والنص الملتزم في (كلمات الرحابنة، وكلمات شعراء آخرون غنت لهم فيروز) لتكون النتيجة "مدرسة فنية" متكاملة، حملت هوية غنائية أثبتت جدارتها واستحسانها حين استقطبت لملايين الآذان الصاغية والراغبة والمصقولة والمرهفة والمثقفة.
فيروز كانت وما تزال ظاهرة أحبها الجمهور الفلسطيني، كما العربي. لم يقتصر صوتها على مكنون الذات ودواخلها، بل مثلَ مستوى معين من الفكر الوطني والسياسي والاجتماعي المحيط بالفرد الفلسطيني، مما نجح في إحداث "حراك فني– إنساني" فرض بنفسه كحاجة إنسانية راقت للكثيرين، عبر صدق الكلمة المغناة، ومسؤولية النص المكتوب، وإيحاء اللحن الموسيقي المحفز على الانتماء للأرض والشعب والقضية. لم يكن ما وصفه بها كبار الأدباء والشعراء عبثا، فالشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش يمجد تجربة الرحابنة بقوله "قدم الرحابنة فنيا لفلسطين، ما لم يقدمه الفلسطينيون أنفسهم. ولقد أشهر الفلسطيني هويته الجمالية بالأغنية الرحبانية العربية حتى صارت في إطار قلوبنا المرجعي، هي الوطن المستعاد، وحافز السير على طريق القوافل"

صوتها جاء إبداعا ساهم في تحريك القضية الفلسطينية وتوجيهها للمنحى المقاوم المنطلق من الحق الذي لا سبيل للتنازل عنه. صوتها شكل قاموسا خاصا للقضية الفلسطينية وللفلسطينين، حين شمل مكونات هذه القضية: نكبة ونكسة لجوء ونزوح وعودة، ثورات ومجازر وحروب وانتفاضات وكفاح مسلح وسلام واتفاقيات وتهدئة وانقسام... أبدعت فيروز في إقحام فنها بنجاح في هذا القاموس ونجحت أغانيها حين شكلت جسرا هاما للتذكير الفني والموسيقي بهذا القاموس.
ولعل أكثر ما يدلل أن هذه الصوت كان جزءا من أدوات المقاومة الفاعلة في إبراز الحقائق والمشاهد التي رغب الإسرائيلي بمحوها منذ البداية، حين شكل صوت فيروز غصة في نفس الإسرائيليين، بحيث وصل الحقد الإسرائيلي إلى حد القيام بحملة إعلامية شرسة ضد فيروز كما أشارت العديد من الادبيات. وقد دلل صحفي من صحيفة معاريف الإسرائيلية على هذا حين كتب: "اسم (فيروز) يدل على البخل، فصاحبة هذا الاسم لم تعط هارون الرشيد في ألف ليلة شيئا إلا بصعوبة بالغة! وهي بالفعل تغني في حفل عام كل خمس سنوات." واعترف الكاتب مباشرة أن صوت فيروز يشبه "أمواج من البحر العربي الذي يريد أن يغرقنا." وأضاف قائلاً "لم أحب أبدا صوتها، انه صوت يهدر من جبال الظلام التي لم نكن لنصل إليها إلا بعد اتفاقيات السلام. إنها لا تتحرك على المسرح أمام الجمهور المتحمس، كأنها كتلة من الملح أو الثلج!" ثم كشف الصحفي عن سر غضب الإسرائيليين من فيروز بقوله: "أكتب هذا الانتقاد وأنا حزين فهذا يدل على أن اندماجنا في المنطقة حلم حزين، إن أغانيها تصيبني بالدوار فهي الأغاني التي تنادى بقذفنا للبحر."

رحلة الرحابنة مع الأغنية لفلسطين بدأت في عام 1954، وبالتحديد من خلال تنفيذهم لأغنية " راجعون" كأول عمل ربط الرحابنة بالقضية الفلسطينية، كما أشارت العديد من الأدبيات. فيها طالب الرحابنة، الذين اضطروا لترك أراضيهم بعد نكبة عام 1948 للعودة إلى ديارهم. في مقال كتبه محمد منصور للقدس تحت عنوان "القدس في ذاكرة الأغنية العربية"، عام 2009 قال فيه "تشكل التجربة الرحبانية، حجر الزاوية في أغاني القدس والقضية الفلسطينية... ولئن تقدمت بعض المساهمات الفنية المحدودة على هذه التجربة من حيث التسلسل الزمني، فإن ما قدمه الرحابنة مع السيدة فيروز، شكل حالة ريادية على مستوى النوع... ونقطة علام في مسار الذاكرة الطويل منذ قدموا أولى أعمالهم في هذا السياق، مغناة راجعون ولذلك لا بد أن تكون البداية من حالة الإلهام الرحباني، نظراً لتنوع وغزارة الأعمال التي قدمتها في هذا السياق، من جهة، ولقدرتها على البقاء في الوجدان بعد مرور عقود على ظهورها من جهة أخرى"
عند التدقيق في كلمات هذه الأغنية نستعيد حرفيا ما قاله هاشم قاسم أيضا في هذا السياق، وعلى لسان نزار مروة، "أغنية"راجعون" "تجاوزت جميع أشكال البكاء العربي العام وتخطت الحماسات الفارغة، حين كانت على مستوى عال من الفكر الموسيقي الأرقى". وفي حوار كان هاشم قاسم قد أجراه مع منصور رحباني حول هذه الأغنية، ونشر في المستقبل العربي تحت عنوان "الغناء الفيروزي في المسرح الغنائي الرحباني"، قال رحباني "كنا نخشى أن ينشأ بمرور الوقت جيل من فلسطين ليس عندهم الحنين الكافي للاندفاع واسترداد الأرض، لذلك كانت "راجعون."

لخصت أغنية راجعون الحالة الثورية التي تلبست الرحابنة تجاه القضية الفلسطينية، حيث مأساة "اللجوء" دون البكاء على حالة اللجوء بل بالدعوة لكسر هذه الحالة، عبر توصيف هذه الحالة التي استدعت فعل التشريد، والبحث عن ملجأ والنوم تحت الشرفات، والنوم في الخيام والنوم في الظلام، حفزتهم ودعتهم إلى الرجوع إلى الديار، فعل القيام وفعل النهوض يجب أن يتغلب على فعل التشرد:

وقوفا وقوفا أيها المشردون وقوفا يا ترى هل تسمعون؟
يا نائمين تحت كل شرفة يا ساهرين عند كل عطفة
هبو من الخيام هبوا من الظلام

يصل الرحابنة في آخر المغناة إلى جوهر الحقيقة التي يفرضها التشرد، وإلى معنى الأمل الذي يؤسس لفعل المقاومة والأمل بالتحرير،فالعودة حق غير قابل للمساومة، للاستكانة، أو الخنوع، وغير قابل لتبدلات الحالة العامة، وتقلباتها. العودة حق ثابت لا يقبل التأويل أو التنازل. هي حق يجب إن تحتل المطالبة به كل جزء من الزمن الذي تتغير وتتبدل ساعاته ومواسمه وفصوله وحالاته:

في هدأ السكون في رهبة الحصون
أصحابنا على الطريق يهتفون
في الأمطار راجعون في الإعصار راجعون
في الشموس في الرياح في الحقول في البطاح
راجعون راجعون راجعون

يتبع الجزء الثاني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81