الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصح النفسي -فصل من رواية- 4/1

أحمد عبد العظيم طه

2014 / 12 / 19
الادب والفن










الكذب شيء سيء، يتقنه الصادقون كما ينبغي.












(1)

العالم بهذا المكان يحدث على شاكلة مريبة، كثيرة العُقد، وينحو إلى الغموض كلما تلاءمت الظروف وطبيعته الغالبة. المكان بهذا العالم وارد التكرار رغم أنه ليس وارد الحدوث، مثير للكوامن من المخاوف والهواجس، خيالي، مقبض، يحتوي ما يحفز على البقاء والرحيل في آن معًا. هناك نوع من الغنوص الروحي يعم أجواء عالم المكان برمتها. كذلك الصمت. فالصمت ضالع عندنا في حياتنا معظم الأحيان منذ فترة. أما إذا جرى صوت فهو: صراخ.. هراع.. نقاشات متعقلة بما لا يناسب سمت المكان.. سجال (أو جدل) غير منطقي (أو مشوش) يصل إلى هذي المرء بما لا تحويه رأسه.. نهنهة وحرقة وبكاء بلا صوت.. غمغمات هامسة مليئة بالحيرة، والرجاء، وأحاسيس مريبة على أقل تقدير!.
كان يوجد تقويم في كل حجرة، ينزع عنه اليوم المنقضي بانتظام من قبل عاملي النظافة. وكان في مواجهتي كلما استيقظت، توجد ساعة حائط من ذات العصفور وتعمل (وبالمناسبة فهي تشير الآن إلى السابعة والنصف وحسب). هناك بالمثل ساعة يد رقمية، غالية، عاملة، تقبع بحقيبة متعلقاتي. كل أدوات قياس الوقت كانت لدي، زيادة عن توفر الكثير من الوقت لعمل ذلك، عدا أنني لا أدري بالضبط متى جئت إلى هنا!. عام. عامان. بضع سنين. أكثر. أقل. الوقت ليس مهمًا. فلا يهم الوقت حاليًا في شيء. حاليًا في أي شيء قد يهم الوقت؟. لا شيء تقريبًا. هذا أن الجدير بالذكر سيكون هو العالم – العالم المشمول بهذا المكان. المكان الذي تجري به أحداث العالم على شاكلة مريبة – أو قل "شاكلة مريضة" إذا ارتأيت أن هذا سيُعد قولاً وجيهًا من حيث تولي وجهتك. فهنا قد تبِيِنُ أبعاد المرئيات مدعاة سخط لكثرة الالتباس بين الأفقي والرأسي. وهنا، على صعوبة الأمر، يُدعى الناس بالسيماءِ والشبهِ، كإحداثٍ لعرفٍ جديدٍ يميز مجموعهم. كما يجوز هنا للحياة أن تفاجأ أحياءها بأنها تمضي كأنما هي قد مضتْ بالفعل، وأنه ليس من داعٍ ملحٍ للتمسك بحساب الأعمار وفقًا للأيام والشهور والسنين. جملة المعطيات التي تتبدى نهاية في نطاق التصور؛ كقوس قزح يأتلف ضاربًا بقاعة مغلقة.. كقوس قزح يلتمع انعكاسه بعين ميت.. كقوس قزح لا يقتصر على أحد فكل ينتزع قوس لونه ويستهم.. كقوس قزح فقط لا غير.. أو أنه قل: تبًا لها من تشابيه تتداعى!.

أنا أدعى الشيخ محرم، ولكنه ليس اسمًا حقيقيًا كما يبدو لوهلة خاطفة، بل هو ما خلعه عليَّ أناس صاروا لي رفاقًا فيما بعد. كان كل شخص من القدامى له دور في تسميةِ وافدٍ جديد وفقًا لهواه الشخصي، أو هو طابعه الاعتلالي المنوط به إذا رجح المريض على السليم. ثم إنهم كانوا يستقرون جماعة على أكثر اسم إثارة للضحك كَاَنَهُ المُسمى أثناءَ الاقتراع.
ومثلما يليق بـ "مصح نفسي خاص"، يقوم بأحد أنقى أحياء المدينة هواءً ومادةً، كانت الحديقة مسيجة بسور بالغ الارتفاع – غرضَ أن يحجب الرؤية عن شرفات عددٍ من جيرة السرايات المتاخمة. وعلى الرغم من سوء ذلك بالنسبة لي، كذا تواضع حيازتها الكلية من الأرض مقارنة بما عرفته من شساعة أشباهها؛ إلا أن الحديقة كانت غاية في الحُسن والبِدْع والسكينة والذوق الرفيع جدًا. فئة الصفات الموحية بسمو أرواح المصممين، الجميلين، والمنتشرة بكل المكونات والتفاصيل على الأرض. مثلاً، بتجنيس وتنسيق أحواض الزهر في هذا التدرج اللوني الباعث على البهجة والراحة.. باختيار عشبة الحبق البري كإطار موحد لتلك الأحواض.. بسيمترية أشجار الزينة نسبة إلى المسطح النجيلي متفاوت الاخضرار– ما يعطي انطباعًا عامًا بوجود نظام عام.. بروعة تشكيلات الجرانيت والبازلت المستخدمان في تعبيد الممرات.. الجسور الخشبية الصغيرة المقوسة.. المياه الجارية للجدول الشُّعبي الذي يتوسط المساحة منبعه الهادر – الذي على هيئة جرف حجري من الشست الأزرق...
أيضًا فكونها حديقة مشتركة للمبنيين، الرجالي والنسائي، كان عاملاً رئيسًا في صنع الكثير من جاذبية المكان. الجاذبية مدفوعة الأجر، إن سُمح اليوم لمفهوم كهذا أن يُستساغ منطقًا. فمصح نفسي (عقلي) على هاته الصورة، ربما سيُعد مكانًا طبقيًا إلى حدٍ بعيدٍ هذه الأيام.
كنت ألجأ إلي الحديقة ليلاً، فأراها أشد بهاءً منها نهارًا. بل إن البهائيّن بتقديري كانا لا يستويان نوعًا، لكأنهما يخصان حديقتين متباينتين تقومان بمكان واحد. وكان الفارق يظهر لي جليًا آناء قيامي بالسير وحيدًا، ممارسًا هوايتي الوحيدة بالعزف على الكمان سائرًا. فعندئذٍ لم يكن ثمة وجه للشبه بين آذان الناس نهارًا، ومسامع الكون ليلاً (ولو حتى في إطار المقاربة الوظيفية). وقد لا يرجع السبب فقط إلى عالم الليل بالذي يضفيه على الموجودات من وجودية، من قداسة الأسود، من فتنة الرؤية المُعشية، مما يمنحه الظلام بصفة عامة للإنسان من أحاسيس الاتحاد والفردانية؛ إنما أيضًا كسبب واقعي كان عدد الذين يسمح لهم بالتجوال ليلاً قليلٌ بشكل ملحوظ.
تلك المقومات الليلية التي كانت تُفسح مجالاً أكبر للحركة في سكون.. هدوء.. صفاء.. بمعزلٍ عن شيوع الصوت والضوء والأرجل الغريبة، ومن غير ذلك الخطل النهاري المتمثل في مناكفة الرفاق بعضهم البعض، أو ابتذال بضع من المرضى لحركات اضطرابية (بما وسعتْ حنكة أيهم في تأدية الذي يجيده منها). لقد كان الليل في نظري جنائِني الحديقة، يحفظ روحها، ويحقق لها رونقًا مناسبًا، ويشذب ما تحويه من الحركة مستأصلاً الزوائد والمعرشات غير النافعة. إضافة إلى سماح هذا الليل العجيب بسريان الموسيقى من الأرض إلى السماء في سلاسة لم أعهدها من قبل!. وكان في الحقيقة التي استقر عليها وجداني عقب إقامتي هنا لمدة ليست بالقصيرة: أن هناك ضرورة ماسة لتبرير البقاء بشكل مُرْضٍ للنفس الباقية. وأن داخل هذه الأمكنة لا يكون حتمًا كالخارج منها. وأنه لم يكن رواد المصح جميعهم من المرضى.

بالأمس، تقريبًا، قال الطبيب الاستشاري مُحَدثًا الطبيب المداوم المتابع لحالتي (بوجهٍ لم يُخْلِهِ السرور من القبح): "من اليوم إن شِئت خروجه فاخرجه.. آخر النتائج معقولة.. تكفي للاطمئنان..". كان يتكلم دون مبالاة لكوني موجودًا، أستمع حوارهما، حتى وإن كنت أنظر بعيدًا عنهما. فجعلتُ أظن في قصدِه أن يصلني صوته واضحًا!، وأصيخ مستوثقًا أنه يتكلم حول الخروج النهائي.. الشفاء.. الانعتاق من أسر الحياة الصفراء كما نعتها من قبل وهو يضحك (وهو يناقش شخصًا مضطربًا يقضم جلد أصابعه ويهذي ببذاءات). ولكنني بالنهاية قد افتعلت اللامبالاة كاستجابة ذاتية موازية.
لم أخرج عن صمتي مدة تحاورهما. فقط ليعي الطبيب الاستشاري أنني أكثر منه فقهًا لما أنا بقلبه. يعي أنه لمجرد كونه طبيبًا فهو لن يمتلك سوى أقل من النصف في حق صناعة "القرار". بل قد يصل به الأمر إلى الاكتفاء بصياغته. ولا يكال ذلك اعتباطًا حال وجود منطق تقسيمي للأدوار والمهام. فالمريض دائمًا هو الأقوى من الطبيب. إنه الآخر الأثقل مركزًا من الآخر. وببساطة شديدة فهو لكونه المقر بما فيه – فهو أيضًا يكون الذي الأقدر على التقرير. حتى أنه كيف لا يفهم الطبيب الاستشاري ذلك؟!: الطبيب مدجن بواسطة حيثياته المهنية.. القوانين واللوائح.. التجارب القياسية.. الإمكانات المتاحة.. لا أعرف ماذا... محصول الأشياء التي لم يشترك في إيجادها سوى بالفهم والتحصيل، وهو لا يستطيع الفكاك من منطقها الحسابي الصارم مهما تعددت به السبل والطرائق. بينما المريض حر، غير قياسي، ليس مطالبًا بحساب شيء ولو كان سائلاً يتمدد بأنبوب زجاجي، إلى حد أنه يمكنه الكذب عند الحديث عن حالته، بأريحية تامة، ودون الشعور النفيس بالذنب عند الأصحاء!. فيالهؤلاء الناس حقيقة!.. يالهؤلاء الناس حقيقة!...

سألني الطبيب الاستشاري بصوت عميق: ما رأيك أنت؟.
لم أجبه بشيء. ظللتُ كأنني لم أسمع أحدًا قد تكلم توًا. فكان دون أن تطرأ عليَّ أدنى حركة بخلاف متتالية التنفس، أن واصلت تحديقي بضوء الأصيل، النحاسي، المتسرب من نافذة غرفتي إلى الأرضية في حزمة مستطيلة، غزيرة، مجسمة، تحتوي حياة غبارية نشطة (مئات الذرات تروح من الضوء، ومئات أخرى تجيء من الظل). فكنت الذي يُحدق بصدق، ولا تنقصه كلمة من أحد.

حدثني الطبيب المداوم، عن الطبيب الاستشاري، مبتسمًا، قال: السيد الطبيب الاستشاري يستعلم عن رأيك في الخروج النهائي يا سيد/ مريض.

بتباطؤٍ، وغطرسةٍ، قلتُ: أراه استعلام غريب!. سأخرج حين أشاء ذلك. أنا لازلتُ مريضًا وأنعس على روحي. أنا أريد النعاس إذا سمحتما.

صار صوتهما معتدلاً، فخافتًا، وطالعتُ شيئًا من الارتباك والضيق على قسمات الطبيب المداوم، وقد ذهب عنه ابتسامه، وصار يتكلم إلى الطبيب الاستشاري هارشًا في رأسه، بينما الأخير ينضح له بما فيه. ثم حدث أن غادرا قبل اكتمال دقيقة. ولم أنعس على روحي. منذ أمس وإلى الآن لم أستطع النعاس على أية صورة. والواقع أنه شيء محير جدًا فعل "النعاس" هذا، أن تغفو، أن تنعس، تنام، تحلم، ليس الأمر بسيطًا جدًا كالاعتقاد به.. فيا إلهي...

أخذتني قدماي إلى الجزء الأمامي من الحديقة، حيث المدخل الرئيسي يشغل غرفته حارسان، نائمان في أغلب الليالي التي مررت بها من هنا، وبالطبيعة فإنهما يتركان باب الغرفة مفتوحًا. الغريب من نفسي أنني أفكر الآن في الهرب.. التهرب.. الهروب!!!. الأمر معقول كثيرًا.. أو على الأقل بما يكفي.. تمامًا مثل: "آخر النتائج المعقولة.. الكافية للاطمئنان". فما دام هناك سُورًا محيطًا؛ تَوَجَّب على الإنسان تلقائيًّا أن يهرب.
سأتناول المفاتيح من بين عدة علب بيتزا فارغة (كآثار لعشاء خارجي)، وسأمشي ما يوازي عشر ياردات ناحية البوابة الحديدية هائلة الضخامة (ما يتناسب ودرجة ارتفاع السور)، وسأقف أمام جانبها الأيسر، وألتفتُ ورائي مرة واحدة، ثم أغز بالرتاج الفولاذي مفتاحًا تلو الآخر (حتى يقول الرتاج هذا مفتاحي)، فأجذب الباب الحديدي الطويل، المصمت في جسد البوابة، بإحساس لص صبور.. صبور.. جسور.. قدير.. هارب.. وأنا سأغلقه من الخارج، وبأقصى قوتي أقذف بالمفاتيح عاليًا في الهواء جدًا، كي تهوي من فوق البوابة إلى الداخل، وبمجرد أن ترتطم المفاتيح بالأرض المُسرمكة، وتصدر صوتًا شبيهًا بتكسر شيء زجاجي، سوف أجري.. أجري.. أجري..: لماذا أجري؟.. لئلا يُعطىَ الطبيب الاستشاري القبيح فرصة ثانية لاستعراض نفسه على حساب الآخرين، حتى وإن كانوا من المرضى – أولئك المشفوعين لديه بأنه يتابع حالاتهم النفسية الخاصة، النفيسة، المصروف على إصلاح أدائها جيدًا، وبإغداق لا حساب له.

من المتوقع أن اختفائي سوف يصنعُ بنفسه شيئًا مستعجِبًا!.. صاعقًا ربما!!.. سيكتب تقرير الـ "خروج نهائي" للفراغ، سيتفقد الفراغ ثم يسهب في شرح النظام الدوائي المرجو اتباعه للفراغ، سيُجادل الطبيب المداوم بشأن الفراغ: ماهية الفراغ؟.. ما الفراغ؟.. فراغ!.. فـ.. ر.. ا.. غ...

بالتأكيد أنني سأخلف فراغًا.. ولكنني لم أهرب في تلك الليلة.

(2)

في الضحى التقيتُ أصفر جاحد أثناء وجبة الإفطار. انضم إلى طاولتي عقب أن لاحظته ورَدَدْتُ عليه التحية منحيًا الصحيفة جانبًا. كان لديه زائرًا من أهله قال عنه معرفًا: "أنور بك.. قريبي". وهو شخص قصير، زلق الخلقة، من ذوي البابيون النبيذي.. سيجار فانتير أسود في زاوية الفم.. الجزيئات المقذعة لرائحة joop. وكنتُ قد رأيته من قبل متكلمًا في عدة مناسبات عامة من التي تقام بحديقة المصح، لكنني لم أصادف التعرف إليه عدا الآن.
قال بكياسة ظهرت فاقعة، ومفتعلة: أصفر جاحد قال لي أنك موسيقي.. محترف.. هل أصاب؟.
قلت بكياسة موازية: كنت عازف كمان.. بفندق.. من سنين. هذي كل الحكاية.
انتفخت أوداجه وهو يقول: عندي لك عمل جيد إن كنت تفكر في العودة إلى العمل.
قلت قاطمًا المحادثة: لا أفكر في العودة إلى العمل.
.. دار حوار، استرسل خلاله أنور بك حول عشقه الكبير للموسيقى، الكمان بشكل خاص، وذكر شيئًا عن عازف شهير، الشهرة، العزف بمترو الأنفاق، فمعلومات ركيكة عن القوسيات عامة، إلخ... وبدا أن أصفر جاحد قد لاحظ كوني ضجِرًا من قريبه لإفراط بالكلام، فقاطع الرجل بأن سأله في تلاحق: عما يتعلق بحساب، نقود، أصول، كذا عن توثيق أوراق شراكة جرت بينهما في السابق. نوع الكلام الذي استلزم الرد عليه؛ تحولاً لمجرى إنتاج الكلام؛ واختلافًا بأسلوب قوله. وهو ما جعل أنور بك يتغير وجهه، ويجيل السيجار بين فمه وأصابعه عدة مرات دون أن يأخذ نفسًا. ثم صدر عنه ما وشى بانتباهه للغرض الأصيل من المقاطعة، فضحك بسعادة، وعاد وجهه الزلق مستريحًا كما بدأ به.
استأذنتهما ناظرًا باهتمام إلى أصفر جاحد، وغدوتُ خارجًا باتجاه الحديقة. كان الرفيق يحاول إثبات لماحيته كلما تقابلنا فرادى (كإظهارٍ لنديةٍ ما تقعُ من ذهنه موقع الموازنة). مثلاً، بعبارة ملغزة عن جودة عزفي قرب المبنى النسائي، أو بمخالفته لرأى سُقته أثناء جدالي مع واحدٍ من الرفاق، أو عبر لمحة كالتي خلتْ.

لم تكن الحديقة حديقتي في هذا الوقت المبكر من اليوم. على الأقل هناك ساعتين تفصلانني عن ميعادي الروتيني لأرى الحديقة بالنهار. قضيتُ ساعة منهما في تعميق قلب كبير، يخترقه سهم، على جذع شجرة كوناكاربس (الشجرة الوحيدة التي تقع على حافة الجدول مباشرة). وكان القلب المسهوم يكاد يُمحى إثر تعافي اللحاء بمرور الأيام والسنين.
الساعة الأخرى مرتْ لدى الشجرة كذلك، لكنني قضيتها هذه المرة في تخمين التوقيع المزدوج بالإنجليزية أدنى القلب، عـن طريق إجراء تباديل وتوافيق على الحروف القليلة، السليمة، الظاهرة من التوقيعين. فبعد قيام أحدهم بكشط النصف السفلي لها تمامًا، بقيت الحروف بالغة المخاتلة. وقد توصلت في النهاية إلى قناعة مُرضية، هي أنني قمتُ بعملٍ خَيِّرٍ حتى وإن أَخْفَقَ الواقع تخميني، وأن الحبيبةَ ستُدعى "تالا"، "چالا"، أو ما حَلَّقَ حولَ هذا المَعين واشتُق عنه.

(3)

عند منتصف الممشى المؤدي إلى كوخ التدخين، صادفتُ رؤيا الممرضة وهي مسرعة. رفعتُ يدي بالتحية، وقلتُ قولاً محييًا، ولم تأبه المرأة لتحيتي!. إذًا هي امرأة قلبها أسود. ملاك رحمة من النوع الذي لا يغتفر كلمة انفعالية للآخر، المريض، الذي بالأساس لا يحتاج إلى مبررٍ انفعالي كي ينفعل. فما بال الكلمة وقد قيلتْ عقب قيامِها بإعطائي حقنة "كيتامين" بيدٍ ثقيلة!.

قلت في ظهرِها: عذرًا.. الألم كان عنيفًا جدًا.
توقفتْ. استدارتْ. كسرتْ باتجاهي. خطوات نظامية. سحنة شرسة وهي تبرم قبضتها وتشرع سبابتها في المسافة بين وجهها ووجهي. قالت: "مهما كان ألمك.. لن تصف امرأة ببقرة مرة أخرى.. فاهم؟.. فاهم أم لست فاهم؟".
أومأتُ بمعنى: "فهمت". ثم عقبتُ بالقول: "لكن لعلمك البقر عيونه جميلة!".
انطلقتْ مسرعة، مجمجمة، وهي تحاول كبت حركة شفتيها عن الانفراج. لذا سوف يمكنني أن أقول في نفسي (وللرفاق فيما بعد): أنني قد نجحتُ، ولو بنسبة واهية، في تطويق نفسية رؤيا الممرضة!.

كان كوخ التدخين بديلاً عن المقهى من وجهة نظر البعض. فلقد ترى أنه ثمة ألعاب ورق ودومينو وطاولة تنتشر على الطاولات. أيضًا هناك الذي يصفق لمناداة النادل كعمل ساخر يهدف لإضحاك محيطيه، والذي يتمطى خابطًا صدره بقبضتيه تأشيرًا على الفوز، والتي تُلطخ مبسم النارجيلة الطبية الشفاف بطلاء الشفاه فتحيله شيئًا مقززًا – إلى صنو هذا من أفاعيل قهوجية راسخة. هنالك كان إصرارًا جماعيًا على استجلاب روح المقهى الخارجي.. التقليدي.. العادي.. الراقي.. فج التكرارية بكل درجاته.. الأثير أو البغيض من الأمكنة لدى طبقات الأناسي بالمصح. حتى أن أولئك الذين ينفردون بأنفسهم على الملأ (ومنهم من يتكلم إلى نفسه بصوتٍ)، والذين ينفرون من كم الدخان المنبعث (فهم لا يدخنون)؛ قد كانوا يَتواءمون جدًا مع المنظر العام لرواد كوخ التدخين (المقهى)، ذلك أنه يوجد أشباه لهم بالخارج.

بمكمننا المتأخر من القاعة، إلى جوار حوزة تحضير الأغذية والأشربة، كان الرفاق كاملي التواجد عدا أصفر جاحد بالطبع. حييتهم بالاسم. وبادرني سيد عازف الأورج قائلاً: "الشيخ أبو العريف!.. رأيي لم يتغير.. ولن يتغير.. شيخ أبو العريف". لم أتلفظ بحرف كيلا أجره إلى الانشغال بي، سيما والكفاءة مستوليًا على شَغْلِهِ بما لا يقارن.
واشتمالاً لبقية المشهد، فقد حدثني عظمة زرقاء حديثًا ثنائيًا، خافتًا، دون أن يحول بصره عن نقطة بعينها. قال برغبته الجامحة في التعرف إلى المُدخِنة الجديدة، ولمز بذقنه تجاه مبتدَأ القاعة. فاقشعر قلبي بالشفقة؛ الكئيبة؛ المريضة؛ المؤلمة؛ عندما رأيتُ نجلاء الفتاة لم تزل وقد صارت تدخن.

بغتة، سدد سيد عازف الأورج لكمة بوجه الكفاءة وصفعه الكفاءة في آن واحد تقريبًا. وهما استمرا يَمرحان لبرهة، ويُضحكان الجميع بأفعالهما إلاي.. فما صرتُ بمزاجٍ يسمح بذلك الترف الشعوري البغيض، البهجة، ولم أرد سوى السهو في نفسي قليلاً، عميقًا، موغلاً في استرجاع الأيام، رغم أن هذا الاسترجاع قد تتباين أحاسيسه المنقضية، والآنية، بشكل مرعب...

ذات مرة، كانت نجلاء الفتاة لم تزل جالسة، ساهمة الوجه، مبتسمة للمطلق، وتنحدر على وجنتيها دموع صغيرة بطيئة. وكان يحوم حولها بضع رجال من المقيمين بدعوى الرهاب، ربما النكوص، أو الوهن العصبي، الانقسام المزاجي الحاد، الهوس الاكتئابي ثنائي القطبية، إلخ... هؤلاء الذين في تقديري قد جاءوا إلى هنا لإضفاءِ حسٍ مغاير على حيواتهم الخاوية، السمجة، الطويلة بلا هدف يقيني يسير أمامهم. فعندئذٍ سيكون وازعًا قويًا أنه لا ضير من إنفاق بعض المال الكثير لاستحقاق هذه المكانة المميزة! (أو الخليقة بالتميز!!)، فادعاء هذا النوع من الجنوح المعتدل، الجنون اللطيف، الأزمة الوجودية العابرة، تجريب ما يدعى بالعلاج التفاعلي التبادلي (وقد يصل الوازع أحيانًا أن يُحسب نسالة من الغيرة، أو ضربًا من التقليد الأعمى). لكن أيًا ما كان الذي سَيَرد أسفل العنوان المشاعي "اضطرابات نفسية وعقلية"، فإنه سوف يَبقى مُسوغًا جيدًا للوجود ههنا، وسط أجواء جديدة، طريفة، غامضة، واعدة، وممتع عيشها إلى حد بعيد!.

سيُتاح لأحدهم أن يَرى فتاة تبكي على مقعد رخامي أبيض، تحت أيكة لبلاب، فيبكي على المقعد المواجه ويَصدر عنه نشيجًا مسموعًا. وسيتأتى لآخر أن يَهس لها، وأن يبتهج في نفسه ضاحكًا كونها التفتتْ لمرتين ولم تعرفْ مَن. وسوف يعبر ثالث من أمامها عدة مرات متحدثًا بالهاتف الذكي الضخم، وسينثني ويَنفرد، بل إنه سيتوقف وينظر بعينيها مباشرة من مسافة قصيرة، وستشيح بوجهها، وسيمضي نشوانًا بهذا القدر من الإعراض!. بالغد هو هو، ذات الشخص، سَيُزْمِعُ الاجتهاد بصورة أكبر لابتداع أحداث فاجعة رومانطيقية – طالما تمناها لنفسه منذ بواكير وعيه الذي أصابه وقتئذٍ.

بلا مقدماتٍ، توجهتُ، رحتُ، جلستُ على ذات المقعد الرخامي الأبيض الذي يَحملها. هبتْ واقفة. قلت: "ثوانٍ من فضلكِ.. أنا لستُ متطفلاً ولا مجنونًا كي تقومي بالطريقة هذه.. دقيقة واحدة إذا أمكن". مسحتْ وجنتيها المكدودتين بظهر يدها، وقالت ما فهمته تهكمًا: "يا ربي.. تكلم إليَّ أحدهم! ماذا تريد؟.. تحت أمرك؟.. تفضل قل تفضل!".
بدتْ مبتهجة، هشة، وهي متوترة بعض الشيء قبل أن تعاود الجلوس. وبدوتُ حاضرًا، تلقائيًا بشدة، ومقنعًا بينما أنا ساردٌ ما اجتزأته من مشاهدات تخص جلستها طوال ساعة فائتة. فكان دخولاً موفقًا إلى مدىً حسن. أقول: أتتذكرين الشخص الذي كان يرتدي كذا؟. تقول: أتذكره. أقول: وعندما ألقى تجاهك بكذا؟. تقول: نعم رأيته!. أقول: أحزر أن انطباعك عنه على ما رأيت ساعتها، كان أنه الذي كذا وكذا. وأقول: لابد أنكِ تنبهتِ أيضًا للثاني الذي جرى منه كذا، واصطنعتِ أنكِ لم تلحظيه فقال لرفيقه كذا كذا ومضيا...
قالت بجبهة متقلصة، وبفم مندهش: "كنت تراقبني!.. يا ربييـ! أنا أستحق المراقبة؟."
قلت وقد بلبلني الإحساس بصدق تساؤلها: "طبعًا.. تستحقين.. إنكِ امرأة!."
عند هذه العبارة هي ضحكَتْ متخففة، وارتسم على وجهها مزيجًا من الخجل وطيبة البله، ثم قالت مطرقة لقدميها وقد ضمتهما لصق بعضهما: "فتاة لم أزل واسمي نجلاء... أتدري.. أنتَ أول واحد يُكلمني منذ جئت هنا.. أربعة أيام لم يكلمني أحد ما عدا الطبيبة والممرضات ونزيلة مجاورة لغرفتي.. نزيلة واحدة كبيرة كلمتني وفقط.. تصدق هذا!.. كل صباح آتي الحديقة ولا أحد يتعرف عليّ.. يمرون كما شاهدتهم فقط ولا أحد يتعرف عليّ!.. أنا هنا لسبب عضوي بالمخ.. لست مجنونة أنا الأخرى.. أتعرف شيئًا؟!.. أنا خائبة في الكلام جدًا.. حدثني عنك أحسن"...

أكاد أُجزم أنني حالئذٍ قد استشعرتُ وخزًا بضميري، وتحرجًا من مواصلة شيءٍ كهذا. وكنتُ قدّرت (أقلّهُ ذهنيًا) أنني سأواجَه بمقاومة يافعة، استعلائية، تبعًا لثراء المشهد الذي كانت تتوسطه نجلاء الفتاة لم تزل. إنما (وأسفًا لذلك عندئذٍ) بان لي أنني قد جهزتُ لنفسي فخًا بالإغراق في التسري برصد أفاعيل الآخرين، ما انبنى عليه ربطًا ليس منطقيًا بالمرة (بالأحرى ساذجًا) فيما بين عدد المُحَوِّمين، وطبيعة المُحَوَّم حولها.
وعلى وجه الاختصار، هي صارت الآن تدخن، وتتكلم شيئًا، ثم تهمس إلى أحدهم في أذنه، ويضج فمها (المندهش دومًا) بابتسامة غير ذات معنى لا تزايله، وأنا أشعر بعكس ما ينبغي الشعور به إزاء حالتها، ولا أعلم لِمَ...










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه