الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصح النفسي -فصل من رواية- 4/3

أحمد عبد العظيم طه

2014 / 12 / 21
الادب والفن


(8)

صارتْ لي مهمة فنية كساعة باليوم؛ أعزفها على الكمان بالحديقة عقب انتهاء وجبة الغداء. أُقرَّ ذلك في مقابل مادي أكثر من رمزي بقليل، ولم أبد اعتراضًا على وجوده. لقد وَفقَ مدير المصح إشكاليته الإجرائية معي بالكثير مما يعتقده دهاءً إداريًا، عبر إيحاءه لي: بأنني قد صرت موظفًا بالمصح، كامل الأهلية، وذو حيثية مهنية هامة كانوا يحتاجونها عندهم هنا، ولا تُضاهَى حيثيًا من حيث الموسيقى كقيمة راقية. وأزاد: بأنه عن نفسه يتمنى لو كانت لديه وظيفة كهذه، وكذا... ورأيتُ أنه توجب عليّ كلما اختطفت الكلمة، أن أساعده في توكيد هذا الإيحاء الساذج بالوظيفية، إعزازًا للوقت، وتثمينًا لرطانة الحكي، مع التشديد على كوني لا زلتُ أتمتع بحقوق المعاملة التصحيحية الكاملة كمريض مقيم بالمصح.

وقال سيد عازف الأورج ناكصًا بظهره إلى أقصى الوراء: "نحن تعزفنا الألحان ولا نعزفها، يا ليتني أكملت علامي على الأورج، يا ليتني يا أخي...". وقال الكفاءة تأمينًا ساخرًا: "إنه استبداد الكمان يا رفيق.. الكمان كمان!.. الأورج أورج!.. والله أعلم". وقال أصفر جاحد: كلمة صفراء جاحدة، لكأنها خرجت من كركم مسموم. وقال عظمة زرقاء همسًا بيني وبينه: "لقد بُسْتُ نجلاء اليوم، ألا تشعر بالخجل من كونك ستبدو لها كقيمة ترفيهية؟"، ولم أجبه عدا بنظرة متفاجئة ساخرة. ولم يقل بليد شيئًا كعادته: فقط بدا كأنه غبي لا يفهم ما يجري بالضبط.
لم أكن أرمي إلى تكوين جمهور ثابت، بمعنى أن ينتظرني يوميًا شخوص بعينهم، فأشابه عليهم بتعدد الأيام، ويصبحون معارفي، وأغدو معرفتهم، وإلى ذلك مما توقعه التجمعات التكرارية عادة بين الناس (كلاً وأداءه ودوره وزمنه). لكن هذا ما حدث، وما صلح كبداية للتعمق بوجوه من سيجوز عليهم وقوع اختيار ما، ذات يوم أو ليلة ما. لماذا؟!. كيف؟. متى؟. فقلت: لا أعلم شيئًا أكيدًا. ولا أعلم إلى اليوم ماذا يصيب الذي أنا بجوفه من خبال. ذلك أن مسألة الفصام المتبقي هذه لم تكن لتكفي لإقناعي على أي وجه من الأوجه.

طرق الطبيب المداوم باب حجرتي في هذا المساء اللطيف. وقال من بعد ثناء طبي على حالتي، وما أحرزته ذاتيًا في واقع الأمر من تقدم علاجي: أنه كزميل عمل يريد مني شيئًا هامًا، مساعدة، قد تكون نتيجتها مؤثرة في بحث عملي يجريه – هدف إصابة درجة علمية جديدة. ثم أورد ديباجة جيدة: عن أهمية الموسيقى، حبذا الحية منها، نسبة إلى كل ما يخص التطبيقات العلاجية للعلوم المتعلقة بدراسة الأعراض المرضية للدماغ؛ بمستوييها الرئيسيين؛ النفسي؛ والعقلي...
سكت الطبيب المداوم قليلاً وهرش في رأسه (ربما لإعطاء ما قاله فرصة الترسب بذهني)، قبل أن يذهب في سؤالي: هل أقبل أن أقوم بالعزف للمرأة التي تصرخ ليلاً؟. إلى جانب سريرها بينما تكون نائمة؟. قبل موعد الصراخ بقليل؟. وبشكل منفرد؟. وأومأت بالقبول مِرارًا حتى كف عن التساؤل. ظل على وشك الكلام للحظات، ثم نوه: باحتمال خطورة حالتها التفاعلية إزاء الشيء الجديد، خاصة وأنها مصابة بنوع فريد من الهذاء الاضطهادي وكذا... لكنني على أية حال لم أتراجع عن القبول.

دخلتُ المبنى النسائي في عمق الليل. كان هادئًا نوعًا ما (على نقيض الذي توقعته واهتممت لأجله بنفسي). فقط كانت غمغمات طائرة كل عدة حجرات.. ممرضتان تنتظران.. طبيب ينضم.. الطبيبة الخليعة تعبرنا بزيها الطبي الضيق وتقول "مساء الخير يا جماعة!" (في حين كانت تنظر النفر العابر بتدقيق ذئبة سارحة).. صوت أقدام يتقطع بالممرات الجانبية (الخالية كلما وازيت أحدها).. هاتف يرن بغناء أجنبي لامرأة.. سعال امرأة.. صوت أخرى.. ضحكة فجائية متهتكة تعرف بضحكة الساقطات (وهي تركتْ صدىً يتردد بين الحوائط لفرط علوها!).
عندما ولجنا حجرتها كانت نائمة بنصف عين، وتكاد أنفاسها لا تصدر عنها. وقال لي الطبيب المداوم قبل أن يتركني (بمن معه) مغادرًا إلى حجرة المراقبة: ألا أقلق، فهكذا تكون طريقة نومها، وأنه قد بقي ما يقرب من ربع الساعة على بدء نوبة الهياج. كانت النوتة التي أعطانيها بدائية إلى درجة سمجة لدى عازف محترف. تحتوي ما يشبه "الدوزان" على سُلم "دو ماجير"، نغمات كاملة، متتابعة في غير تدرجها السليم، ومتكررة بشكل ممطوط، شيء رتيب.. رتيب.. وفكرتُ في رأسي: إن النوتة ولابد تصبو إلى شيء!، بالأكيد أنها تصبو إلى شيء!، ولكن اليقيني أن ما صبتْ إليه قد تم استخلاصه من مريض آخر، بمكان آخر، بوقت هو أيضًا آخر.. فما سيصير الاستخلاص الجديد في بحث الطبيب المداوم، عدا المريض، يا ترى؟!.

كنت أسوي ركوزًا أوليًا، مغمضًا عيني، بل معتصرًا أجفاني كلما قصرت المسافات النغمية، وقد تحولتُ لا إراديًا إلى عزف إحدى المقطوعات الأثيلة لديّ: "طيران النحلة الطنانة" لـ "ريميسكي". وعندما وصلني لهاثها أقرب من اللازم، وأنا فتحتُ عيني، وهي خمشتْ صدغي صارخة؛ أفلتُّ أظافرها الحادة عن بقية وجهي، ولم أتوقف عن العزف، التقافز، المداورة، فألفيتني مراوغًا أقصى المراوغة. لقد اعتراني وجدان غريب، يتضمن شعورًا بالإبداع قويًا، حتى أنه عقب برهة من إنهاك المطاردة – قد داخل العزف أصوات أخرى عدا الرفيف والطنين، كالصرير.. الصريف.. صفير.. صريخ.. دولفينًا خارج الماء.. هونك.. هونك..
كانت قد تمكنتْ من القوس وكسرته عندما اندفعوا من الباب ممسكين بها؛ الطبيب المداوم الذي راح يتكلم لاصقًا شفتيه بأذنها، إضافة إلى طبيب آخر، وبضع ممرضات مخضرمات من طاقم التمريض الليلي وتُشاهد بينهن رؤيا الممرضة. الأخيرة كانت هي من أمسكت أولاً بالقوس المكسور، طبقته في قطعتين غير منفصلتين، وأعطتنيه قيد ابتسامة فادحة السخرية والشماتة.
كانت عدة قطرات دماء قد استقرت بصدر قميصي، مما رسخ لديّ شعورًا فائقًا بالمرارة والفشل، فلم يعد بي أثرًا لذلك العازف الذي عزف شيئًا يُحبه، لقد فر مني، وفقط بقي الشخص الذاهل، النازف، المخموش في وجهه بقسوة. غادرتُ الحجرة وصرتُ أبتعد، أهرب، أهرول كأسرع من رؤيا الممرضة حالما تهرول، وأستمع إلى صراخ المرأة ليلاً كصوت واقعي، وملموس، ويتنامى في مقامات شيطانية للصوت. وكان عددًا من المريضات واربن أبواب حجراتهن، وبزغن بملابس النوم للتلصص، واعترضتْ طريقي إحداهن قائلة: "افترستكَ المرأة المجنونة! المجنونة! تعال أسعفك يا فنان"، وأزحتُ يديها عن كتفي شاكرًا لها تطوعها، وواصلتُ هرولتي. فمدتْ أخرى ساقها على حين غرة بما جعلني أتعثر منكبًا على وجهي، ويطيح كماني بعيدًا، وينسرق، ويَبقى القوس المكسور عالقًا في يدي، والضحكات الأنثوية المكتومة عاملة في أذني...

في الصباح، قال الطبيب المداوم بمكتب مدير المصح: لقد خالف النوتة العلمية وعزف شيئًا من رأسه.. وهذا هو سبب ما حدث.
وقال مدير المصح بعد تثاؤب قصير: ربما تزعجها الموسيقى من الأساس.. لقد أزعجتها الموسيقى!.. وهو ليس مسئولاً عن وجوده بحجرتها.. الطبيب المختص هو الذي المسئول عن ذلك.. وعلى حد علمي أنه لم يعد أنت!.. أعفاك كبير المداومين من مداومة الحالة وأوكلها لآخر!!..
وقال الطبيب المداوم بلهجة تمط الاستنكار مطًا: كبير المداومين هذا اختراع اصطلاحي لا يصلح في مجالنا.. إنه مداوم آخر مثلي مثله ليس أكثر.. ثم أن طبيب التخدير كان معي بغرفة المراقبة.. ومنوبات التمريض الليلي كُنَّ متأهبات للطلب بالعلم.. أنا كنتُ مستعدًا لأي طارئ كما ترى.
وقال مدير المصح هادئًا، موجِزًا الحديث: أو يمكننا الإقرار بأنه.. حدثت انتكاسة والسلام.
وقلت أنا متحسسًا ضمادة فوق وجهي: لم يحدث شيء غير عادي.. لقد كانت تصرخ كل ليلة!.

في الصباح التالي، بدا غريبًا بالملابس العادية، مرتبك السير، ويتناوب هرش رأسه بإحدى يديه كل عدة خطوات. ووافته إحدى الممرضات لدى فسقية، وسلمتْ عليه، وضجتْ بالضحك، بينما هو كان يُكلمها بعصبية وتجهم ملحوظين – يوجه لها سؤالاً محركًا يسراه بإشارة "ماذا"، فتضع يدها على فمها محاولة كتم كركرتها لكنها لا تستطيع. الموقف الذي جعلني أسخر منه في سري، وأُقِلُ به عندي، وأضحك ملء فمي قبل أن أذهب بالنوم!. لكن الأمر يبدو صعب التقبل عند التفكير به الآن، ويصيب بالتعكر المزاجي عقب اليقظة والقهوة. فلماذا يا رب عندما رأيته من نافذتي، يدفع أمامه الحقيبة الكبيرة من ذات العجلات، وإلى أن جاوز باب حديقة المصح إلى العدم، لَمْ تواتني الحركة كي ألحق به لقول شيء؟.. أي شيء!.. الاعتذار عن سوء التقدير الذي جعلني أخالف النوتة مثلاً.. أو أن القدر ولابد يَفتح له بابًا جديدًا بالخروج من هنا.. "تقبل الأمر بصدر رحب يا رجل ولا تبالي".. "أراكَ على خير وآسف مرة أخرى".. "اعطني نمرتك، كي أطمئن عليك من وقت لآخر".. "أدام الله المعروف، ولا تنسانا في الدعاء!".. "صاحبتك السلامة"...
إذًا، لم تكن المسألة فيما سيمكن قوله من عبارات مناسبة، ولكنها كانت في القدرة على اتخاذ قرار الحركة، ومقاومة الخمول المصاحب لعدم النوم طوال ليلة كاملة. فضلاً عن أن عدم سماعي لصراخ المرأة التي تصرخ ليلاً في موعده، كان قد عضد من ثبوت الموقف الأخلاقي الكسول بقلبي تجاه الطبيب المداوم الطريد (فلا دخل لعدم سيطرة الممرضة على فمها بجوهر الموضوع إذن كذلك!). والآن، عبر هكذا تقديرات، سوف يمكنني إقناع نفسي بسوية التصرف الذي تصرفتُ، كذلك بمنطقيته، وبأن مزاجي المتعكر سيعود سريعًا إلى طبيعته المعتدلة، بعد حصول ضمير المريض بداخلي على تبرير وافٍ لما ألمَّ به وأزعجه.

تلا ما كان بعدة ساعات أن هاتفني مدير المصح: مستعلمًا عن تغيير الضمادات؟، وعن حالتي العامة؟. وقد طمأنني (فيما كنتُ لا أحتاج طمأنته) بأن وضعي في مذكرة التحقيق الإداري المنتهي لا يشوبه ذنب. كما سألني بشكل عارض: عن اسم المقطوعة التي قمت بعزفها وتسببتْ فيما جرى؟. وعلى أثر إجابتي: بأنها ليست مقطوعة، ولا تحمل اسمًا، ولا تعدو كونها استعراضًا بدائيًا لسرعة تحريك القوس على وتر منفرد؛ فقد لاحظتُ أن مدير المصح صار يُبطئ من صوتهِ، يُعمقه، فيما هو يحاول استنبات توجه معين برأسي...

"... ولكن ألا تريد أن ترى العالم؟"
"بلى.. لكن لم لا يأتي العالم ليراني!"
"أنت غامض يا أخي وأنا لا أفهمك."
"لا أعتقد أنه من الضروري إزاحة الغموض عن مريض غامض."
"لم تعد بعد مريضًا.. الأوراق المضافة إلى ملفك تقول هذا."
"تناقشنا بالموضوع من قبل وأحرزنا نتيجة.. لِم النكوص الآن حضرة المدير؟"
"أليس ما حدث كافيًا في نظرك لإعادة فتح الموضوع حتى؟"
"قلت بنفسك أنني غير مدان."
"معك حق. معك كل الحق. إذًا، هل جربت الكمان الجديد؟"
"بالطبع، إنه شيء رائع، وجه سبروس، فرس اسفندان، أجود من سابقه حتى.. شكرًا للمصح."

بعد عدة أيام من الامتناع، عزفتُ لحنًا مأساويًا طويلاً، وتأثر بضع من المرضى فانصرفوا قبل إتمام اللحن بأوقات متفاوتة، إلا أن الأغلب الأعم ظهروا غير مكترثين أصلاً، ولا يعنيهم حَرفًا مما تئن به الأوتار تحت وطأة القوس، فما انفكوا يتكلمون ويتضاحكون في منتهى العادية، كأن شيئًا لا يقال!. أدهشني قليلاً تصفيق الموظف القديم – من بعيد – عقب انتهائي من العزف. لكن الذي باغتني حقًا هو دنو الرجل المسن فهمي من مكاني، وقوله الساخر في وجهي: "لا تبتأس.. لا تبتأس هكذا.. ما كان ذنب الكمان يا شيخ محرم".
وقتئذٍ، قررتُ لحظيًا بألا أفلته هكذا فاغرًا فمي (لئلا ألبث وحيدًا في تأويل ما قاله). لذا، طلبتُ منه الجلوس معي، بحجة سماع رأيه بالأمر مادام قد تكلم به، وهل جانبت الصواب بالمرة عندما قبلت هذا الأمر؟، أم أنه في المجمل ليس ذنبي وحدي كعازف لا يمتلك من اللعبة عدا آلته الموسيقية؟.
جاورني على المقعد الرخامي، وبهدوء سألني الرجل المسن فهمي: "أي أمر وأية لعبة؟! عَمَّ تتساءل يا بني؟". لَمْ يفاجئني قيامه بالتغابي عِوضًا عن الإجابة. فقلت همسًا، بهدوءٍ مشابه لهدوئه: "السيدة وجيدة يا أبتاه.. من تكون؟".
إبان نهوضه من مكانه رمقني بنظرة مشدوهة، شديدة اللوم والتوجع، ثم انصرف دون أن تنبس شفتيه بشيء. وارتأيتُ في نفسي أن الأحوال بيني وبينه آلتْ إلى الأسوء، بل إلى ما بعده من سوءة، إضمار، عداء، فلم أكن مرتاحًا نهائيًا لما جرى. وقد رحتُ غرفتي، وصفقت بابي ورائي، وأنّبْتُ نفسي وقتًا كثيرًا، أو أنها نفسي التي أنّبتني (فكنتُ لا أعلم حقًا)، قبل غرقي مجددًا في النوم.. الهجوع.. الهمود.. الكائن الخرافي الذي يبتلع الناس أينما أوغلوا في عقولهم سارحين.. السديم الأزلي بين الدنيا والآخرة.. اللاوعي.. وأخيرًا، هو الحدث الذي يقع لي حقيقة كل عدة أيام!، شهور!، سنين!، كيما أرى الكون من الداخل؟، من الخارج؟، فأحلم بما أعرفه آنئذٍ ولا أدريه بعد ذلك. أعيش أزمنة وميضية لا أتذكرها عندما تحين اليقظة، الصحوة، الوعي، الإنية التي أَخبَرها فأعرفني بها. لكن ذات هذه الأمانة المعرفية، تقتضي الإشعار، بأن روح الومضات تبقى بذاكرتي كالجمر الخابي.

(9)

كان التسارع الإنساني إعجازيًا بقدر ما في صبيحة اليوم. العديدون من الناس قدموا إلى حديقة المصح، وصاروا يجهزون أواسط المكان تجهيزًا مكلفًا، بما يُعد – عن سابق خبرة – تمهيدًا لإقامة شعائر مناسبة عامة، أو ليلة ترفيهية، أو ما شابه من خيارات احتفالية. كنتُ أألف منهم بعض الأوجه المتكررة كلما أُجريَ شيء من ذلك (وتُجرى تلك الأشياء بتراتب مطرد، ومتجدد، تبعًا لأهميتها العلاجية)، لكن الملاحظ أن أعدادهم كانت زائدة إلى الضعفين تقريبًا، كما ظهرت حماستهم للعمل على شاكلة متوهجة، غير معتادة، فجاذبة للانتباه العام. وكان الكثيرون من رواد المصح، وموظفيه، قد خرجوا إلى الحديقة في هذا الوقت المبكر نسبيًا. وانتقلتْ أحاسيس جوقة المنفذين، إلى أنفس المشاهدين، فجمعتهم في ثنائيات ومثلثات ودوائر متكلمة. وعَلتْ الاستفسارات: إلامَ سيكون هذا؟، متى سيُقام هذا؟، من سيُدعى إلى كل هذا!.. فبدا أنني لم أتفاجئ منفردًا.
وقد أتْبَع جولة قصيرة، بالظهيرة، أن جاء عظمة زرقاء بالخبر القاطع. فراح يتكلم لهِفًا بما جلب، حريصًا على ألا يتجاوز صوته أسماع الرفاق. في ذات الوقت كنت أتفحص سحنته الواشية بذبول العاشقين، وبأنه يبحث عما يشغله عن شاغل كبير (ولم أشأ تصديق مخي فيما ذهب إليه). قال: أنها مناسبة تخص إدارة المصح، أيضًا الهيئة الطبية العاملة، بسبب حصول المصح على فاكهة ما (ذُكرتْ جميع الأنواع بسخرية)، يقال عنها: "امتياز جديد رفيع المستوى". وأفاد الوافد الجديد إبان انضمامه، وتحاشيه لالتقاء وجهينا: بأن المصح قد أُعلن بالفوز أول أمس، (أي بحسب تفسيره) عقب انتهاء بعثة التفتيش الحكومي الدوري من عملها بعدة أيام.
وكان الحدث من وجهة نظري، يُعد تنويعًا على السمة الأهم التي تحتاجها حياة الأماكن المغلقة بين حينٍ وآخر، بل وباستمرارية مختلقة في أحيان خاصة، ألا وإنها: "السمة الاجتماعية".

أثناء وقوع فعاليات الاحتفال الغذائية بالخيمة الكبيرة، الطولية، المغلقة، المكيفة، قيلتْ عدة كلمات خطابية سُمح بإلقائها لآحادٍ بعينهم من ذوي المرضى. برز من القائلين أنور بك كمثير للضحك حال تلعثمه في قراءة ورقة بحثية (بدت بداهة منقولة من شيء)، وتدور فحواها حول تطبيقات الإدمان المعاصرة، ومدى الخطورة الواقعة على الناس جراءها. كذلك قيلتْ كلمة ارتجالية ألقاها الرجل المسن فهمي، تحدث فيها عن: جودة الرعاية الشمولية بالمصح – نفسيًا وصحيًا، وطبيعية استحقاقه الامتياز الجديد لاحتكاره التميز، والأسبقية، وما إلى هذا من مبالغات يحسبها السامع تملقاً (وأظن أنها كانت كذلك حقيقة). ثم بلا تنسيق مسبق معي، من خلال مكبر صوت داخلي، طلبَ مني منسق الاحتفالية (وكان الموظف القديم): أن أقوم بأداء معزوفة بهيجة تليق وصدد المناسبة. وأفاض بشيء من الغموض: أنه يَرى مظاهر الاحتفال أجمل جدًا، وأكثر اكتمالاً، إن هي أتتْ كمنافحة بين إدارة المصح والسادة المقيمين والزوار...
وقد قمتُ بمكاني، واعتذرتُ عن هذا في عبارة مهذبة، متعللاً بعدم جاهزيتي والآلة وكذا، ما لفتَ أنظار بعض الأغراب والمرضى إلى وجهي – ريثما هم يتجرعون أو يمضغون شيئًا. وقد علق سيد عازف الأورج بقوله قرب أذني: "هه.. أصبح لك صيتًا يا شيخ محرم.. صيتًا مُفبركًا شبهك.. كأنه أنت!". وقال الوافد الجديد، البعيد ببضعة أمتار، قولاً قصيرًا مبهمًا من وراء صحيفة. ونظر إليَّ أصفر جاحد زامًا أجفانه دون كلمة، بما احتسبته في نفسي حقدًا باردًا، ملتبس الهيئة، ومخبت الصفرة عن سوابقه. وعندما أطاح صوت الموسيقى المُسجلة بأصوات بقية الرفاق عن سمعي، ألفيتني الذي سيزعجه الاستمرار في متابعة تضاحكهم ومشاغباتهم إلى آخر الليلة. لذا مضيتُ منكفئًا على ما أمامي من طعام، أتشممه على مهل، أخلط ما لا يجوز خلطه، أتأمله قبيل التهامه، وأفكر في قادم الساعات بعمق...

"ياللإبهار.. إنهم أجانب!".
"ليسوا أجانب، أنت بالفعل بليد، بليد في كل شيء، إنهم إما أتراك وإما جريج".
"إفهم يا حمار من معلميك".
"لدي قول وجيه".
"قله/ أرغِ/ ...".
"أصحاب الأطباق الطائرة في سماء المصح منذ مدة".
"فعلاً.. ممتاز.. ولِمَ لا؟".
"ذاكرة جهنمية يا رفيق"
"يالهذا الكلام الكبير السليم".
"كلام ذو مرجعية حتى وإن بدا هزليًّا أو سخيفًا!".
"إنها دعوة إلى مسرحة الأمور، وهكذا لا ينفع".
"فما قولك إن كان معي صورة لهم على الهاتف؟".
"ياه!/ مضبوط/ جميعهم/ جبابرة/ ...".
"لكن والشهادة لله يجيدون التنكر".
"أولاد الكلب!".
"غير معقول يا خلق.. يا ناس.. غير معقول بالمرة".
"لِمَ؟".
"لأننا نعرف أصحاب هذه الأطباق! وكيف تعمل! أنسيتم أم ماذا؟"...
"عمومًا نحن في عداد المجانين ويحق لنا النسيان.. أما هكذا أنت أم ماذا؟".
"كهل خرِف".
"كأن عقله في ذقنه".
"إنه يُخلخل باكتشافاتنا منذ انضمامه علينا.. لابد من توقيفه والحسم معه".
"يريدنا أن نتكلم بالمعقول.. وهل جاء بنا إلى هنا غير المعقول أيها الخرِف!".
"إذًا هو الخرِف".
"بهكذا يكون انضم رسميًا.. الخرِف هذا".
".....(ضحك).....".
".......( ضحك صاخب).....".

في عمق المساء، في هواء الحديقة الطلق (في غمرة البعث والتقفية)، انسللتُ من رفقتي بخلسة تراوحتْ فيها الانتباهات، بين ما حل بقسمات الوافد الجديد من أثر التسمية، وبين ما الذي قد يقوله عظمة زرقاء في أذن نجلاء الفتاة لم تزل يا ترى؟، وبين القادمين على المكان من أغراب جدد، يحتوون أجانب، وما تفعله مدافع الضوء الملون بالسماء كتحية استقبال لهم – فمن ثم قيام مدير المصح عن مكانه لعدة مرات، غاية الإدهان وإجلاس بعضهم بذات نفسه، رغم وجود زمرة من المكلفين بعمل ذلك!.
وقد صار ما يؤديه مدير المصح هو الأكثر مشاهدة وانتقادًا، باعتباره يمثل شكلاً من الظهور المبتذل، المتملق لوحدة الفيديو، أيضًا اللائق بشخص مدير المصح كفعل تلقائي يصدر عن سجية هي في معدنها هكذا. وفي تقييمي أن عددًا وفيرًا من الأغراب الجدد هم كانوا من الدارسين، أو من شاكلهم طمشًا، فقد رأيت أقلامًا وأوراقًا وألواحًا إلكترونية تشرع بكثافة، وتتأهب للعمل بأيدي أصحابها.
تخيرتُ موقعًا جانبيًا شاغرًا، مراعيًا أقصى المتاح لأن أكون قريبًا من منصة الحفل. كانت منصة فاخرة جدًا، وتنطوي على بهرجة لم أر ههنا سبقًا عليها.. فالكثير من صحفات الورد الضخمة، بادية الرقي النوعي، والإبداع النسقي، كانت تلتصق بواجهتها الصقيلة من الفرومايكا.. وكان ينسدل عن مسطحها مفرش حرير طبيعي، أزرق زرقة السماء في المغارب، وتدل زركشته اليدوية على رفعة قيمته.. ومن بعد، فإن كؤوس المياه، ومنافض السجائر، وحوايا المناديل، المطلية جميعها بالذهب وتأخذ وزرة من الفضة، علاوة على مكبرات الصوت اللاسلكية، المغطاة مقدماتها بفرو كروي هائش أخضر اللون؛ أقول أنها في مجموعها كأشياءٍ قد أسبغت على المنصة حسًا فائقًا من الفخامة والسمو الروحيين.
ترأس مدير المصح المقاعد الكلاسيكية المذهبة للمنصة، وعن يساره كانت الطبيبة الخليعة، وكبير الأطباء المداومين، والطبيب الاستشاري. وعن يمينه كانت امرأة خمسينية أجنبية عن المصح، ورجل أربعيني أجنبي كذلك، وكان مقعد فارغ – فاستحضرت الطبيب المداوم الطريد بخيالي وأجلسته عليه. ثم جرى بعد رصدي للوجود المحيط كهكذا رصد، أن أصابني ظن آثم بأن الشخص المتواجد، الوحيد، الذي قدر له رؤية الموضوع من زاوية تكلفاتية، هو كان أنا.
تحدث مدير المصح من ورقة، قال: بسم الله الرحمن الرحيم. وبه نستعين. تحية محبة وفيرة للسادة الضيوف، والسادة المقيمين، كلاً باسمهِ، ثم أما بعد،، طبعًا كان من المستغرب بالنسبة لكم – وأقصد هنا أحبائي وأصدقائي رواد المصح وموظفيه – ألا يتم إبلاغكم بوجود مناسبة كتلك إلا في يوم إقامتها، لكننا أردناها مفاجأة لكم جميعكم، مثلما كانت مفاجأة لنا، فعساها تكون سارة يا رب العالمين. نحن الليلة نحتفل بحصول المصح الذي نتباهى "كعاملين" بوجودنا فيه، وبإدارتنا له، على شارة "البرتقالة الخضراء"، وهي جائزة تمنح لأكثر المصحات النفسية – القُطرية بالطبع – تفوقًا من ناحية الأداء العلاجي، والنتائج والإحصاءات الإيجابية المترتبة عليه. ولا يسعني سوى التوجه بجزيل الشكر والامتنان والتقدير، أولاً إلى الإخوة والأخوات رواد المصح، على ما أبدوه من تعاون، أثناء زيارة اللجنة الحكومية المشرفة على عموم المصحات النفسية بالقطر، وثانيًا إلى الطاقم الطبي الذي أفخر بالعمل معه في...

أرغى مدير المصح في الكلام ما يزيد على ثلث الساعة، ثم كان أن قدم لكلمة الطبيب الاستشاري القبيح بالكثير من الثناء الشخصي (غير الموضوعي). اختصر الطبيب الاستشاري القبيح حديثه من رأسه في بضع دقائق، تحدث بصوت وادع: حول أهمية الجوائز من هذا المستوى، ودورها في تصنيف فئات المصحات النفسية، وتمييز المشاوير المهنية للقائمين عليها، وما تعطيه الجوائز بصفة عامة من بريق حقيقي للحاصلين عليها، فيغدون على إثرها كالعلامات الرياضية الشهيرة. ختم الطبيب الاستشاري القبيح بضحكة هادئة، توافقتْ مع طبيعة حديثه الهادئ، وراح يوزع وجهه بين الحضور بينما تتحول ضحكته كذلك إلى عدوى هادئة، ثم إلى ابتسامة عريضة على شفتي كبير الأطباء المداومين، والذي تنحنح متهيئًا بعد أن حانت له الكلمة.
افتتح الأخير قوله بحكمة شبه شائعة، شرق أسيوية على الأرجح، تقول: "إذا أحببت شيئًا بقوة فاطلق سراحه، فإن عاد إليك فهو ملك لك، وإن لم يعد فهو لم يكن لك من البداية"، وأتبع بخفيف الحديث عن كونهم قد أطلقوا سراح اللجنة الحكومية من هنا، فعادت إليهم بالجائزة من هناك، ونحو ذلك مما يعد كلامًا فارغًا... وقد أصاب ما لا بأس به من ضحك فاتر لبعض الحضور، واكتفى بهذا مغبوطًا قريرًا، فلفظ عدة عبارات نهائية قصيرة، سطحية كسالفاتها، ومن ثم فقد سكت منبسطًا ( تمامًا كالذي ألقى عن عاتقه بجرة فارغة).
وجاءتْ كلمة الطبيبة الخليعة كشبهها، فتكلمتْ بغنجٍ عمديٍ فج: عن مدى براعة الطاقم الطبي بالمصح، هذا المليء بالخبرات الميدانية والتقنية المدهشة، والذي أفادت منه الكثير، والكثير جدًا، منذ تعيينها الذي جاء هنا لحسن حظها ومحبة السماء الكبيرة لشخصها الضعيف، وأنها فرحت بالجائزة لكأنها طفلة صغيرة، قَدّ هكذا، وتستمتع بالعمل قيد هؤلاء الأفذاذ!، الكبار!، كما تعتقد أن المرضى يستمتعون مثلها كذلك، ثم أتبعت بـ: "وفقط هكذا!"؛ كخاتمة كلامية مضمونة العاقبة.

قبل أن تُعطَى الكلمة للمرأة الأجنبية، قال مدير المصح ما يعني أنها مديرة عامة بمؤسسة دولية كبيرة للطب النفسي، وأنها تحضر المناسبة للتمثيل الرسمي، بناءً على دعوة أرسلتها إدارة المصح لنظيرتها بالمؤسسة الكبيرة. فلما تكلمتْ المرأة الأجنبية نطقتْ بلغة أجنبية غير متداولة (حتى)، وليس ثمة ترجمة بأية كيفية، فبدتْ المرأة الأجنبية كلية الغرابة (كشجرة زينة ناطقة). ولم أصغ لها كما لم يفعل كُثر، إذ سرتْ الهمهمة بين الحضور لبرهة، قبل اكتمال تحولها إلى صخبٍ مكتوم، ممجوج، ويُرى محيطه عند نهاية الجالسين، البسطاء (الذين يطمئنون أكثر بالجلوس في الوراء)، يجاورهم قوس الرفاق (الخبراء في استغلال البساطات). وقد تحرك بعض الدارسين من أماكنهم، وأدواتهم معهم، متجهين صوب بؤرة الحدث. بينما سكتتْ المرأة الأجنبية، وراحت تتبادل نظرات تعجبية باسمة والجالس إلى يمينها. أيضًا تباينتْ أمارات الإحراج على وجوه الهيئة الطبية العاملة، لكنها بدت أكثر كثافة على وجه مدير المصح. وما كان هذا الذي تتحول إليه الليلة يعجبني جدًا، بل هو ما عادني بتعكر مزاجي شديد، مباغت، راح يتفشى في ثنايا الشعور ويجبرني على لعن المتسببين.
لذا فإنني هكذا مني لنفسي، وبحسبِ سلطةٍ "ما" تم إيكالها إليَّ من قِبلي، قد أحلتُ الكلمة إلى الطبيب المداوم الطريد، وثبّتُّ بصري على مكانه خلف المنصة – والذي صار ممتلئًا به الآن. لكنني للحقيقة أخفقتُ في الاستمرار بذلك عند أول التقاء لأعيننا، حين رأيت بصة عينيه محملة ببواعثِ لومٍ وازدراءٍ مريرين!. لقد استبد بي تجاهه إحساس فظيع بالذنب. فأدرتُ رأسي نقيض رأسه. وطفقتُ أستمعه بانتباه عظيم. غير متورط في الجمع بين السماع والرؤية إلا على نحو خاطف.
قال: "السادة أهل المنصة.. السادة الزوار.. السادة المرضى.. المساكين.. ليس لكم عندي تحايا ولا تسليمات،، ففي الحقيقة التي أراها ساطعة أمامي – وكان يشير إلى اللافتة المعنونة للاحتفالية – أنكم جئتم اليوم إلى هنا لغرضٍ، من المفترض أنه آخرٌ تمامًا عما ما رأيته منكم، ولا زلتُ أراه منذ بداية الليلة إلى الآن، وعلى كافة الأصعدة. لقد لاحظتُ بفيض من الأسف، والضيق، أن الجُلّ مشغولين بذواتهم أكثر من اللازم لأكثر من اللازم. كذلك شغلهم بما يحصلون عليه من مشاهد وأقوال نادرة، يحاولون اختزانها لآذان ذويهم، أو أصدقائهم، أو أصحاب أرزاقهم، يتلونها عليهم يوم غدٍ صباحًا أو مساءً. هم مشغولون بقدر كبير عن قدر انشغالهم بمعنى المناسبة في حد ذاته، الحصول على البرتقالة الخضراء، البرتقالة الخضراء، خضراء، لِمَ هي خضراء؟. هل سأل أحدكم نفسه هذا السؤال قبلاً؟. أكاد أقطع بالنفي. لماذا؟. ببساطة لأنكم لا تعرفون!، جُهال فيما استدعيتم لأجله. أيضًا لأنكم لا تقدرون من الألوان سوى الصارخ والفظ. فاقعون. أفإن كانت حمراء كالدم، أو برتقالية كالشمس، ترك كل ذي شغل شغله والتفتَ ليعي!. كيلا يسبقه الآخرون بالوعي!. لعمري إنكم طفاوة السيل العرم..."

لقد حقق الطبيب المداوم الطريد نسبة الكمال بالفعل من حيث استمالة الانتباه. صار هو بؤرة حضور الحاضرين ممثلة بالسماع والتهامس، الغمز والهمز، قسمات الدهشة المتصاعدة كلما أتم جملة، فتعابير الحنق التي راحت تعلو واضحة دون إدغام (فسيقت على إطلاقها). وحتمًا قد عَمِلت كل هذه الانفعالات سويًا بعناية قسوة "الكلمة"، وتبعًا لحدة منطقها الاستشكالي. حسبه عدة دقائق مرت، صريحة، صادمة، وتوحدتْ عليه أبصار النظارة (كأعين الكواسر على ثورٍ نازف). لكن أحدًا لم يقاطعه بصورة مباشرة إلى أن شارف على الإطالة، عندما علتْ الحناجر بالجدل، ووُجهتْ له بعض العبارات المتراوحة بين النابية والمستخفة. من وجهة النظر السائدة: كان قد تخطى حدودًا بعيدة في اتهامهم بالتقصير، والجهل، والميوعة، وغيرها من نعوت وصفات لا تليق بجمع ناضج كجمعهم. بل إن الأسوء قد أتى في هذا الخلط المريع بين الزائرين الأصحاء، والمقيمين المرضى، حالما تعمد الطبيب المداوم الطريد، تعميم الفئة المخاطبة على الجميع دون أي تمييز – ولو كان تمييزًا شكليًا!. وقلتُ في نفسي: "لابد أن هذا الطبيب المداوم الطريد البائس، لن يعبر للمرة الثانية مما جنته عليه أفكار دماغه العجيب".
قمتُ من مكاني، ورحتُ أتجول بحديقة المصح مسرعًا، غريبًا، متأذيًا بتصور نوع العقوبة المناسبة لدى المزيج المتجانس من هؤلاء الناس، ومفكرًا فيما يمكن القيام به الآن لإنقاذ ذلك الأهوج مما يُحيقه من الاتجاهات كافة. وعندما انتبهتُ لنفسي وجدتني قد ابتعدتُ كثيرًا، فعدتُ أدراجي ولا زلتُ شاردًا بابتناء حل يفك تعقيد الأمر. في حين كان ضجيج الرفاق ساريًا في الليل كفقاقيع صغيرة، ملونة، وقد بدأت أصواتهم تصلني مشخصة بشكل أو بآخر...

أصفر جاحد: "ماذا يريد هذا الحيوان؟".
سيد عازف الأورج: "هو هو ذات الهذي القديم".
عظمة زرقاء: "حجتك قوية فعلاً.. إنه مَنظر واحد لا يتغير منه شيء".
الكفاءة: "إلا أن يكون التغير بالحيز! لكنه تغير تافه بالطبع".
الوافد الجديد الخرف: "إذا كان هناك موضوع، فأين الموضوعية؟، إنه يهاجمكم فقط".
سيد عازف الأورج: "موضوعيٌ فشيخ!".
عظمة زرقاء: "المسكين.. المسكين لم يستطع تقبل الرفت".
أصفر جاحد: "تفليس المفلس في ضيافة الموسر".
الكفاءة: "كل نوبة هو هو نفس الكلام، نفس الأداء الرخيص، حوت يتقافز على ظهره السلمون.. جرادة في حقل ذرة.. قولوا له ارحمنا يرحمك ربك".
سيد عازف الأورج: "ألم أقل من قبل: شيخ أبو العريف.. ألم أقل!".
عظمة زرقاء: "إننا نشوش عاليًا يا رفاق".
أصفر جاحد: "هه! وما يعني هو بلا تشويش؟".
عظمة زرقاء: "القادمات أكثر من عكسهن، فصبرًا قليلاً".
عظمة زرقاء: "كي يسخر من نجلاء جيدًا بعد ذلك!".
الوافد الجديد الخرِف: "الطيب أفضل، لكن ليس معه بكل تأكيد".
بليد: "موضوعيٌ فشيخ".
: "..........."
: "..........."

ووجدت الكمان يتوسد كتفي، والقوس بيدي، وعزفت، عزفت، عزفت بقوة، بإبداع هائل، رهيف، رهيب.. القوس كباطن السيف، والأوتار كرقبة العاذل، وأصابعي حولهما كأحكام واجبة الأداء.. وقلت لصندوق الكمان ما لتلك الحياة المعقدة، المشلولة، لا تفرق بين الأيام والسنين، الصغير والوضيع، الذاتي والجماعي، الخاص والعام.. أرقتُ دماء الموسيقى كما لم أرق من قبل.

(10)

الأماكن المغلقة، المسورة، المحددة تحديدًا مغلظًا لدى التخطيط لإنشائها، يقال: "تبًا لها من أماكن تفرض نفسها على من يتخذونها دورًا للإقامة، فتمسكهم وتسرجهم وتحبسهم إما كالمساجين وإما كالمجانين". وما يدفع إلى قول هذا، عدا أن الرجل المجنون فعلاً كان يتوق إلى الحرية حقيقة، وليس تمثيلاً كالماكثين بأمزجتهم كغالبية. كل يوم قبيل الظهيرة كان يذهب إلى السور الأملس (خيالي الارتفاع بالنسبة إلى سور يحيط مبنى من طابقين)، يحاول تسلقه ما استطاع من طاقته النفسية في احتمال الفشل، ثم ينصرف أو يُقتاد برفق إلى حجرته عند ميعاد الجلسة العلاجية. لكن اليوم بدا أن تفصيلاً حديثًا قد أضيف لذلك المشهد المعهود، فهناك من يلتقط له صورًا من عدة زوايا، وبآلات تصوير مختلفة الأحجام والماركات...

وفيما بدا أن الناس قد قالوا لغيرهم: أن هناك ما ألمَّ بالمصح من الشيء الجلل. فتوافد العديدين من ذوي المرضىَ لعيادتِهم. وكانوا (بين لهِفٍ، ومكذبٍ، وغير مكترث) يجدون كل شيء يسير على ما يرام. فلا فوضى تدور بين جنبات المصح، ولا متأذين من الصدمةِ أو التدافع، ولا أي شيء ينطبق على ما استمعوه صباحًا، عبر مذياعات سياراتهم (البرنامج النفسي/ أخبار الأحباء)، بينما هم يكونون يحتسون قهوة أو شايًا ويسرعون في الطريق إلى أعمالهم.
أيضًا شوهد بضع ممن يحملون آلات التصوير، قيد بضع من الدارسين. وقد تكلم أولئك إلى بضع مماثل من المرضى المقيمين، وأخذوا فوق ما يريدون سماعه من أجوبة خارقة، واسترسالات فارغة، ونوادر حركية. فلما اقتحمتْ رؤيا الممرضة باب غرفتي (وكنت لم ألبث داخلاً)، قالت بصوت متعجل وعصبي: أن هناك من تريد عيادتي، فهل سأسمح بذلك أم لا؟. قلت: "مَن؟". قالت: "لا أعرف، أستسمح أم لن تسمح؟ اقض بسرعة". قلت: "سأسمح". وانصرفت رؤيا الممرضة وبعينيها نظرة لم أرها، لكنني استشعرتُ على أثرها وخزًا بقلبي.

عندما طرقتْ، ودخلتْ، ما كنت أتصور مثيلاً لهكذا جمال مُعبِّر.. هادئ.. خلاسية.. متوسطة الطول.. الحلي من الأحجار الكريمة.. العنق ما العنق!.. فكانت امرأة وافرة الحضور إلى درجة مربكة. تصورتُ أنها بعد مصافحتي والجلوس بهذه الطريقة الفخمة، سوف تخرج من حقيبتها كاميرا وتضبطها على وضعية الكادر الثابت، أو تسجيلاً صوتيًا صغيرًا كيلا تثير حفيظتي تجاه التصوير، ثم إنها ستسألني بمنتهى الغنج والطفولة عن: الأطباق الطائرة؟.. أرأيتها كالذين رأوا؛ أم تعتبر الرائين مجانين؟؟.. هل كنت من المبتهجين بها؛ من الخائفين منها؛ من أي نوع أنت؟؟؟.. على أي ارتفاع كانت؟.. ما كان لونها؟.. هل دارت رأسيًا كما قال أحدهم؟!...

- ..........
- .........
- شكرًا لقبولك استضافتي. أدعى مدام ماري.. وأنا هنا في زيارة قريبة لي...
- (بسطتُ ذراعاي كحركة ترحيب كبيرة).. ضيفتي العزيزة!.
- أشكر لطفك مرة أخرى.. جئتُ للاتفاق معك على العزف بحفل أقيمه بمنزلي.. أنا أعجبتُ بعزفك الليلة الفائتة جدًا.. أطربني...
- عذرًا.. أنا لستُ عازفًا بالمعنى الذي وصلكِ! تفهمين الأمر على نحو خاطئ يا مدامّْ..
- ماري.. من فضلِك لا ترفض.. إنه عيد ميلاد طفل.. مريض... تصور: إنه مغرم بالكمان منذ أن كان في الرابعة.. الآن دخل المدرسة.. اشتريتُ له واحدًا وهو لا يفارقه، برغم أن لا أحد من مدرسي الموسيقى قد استطاع تعليمه شيئًا.. إنه يرفض ما يقولونه له ويصر على العزف من رأسه، و..
- أقدر كلامك.. لكن إذا أنا خرجتُ من المصح.. فقد لا أستطيع العودة!...
- سأكفلُ لكَ هذا: سيارة تأتي بك وترجعك بالإضافة إلى إذن الخروج.. أنا تكلمتُ مع المدير وقال لا يوجد مانع أبدًا...
- تلك هي المشكلة.
- لا توجد مشكلة.. ثق بي.. أنا أستطيع إعادتك...

كانت نظرتها عميقة وهي تقول عبارتها الأخيرة، وكانت موحية بالسكينة، وأنه لا شيء يستحق القلق. فأومأت برأسي موافقًا بينما أتأملها.. مسرورة.. تكتب شيئًا بورقة.. اليوم.. الميعاد.. الأجر وأمامه عبارة: "أترك لك التقدير".. وتقول كلمات عن كوني سوف أسعد كثيرًا... ثم كان أن دخلتْ رؤيا الممرضة وقالت للزائرة بلهجة جافة: أن الوقت المخصص للزيارة قد انتهى. نهضتْ الأخيرة بتؤدة بينما تتبادل ورؤيا الممرضة (التي ترتكن إلى الحائط المواجه بكعب حذاء طويل ورفيع ومدبب) نظرات متحدية، متكبرة، حادة. فلما راوحتْ مدام ماري باب الحجرة، التفتتْ مصوبة عينيها باتجاهي من الخارج، وقالت في نبرة جديدة شديدة النعومة وهي تلوح بيدها: "سأنتظرك"، ثم اختفتْ مباشرة من أفق رؤيتي.

"ستذهب؟".
"ما الذي جرى بينكما؟!".
"أجبني أولاً."
"... لم أقرر بعد! لكن غالبًا لن أذهب.. ها؟".
"إنها تحسب نفسها شيئًا.. بائسة.. لقد أرادت إعطائي بقشيشًا!.. السافلة.. تخيل هذا!".
"أتخيله بالطبع".
"قلت لها أنني أتبرع به لقريبتها".
"رائع".
"ما هذا الذي رائع؟".
"ردك عليها!".
"............"
"........."

وبدا أن رؤيا الممرضة قد استشعرتْ بحديثي نوعًا من اللي للحقائق – أو أنها حركة عيني على جسدها أقلقتها، فلم تشأ الإطالة لأكثر من هذا، ومضتْ مغادرة باحمرار وعبوس صرتُ أدمن عليهما شيئًا فشيئًا، مغمضًا عيني، فمحيلاً الملكوت إلى رؤيا الممرضة. وقلتُ في نفسي، بصدق: أن كم الرائحة المنبعثة من الأجواء المختلقة، المتلاحقة، والمنتزعة من سياق أحادي مغلق هو المصح، قد باتت تريبني إلى "حد ما" كبير. من ثم فإن هذا الحد الريبي قد راح يتمدد بعيدًا باتجاه الشك الكلي، الدائم، الداعي إلى التشوش، التفسخ الذاتي، الانشداه عن الواقع بمقدار عشرين ألف فرسخ تحت الماء، وذلك كلما استمر بقائي هنا، أو بتصوير آخر: "كلما قويتْ جزيئات الرائحة على منخري". فحتى وإن بانتْ الأمور طبيعية وتمضي في سياقها المعقول، فأنا مستريبٌ من مدير المصح، من الموظف القديم، الرفاق، أصفر جاحد تحديدًا، حتى رؤيا الممرضة والزائرة معًا رأيتني منهما أستريب!!!...
لقد بدت الأحوال مؤخرًا تدفع إلى نوع من الحض على الدهشة، التبدد الذهني، التماس وجودية حقة ولو بمعرفة زائفة (إسكار الجو بعبق الحبق البري)، ويعلم الإله ماذا أيضًا قد يتخفى بالرائحة المنبعثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد