الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصح النفسي -فصل من رواية- 4/4

أحمد عبد العظيم طه

2014 / 12 / 22
الادب والفن


(11)

كانت طاقتي شبه نفدت في نهاية يوم مضن. فأطحتُ بمظروف رمادي منبعج على السرير واستلقيت إلى جواره بلا نوم. كان من الطبيعي بعد ليلة ويوم كهذا – دون جرعة ولو قليلة من النوم – أن تنطفئ الأنوار وحدها برأسي، أن أدخل في عته النوم بلا أية اجتهادات سئيمة من حيث لا جدواها، لكنها التي ما فعلت (الأنوار) وظلتْ مخلصة في إضاءتها لباحة الذهن. فصرتُ الذي لا يدري: هل هو الذي غير المتشوق للاطلاع على الأوراق المضافة، معتبرًا وجودها بيده قدرًا عاديًا!. أم أنه الذي الخائف مما ستحويه تلك الأوراق من جديد، وكم عساه يمكن أن يؤثر هذا الجديد في القديم؟. فلما توجهتُ في الظهيرة إلى مكتب الموظف القديم (بعد تفكير زائد‏)، لم أشأ إثارة الموضوع كما لو أنني ذاهب من أجله – قدرته موضوعًا ثانويًا من قبيل الكذب على الذات غاية أن يتحسن أداؤها ريثما تكذب. لقد رَتبتُ عقليًا ما يُعد تمهيدًا لإعادةِ عرضِهِ بقراءة الأوراق المضافة دونما طلب مني (وبنية مجهولة منه)، مُعَوِّلًا على كونه نفس الشخص الذي سبق وأن عرض ذلك (بنفس الكيفية)، وحريصًا على تلافي تعابير متوقعة بالزهو، بالسخرية، بما قد يصيب مشاعره بصفة عامة ويضايقني حال الطلب المباشر.
طرقتُ الباب طرقتين اثنتين.. فدخلتُ وهو يرفع رأسه عما أمامه ويقول: "ادخل".. فأسديتُ التحية والمصافحة بطريقة متوازنة وباردة.. فقلتُ له: أنني قدِمتُ للسؤال عما تنص عليه لوائح المصح في شأن الإجازات الطويلة بالنسبة للعاملين به؟، كذلك خطوات قبض شهريتي التي لم أقبضها نهائيًا من قبل؟.
صنع الموظف القديم شايًا بواسطة غلاي كهربائي وقدمه لي، في حين كان يكلمني مستفيضًا عن: قانون الإجازات الطويلة، تسمياتها، حالاتها، مددها القصوى، وما يؤثر منها على التقارير الدورية التي توضع بملف العامل وما لا يؤثر. وفيما يخص الشهرية فقد قال عقب تذوقه رشفة شايه الأولى وامتداحه لصنعة يديه: بمدى سهولة ما سأفعله لاحقًا (واحد اثنان ثلاثة)، وأن كافة خطوات القبض تبتعد تمامًا عن التعقيد ولن تأخذ غير دقائق، مع التنويه بأنه لن ينفع القيام بذلك الآن لإقفال الخزينة.
أحسست بخيبة أمل بعد أن كف عن الكلام، موحيًا بأنه سيظل صامتًا حتى أتكلم أنا. لقد استوفى إجابتي دون ترك أية ثغرات تسمح باختلاق استيضاح أو استعلام عن شيء. وعندما أنهيتُ الشاي وما فتحتُ موضوعًا يبرر مواصلة الجلوس، رأيت أنه من الأمثل أن أقوم مودِعًا. غير أنني في نفسي كنت أسيفًا لفشلي على هذا النحو البائن؛ إذ لم يأتِ اللئيم على ذكر الأوراق المضافة لا من قريب ولا من بعيد. ثم كان قبل أن أبرح الباب أن استدرت إليه قائلاً: " يا ترى ما خبر الرجل المسن فهمي؟ لا أراه بالحديقة لأيام؟!".
زفر بتأسٍ بينما يرمقني بعينٍ ممعنةٍ، قال: "معتزلٌ بحجرته.. يقول أنه يموت".
عدت خطوتين وقلت منزعجًا: "وحالته الصحية؟".
قال: "طبيعية.. هو فقط يُلح عليه هاجس الموت، لا أدري لماذا".
قلت: "تبدو قلقًا بشأنه".
قال: "إنه صديقي!، ألا تقلق أنت؟".
قلت معاودًا الجلوس: "قال لي نفس الشيء من قبل، قال سأموت.. أنتَ كنت موجودًا.. يوم كلمتني عن الأوراق المضافة.. بالحديقة.. أتذكُر؟".
قال مجبرًا: "نعم تذكرت".
قلت مستغرقًا: "لكنه من حينها لم يمت، لذا تلقاني مطمئنٌ عليه تمامًا.. في رأيي أن حكاية الموت هذه لن تعدو نوبة مرضية طارئة على حالته الأصيلة، وفي الآخر ستمضي إلى سبيلها كأي شيء آخر".
قال ساخرًا: "هه، زاد لدينا طبيبًا مداومًا بالمصح!.. أعجبني تشخيصك المختصر المتفائل هذا يا شيخنا".
قلت حانقًا: "هذا من دواعي البهجة، وإن كنت أرى فيك معجبًا مستخفًا!".
قال مرتبكًا: "لا لا أبدًا، أنت مخطأ، أنا لا أستخف بأحد، إنه تشخيص حسن بالفعل".
قلت بهدوء: "عذرًا، عندي هواجسي كذلك كما تعرف، شكرًا على أية حال".
قال وهو يضحك: "العفو.. ظلمتني يا رجل!.. لكنني سأوصي كبير المداومين بك خيرًا على أية حال".
قلت قاطعًا ضحكه: "قل لي بالمناسبة، هلَّا يزال العرض ساريًا؟".
قال: "مه؟".
قلت: "الأوراق المضافة إلى الملف خاصتي".
قال: "ما لها؟".
قلت: "أطالعها".
قال: "..لا".

التمعت عينا الموظف القديم بشدة حال قولة "لا"، وعلا صوته بالكلمة عن رتمِهِ المعتاد. فأردف مسرعًا يمنطق هذا الحماس الزائد: بأن الزمن قد تغير كثيرًا عن سابقه عندما بادر بإبلاغي عن الأوراق، فالآن يمكن أن تصل لجنة "تفتيش عام مفاجئ" في أي توقيت ومن أية ناحية، وسواء ساعتها أكانت ناحية طبية أم ناحية رقابية، فسيصبح الوضع جد خطير ولا يحتمل أدنى مجازفة – وكله بسبب تدقيق كبار مُلَّاك وأطباء الوسط في الامتياز الجديد الذي حازه المصح، ولبودهم لأجله، ومدى تسبيب امتياز من هذا النوع لحرج كبير بالنسبة لباقي مصحات القطر بما فيها المصح الحكومي الكبير، خاصة وأن التنافس على هذا المستوى يضج بالعداوات، ويخضع للانحيازات، وليس شريفًا طوال الوقت كما يظن البعض.
قلت له: أنني أتفهم حجته التي ساقها إليَّ دون داع، وأنني أسأل بشكل عابر، فليس الاطلاع على أوراق كهذه عندي بالشيء الهام، في ظل أن الموضوع برمته يمثل لي قدرًا من التسلية ليس إلا. وبينما كنتُ أرتد مغادرًا من غير رجعة أوقفني قائلاً: "لدي عرض آخر".
توقفتُ وقلتُ بالمُلاحظ من التهكم: "قله بالعجل أيها الموظف القديم!".
نهض وقال بجدية: "أنت تُخرج الرجل المسن فهمي من حجرته، وأنا أُجازف بإعطائك الأوراق المضافة.. ما رأيك؟".
فكرت للحظات وقلت: "عرض جائر في الحقيقة.. لكنني سأقبله من باب الإنسانية".
شد على يدي وقال: "عظيم".

كان الرجل المسن فهمي شخصًا بشعًا وهو يفتح لي. بدا جسده في البيجامة لكأنه مصنوع من الخردة من فرط ما نحل. فكان ذو جمجمة وليس رأسًا، بعينين مجوفتين، وبفم أهتم، وبقلب يُرى خفقانه المضطرب بالبارز من أوردة الرقبة. وكان يحمل فوق ظهره المحني امرأة نائمة في رداء أسود، وكانت تجايله سنًا، وتقع شكلاً بين المقبولة والحلوة نسبة إلى سنها، والظاهر أن وزنها كان من الثقل بحيث جعله يتفصد عرقًا وترجف أطرافه...
هكذا أوغلت في تصوره وأنا أطرق باب الحجرة بطرقات منتظمة، فاترة القوة، متمنيًا في نفسي ألا يفتح لنصف دقيقة أخرى، كي أنصرف مسرعًا من هنا، ولتبأ المساومة غير المتوقعة هذه بنهاية آمنة وإن كانت خاسرة. لكنه أربكني جدًا قاطعًا تصوري بوجهه السليم، المطل من فرجة الباب، حين كان هو يفتح سلسلة الدرباس ويردد بصوتٍ مرتفع: "مرحبًا مرحبًا.. تفضل تعال ادخل".
جلست على المقعد الذي يواجه الحديقة من خلال الشرفة، وجلس على المقعد الآخر وقد وضع ساقًا فوق الأخرى. كان يُرى واثقًا في ذاته، حاضر الانتباه رغم الهالة الثقيلة تحت جفنيه من أثر قلة النوم. وكان يؤكد سعادته بالزيارة، فيكرر عبارات الترحيب وراء بعضها، ويسألني عن أخباري، وأخبار الكمان معي، وما إلى ذلك من تمهيدات لقوله: "أُأْمر..".
في البدء كلّمته متلعثمًا: بأنني سوف أصدقه القول فيما جئت من أجله، وأنني أأمل منه ألا ينتج عن هذا الصدق أنه يغضب مني. فلما قال: "خذ راحتك"، صِرتُ موجِزًا ما كان بيني وبين الموظف القديم من مقايضة هو جزء منها. ثم أطلقتُ لساني مبيِّنًا: بأن الموظف القديم يهتم لحالته حقيقة، ويقلق عليه، وأن الصدق يتطلب التسليم بأن الرجل ما صاغ الأمر على هذا النحو إلا محبة فيه.
"أقدر يا بني هذه المحبة.. أقدرها بحق.. لكنه يبالغ في تصعيب حالتي.. أنا أرى العزلة لبعض الوقت تبدو شيئًا طبيعيًا.. أليس هكذا يا بني؟".
"طبعًا يا أبتِ، العزلة حق للإنسان، فطرة فيه، إنها حتى جيدة وتحقق الاسترخاء والسكينة.. لا هواجس إذًا؟!".
".. تقصد الموت؟".
"بلى، قلت لي من قبل عن إحساسك بدنوه".
"أنا رجل مسن.. لا غرابة أن أتكلم عن الموت.. حتى أن أهذي به في الحديقة.. الأطباء يفهمون هذا.. الناس هي الغريبة يا بني.. لديهم وثوق مهول بأنها أبدية".
"لتوك قد لمست ما يؤرق الموظف القديم يا أبتاه".
"ماذا؟ هل ينتوي أن يخلدني فيها مثلاً!".
"لا.. لكنه في الوقت ذاته لا يريدك أن تموت".
"................".
"............".

قد يصعب عليّ قولي: بأن زيارتي إلى الرجل المسن فهمي لن تسفر عن نتيجة حاسمة. ولكن عند النظر إلى الحدث من زاوية نفعية، سيتكشف لي أن هذه هي الحقيقة. وفي الحقيقة أنني قد شعرت للحظات أثناء حواري معه، أنه لا موضوع حقيقي من الأساس كي تنشأ نتيجة عنه. فهو مثلاً لم يُعقب على ما سبق وبدر مني تجاهه، ولم تبد سَماحةً مؤكدةً منه تشي بأن كل شيء قد ذهب أدراج النسيان. كذلك فهو لم يَفُه قولاً واحدًا صريحًا حول إن كان سيقوم معي الآن إلى الخارج أم لا. إذًا ما هي إلا إرهاصات وجودية خاوية (من هنا وهناك) بقيت متداولة بيننا حتى نزل عليه السكوت، وأخذ يتثاءب تباعًا وبكثرة، قبل أن يعلن نهاية الزيارة بقوله وما زال يتثاءب: "أنا ممنون لصدقك معي يا بني.. وأنت لا تنتظر أجرًا عنه.. أعرف عنك هذا.. إنما عذرًا في موضوع خروجي معك إلى الحديقة.. من الجائز فيما بعد.. فيما بعد.. إن قدر لي ألا أموت هذه الأيام.. وعمومًا أنا أوحشتني الحديقة.. شرفت بك يا بني.. شرفت بك...".

(12)

كان مساءً، وجاءت سيارة بيضاء، بها سائق أسود يرتدي زيًا كاملاً لسائق، وركبتُ معه، وانطلقَ بي (وشيعتني رؤيا الممرضة بنظرة تعتلج غموضًا وقلقًا)، وعَبَرَ السائق بوابة المصح بتحيةِ يدٍ للحارسين، وقال في الطريق متباسطًا عقب ابتداءه بتجاذب أطراف الكلام: "إذن.. وما دورك بالليلة أيها المحترم؟."
أشرتُ إلى حقيبة الكمان وقلتُ: "كما ترى.. أنا عازف.. سأعزف!."
"أنتَ محظوظ أيها المحترم".
"لِمَ؟!".
"ستحضر ليلة تاريخية لهؤلاء الناس.. قدِمتْ جدة الطفل من الخارج.. وهي سخية جدًا على ما جربتُ قبلاً.. لم تأت منذ أربع سنوات و...".
"هي كانت أين؟".
"على ما أظن في تركيا...".
"..........".
".............".

استغرقتْ المسافة ساعة بالتقريب، لغا السائق خلالها شيئًا عن هؤلاء الناس، وكيف أنهم ليسوا كبقية الناس من ذات الفئة: فهم ودودون، طيبون، لا يقبلون الحرام أبدًا ولا يفعلونه، ولكن يعاب عليهم كما على ما ينسلون من عيال؛ بكثرة النسيان، والشرود، والنوم، والسفر... وصار أن سكتَ السائق في بقية الوقت، تقديرًا على ما يبدو لشغفي بمتابعة الطريق من النافذة في صمت، أو لعدم حصوله على وقود كاف لمواصلة الكلام – باستثناء بضع إيماءات عمياء.
حين وصل بنا، لم تكُ مظاهر احتفال واضحة من الخارج. ولكن في البهو العملاق للسرايا كان للمظاهر شأن آخر.. فمصابيح على هيئة شموع ضخمة تضيء بدرجة إضاءة وتبكي بأخرى، وبالونات هيليوم متحولة الشكل تهيم في فضاء البهو فلا هي تهبط الأرض ولا هي تلتصق بالسقف ولا يبدو لها رباطًا بشيءٍ ولو خيط عنكبوت.. وكانت أحواض سمك وأقفاص طير يحتوون ما هو من جهة الألوان والغرابة خرافي.. وكان أثاث يكاد يخشى المرء أن يلمسه لفرطِ جمالٍ به.. وكان لا أحد سوى بضع خدم من الجنسين في زي موحد، ويعملون أمورًا نهائية مثل تنضيد الموائد، إسدال الستائر، إزالة آثارهم من المكان...
وعندما وصلت آخر البهو، كان شخصان يلعبان بصوت واطئ على أجهزة صوتية فخمة ويضبطان سماعاتها.. ومصدر هواء بارد يضوع بالعطر.. وبهو لا يُفارَق.. وذهن مشدوه بكمِّ هذا الإبهار وما يراد من ورائه.. ومدام ماري تنقر أناملها بكتفي، فألتفتُ، وأجفل منها عفوًا، ويزداد انبهاري في تضاعيف سريرتي حَالَمَا أتأملها مفصلة. كانت رفيعة الزينة، وترفل في ثوب ساتاني فضفاض، قاتم خضرة اللون ولامعها في آن معًا، فتظهر للعيان كأنها ما انفكتْ طالعة من حكاية خيالية.
صافحتها بكلتا يديّ مقاومًا رغبة حقيقية لأن أعانقها، لأن أفترس عنقها النمير الثخين بشفتيّ. وكان الصغير يقبع إلى جوارها، مبتسمًا ببلهٍ، وعينه راكزة في حقيبة الكمان، فيما هي عيناها كانتا معلقتان بوجهي وتعدان بما لا يقال شفاهة، تعدان بالكثير جدًا، وتحويان بلمعتهما دليل شهوة عارمة، حبيسة، غير منجزة. فصار الموقف بالكلية يحض على الإثارة، ومقرونًا بالحرج، ومفعمًا بما لا يوصف من الفن، والجمال، والدهشة...

"............"
"............."

قال الطفل ولا زالتْ عينه راكزة في حقيبة الكمان: "أبي.. أبي."
وقلتُ ضاحكاً ومربتاً فوق ذات الحقيبة: "إنه أبي أنا الآخر يا حبيبي."
كرر الطفل: "أبي أبي أبي..."
ابتسمتُ له، وملستُ على شعره. لكنه على الأرجح كان لا يراني!. فابتسمتْ مدام ماري بدلاً عنه، وقالت بتحفظ: "عنده اضطراب طيفي.. منذ ولادته.. للأسف أنه ولد كذلك."
وقد واسيتها ببضع عبارات عن تقدم كبير سمعتُ به في علاج المرض، وكيف أن هؤلاء الأوادم يكونون نوابغ في ذواتهم بشكل ما، ولماذا لا وهم من...
وهي قاطعتني بضحكة بسيطة وقالت: "أنا سعيدة به.. سعيدة كما لا يتصور أحد."

لم تكن قسمات وجهها تشي بما قالت، فقد بان حزن كبير عليها وهي تنظر إلى الصغير (ولكنه دفين). تحدثتْ في محاولة مباشرة لتغيير الموضوع: أن المدعوين سيصلون بعد نصف الساعة على الأكثر، وأنها قد آثرتْ الإبكار بمجيئي كيما آنس جو المكان وأرتب أمري وكذا. ثم استماحتْ عذرًا بعد اقتراب إحدى الخادمات من أذنها، ومضتْ مسرعة إلى شأن بدا طارئًا...

تناولتُ عصيرًا جميلاً، غريب الطعم، وهو على الأرجح كان يحتوي كحولاً سائغ الطعم. ورحتُ أتفحص المكان بشيء من التدقيق، التحير، إذ تراءى لي مألوفًا إثر برهة البداية. لكنها تلك الألفة الشمولية، المشوشة، والتي لا تستند إلى أمارة واقعية. العجيب أيضًا أنه عندما توافد المدعوين، واكتظتْ القاعة بما يقارب خمسينًا من الأناسي، صرتُ أشعر نحوهم بذات نوع الألفة تجاه المكان – رغم عدم معرفتي بأدنى حد من مجموعهم. لقد أحسستُ أن لهم أسماءً أعرفها، لولا أنني لا أتذكرها، وخايلتني حوادث جرتْ بين آحادهم وبيني، لكنها حوادث هيولية لا مفصلة ولا معرفة. وقلت في نفسي إثر تغلب إخفاق التذكر عليَّ: "يا نفس صُدي عن الوهم وتسامقي وازدجري!"...

الموسيقى التي قمتُ بعزفها كانتْ هادئة على نحوٍ ما. فبعكس توقعي، لمْ يخالجني شغف حماسي كنتُ أتربص لحضوره، هدف إطراب جمهور جديد، غير مريض، لكنه الشغف الذي لم يحضر. وعندما أقمتُ رأسي عن توسد رأس الكمان، كنت قد عزفت ثلاث مقطوعات شهيرة يتخللها استعراض Sordino. وصفق الحضور بحرارةٍ مربِكةٍ.. ويجوز مرتبكة.. أو أنها عند التمعن بشكلٍ أعمق ستغدو حرارة موزعة التوجه: نصف صادقة، ونصف مزيفة. فقد رأيت امرأة شريرة تقبع فوق كرسي متحرك، وتتخذ بؤرة الاصطفاف، والاهتمام، وتمتص تحية النهاية من الموجودين– بدوران بطيء لعجلات الكرسي، بملامح تنضح غلوًا عرقيًا، وبعينين تتسلطان على الجميع خلال التقدم نحو المنتصف. غير أنني لم أشأ تصديق نفسي في تأويلها لحرارة التصفيق، ولا في شأن معرفتي لهذه المرأة، أبدًا.

"لقد أتحفنا هذا الرجل بموسيقى رائعة.. أحيانًا تكون الموسيقى علاجًا للحزن.. علاجًا مؤثرًَا.. لكنها في الأغلب الأعم تكون حافزًا للحركة.. لذا أطلب من عازفنا المُجيد تلبية رغبة أهم الحضور على الإطلاق من وجهة نظري.. والدتي بالطبع! (تصفيق).. مالكة هذا المكان (صفير).. إنها تريد سماع: طيران النحلة الطنانة.. لريمسكي.. إن كان ذلك ممكنًا (صياح)."

"لا أحفظها."
"بل تحفظها.. وجيدًا."
"خسأ ما تفعله العوالم المغلقة معي.. لا."
"ستعزفها.. أنت تعرفها.. تلعبها.. تفضل."
"سُحقًا لما تؤديه النهايات المفتوحة إليَّ.. قلت لا!."
"قلت نعم. قلت ستعزف. قلت ستلعب. مالك؟."
"لا."
"هنا ليس مجال لا.. إعزف."
"إنها مضاربة لا أجيدها أيها الجمع الكريم."
"هه!.. أضمن لك رضائهم بالنتيجة فقم بأداء المعزوفة."
"كان خطئًا غير مقصود يا مدام.. صدقيني!"
"ليس ذنبي، ثم أنتَ تقول في ماذا أيها الرعديد؟"

"..................."
"....................."

"إعزف/ إعزف/ إعزف/ إعزف/ إعزف/ إعزف..."


هنالك أشياء قد لا تُرى من فرط ضخامتها، ذلك أنها تحتوي بصر رائيها فلا يراها. وهذه الثريا التي أحملق الآن بها، مبهوتًا، لا مناص أنها من بين تلك الأشياء. فعندما تفحصتُ السقف للمرة الأولى لم تكن موجودة، أو أنها جاءت حينئذ فوق رأسي مباشرة فلم أرها جيدًا. ويعد التفسير الأخير هو الأوفر حظًا عن سابقه من جهة المنطق، بغية الإقناع بوجود ثُريا على صورة طبق طائر تتوسط سقف البهو العملاق، وتتناسب معه في خياليتها منتهى المناسبة. هذا وقد بدا لي بعد لحظات قليلة، محملقة، أن الجميع على علم بشيء لا أعلمه أنا. فعندما أنزلت عيني إلى مستوى رؤيتهم، كانت تعابيرهم تختلف شيئًا فشيئًا عن السائد منذ البداية. فهناك من يعوي بجودة، مفتتحًا المجال لصدور أصوات حيوانات أخرى عن آخرين. والذي يبرق بعينيه سكرانًا إلى درجة الشر. والتي تُظهر نواجذها في حال مشابهة مرحة. والوقوف بالصف الأخير إلى الخارج يصفقون مرة، ويرفعون قبضاتهم بالهواء مرة، في نظامية وتتابع موفقين.
ثم جرى على غرار الفجأة، في وقتٍ لا زال كُثر منهم يرددون: "إعزف/ إعزف/ إعزف"، أن عرفت عدة وجوه من الحضور دفعة واحدة. فكانوا لكأنهم قد أهووا بأقنعتهم جماعة. عدا أنه لم تكن ثمة أقنعة بالحفل يا إلهي!. إذًا، لماذا لم ألمح قبلاً، ولو لمحانًا، ما أبصره الآن باهر الوضوح؟، مُفصَّل الأبعاد؟.. أنور بك وهو يدخن سيجاره الفانتير الأسود ويراقب ما يحدث بسخرية؟.. والرجل المجنون فعلاً الذي يحاول تسلق الحائط من نقطة موازية للثريا الخيالية؟.. ولباس سهرة الطبيبة الخليعة الكاشف، الضيق، الجدير بجعلها بؤرة بصرية وتنتشي لفرط النظارة؛ كيف لم أره؟!.. الاستشاري القبيح يقلب شفتيه بتعبير عدم الرضا؟.. الطبيب المداوم الطريد بعينين لا زالتا مفعمتين باللوم والازدراء يحدق بي؟.. المدير العاقل يُشبك أصابعه حول خاصرة الطبيبة الخليعة، ويغرس ذقنه بكتفها شاخصًا إليَّ بحيرةٍ عظيمة.. الوافد الجديد يمسك كتابًا يبدو تراثيًا بوازع من تجليدته، يرفعه عاليًا، ثم يُغمض واضعًا إياه فوق قلبه.. وكان سيد عازف الأورج فائر الوجود أيضًا، إن هو ارتدي أورجًا محمولاً يرتكز إلى رقبته، وفشخ ضبته، وصار ينشز نغمًا خبط عشواء يثير الاشمئزاز من كون عازفه مندمج بما يؤديه..
الرفاق كلهم باتوا هنا، وللغرابة فإنهم بدوا متضاحكين طي أصوات واطئة، ودون أن ينظروا لبعضهم البعض.. وكان من غير المتوقع أبدًا أنني رأيتُ رؤيا الممرضة تطأطأ حزينة، دامعة، وهي كانت تريد قول شيء لكنها لم تستطع غير تحريك عضلات وجهها بعسرة، بخجل، وعندما سأدقق بها سأراها متزينة بطريقة مبالغ فيها – بل هو طاقم التمريض الليلي المنوب بأكمله قد أتى متزينًا بتلك المبالغة!.. وكان الرجل المسن فهمي يضحك ملء فيه، ويشير لي بعلامة النصر من ركن دني، فلمّا سأقرأ حركة شفتيه المتكررة سأجده يقول: "الحدث يا بني.. الحدث"...
وأنا صرت مشوشًا إلى درجة المنتهى، ولا أقوى على تخمين أي ابن قردة دخل غرفتي، وسرق ساعة الحائط التي من ذات العصفور وتعمل، وقام بتعليقها عند أعلى الحائط الخلفي للبهو، إذ متى أن تَلفّتُّ على الصوت المأنوس رأيت الساعة صادمة، وكانت تشير إلى الثامنة، والعصفور يصيح في وجهي عند كل طلعة كأنه عدو شمتان...
وأنا صرت أتهاوى، وأرى الأشياء مضببة في الواقع، ومعكوسة في مرايا كبيرة بالواقع أيضًا، وأفكر أثناء وقوع هذا عن كنه الحقيقة.. الحقيقة حقيقية؟.. يا سلام؟.. الحقيقية ما هي بالأساس؟.. يا سلامان؟.. أين رأيت ذلك قبل ذلك؟.. أو إنه الذي أين رآني؟.. ما الذي سيحدث بعد قليل؟.. ?قليل بعد سيحدث الذي ما.. كيف وقعت على هذه الصورة!.. !ةروصلا هذه ىلع تعقو فيك...

(13)

مُختزَلُ الورقة المضافة الأولى:

"نتاج المتابعة":
تأسيسًا على اتباع وإدامة متتالية "المنهج الذهني" في المتابعة، عبر مدة قوامها ثلاثة أشهر متتالية، فقد تم رصد "كمون جزئي غير مستقر" لأعراض الاضطراب المركزي لدى المريض. ويمكن تفصيل ذلك فيما يلي من نقاط: • يستجيب المريض غالبًا لتعديل مسميات الأشياء وحيثياتها طبقًا للواقع وليس وفقًا لما يراه. • ينسى المريض متعلقاته بالأمكنة التي يرتادها داخل المصح بصورة أقل من متقدماتها. • يفرد المريض وقتًا لم يكن محققًا من قبل في تعلم الموسيقى بمعرفة المختص المقيم. • عاد المريض كلية إلى التدخين يومًا كاملاً وأقلع في اليوم التالي في غير مرة. • لم يستجب المريض لجلسات التنويم الإيحائي بعدد ثلاث جلسات متوالية لم يتخط خلالها المرحلة "ألفا". • تتحسن درجة التفاعل بين المريض والوسط العلاجي بصورة طفرية، ويعقب ذلك ارتداد حاد إلى متوسط في درجة التفاعل. • يُسَجَّل انحسارٌ ملحوظٌ لكمِّ "الضلالات" التي يتعايش معها المريض باستمرارية، ممثلة في شخوص وأحداث يُعَيِّنها. • يمارس المريض "عصفًا ذهنيًا – ذاتيًا – إراديًا - مسموعًا" بمعدل أضعف نشاطًا مقارنة بكافة تقارير المتابعة السابقة.

مُختزَلُ الورقة المضافة الثانية:

"الاستجابة الطبية":
بناءً على ما تم الخلاص إليه من تحليل النقاط المسجلة آنفًا، فقد تراءى للطبيب المعالج – بعد استشارة الطبيب المراقب العام – ما يلي من محدثات على الجدول العلاجي: ٭-;---;-- توفير آلة موسيقية "كمان" للمريض عملاً على تلبية رغبته المستجدة. ٭-;---;-- زيادة جرعة "دوجماتيل 50ملغ" لتصبح جرعة يومية بدلاً عن ثلاث جرعات أسبوعية. ٭-;---;-- السماح لذوي المريض باصطحابه مدة 24 ساعة بعد توقيع إقراري "الإعادة" و"المسؤولية الكاملة" واتخاذ الإجراء الإداري اللازم.

مُختزَلُ الورقة المضافة الأخيرة:

"توصيف التطور المرضي":
بداية تجدر الإشارة إلى ما جاء نصًا في تقرير المتابعة السابق لهذا التقرير، فقرة التوصيف ص7: "يعاني المريض خللاً طارئًا بوظائف الرؤية: تحديد الأشياء – إدراك الألوان – تقدير المسافات والأبعاد". وعليه فقد أُقر تعيين هذا الخلل مركزًا قياسيًا لبقية التطورات الاضطرابية لدى تشخيص الحالة الكلية الآنية للمريض. واستنادًا إلى نتيجة الفحص التخصصي لقاع العين، كذلك إلى نتيجة اختبار "بنتون" للذاكرة البصرية – مُرفق النسخة الأصلية من الاختبار – يفيد الطبيب المعالج بأن هذا الخلل لا يمت بصلة إلى الناحية العضوية، وإنما هو ناجم عن "صراع ذاتي تعددي" كتطبيق مرئي متجدد لأحوال الغلبة بهذا الصراع. ويُعللُ ذلك "نفسعقليًا" بأن أي "تخفف فصامي حقيقي" قد يحرزه المريض على المستوى النفسي، يقابله "استبقاء ذهاني مصطنع" على المستوى العقلي– وهو إجمالاً ما يظهر على هيئة عرض عضوي مفاجئ. ويُستكمل التأويل عمليًا من خلال ما تم توثيقه بالتقرير من اختبارات، وفحوص، لكلا المستويين الآنف ذكرهما.


الطبيب المعالج

يعتمد



الطبيب المراقب العام

يعتمد









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا