الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخروج الي الحديقة

محمد احمد الغريب عبدربه

2014 / 12 / 23
الادب والفن


كانت الحجرة مظلمة، ونصف سقفها الايسر ملون بالاسود والثاني بالابيض، ومنتصفه يستقبل أعين نائمة لم تستيقظ منذ يوم، هذه النقطة كانت تدمع في الظلام حتي اصبحت أكثر بروزاً عن اي منطقة اخري في السقف، وتزداد اكثر بروزأ عندما يستيقظ صحاب الأعين ويلامسها بأصابعه بلطف ثم يجلس ينظر اليها ويضحك.
كانت تزداد في البكاء والبروز أكثر مع تزايد ضحكاته وتغيرها الي نظرات حزينة، كل لحظات، هذه النقطة لا تهتم الا به، طول الوقت تنظر له وينظر لها، مشهد بطئ ملئ بالمشاعر، بين شئ صامت صلب، ورجل فقد الحياة لتوه، واصبح يضحك لكي لا يتذكر ما فقده.
وكان يهتم بها هو ايضاً، بل يهتم بدهان السقف كله بالوأنه كما هي، وذلك بانتظام كل فترة، حتي يظهر بشكلأ واضح وزاهي يسر الناظرين، يحمل فرشاة الدهان، ويجلب مكونات الدهان ويرتدي ملابس تناسب هذا الأمر، وعندما لمس الفرشاة تذكر أنه منذ بدأ الدهان قد ذهب عدة اشهر لكي يتعلم الدهان في أحد الأماكن المخصصة لذلك.
شعر في هذه اللحظة أنه بذل ما لديه لكي ينجح في ذلك، كان يدهن بابتسامات لحظات وحزن لحظات، ثم يستريح مستلقياً علي الأرض وناظراً لمنتصف السقف.
وعندما ينتهي من الدهان تنتابه لذة كبيرة ثم يذهب في النوم، ويحلم بها، ويحضنها بقوة ولكنه يرفض الحلم ويستيقظ باكياً ويجرجر نفسه بين انحاء الشقة بعد أن يترك حجرته خالية من نفسه، ثم يستقر به الحال علي السرير مستلقيا ظهره، وماسحاً دموعه كلها، وناظراً لمنتصف الحجرة.
ويفتح نافذة تقع فوق السرير وينظر الي المباني التي تلتصق بنظراته، فتضيق الرؤية فيصبح اكثر اكتتئاباً ومناجاة، ويتمتم لنفسه بنهاية كل شئ، رغم استمراره المفزع في فضاء مشتت.
***
رن جرس شقة في الدور اسفل شقته مباشرة، فانتبه له وارتدي ملابسه، واقترب لهذا الامر، ورأي صديقه متسائلاً عنه، واصفاً اياه لشخص فتح الباب لتوه، انه طويلاً ذو عينان زرقاتان، وعريض الجبهة، يملك من الخبرة الواسعة في تاريخ فنون عصر النهضة.
اندهش من هذه المعلومات المغلوطة، وظن أنه يبحث عن شخص اخر، ولكن تأكد أنه يبحث عنه لأنه صديق يمسك بكتاب في طب الجنون، وهو كتابه الذي ينتظره من صديقه بفارع الصبر، فكثيرا من الوقت يقرأ مقتطفات منه، وهو مستريحا سريراً ناظراً الي منتصف السقف، كعادته.
كما أنه ينتظره لكي يسأله عن اخر تطورات امور الدهانات واسعارها، والوانها التي تتغير كل فترة، فهو يريد الحديث منها حتي يصبح السقف أكثر جمالا واشراقا كما يود ويقول لنفسه ذلك..
تأمل حديث صديقه المطول مع جاره، والذي يمتلئ بالأخطاء عنه وعن حياته، الا بعض المعلومات الصحيحة ومنها تطرقه للحديث حول كتابه الذي اخذه منه وكان حول الاكتئاب وقام برده منذ اسبوع واخذ مكانه كتاب الجنون، وأنه اليوم سيأخذ منه كتاب حول العبث، وايضا قال لجاره ان لديه كثير من المعلومات يحملها لصديقه عن عالم الدهانات.
ونظر له صديقه، وابتسم ولوح له بكتاب الجنون، وطلع السلالم ثم دخل شقته، وجلس يثرثر معه، ومرت الاحاديث والموضوعات المتعددة، وكان اكثر الكلام عن الدهانات والكتب التي تقرأ، ثم فجأة شعر كلاهما بالضيق والملل، بعد أن كان مستمتعان بالحديث في بدايته، يبدو أنهم ليس علي حد الاتفاق، أو أنهم لا يفهمان بعضهم جيداً، ثم تبادلا الكتب، وانصرف صديقه.
وسأل نفسه لماذا يستمر في علاقته بهذا الصديق، إلم يحن الوقت لوضع نهاية معه.
***
مر عليه الوقت ثقيلاً تارة قارئاً بعض كتبه في الاكتئاب والجنون وتاريخ الشواذ في كل الاشياء وبعض الافكار التمهيدية في الفلسفة، وتارة مسترخياً علي سريراً ناظراً الي نقطة منتصف السقف، حتي شعر باحتياجه الي الاجتماعي، وفعل تواصلي بسيط لا يحتاج الي حسابات وفهم للمصلحة والواقع جيداً.
فذهب الي البلكونة ورأي بعض الافراد جالسين يثرثرون في امور عدة فرغب، ان يشاركهم ذلك، فارتدي ملابسه وقبل خروجه من المنزل صعد مرة أخري الي كهفه الدائم، واصبح بشكل مؤكد غير قادراً علي الجلوس مع اصحاب النوادر والحكايات المسلية. فنادي علي عامل القهوة أن يأتي اليه، وحادث نفسه أنه لا يمكنه الاستغناء عن التواصل مع الاخرون، ولكن ليس بشكل مباشر مطلقاً، فهناك كثير من الاختيارات متاحة أمامه رغم مرارتها، لكنه ستناسبه لوقت طويل.
دخل عامل القهوة شقته، وحادثه احاديث كانت تردد في الاسفل، فسعد كل السعادة، ولكنه نفر بعد عدة دقائق، وقد شعر بارتياح غامض ملئ اعماقه، وقدم للعامل عشاءاً فاخراً ومشروبات وطلب منه تناول ذلك دون حديث، كان يجلس أمامه ينظر له وهو يأكل بهم، ويبتسم ويصرخ بداخله بأنه رد جميل هذا العامل دون اي تقصير من جانبه.
وطلب من صديقه علي الذي يبتادل معه الكتب أن يقابله بعد عدة أيام في مكان وسيط بينهم ليسلمه بعض الاوراق التي تحتوي علي احاديث وثرثرات التي تتناثر علي مجالس الناس وبعض القهاوي التي تتواجد في المنطقة التي يعيش فيها علي.
وبالفعل تجاوب علي معه وقابله واعطاه كثير من الارواق والاحاديث، فتلقي التحيات والتقدير منه ..
جلس يطالع الاحاديث المكتوبة بنشاط وسرور، وتذكر معها ما قاله عامل البوفيه، بانتباته نشوة غامضة وكان ذلك في الصالة، فلم يدخل حجرته ومتابعة نقطة السقف، وقال لنفسه الان سلامي الداخلي تجاه العالم جيد، فقد تشبعت بكثير من البهجة والسرور، فالاخرون مدوني بها عن طريق القراءة والذكريات ولما يطالبوني بالمقابل وهذا انجاز في حد ذاته، ساسعي لتكراره يوما بعد يوم...
قرار بقائه في الشقة اصبح مستقر بداخله، فهو لا يخرج الا للطورائ ومناجاة العالم لتخفيف الألم، وعندما يعترف ان الوحدة اصبحت لا تفي بمهمة تخفيف الألم، وفي نهاية اليوم وبعد أن يأخذ جولة بالخارج يعترف لنفسه أن الألم يتزايد يوما بعد يوم ولا وجدوي في شئ ينتظره..
***
وأغلق فتحات الشقة عليه، وجلس في الصالة للتحدث للعالم بصوته وليس عبر اوساط حديثة تنتشر بين جموع البشر، بل اصبح عاريا تماما ومسك بيديه تفاحة وعلقها في شئ مرتفع، ثم ذهب يبحث عنها في الشقة حتي رأها معلقة فالتقطها وقام بقضمها بكل قوة حتي انتهت في معدته.
ثم ارتدي ملابسه وقفز في الهواء عدة قفزات حتي اصبح يتسلق اثاث الشقة القليلة، حتي تحطم كل الاثاث واصبح في شكل غير مرتب وسريالي للغابة، فلمسه بأطرافه واصبح يشعر معه بالدفء، فاندهش لكل هذا التغير، واشعل سجائره في فرح.
حتي رن جرس التليفون، فشعر بالصدمة والحيرة، وقام ترتيب كل شئ في مكانه مرة اخري، وحاول اصلاح كل ما فسد من الاثاث بسرعة فائقة، فلم يلحق الرد علي الهاتف، وانتظر حتي يتصل مرة اخري، ولكن ذلك لم يحدث فاغلق الهاتف نهائيا ونام مستلقيا علي ظهره ناظرا لمحتويات الشقة وملامح المكان في بؤوس كامل..
ولانهاء هذه الحالة من الحيرة والارتباك قام بجمع كل الاوساط الحديثة من هاتف واجهزة تلفاز واثاث مكسر وفاسد واثاث اخر مرتب وجميل في مكان ضيق في الشقة، واصبح بدون شئ يستند اليه عند الحاجة فاصبحت الشقة فراغاً هائلاً.
وذهب الي النوم الهادئ الطويل، تاركاً خياله للسعادة، حتي تخفف عنه ألم الصداع واركان الوحدة التي تفترشه، وجلب بعض المسامير الطويلة حتي تتناسب مع ملامح النوم القادم، ووضعه علي السرير بشكل منظم، والقي بعض الجرائد القديمة المليئة بالاتربة ورائحة العفن، وجعل منها غطاء جميل حتي يخفف من شعوره بالبرد، ونام وهو يتأوه من ملامسة المسامير لجسده المهترأ ومتألما من محاولاته الفاشلة لاستنشاق هواء جيداً نظيفا بعيدا عن رائحة العفن التي تقترب منه بكل حفاوة.
لم يستطع اغلاق مشهده بكل سهولة، فرغباته الداخلية تشطره الي ذرات تلتصق بالمسامير ورائحة العفن والاتربة، فزاد التصاقا بها حتي نام في هدوء وراحة وجاء الصباح مهلهلاً لعلاج الجروح واستنشاق هواءاً جديداً نقياً من شباك الصالة.
وارتدي ملابسه ونزل الي الصيدلية واشتري بعض ادوية الجروح، وانتهز الفرصة واستنشق هواء نقياً، ولكن الحزن ارتسم علي وجه، رغم انتهاء معاناته الليلة بصباح العلاج والنسيان.
جلس علي أحد الارصفة وتأمل السماء الصافية وضحكات المارة وضجيج الاطفال وقال لنفسه أن الحياة اليوم افضل من الأمس وخاصة ملامسة المسامير لجسده، ولكنه شك في الأمر، وقرر السير في بعض الطرقات دون تأمل شئ أو تذكر ليلته الماضية.
ولكن الحظ دائما يقف ضده فكل شئ بالأمس تجلي أمامه، فوجد بائع للمسامير والحدايد يعرض عليه بضاعته باسعار رخيصة، فاشتري كثير من المسامير فاصبحت جراح الأمس هي جراح اليوم وبشكل اكبر.
وارتخي جسدة في احد الحدائق ليقوم بادخال المسامير ومسلامستها لجسده تدريجيا وبشكل دقيق، وأخذ يتقن هذا الامر، حتي سال الدماء من جسده، ولكن ليس غزيراً، فهو يحك جسده فقط بالمسمار حتي يشق بعض من لحمه وجلده، واطمأن ان الجروح لا تقتله وأنها عادية تنتظر وقتاً طويلاً لكي تمحي بعلاج اعتيادي.
شعر بحرية المكان والألم، فحضن الهواء بدمائه المنسلة علي جلده، ولعن جلوسه في الشقة وحيداً لا يراه أحداً ولا يري أحد، ووقف لمشاهدة المارة والعاشقين لكي يطلب منهم بعض السعادة، فمنحوه الابتسامة البعيدة وقبلة ثنائية هادئة ليس هو طرف فيها، ولكنه علي مضض شعر بالمتعة.
ثم استلقي علي حشاش الحديقة ونظر الي انتهاء ملامسة المسامير لجسده والهواء النقي وهو يتخلله، وتمني أن يقرأ كتاباً في الجنون أو العبث في هذه اللحظة مثلما كان يفعل في شقته البائسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/