الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق: صراع العروبة والأسلمة في الدستور وحوله

فالح عبد الجبار

2005 / 9 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


ثمة ضجة كبرى في العالم العربي حول عروبة العراق، قامت ولن تقعد. ولهذه الضجة ابعاد شتى، منها ما هو وجيه، وما هو ملتبس، وما هو مغرض. فالمحيط العربي يشعر بالقلق من وجهة العراق المقبلة: مخاطر حرب أهلية أو تقسيم او ان يدير العراق ظهره الى العالم العربي. هذا القلق مفهوم نظراً لأن هذا البلد المنكود كان ولا يزال متأرجحاً على مفترق طرق عدة.
في البدء كانت الضجة حول «أمركة العراق»، ولما فشل الأميركان في ضبط التطور على الوجهة التي يرغبون باتجاه عراق ليبرالي، اندلعت الضجة الكبرى الثانية حول «عروبة العراق». والمقصود مسودة الدستور الدائم التي صدرت بعد صراعات في 28 آب (اغسطس) الماضي، وبالتحديد المادة الثالثة من الباب الأول: «العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو جزء من العالم الاسلامي، والشعب العربي فيه جزء من الأمة العربية».
يتضمن الدستور العراقي الجديد كثرة من البنود المتخلفة، المثيرة للقلق، مثلما يتضمن مواد حضارية بالغة الرقي، قياساً بالدساتير العربية. والمواد الحضارية مثلاً ترسي النظام السياسي، نظرياً على الأقل، على شرعية التفويض السلمي عبر الانتخابات، والتداول السلمي للسلطة، واقامة نظام لا مركزي اداري يدرأ عن المحافظات الاهمال والازدراء، وتوزيع الموارد (العامل الأهم في نشر التنمية المتوازنة) وإقامة فيديرالية قومية للأكراد واخرى ادارية لمن يريد، في بقية الارجاء.
في المقابل ثمة بنود تقليدية متخلفة تدفع باتجاه اسلمة النظام السياسي، باعطاء المرجعيات الدينية دور الحكم الفصل في تحديد معنى الاسلام، نظراً لأن الدستور يحظر تشريع ما يسمى بـ «أحكام وثوابت الاسلام» دون وجود أي اتفاق على ماهية الأحكام والثوابت. ويتجاهل العالم العربي ببلاهة نادرة انه لا يوجد اسلام واحد، وان المذاهب والاجتهادات تشطر العالم الاسلامي في الاعماق.
والخطر الآخر الذي ينطوي عليه الدستور هو احتمال ان يفتح الباب لاخضاع مؤسسة التشريع (البرلمان) لهيمنة الاكليروس إذا ما أفلحت الجهود الجارية لتسريب اصحاب العمائم الى المحكمة الدستورية، أعلى هيئة للبت في دستورية القوانين. لقد فشلت القوى الاسلامية المحافظة في انشاء هيئة تصادر حق الأمة في الاختيار باسم حق إلهي مزعوم بالرقابة. وهناك جوانب أخرى في الدستور تقوض دعائم التوافق في عراق الاثنيات والطوائف باعتباره اعترافاً بهذه الانقسامات ووسيلة لحلها على قاعدة المشاركة الشاملة. والمقصود إلغاء مجلس الرئاسة الثلاثي، واستبداله برئيس واحد، وإلغاء صلاحيات النقض الرئاسي كضامن للحد من غلواء السلطة التنفيذية للوزارة (وزارة الغالبية البسيطة)، ما سيفضي الى فرض ديكتاتورية الغالبية البسيطة، وليس ارساء ديموقراطية الغالبية الموصوفة (الثلثين).
فصوغ الدستور الحالي يفتح الباب للديموقراطية في جانب، ويغلقه في جانب آخر. بتعبير آخر ثمة احتمال يشتد كل يوم بفتح بوابات ديكتاتورية دينية على الغرار الايراني في جل المناطق العربية، بما في ذلك العاصمة بغداد. الاستثناء الوحيد اقليم كردستان، حيث تميل الموازين لصالح القوى القومية واليسارية ذات المنحى العلماني.
ترك العالم العربي، مثلما تركت جبهة المعترضين (ما يسمى بـ «القوى المغيّبة» في العراق، وهو تعبير عن مزيج من بقايا البعث والقوى القومية والسلفيين المتشددين والاسلاميين المعتدلين وغيرهم)، كل هذه السوءات، وكل هذه الحسنات، وتمسكوا ببعض البنود المتفاوتة في اهميتها. لكن التركيز تسلط على بند واحد هو المادة الثالثة المتعلقة بهوية العراق العربية. ورغم ما في هذا الموقف من اخترال لتعقيدات الوضع، فإنه محفز على التفكير وجدير بالتأمل.
لا يتضمن دستور العراق الأول عام 1925 مادة واحدة تشير الى ان العراق جزء من الأمة العربية، رغم ان عراق ذاك العهد صار أحد مؤسسي الجامعة العربية، واكثر الدول العربية طموحاً الى الوحدة (خصوصاً مع سورية)، وجمع ساسته ليبراليتهم السياسية بنزوعهم العروبي. وتفحصتُ دساتير عدد من البلدان العربية، دون ان أجد مادة تشير الى ان ذلك البلد جزء من الأمة العربية.
ما علة ذلك؟ من الوجهة القانونية الصرفة فمفهوم «الأمة العربية» مفهوم سوسيولوجي - سياسي، يراد به ان مجموعة بشرية محددة، تمتلك قاسماً مشتركاً من اللغة والثقافة والتاريخ، ما يسمح لها بأن تشكل أمة في عصر صعود القوميات، ومبدؤه الناظم: لكل أمة دولتها. وتحقق هذا المبدأ في كثير من الحالات. ووصل الأمر حد الاعتراف بركنه الاساسي، أي مبدأ تقرير المصير، في المواثيق الدولية، ومنها ميثاق الأمم المتحدة. لكن الواقع القانوني للأمم لن يتحقق أو يكتمل قبل تشكل هذه الأمة في دولة، والدولة هي الكيان السياسي الوحيد الذي يتمتع بوجود مادي وقانوني في آن.
و على هذا فإن الأمة هي وجود بشري - ثقافي بينما الدولة تقوم على أركان الاقليم/ الشعب/ النظام السياسي. والعرب كأمة ينتشرون داخل رقعتهم الجغرافية وخارجها. ولا يوجد كيان قانوني محدد اسمه أمة عربية، دون ان ينتقص هذا القول من وجود العرب، أو من حقهم كأمة (أنا واحد منها) في تأسيس دولتها الموحدة (فيديرالية أم كونفيديرالية أم اندماجية). لكن هذا الاعتزاز بوجودنا كأمة لا يجيز لنا ان نلغي حق الأمم الأخرى، خصوصاً اقرب الأمم الينا، أعني الأمة الكردية، في ان تتمتع بحق مماثل. وأجد حرجاً كبيراً في الذود عن حق الأمة العربية في الوحدة دون احترام حق الغير في وحدة مماثلة. وبدل ان نبكي على عروبة العراق، خير لنا ان ندعو الى سوق عربية مشتركة ترسي أسساً ملموسة لوحدة عربية يمكن ان تتطور تدريجياً.
والنص على ان الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية لا يلغي انتماء العراق للجامعة العربية، المؤسسة الوحيدة التي تعبر عن الهوية العربية الموحدة حتى اللحظة. والتركيز المفرط على بند «عروبة العراق» ينطوي على تمسك عاطفي - ايديولوجي يقوّض حركة المعترضين على الدستور، وهم بالاساس قوى قومية - عروبية متعددة (بينها بقايا البعث) وقوى اسلامية معتدلة (الحزب الاسلامي) وقوى سلفية متشددة، يلخصون اعتراضاتهم في أربع نقاط اساسية:
1- التمسك بأن تكون الدولة العراقية، وليس شعبها العربي فقط، جزءاً من الأمة العربية.
2- القبول بالفيديرالية الكردية، اعترافاً بوجود المسألة القومية، علماً ان الأكراد حظوا بالحكم الذاتي (قانوناً) ولم يتمتعوا به (واقعاً).
3- رفض الفيديرالية الادارية خارج المناطق الكردية.
4- التمسك بمبدأ الغالبية الموصوفة (الثلثين) في اطار أي ترتيب للنظام السياسي، وهو اساس التوافقية.
والمطلبان 2 و4 سليمان، بل ضروريان لتوازن النظام السياسي. أما المطلبان الآخران فمتناقضان، بل مدمران لفرص هذا التيار الراغب في العودة الى معترك السياسة عبر المؤسسات (الانتخابات، البرلمان). وهذا تطور ايجابي وسلبي: ايجابي لجهة المشاركة الفاعلة في المؤسسات، وسلبي بل مدمر لجهة بناء قوى كافية من أجل عراق وسطي، لا مخرج إلا به. فالإصرار على البند رقم 2 (فيديرالية الكرد) يقرّب الشقة بين المعترضين والجبهة الكردية القوية (28 في المئة من الاصوات و74 مقعداً في البرلمان) كما يقرّبها من القوى الوسطية (18 في المئة من الاصوات). ويزداد هذا التقارب بفعل البند رقم 4 من مطالب المعترضين الذين، في المقابل، يدمرون فرصهم هذه الذات بالتركيز على عروبة العراق، ما يخلق هوة بينهم وبين الكتلة الكردية وحلفائها.
كما ان قبول المعترضين (وجلهم علمانيون سابقون) بأسلمة الدولة، وهو الخطر الأكبر، يبدو غريباً، في ضوء علمانية جل القوى القومية العربية. ولعل مرد قصر النظر السياسي هذا يرجع الى تحالفهم (الموقت بأي حال) مع السلفيين المتزمتين، دعاة الحرب الطائفية، ولعله يرجع ايضاً الى دوافع الانتقام القديمة، التي عملت حتى الآن على احباط عملية الانتقال بأي ثمن، وهو تكتيك اثبت فشله المدوي في انتخابات كانون الثاني (يناير) 2005.
لن تتغير هذه الديناميات السياسية إلا بعد انفصال القوميين عن السلفيين، والبحث عن تحالفات وسطية ممكنة. وحتى يتحقق ذلك (أو لا يتحقق) لن يحصد المعترضون سوى عطف عربي غير مؤثر على العملية السياسية. أما التعطيل المتصل لهذه العملية فلن يسفر عن شيء سوى استمرار التدهور، واستمرار الاحتلال، وتخندق السياسة في اسلام متمذهب، ضيق وخانق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة