الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عالم من الغواية والعفة.. بين الواقع والأسطورة

حسام الحداد

2014 / 12 / 30
الادب والفن


عالم من الغواية والعفة.. بين الواقع والأسطورة
قراءة في رواية " جريمة في دير الراهبات" لروبير الفارس
حسام الحداد
نحو شاعرية اللغة والتحليق في فضاء الأسطورة والتراث الشعبي المسيحي.. في رحلة اكتشاف الذات، والصدام معها وتحاورها مع الواقع المعيش، يأخذنا روبير الفارس.
ليست الذات المسيحية فحسب، بل الذات الانسانية على اتساعها، والتي تتحول من النقيض للنقيض في حركة سريعة مفاجئة وغير مبررة، محاولة الوقوف على الحقيقة، الحقيقة المشتتة في أسطر روبير الفارس وكلماته، بين الغواية والعفة تلك الثنائية التي يركز عليها النص الروائي، في عمل سردي محكم، ليس مغرقا في التفاصيل بل في رسم جداريات واضحة يتحرك فيها الكاتب برشاقة اللغة وزخم الأحداث في آن، جامعا عذابات النفس الإنسانية التي خلفتها المعارك الضارية بين العفة والغواية من ماضينا السحيق وبدايات الرهبنة، إلى واقعنا المعيش والذي تجلت سطوته وقهره علينا في العقد الأخير من حكم مبارك ونظامه، وتغول ظاهرة الإسلام السياسي واستعار الحرب على المسيحيين حتى وصل الامر الى خطف سيدات مسيحيات والادعاء بانهن اشهرن اسلامهن والعكس، مما يعيد الكاتب ونحن معه غلى القهر الذي مورس على المسيحيين في العصر الروماني "عصر الشهداء" مما يدلل على قدرة الكاتب على حشد الموروث لاستيعابه اياه ومواجهتنا بقدرة غير عادية بتلك الجروح والشروخ التي شوهت جدران انفسنا، من خلال حكاية جومر "امرأة النار" والتي تولد لأم بائعة صور في منطقة السبع كنائس (محطة مار جرجس بمصر القديمة) بكل ما يحمله المكان من موجودات تترك أثرا نفسيا وروحيا دفينا للمتابع لها، أما الأب فهو نازح من الصعيد هربا من الفقر والحر.
هذه الأسرة البسيطة والتي تضم بين أعضائها شقيقتها مريم والأخ الأصغر يوسف تواجه إلي جانب مشقة الحياة مشقة أخري قاسية وهي جمال جومر الذي يجلب لهم المصائب، وتلجأ الأم إلي مارجرجس لتكون جومر في حمايته ويلعب الكاتب علي المزج بين القصص الإعجازية التي تحكيها الأم عن مار جرجس والعذابات التي تتعرض لها جومر، ومع فسخ خطوبة جومر من الشاب المرشح للكهنوت تتفكك الأسرة الصغيرة.. جومر تشهر إسلامها، الأم تموت.. الشقيق الأصغر يقتل زميله الذي عايره بأخته.. مريم تتزوج ابن عمها الصعيدي الذي يذيقها العذاب. يتم العثور علي جومر مقتولة داخل أحد الأديرة تحوم الشبهات حول كثيرين لدرجة الشك في القديس النائم بتابوته بالدير منذ مئات السنين، لينتهي التحقيق في تلك الجريمة بمفاجأة، حيث يدخل الكاتب إلي عمق التراث ليقدم قراءة إنسانية جديدة عن نشأة الرهبنة ويتعرض لمحاكمة التراث القبطي في جرأة وحدة ليصل إلي قاتل لا يتوقعه، وبصفة عامة تدور أحداث الرواية في أربعة عوالم: جومر وأسرتها الكنيسة والدير، الدكتور نادر وعبد الغني البواب وزوجته فاطمة، والرهبان قديما.
لا ينشغل الفارس بالتشويق قدر انشغاله بالتجريب، وبناء اللوحات الفنية المتلاحقة، التي تطول أحياناً وتقصر أحياناً، لكنها تتقدم نحو هدف يرجوه.
وليست جومر فقط التي تعزف على وتر غواية الجميلات للرهبان في هذه الرواية، بل يفاجئنا الكاتب بالعودة إلى عصر الرومان ليروي حكاية شبيهة عن "مينا" الذي رغب في الذهاب إلى فاتنة الصعيد "باتريشيا" ليعظها بالتوبة، لكن "مارينا" حذرته قائلة: "لن تعود ثانية، كل من ذهب إليها لا يعود" ثم تحكي له لتعظه: "كانت لي بنت عم تدعى أودسا تفوقني كثيراً في الجمال والدلال والأنوثة، وعلى رغم أن كثيرين من الرجال كانوا يتوقون لرؤية وجهها إلا أن زوجها أصيب بسهم باتريشيا، وكاد أن يجن بسبب ما سمع عنها. وذهب إليه البطريرك الجالس على عرش مار مرقس وأخذ يعظه ويعده بالملكوت حيث ما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر، إلا أنه قال إن باتريشيا هي الملكوت، وبالفعل شد الرحال إليها، ووضع كل كنوزه تحت قدميها ثم عاش عبداً يسقى البهائم في حظيرتها".
لا ينسى روبير الفارس أن يذكرنا بالفساد الذي حاق بنا ويجعلنا نطلع اليه من خلال اختلاس النظر السريع في روايته من زاوية هي الأهم من وجهة نظر العارف "فساد العملية التعليمية" ويدلل عليها في موضعين أولهما حكاية مريم والتي "حصلت على ليسانس الحقوق بتقدير عام امتياز مع مرتبة الشرف الأولى ولكنهم تجاهلوها، وقاموا بتعيين أخريات كمعيدات بالكلية" ما يدل على انتشار الرشوة والفساد والمحسوبية، وربما كان اضطهادا أو تفرقة طائفية، كما يشير الكاتب إلى أن هذه الكلمات "ترددت في أنحاء البيت"، واستدلال آخر لفساد هذه العملية التعليمية بفساد القائمين عليها، حيث تهل علينا الغواية من تحرش المدرس في المدرسة الثانوية ب "جومر" في الفصل وكأن الكاتب هنا يوثق للفساد الذي انتشر في مدارسنا زمن كتابة الرواية.
"احذر ان تصنع خطيئة بهواك لئلا تعتادها فتصنعها بغير هواك"
"قليل من الخطايا تجعل الحياة مستساغة"
"لماذا لا تموت أعضاؤنا أو تموت كل النساء"
"عفة ومحادثة مع امرأة، كلبؤة وخروف في بيت واحد"
بهذه الكلمات يدلل روبير الفارس لنا عن ثقافة نحملها بين جنباتنا ونتعايش بها ولها، وعي جمعي تأسس على احتقار المرأة ودونيتها وحصرها في أعضائها التناسلية هذا الوعي الجمعي الذي تأسس من كتبنا المقدسة وفهمنا الخاطئ للكثير مما تحتويه، فالخطيئة الأولى حواء هي المتسببة فيها والتي أخرجت أدم من الجنة، تلك الخطيئة التي تألم السيد المسيح من أجلنا بسببها كي يرفع عنا خطايانا، فالغريزة الجنسية "الغواية" هي المحرك وهي الفاعل في تلك الحياة التي نحياها مجبرين غير راضين بحال فبعدما نقوم بفعل الخطايا والشرور نلجأ الى الهروب من المجتمع وليس مواجهة الحقيقة بمواجهة خطايانا، هكذا يقوم روبير الفارس بدور الراصد الذي يتعقب الحالات التي تدلل على قبحنا ومحاولتنا المستميتة في قتل الجمال.
الهروب – الرهبنة
شروخ كثيرة في جدار الروح، شوهت ملامحها فبين الغواية والعفة يتخبط الانسان، ومن هروبه من خطاياه والتي تتجسد في النص الروائي "الزنا" أو من هروبه من "القهر" ولدت الرهبنة "ففي القرى والمدن يخاف الانسان من الجيران والعابرين والطارقين، أما هنا فالأموات لا يهتمون" هو الخوف الذي يقود النفوس الى الهاوية الى الموت وليس البتولية الى التخلص من الحياة، هذا الخوف المسيطر على النفس المتألمة المعذبة والمقهورة دوما هذا الشرخ العميق في الوعي الجمعي القبطي والذي يقدمه لنا روبير الفارس في سلاسة ورشاقة لغوية تصل الى حدود الشاعرية احيان كثيرة.
عودة الى الغواية/العفة تلك الثنائية المحركة للحدث الروائي، حيث هي الفاعل الحقيقي في التحول بالنسبة للشخصيات الروائية، والتأكيد على هذا الموروث البالي بأن المرأة هي الغواية فيقدم لنا روبير الفارس "عفة ومحادثة مع امرأة، كلبؤة وخروف في بيت واحد" فمن الطبيعي أن تأكل اللبؤة الخروف! ذلك وعينا الجمعي الذي تربينا عليه حيث تشير الكثير من الاحاديث في المسيحية والاسلام معنا على ان المرأة هي بئر الغواية وهي الخطيئة وان الرجل مظلوم فالمرأة هي التي تلقي بالرجل في الخطيئة، فيضعنا روبير الفارس هنا أمام مرآة انفسنا أمام تخلفنا وجهلنا، انه يصدمنا هنا بحقيقة ما نحن عليه غير مقدم لنا بديل ليتركنا في حيرة من امرنا لا نهتدي وكأنه يدعونا الى اكتشاف ذواتنا والاشتباك معها.
والكاتب في هذا العمل يقتحم بشجاعة موضوعاً شائكاً، ويطأ بثقة مناطق غير مأهولة ترتبط بالعالم الاجتماعي للأقباط من زاوية علاقتهم بالثقافة العامة السائدة، وبالمؤسسات الدينية بتراتبيتها الإدارية وتسلسلها الروحي. وهو هنا لا يصف ما يرى أو يعرض ما يعرف فحسب، أمام قارئ ليس لديه معرفة عميقة بأحوال هذا العالم وأسراره، لكنه ينتقد المتواجد، ويحرك الثابت والجامد، ويهز بعض اليقين مستخدماً ما أهدته إليه تجربته الذاتية، ويوظف شخصيات روايته في تحقيق هذا الهدف، على رغم اختلاف خلفياتهم الثقافية والطبقية.
وكما قال القديس بافنوس بعد أن وقع في غرام الغانية التي ذهب لهدايتها: "أيها الأحمق الباحث عن السعادة الخالدة في غير شفاه تاييس"، يبدأ روبير الفارس بمفتتح مشابه ينسبه إلى من وصفه بأنه أحد الرهبان القدامي، حيث يقول: "ليست أحلامي بعيدة عني، ولست أبحث عنها تحت هذه الشمس بعينين لحميتين. الذين يزعمون أن باستطاعتهم أن يجدوا غبطتهم خارجاً عنهم، يسيرون نحو الفناء، ويضيعون في المرئيات والزمنيات التي لا تلمس أفكارهم المتضورة جوعاً إلى الصور".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق


.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع




.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر