الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في العلاقة بين الدّولة والتّعليم في تونس: رصد لسياقات التّحوّل ومهمّات الإصلاح التّربوي

بلقاسم عمامي

2014 / 12 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


التّقديم:
تشهد المنظومة التربوية التونسية حالة سيئة من التدهور ومن رداءة الخدمات بما يؤشّر إلى أزمة خانقة تعيشها تونس على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيكولوجية، بسبب تخلي الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها مع مواطنيها لارتباط باقتصادها بالسوق العالمية وفق تبني توصيات البنك العالمي في ما عُرف بسياسة التفويت أو الخصخصة، وفتح سوق الاتجار في المعرفة (تسليع المعرفة) والعقول أمام الخواص تحت شعارات "التعليم عن بعد" و"التعليم مدى الحياة" و"المدرسة الافتراضية"، نتج عن ذلك تفكيك التعليم العمومي ورداءة خدماته وتراكم مشاكله وتعقيدها مع عجز القطاع الخاص على ملء الفراغ وقيادة المجال التعليمي. وقد شهدت السنوات الثلاث الماضية تسارع وتيرة تراجع خدمات المدرسة التونسية متخذة أبعادا عميقة وأشكالا أكثر وضوحا جعلت "السبورة سوداء"[2]
لقد لحق التدهور كامل مكونات الفعل التربوي البيداغوجي، ففقدت المدرسة هيبتها وهُتكت حرمتها وآلت بناياتها للسقوط، وتآكلت التجهيزات وفرغت المكتبات وغابت الوسائل. ومثّل غلق مدارس الترشيح ثم المعاهد العليا للمعلمين ضررا فادحا مسّ من نوعية المدرسين المنتدبين. وتكتمل الصورة بتواتر قرارات ارتجالية كفرض مقاربات غريبة لا تراعي خصوصية الذهنية التونسية، وتحوير البرامج والمناهج وفق خيارات تنموية مستندة إلى أرقام وردية تسوّق لخطاب سياسي يبحث عن توازنه، مع ما رافق ذلك من تخبط ظهر خاصة في حذف الامتحانات الوطنية وزيادة في مواد التدريس وإقرار زمن مدرسي مثقل لكاهل التلميذ، وتعريب غير مكتمل وترويج قيم جديدة كيّفت محتوى النصوص والمحاور. لقد عرفت المدرسة العمومية أسوأ فتراتها منذ التسعينات فعجزت الدولة على تطوير التعليم نتيجة تسلط السياسات المملاة على الشأن التربوي وتخلي التنظيمات المدنية والمهنية عن دور الرقابة والتدخل في "الحياة المدرسية".
I. تاريخيّة المدرسة العمومية التونسية:
أ‌) يعود تاريخ المدرسة العمومية في تونس إلى العصر القرطاجني حيث كان التعليم عموميا ومهيكلا إلى تعليم ابتدائي ويسمى بارقولا "Pergola" منتشر في المدن وأيضا في القرى والمناطق الريفية، أما المستوى الثاني ويسمى لوداس "Ludas" ويخص الأطفال بداية من ال 12 عاما حيث يعنى بتدريس شرح النصوص والنحو ونظام المعايرة (مبحث مقادير الأدوية) والعلوم الطبيعية والرياضيات... أما المستوى الثالث فيعنى بعلم البلاغة والبيان ضمن مدارس مخصصة لأبناء الذوات والنبلاء، وأخيرا التعليم الجامعي في اختصاصات متعددة منها الآداب واللغات والحقوق والموسيقى والطب والطبيعيات (ماغون القرطاجني الذي يعدّ أب الفلاحة والذي ترك موسوعة "كتاب الفلاحة" في 28 مجلدا اعتبرها مجلس شيوخ روما المنتصرة أهمّ غنيمة حرب) لقد كانت جامعة قرطاج منافسا جديا لجامعتي روما وأثينا [3]
ب‌) كما اهتمت الدولة الحفصية بالتعليم وكان تعليما تحت إشراف الدولة من حيث المحتويات والفضاءات والأجور، إذ لم تمض ست سنوات فقط بعد تأسيس دولته، حتى يتولى أبو زكرياء الحفصي بعث أول مدرسة سنة 1234 وهي "المدرسة الشماعية" [4] بسوق الشماعين ثم المدرسة التوفيقية سنة 1252 قرب جامع الهواء وأسستها الأميرة عطف زوجة أبو زكرياء، وكان عدد المدارس العمومية في تلك الحقبة قد بلغ الخمسة عشر مدرسة في مدينة تونس لوحدها.
ت‌) لقد اهتمت سلطة الاحتلال بعيد انتصابها في تونس بالتعليم باعتباره وسيلة لنشر ثقافته فبنى المدارس العصرية كنوع من الترويض الثقافي والمعرفي وفتحها أمام التونسيين بالتوازي مع الإبقاء على التعليم الزيتوني (حظيت قريتي المكناسي بالوسط التونسي بمدرسة عصرية منذ 1903)، ولقد استفاد التونسيون من التعليم العصري وتعاطوا معه "كغنيمة حرب" مثله مثل المواصلات والسكك الحديدية والمسارح.
ث‌) اهتمت دولة الاستقلال بالتعليم فأصدرت أول قانون ينظم التعليم [5] بتونس سنة 1958 وجعلت من غائياته الضبط الاجتماعي، بالتركيز على بناء الشخصية التونسية وتحميل المدرسة "تزكية هذه الشخصية" مثلما حددها الشيخ عبد العزيز الثعالبي منذ 1928 في كتابه "l’esprit libéral du coran الروح التحررية للقرآن" كالتالي: "أن يستمدّ المسلم العناصر القادرة على تغيير عقليته وتحويله إلى إنسان جدير حقيقة بهذا الاسم، أي إنسان حرّ ومتعلّم ومتأثّر بكلّ ما له علاقة بالإنسانية والرّقيّ والحضارة"[6]، وهي ذات المبادئ التي نصّ عليها الفصل 39 من دستور 2014، وتحصين التعليم من "إمكانية العودة إلى النّمط الزيتوني"بجعله تعليما عصريا وموحّدا، وضمان استمرارية الإدارة والدواوين وتزويدها بالإطارات الوطنية تعويضا للأجانب المغادرين، واعتبار أن التعليم عامل ترقّ اجتماعي فتعزّزت مكانته في التّمثلات الاجتماعية للتونسي.
ولقد تمثل هذا الاهتمام خاصة في سنّ التشريعات ورصد التمويلات (ثلث الميزانية يخصص للتعليم) وضبط التوجهات الكبرى والمحتويات وبناء والفضاءات في كامل أنحاء البلاد وتأمين تكوين المعلمين والأساتذة (بعث دور ترشيح المعلمين) مع قدرة تشغيلية عالية لخريجي المدارس. هكذا لعبت الدولة دورا تنمويا شمل قطاعات واسعة من المجتمع وأنشطته وعلى رأسها التعليم.
II. ملامح أزمة النظام التونسي، التعليم نموذجا:
اتخذت الأزمة التي تعيشها تونس مظاهر متعددة مست النسيج الاجتماعي والاقتصادي والتنموي وتدهور الوضع المعيشي والصحي إذ بلغت نسبة الفقر مستوى عال سنة 2014 حيث يعيش ربع سكان البلاد حالة من الفقر المدقع منهم 20 % تحت خط الفقر، كما تفشت ظاهرة البطالة ليصل العدد إلى ما يقارب 700 ألف بطال تمثل النساء منهم ثلاثة أخماس في حين بلغ عدد البطالين من حاملي شهادات جامعية 160 ألفا والعدد في تزايد سنويا أمام تخرج ما يقارب ال80 ألفا، وتزايد عدد المتسربين من المدارس والمعاهد (بلغ عددهم سنة 2013 فقط ال100 ألفا) مقابل ضعف وتيرة الانتداب وخلق مواطن شغل حقيقية، مع ارتفاع جنوني في الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية وتراخي الدولة في تقديم الخدمات الصحية والبريدية والتعليمية والبلدية وتخريب البُنى التحتية، وإهمال تام لقطاعات الشباب والثقافة والمرأة، والتغاضي على ما أصاب الأنظمة الإيكولوجية من دمار(محميات، نفايات، تلوث البحر والصحراء..) تصبح الصورة أكثر بؤسا مما أدى إلى تفشي ظاهرة العنف والانحراف وتعاطي المخدرات والتفكك الأسري.
ولعل من أسباب تخلّي الدولة عن التزاماتها إزاء مواطنيها قلّة مواردها وارتباط اقتصادها كليا بالدوائر المالية العالمية مما سارع في وتيرة التّداين إذ بلغت الديون الخارجية للسنة الحالية 48 % من الناتج الخام وتمثل كلفة سدادها سنويا 18 % من ميزانية الدولة، وكنتيجة لذلك، أجبرت الدولة على فتح السوق المحلية أمام منتوجات الدول الكبرى دون قيود وكذلك تشجيع الاستثمارات الأجنبية بشروط مجحفة ضد مصالح الدولة، ضمن علاقة غير متكافئة مع دوائر المال والأعمال العالمية تحولت من "استشارات إلى نصائح فتوجيهات ثمّ إملاءات " في شكل برامج لإعادة "هيكلة الاقتصاد" وفرض منوال تنمية تابع.
ولم يبق قطاع التعليم في منأى عن تأثير الأزمة العالمية على تونس، إذ دخلت العلاقة بين الدولة والتعليم حقبة مغايرة مع نهاية السبعينات ، ففُرضت على تونس شروط مجحفة مقابل الحصول على قروض لعل من أهمها "تخفيف عبء المصاريف العمومية" والتعليم في مقدمتها، الذي شهد تسارعا في عملية التراجع والتفكك ليبلغ أوجه بإقرار "مشروع مدرسة الغد" في 2002 تحت شعار "تعزيز الهوية" ضمن خصومات سياسية للنظام السابق مع "فكر الإسلام السياسي"، فحظي التعليم الخاص بتشجيعات كبيرة وزحفت الجامعات الخاصة محمية بترسانة من التشريعات ومرونة كبيرة في اعتماد شهائدها.
رضخت الدولة لشروط المانحين وأعلنت "مرحلة التقشف" للتخفيف من أعباء الإنفاق العمومي، وتمّ تدريجيا تحرير السوق وخصخصة المنشآت العمومية حتى الاستراتيجية منها، وفُتح قطاع التعليم أمام المستثمرين وهو ما مثّل تحوّلا في موقع التعليم الخاص في علاقته بالتعليم العمومي من دور "الإسناد" إلى دور"الرّيادة" خاصة في الابتدائي، انجرّ عنه تراجع لمكانة التعليم في التمثلات الاجتماعية. وتزامن ذلك مع مرونة في شروط معادلة الشهائد الجامعية، ففقدت الجامعة التونسية مكانتها عالميا (الجامعة التونسية لا توجد ضمن 70 جامعة الأولى بإفريقيا ولا ضمن ال500 جامعة الأولى في العالم)، وتفاقم فشل المدرسة واستفحلت ظاهرة التسرّب المدرسي، وسقطت كل الأوهام حول "التشغيلية بارتباط بسوق العمل الأوروبية"، فارتفعت نسب البطالة مع هبوط في المستوى الفكري، وتفشت ظواهر اجتماعية غريبة مثل الانحراف والعنف والغش والهجرة السرية والتكسب السهل وغير المشروع والإرهاب والتهريب. وتكتمل الصورة برفع الدولة يدها عن التعليم العمومي وذلك بـغلق مدارس الترشيح والمعاهد العليا للمعلمين وتقليص ميزانية التربية (من ثلث الميزانية إلى 17% فقط) وتكريس مبدأ عدم المساواة بإقرار التعليم النموذجي واعتماد مقاربات ومحتويات بشكل اعتباطي والإحجام عن القيام بأي إصلاح جدي.
III. المدخل إلى إصلاح المنظومة التربوية:
إن الوضع الراهن للتعليم العمومي مرتبط وثيق الارتباط بخيارات الدولة السياسية والاقتصادية وبالتحولات الاقتصادية العالمية كنتيجة لارتهان القرار السيادي بيد الدوائر المانحة، وهو وضع استفحل منذ ما يزيد عن عشريتين، وبالتالي فإن كل إصلاح لا يتوجه نحو تغيير شامل لمنوال التنمية الحالي حيث يتبوّأ العامل الاجتماعي أولوية مطلقة في اهتمامات الدولة، هي محاولات فاشلة والحديث عن مقاربات وبرامج وهيئات عليا تمثيلية هو من باب الترقيع الذي لن يزيد المشكل إلّا تعكيرا.
حين يتم الفصل في مناويل التنمية وتبجيل الثروة البشرية، سنعرف كيف نضع الحجرات الأساسية لمجتمع السعادة تعضده مدرسة تنويرية متأصلة في تربتها قادرة على مساءلة التفكير والعلوم واللغات والفلسفة والفنون والتربية على المواطنة والانتماء وعلى تحديد موقع التربية من النهوض الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمعرفي والاستثمار في ذهنية البشر وتفكيرهم وحسّ المواطنة فيهم والتّجذّر التواق إلى التنوير والحداثة والاكتمال والحرية والقيم الإنسانية واحترام الحياة والبيئة، وتوظيف الثروات للإشباع والسعادة للأجيال الراهنة واللاحقة، حينها يصبح يسيرا الخوض في مسائل - على أهميتها- ذات علاقة بالزمن المدرسي والمحتويات والمقاربات والانفتاح على التجارب العالمية الرائدة للاستئناس بها و"صناعة" نماذج ناجحة في علاقة بجوهر مكونات الفعل التربوي والتعليمي لا بنواتجه كنظام الرسوب واعتماد الغرابيل (الامتحانات الوطنية) وتطوير نظام التقييم.
لقد حان وقت مراجعة فلسفة التربية والتعليم في تونس بما هي مطلب حياتي من أجل إرساء معرفة تنويرية بهدف تحقيق السعادة، وهذه لها شروطها: منها الاستقلال بالقرار حول التعليم ورفع القرار السياسي عن الشأن التربوي ورفض توصيات البنك العالمي بما يعني تخصيص ميزانيات كبيرة للتعليم بفروعه حتى ينجح في أداء مهمته، وهي قرارات مصيرية تتطلب حوارا وطنيا عميقا نتيجة ما يستتبعه من تضحيات المجموعة الوطنية في سبيل توفير الموارد اللازمة، حوار وطني يضمّ كل المتدخلين في التربية ومكوّنات المجتمع المدني والأحزاب والأولياء، حوار يكون فيه للنقابيين وللاتحاد العام التونسي للشغل دور مهم في صياغة مشروع يُعرض للنقاش الجدي تمثل "الندوة الوطنية حول إصلاح المنظومة التربوية" المنعقدة بالحمامات أيام 24-25-26 نوفمبر 2014 انطلاقته. ولعل توفر هذا الإطار للتداول حول مسألة إصلاح التعليم يتوصل إلى ضبط خطتين واحدة آنية تبحث في مهمة إيقاف النزيف، والثانية تضع أسس إصلاح واع ودائم لعل من مشمولاته البحث حول:
1) انتداب المدرسين من بين خرّيجي كليات ومعاهد عليا للتربية واللغات
2) منظومة التكوين والتفقد والمساعدة البيداغوجية وتكوين المكونين.
3) المحتويات والكتب المدرسية بما يؤسس لمواطن منغرس في وطنه ومنفتح ومحب لبيئته.
4) الزمن المدرسي بما يوفر وقتا معقولا لممارسة الهوايات وتمتين العلاقات بالعائلة والنوادي
5) الفضاءات اللازمة للتدريس والمراجعة والتغذية والنوادي الثقافية والمخابر والمكتبات
6) إطار التسيير الإداري من قييمين وإداريين وعملة وهيئات التأطير النفسي والصحي والاجتماعي.

لقد عاشت كوريا الجنوبية وضعا شبيها بما عاشته تونس، غير أنها اتخذت في بداية الثمانينات من القرن الماضي موقفا سياديا وطنيا حين قررت صرف كامل مقدار القرض الذي منحه إياها البنك العالمي في "تطوير التعليم، فخصصت أعلا الأجور للمدرسين وهيأت الفضاءات والمطاعم وأمّنت نقل التلاميذ، وضبطت نظاما صارما على الدوام المدرسي ووضعت برامج تعليمية دقيقة ترتكز في السنوات الأولى على تدريس اللغات والتربية المدنية في علاقة بالانتماء وحب الوطن وثقافة حقوق الإنسان والتسامح والتشارك وقبول الآخر، كما وضعت هياكل صحية وهيئات إنصات وخبراء علم نفس الطفل ووفرت ميادين الرياضة ونوادي لممارسة الفنون... كوريا الجنوبية الآن تغزو العالم بفضل استثمار الدولة في الثروة البشرية... في تلك السنة، نالت الدولة التونسية قرضا بنفس القيمة، ولكنه وظّف في تمويل مشاريع وهمية من نوع "التنمية الريفية" وجزؤه الأكبر تلاشى رشاوى.
اليوم، تدفع المجموعة الوطنية ما يقارب خمس ميزانيتها لأداء خدمة الدين الخارجي وهو ما يفوق نصيب فروع التعليم الثلاثة، وبعملية بسيطة يمكن تخيل واقع التعليم لو تم توجيه تلك المبالغ للقيام بثورة حقيقية في قطاع التعليم ضمن مخطط واقعي على مدى عشرة سنوات، الأمر الذي يتطلب قرارا سياديا من سلطة تحترم مواطنيها.
إن المدرسة التي يتم الترويج لها هي مؤسسة لإعادة إنتاج الطاعة وضحالة الفكر وتوفير احتياطي بشري يستجيب لبرامج المانحين ومخططاتهم وإدارة أعمالهم القذرة وتهيئة "أسباب إثراء أغنيائهم" وتلبية حاجيات شعوبهم، ومدرسة بهذه الملامح ليست مدرستنا وبالتالي لا تعنينا.
وعلى النقيض من ذلك، فإن ملامح مدرسة تكافؤ الفرص الشعبية والديمقراطية، المدرسة التي نطمح إليها يجب "أن تقدّم للشباب كل الشباب المعارف والقدرات النشطة التي تسمح بالمساهمة في تحويل هذا العالم الجائر"[7]. فيجب إعادة بناء المدرسة وجعلها مكانا نلتقي فيه كي نتعلم ونفكر ونعبّر ونتذوق الفنون ونكتشف معا وجود عوالم أخرى في رؤوسنا وفي حياتنا، مدرسة تؤسس للسعادة وللإشباع وتنحاز للحياة، وهي المدرسة التي يحدّد ملامحها فيليب ميريو[8]: " المهم في الوقت الراهن هو خلق مدرسة تكون فضاء للتفكير ولتجريب عمل جماعي (...) لا يجب أن تقتصر مهمة المدرسة على اكتساب جملة الكفايات رغم أهميتها، بل تكمن المهمة في النفاذ إلى التفكير. فبواسطة العمل الفني والعلمي والتكنولوجي يتهيكل التفكير ويكتشف متعة قابلة للمشاركة (...) إنها مسألة مجتمعية تتطلب حوارا ديمقراطيا حقيقيا".
إننا لا نستطيع بناء هذه المدرسة وفق هذه الشروط المجحفة والاستغلال المتزايد والارتباط المتعمق سنة بعد أخرى بتوصيات البنك العالمي وأوامر الدول الغنية المانحة وضعف ممارسة الدولة المحلية لسيادتها على قرارها وعلى مقدّراتها وثرواتها وعلى التخطيط لمستقبل أجيالها.
إننا لا ننتظر حلولا عاجلة لمشكلات التعليم في تونس حين يقوم منطق الميزانية العامة [9] على الترفيع في نفقات البوليس (ب 72.2 %) والجيش (ب 48.8%) ووزارة الشؤون الدينية (ب 44.3 %) مقابل زيادة في نصيب التربية ب 8.9 % فقط، في حين يتم تخفيض نصيب الثقافة ب9.8 % والنقل ب 4.4 % وذلك في مقارنة بين ميزانية 2011 وميزانيتي 2012 و2013.
إنه على نقيض هذه العلاقات القائمة على احتكار الثروة واحتكار الحاضر والمستقبل ومصادرة الحلم، نقرأ ضرورة إصلاح المنظومة التربوية والاجتماعية والصحية والثقافية والبيئية. إنّ إنقاذ المدرسة العمومية وتحريرها من هيمنة مقررات الجهات المانحة بالتوجه التدريجي نحو "خصخصة التعليم" ومن هيمنة المشاريع البدائية بالتوجه نحو إحياء التعليم الديني "الحلال" هو واجب وطني وإنساني وحياتي ستحاسبنا عليه الأجيال القادمة... وهي دعوة للوعي بخطورة التدهور الممنهج للمدرسة العمومية وللتعليم بفروعه الثلاثة ولاستنباط طرق جديدة للمقاومة تتجاوز الانتظارية والمطلبية وتحميل الآخر مسؤولية تهرئة التعليم العمومي.. نقاوم بالاحتجاجات وبتوعية المتدخلين وبشراكة ضرورية وحاسمة مع المجتمع المدني وبالتشجيع على المبادرات وعلى البحث في مجال التعليم... نقاوم بالحرص على تقديم تعليم مفيد وعلى تعزيز الثقة لدى التلميذ وعلى تغذية الحلم لديه في مستقبل يجب أن يكون جميلا.
يجب أن نعود إلى كتب التاريخ لنقرّ بإمكانية حصول تغيير جذري لصالح الأغلبية المسحوقة من أجل مجتمع حيّ واع محب للحياة وطامح للسعادة. لا خيار أمامنا غير أن نقاومَ ما يتم التحضير له ونرفضَ هذا الواقع الأسود المبشّر بالبؤس والتخلف والدمار وننخرطَ في بناء واقع الألوان أين سيكون في النهاية للكلّ متعة التعلّم، ولعله يكون للتعليم الخاص دور يلعبه في الإسناد والانتشال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجـــــــــــــع:
[1] هذا النص عبارة عن محاضرة ألقيت خلال "الندوة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية" بالحمامات في 24-25-26 نوفمبر 2014 من تنظيم قسم الوظيفة العمومية بالاتحاد العام التونسي للشغل.
[2] "السبورة السوداء" رؤية نقدية لمشروع خوصصة التعليم قدمها البلجيكيان "جيرار ديسليس (صحفي) ونيكو هورت (مدرّس) في 1998 حاولا من خلالها تقديم الأسباب الحقيقية لمشاريع خوصصة التعليم بكشف الأهداف الخفية لها باعتبارها مشروعا تجاريا كونيا للتعليم الخاص يجب أن يُفتح بكل الطرق: إن بالضغوط الديبلوماسية والتجارية والرشوة والخنق الاقتصادي والتّهرئة المتعمدة لمؤسسات التعليم العمومي أو بالسلاح (فلسطين، العراق، أفغانستان، ليبيا، سوريا..) تولّى تعريب هذا الكتاب "محمد عمامي" ونشر بدار "التقدم" للنشر – تونس سنة 2002
[3] هنري إيريناي مارو، تاريخ التربية في العصور القديمة، 1951 دار نشر سوي SEUIL
[4] محمد بلحاج عمر، صفحات من تاريخ التربية في تونس، 2008، دار دمدوم للنشر تونس، ص 48
[5] قانون رقم 118 لسنة 1958 المؤرخ في 4 نوفمبر 1958 يتعلق بالتعليم
[6] الشيخ عبد العزيز الثعالبي، روح التحرر في القرآن، دار المغرب الإسلامي، بيروت، ص118
[7] "السبورة السوداء" انظر المرجع (3)
[8] فيليب ميريو- جريدة لوموند- 2 سبتمبر 2011
[9]عن دراسة للدكتور فتحي الشامخي حول ميزانية 2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نازح من غزة ينشئ صيدلية مؤقتة في خيمة برفح


.. غالانت يتعهد باستمرار الحرب ضد حزب الله | #رادار




.. بايدن: القانون الذي صدق عليه الكونغرس يحفظ أمن الولايات المت


.. رويترز نقلا عن مسؤول إسرائيلي: جيشنا يستعد لعملية رفح وينتظر




.. العاهل الأردني وأمير الكويت يشددان على أهمية خفض التوترات في