الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في ثورة الشباب المصري 19 براءة مبارك

عبد المجيد حمدان

2015 / 1 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قراءة في ثورة الشباب المصري
19
براءة مبارك
أعادت تبرئة مبارك ، ووزير داخليته ، حبيب العادلي ، وستة من أركان نظامه ، من تهمة قتل متظاهري ثورة يناير 2011 ، أعادت حمى النقاش إلى ساحة الجدل السياسي ، في فلسطين ، في مصر ، وفي ساحات عربية أخرى . ذلك الجدل الذي تناول مسار ونتائج ثورات الشباب العربي ، بدءا من تونس ، ومرورا بمصر فليبيا ، البحرين ، اليمن وسوريا . ومنحت التبرئة ، رغم أنها كانت متوقعة ، لنقص ، إن لم نقل لانعدام الأدلة ، أولئك الذين لعنوا هذه الثورات ، وأغدقوا عليها أوصاف الخريف ، فالشتاء العربي ، مزيدا من المبررات لانفلات غضبهم ، ولتوصيفها بالمؤامرة الأجنبية ، في إطار البرنامج الأمريكي للفوضى الخلاقة ، وإعادة ترسيم الوطن العربي من جديد . ومن جديد أيضا ، عادت التساؤلات ، عن مصير ومآل ثورة الشباب المصري ، والتكهنات بعودة النظام القديم ، نظام مبارك ، بشحمه ولحمه .

لمحة تاريخية :
وفيما مضى من حوارات ، ورغم إلحاح بعض المثقفين على الرجوع لتاريخ الثورات ، واستخلاص بعض العبر منها ، إلا أنهم ذاتهم كانوا أول متجاهلي ذلك التاريخ . فالتاريخ يقول ، وبعلو الصوت ،أن خواتيم الثورات ليست بالضرورة مطابقة لانطلاقاتها . فانطلاقة الثورة ، أي ثورة ، سياسية ، أو سياسية - اجتماعية ، تجمع تيارات وقوى متعددة ، لكل منها أجندتها الخاصة ، تتفق على هدف مباشر وآني ، وتختلف على ما عداه . وفي طريق تقدم الثورة ، تنفض قوى عنها ، بعضها يلتزم الحياد ، وأخرى تنتقل إلى خانة العداء ، فيما تواصل القوى ، أو القوة الرئيسية التقدم نحو الأهداف الأشمل والأكثر عمقا . والأخيرة قوى منظمة ، ذات جذور تاريخية ، وبرامج بأهداف محددة ، عبأت قطاعا جماهيريا واسعا بها ، ولها قيادات قادرة على الإمساك بِ ، وإدارة دفة الحكم ، حال وصول الثورة إلى نهاياتها المظفرة . وبديهي أن تكون لقوى الثورة علاقات وتحالفات خارجية ، إقليمية ودولية ، مساندة لتحالفاتها الوطنية . وإلى جانب ذلك تقول لنا التجربة التاريخية أن لكل ثورة ، مهما علا أو قل شأنها ، ثورة مضادة ، قوامها القوى المستهدفة من الثورة ، وتلك التي تحس بالخطر على مصالحها ومكاسبها . والأمر البديهي أيضا أن تكون لها صداقاتها وتحالفاتها المحلية والخارجية . ومن المفروض أن لا يفاجئ مثل هذا الأمر أحدا ، لا من قوى الثورة ، ولا من حلفائها والمتعاطفين معها . ويمكن لذوي الميول والتوجهات اليسارية ، أخذ الثورة الاشتراكية العظمى كمثال ، كما يمكن لغيرهم ، أخذ الثورة الفرنسية كمثال مضاد .
نظم الجمهوملكيات :
إذن ، وانطلاقا مما سبق تعالوا نحاول فهم بعض ما جرى ، وكيف ولماذا وصل الحال في مصر حد تبرئة مبارك وأقطاب حكمه ، من تهم قتل المتظاهرين ، وما إذا كان ذلك يؤشر على فشل ثورة 25 يناير ، كما ذهب بعض المحللين ، وأنها لم تكن ثورة ، وإنما مجرد مؤامرة أمريكية ، كما ذهب البعض الآخر .
كلنا يذكر أنه واكب انطلاق ثورات الشباب العربي ، خصوصا تونس ، مصر ، ليبيا واليمن ، ثم سوريا ، سؤال مهم : لماذا غضب الجماهير ، والشباب بشكل خاص ، على النظم الجمهورية ( العلمانية ! ) وحدها ؟ ولماذا غاب هذا الغضب عن النظم الملكية ، وأوضاع شعوبها ليست بأحسن حالا من شقيقاتها الجمهورية ؟ . وكلنا نذكر أن مثقفين كثر تصدوا ، أو حاولوا الإجابة على هذا السؤال ، لكن أحدا منهم لم يقدم إجابة يمكن اعتبارها شافية أوكافية .
صحيح أن بعض المثقفين قدموا توصيفا صحيحا للنظم الجمهورية ، وأنها في واقع الأمر وحقيقته ملكيات مطلقة ، في بدلة جمهورية ، وأنها أحيانا أكثر سوءا ، من حيث درجات استبدادها وفسادها، من نظيرتها الملكية . لكن الصحيح أيضا أنهم تجاوزوا المقارنة بين نظرة الجماهير ودرجات قبولها لشرعية الحكم عند هذه وتلك . فبينما تستند النظم الملكية إلى شرعيات تاريخية تراثية ، وحتى دينية إلهية ، ليست محل خلاف فجدل شعبي كبير ، وهي محل قبول وتسليم ، عند قطاعات واسعة ، فقد استندت النظم الجمهورية إلى شرعية ديموقراطية زائفة ومزورة ، ظلت مثار نقد وخلاف ، فجدل ورفض شعبي عام ، خصوصا بين أجيال الشباب .
كل الرؤساء العرب ، وفي مناظرة للملوك ، صنعوا طبقات اجتماعية موالية ، بقيادة حزب سياسي وضعت كل مقدرات الدولة بين يديه ، فيما عرف بتزاوج رأس المال مع السياسة . وكلهم جرَّفوا الحياة السياسية . احتووا الأحزاب والنقابات ، وسلبوها كل إمكانية للمعارضة الجادة ، قبل المنافسة الحقيقية . وكلهم مكنوا التيارات الدينية ، تحت مسمى الوعظ والإرشاد تارة ، وتحت مسمى العمل الخيري تارة أخرى ، من المساجد ، ومن ملء الفراغ السياسي والفكري ، الذي تركه تجريف الحياة السياسية . ولتوفير المزيد من ضمانات بقائهم انحدروا بالتعليم والثقافة والفنون إلى مهاوي عميقة . وتوجوا كل ذلك بشرعية مزيفة ، من خلال سماح الدستور بتجديد الولاية مرة بعد أخرى ، عبر استفتاء عام ، اعتمد التزوير منهجا وقانونا . كما وفرت الدساتير صلاحيات جعلتهم ملوكا بدون تيجان ، مستبدلين لقب صاحب الجلالة بلقب صاحب الفخامة . ولم تعد تنقص غير خطوة واحدة ، وهي نقل هذا الملك إلى وريث . و هو ما بدأه نظام الأسد في سوريا ، وما انتوت فعله كل النظم التي انفجرت الثورات ضدها ، مضافا إليها السودان والجزائر .
الشعب يريد إسقاط النظام :
في تونس ، وبعد أيام من انطلاق الثورة ، رفعت الجماهير شعار الشعب يريد إسقاط النظام ، ولحقتها في ذلك الجماهير المصرية واليمنية والسورية والليبية . ولعلنا نتذكر أن كل بدايات الثورات هذه حملت مطالب إصلاحية ، تطورت ، ونتيجة عناد الأنظمة ، وتأخر استجاباتها ، إلى رفع هذا الشعار : الشعب يريد إسقاط النظام . ورغم أنني ، وفي الحلقات التي كرستها لثورة الشباب المصري ، والمنشورة على الحوار ، أشرت إلى حقيقة أن النظام الجمهوملكي هو هدف هذا الشعار ، إلا أنني ، ككثيرين غيري ، لم أتوقف طويلا أمام مضمونه . ومثل غيري أيضا ، مررت عليه مرور الكرام . والآن فإن تبرئة مبارك ، وحمى الجدل التي لحقتها تلزمني فعل الوقوف هذا .
نذكر جميعا أن جماهير ميادين مصر عادت إلى بيوتها - تماما كما فعلت جماهير تونس قبلها ، وجماهير اليمن بعدهما - وفورا بعد إعلان تنحي مبارك . ولعلنا نتذكر أيضا أن مبارك كلف المجلس العسكري بإدارة البلاد ، في الوقت الذي ظلت فيه الحكومة التي عينها ، برئاسة أحمد شفيق ، في مكانها . وأكثر من ذلك ظلت لجنة تعديل الدستور ، وأيضا التي عينها مبارك ، بتغيير في شخوصها ، قائمة . وبعد شهور أنجزت عملها ، وفي إطار ذلك التكليف ، وتم الاستفتاء عليه ، وإقراره . وحتى حين عادت الجماهير للميادين ، ونحت حكومة أحمد شفيق ، فقد كلفت عضو لجنة السياسات لحزب مبارك ، د . عصام شرف بتشكيل الوزارة ، والتي جاءت بكل شخوصها ، كسابقتها ، من الحزب المنحل . وفي الحالتين بقي المحافظون والعمداء ، وكل أصحاب القرار ، الممسكون بمفاصل الدولة ، أبناء النظام ، والمتربون في أحضانه ، بقوا في مواقعهم . فهل هذا يدل على أن شعار ألشعب يريد إسقاط النظام عنى قلع ذلك النظام من جذوره كما يقال ؟
تحالفات الثورة :
في حواراتي طرحت السؤال التالي : أما وقد بتنا نعرف أن كل رموز العمل السياسي المصري ، والذين توسمنا فيهم القدرة على إحداث التغيير المنشود ، كانوا في الميادين ، ومن اللحظة الأولى ، وحتى لحظة تنحي مبارك ، يتوجب السؤال : لماذا لم يتصدروا المشهد ؟ ولماذا لم ترفعهم الجماهير لسدة الحكم ، بديلا لأحمد شفيق ، أو لعصام شرف ، أو لمن جاء بعدهما ؟ وظل الجواب : لأن جماهير الثورة لم تستطع فعل ذلك ؟ وعدت أسأل : هل جربت الجماهير ذلك ورُفض طلبها ؟ وإن كان ذلك حدث فلماذا استكانت ، وبعد ثورة عظيمة كالتي شهدناها ؟ وهل معنى ذلك أن النتيجة كانت نجاحا جزئيا ومحدودا للثورة ، واكتفاءا عاما به ؟
وفي محاولة للإجابة على الأسئلة السابقة ، تعالوا نتوقف قليلا أمام البدايات ، وأمام مكونات تحالف الثورة آنذاك .
بدأت الثورات العربية بمجموعات من الشباب ، كسروا حاجز الخوف ، يطالبون بإصلاح النظام . وتحديدا رفض تجديد ولاية الرئيس ، ورفض توريث خلف له . ثم تتالى انضمام القوى السياسية ، والجماهير الصامتة . كما تتالت الوساطات وعناد النظام ، ولتتطور الشعارات من الإصلاح إلى عيش ، حرية ، كرامة إنسانية وعدالة اجتماعية ، ولاحقا إلى الشعب يريد إسقاط النظام . وجاء الحسم بانحياز الجيش إلى الجماهير ، برفضه أمر النزول وقمعها . فكان التنحي ، وما تبعه .
والآن ، وبعد كل ما حدث من تطورات ، وبإعادة إمعان النظر في مكونات الثورة ، نستطيع القول أنها تشكلت من : 1- تيار الشباب الواسع ، والذي شمل قوى وتيارات فكرية وسياسية متعددة ومتنوعة ، كحركة التغيير و 6 إبريل ، كفاية ، الغد ، الأحزاب والحركات اليسارية – التجمع ، الاشتراكي والشيوعي ....الخ ، وحتى الوفد ومستقلين وجماهير عادية ....الخ . وهي من رفع ، وإلى جانب شعار تحديد مدة الرئيس و منع التوريث ، شعارات عيش ، حرية ، كرامة إنسانية وعدالة اجتماعية ، ودون أن يكون لديها برنامج ، وقيادة قادرة على تطبيق شعاراتها . 2 – تيار إسلام سياسي متنوع بقيادة الإخوان ، وهو وإن كان حليفا سابقا للنظام ، وإن تأخر نزوله بضعة أيام ، فقد اتفق مع التيار الأول في شعار الشعب يريد إسقاط النظام . لكنه وبعد أن تأكد من النصر عاد ورفع شعاره التاريخي ؛ الإسلام هو الحل ، بديلا لشعار عيش ، حرية ، كرامة إنسانية وعدالة اجتماعية ، وكاشفا عن أجندة سياسية ، مناقضة تماما للأجندة الفضفاضة للتيار الأول . 3 – الجيش وقوى الأمن وبقايا الحزب الوطني ، التي وإن وافقت القوى السابقة في معارضة التوريث ، إلا أن برنامجها وقف عند حدود تجديد النظام ، وضخ الدماء في عروقه المتيبسة .
إذن وإذا ما حاولنا رؤية نتائج فعل هذه الثورة على الأرض، فلا بد أن نرى أنها نجحت فعلا في تحقيق الهدف العام المشترك . أطاحت بالنظام الجمهوملكية ، وأحالت التوريث إلى مزبلة التاريخ . انسحب هذا الظل الكئيب عن تونس ، عن مصر ، عن اليمن ، عن ليبيا ، وحتى عن سوريا والعراق ، وبطل الحديث عنه في السودان والجزائر . وهو إنجاز للثورات ، حجبت التطورات اللاحقة عن العيون رؤية أهميته الكبرى .
تطوير الثورة :
وكشأن كل الثورات الكبرى ، وإثر تحقق الهدف المشترك ، الإطاحة بالنظام الجمهو- ملكي ، ودفن التوريث ، تفكك تحالف الثورة . وكشأن كل الثورات عملت تيارات التحالف ، وكل على حدة ، على التقدم بالثورة نحو تطبيق برنامجها المعبر عنه في شعاراتها المرفوعة . وكشأن كل الثورات ، كان لا بد أن تكون اليد العليا للتيار الأكثر تنظيما ، الأوسع جماهيرية ، الأوضح رؤية ، الأعمق تاريخا ، الأكثر خبرة ودراية ، الأغنى قيادات وكوادر ، فالأقدر على ملء شواغر الحكم .
لقد كيل الكثير من المديح لانعدام وجود رأس ، قيادة وتنظيم ، وبرنامج جامع ، وفقر سياسي معرفي لشباب الثورة . ثم بينت تطورات الثورة أن ذلك ، وبالتحديد ، ما شكل مقتلا لهذا التيار. شباب رومانسيون حالمون . ذلك أدق توصيف لهؤلاء الشباب . ولقد بلغت الرومانسية هذه حد ترك مهمة تطبيق شعار ؛ عيش ، حرية ، كرامة إنسانية ، عدالة اجتماعية ، لحكومات ، ولجهاز تنفيذي ، كل أعضائه من رجال النظام القديم . وعَكَسَ فعل العودة للبيت ، عقب التنحي ، خروجا مبكرا لأطراف هذا التيار من فعل تطوير الثورة . ورغم العودة المتكررة للميادين ، لوقف ، أو تصحيح إخلالات الحكم تجاه أهداف الثورة ، المعبر عنها في الشعارات ، والنجاح في ذلك ، بدت أطراف هذا التيار ، ومع ما أصابه من تفكك ، غافلة عن عملية يحتدم فيها الصراع ، بين التيارين الآخرين ، على التقدم بالثورة نحو أهدافهما المتعارضة .
بدا للإخوان ولحلفائهم السلفيين ، أن الفرصة باتت مواتية لتحقيق حلم داعب خيالهم وعقلهم ، خططوا له وانتظروه ثمانية عقود . حلم إقامة مشروعهم ، وتحقيق شعارهم ؛ الإسلام هو الحل . وكسب الحلم قوة دفع كبيرة إثر النجاح المذهل في الاستفتاء على التعديلات الدستورية ، ثم في انتخابات مجلسي الشعب والشورى . وفي ظل حالة التفكك ، التردد ، واستمرار الغفلة ، وضعف الرؤية ، التي أمسكت بخناق التيار الأول ، تيار الشباب . لقد انحصر صراع الإخوان وحلفائهم ، مع تيار قوى الأمن ، وبقايا الحزب الوطني ، وبعض أطراف تيار الشباب . هذا التيار الرافض تطوير الثورة لأبعد من تجديد النظام القديم . وبرز هذا الصراع بأشد السطوع في انتخابات الرئاسة ، وفي دورتها الثانية ، بين مرسي وشفيق .
إلى الخلف در :
كان الإخوان ، وعلى مدار عقود عمرهم الثمانية ، قد اعتمدوا الغموض في عرضهم لمشروع الإسلام هو الحل . فهم ، وفي الوقت الذي لم يقدموا للمواطن أي شرح أو تصور لمضمون شعارهم ذاك ، ولا لكيفية تطبيقه ، اكتفوا بالتلميح لاستعادة عصر الخلافة الذهبي ، العصر الراشدي . والعصر الراشدي ، كما ترسخ في الذهن العام ، نقل الحجاز عامة ، والمدينة ومكة خاصة ، من حالة الفاقة وضنك العيش ، إلى سعته وإلى الرفاه الذي بلغ حدود البذخ . وما لا يعرفه المواطن البسيط ، وحتى أغلبية من المتعلمين ، أن ذلك لم يحدث نتيجة نهوض اقتصادي عام ، وإنما كان نتيجة الفتوحات ، وتدفق أموال الغنائم والجزية والخراج ، وقسمتها شبه العادلة . ولأن معطيات العصر تحول دون إعادة تكرار الفتوحات وغنائمها ، فقد أوحى شعارهم الانتخابي : نحمل الخير لمصر ، بغموضه الأشد من شعار الإسلام هو الحل ، ثم ما قيل عن برنامج لنهضة مصر ، أوحى لقطاعات واسعة من الجماهير والمثقفين ، بأن الإخوان يملكون برنامجا اقتصاديا اجتماعيا ، لا يتكفل فقط بحل مشاكلها الحياتية المزمنة والمستعصية ، بل وسينقلها ، كما حدث في العهد الراشدي ، إلى جنة الرفاه والرخاء ، وارفة الظلال . لكن نفس الغموض أوحى للمتنورين بأن الإخوان الذين ارتضوا لأنفسهم أيديولوجيا البداوة ، وكرهوا مكتسبات الحضارة ، خصوصا ثقافتها وفنونها ، ينتوون العودة بمصر إلى ماضي البداوة ذاك .
ولأن مجتمع الإخوان ، ومجتمع حلفائهم السلفيين ، ظل مجتمعا مغلقا عن عامة الناس . ولأنهم قدموا أنفسهم على أنهم بتوع ربنا ، أطهار أنقياء . ولأن عامة الناس الذين عانوا ويلات النظام ، ما عادت لهم قدرة على احتمال الفساد الواسع ، العميق والمستشري ، فقد ظنوا أن الخلاص عند بتوع ربنا هؤلاء . فكان أن منحوهم ذلك التفوق الساحق فيما جرى من انتخابات واستفتاءات .
لكن الإخوان ، وفي تلك الفترة القصيرة لسيطرتهم على مجلس الشعب – ستة شهور - ، فسنة الرئاسة التي تلتها ، سعوا ، فيما عرف بأخونة مؤسسات الدولة والمجتمع ، ليس فقط لإحداث تغيير كامل للنظام ، بل وإلى الإطاحة بالدولة ذاتها . كما أوضحت خطواتهم للعامة وبجلاء ، ليس فقط أن لا وجود لبرنامج خلاص عندهم ، وأن تطبيق "الإسلام هو الحل " لا يستهدف إعادة مصر إلى عهد البداوة فقط ، بل وإلى تجريد الناس من كل مكاسب الحضارة الإنسانية التي بنوها حجرا فوق حجر ، وعلى مدى قرنين كاملين . وثالثة الأثافي أن بان ، وفي هذا المدى القصير ، أن بتوع ربنا هؤلاء ، ليسوا بالطهر أو النقاء الذي أمله الناس وانتظروه ، ولا حتى بعضا منه . وظلت كل خطوة يخطوها نظام الإخوان تستفز وتستنفر قطاعا من الجماهير ، ومن مؤسسات الدولة ، وتدفع بهم إلى المواجهة ، وحتى استنفار الغالبية العظمى فيما عرف بثورة 30 يونيو – حزيران .

لقد كشفت تجربة حكم الإخوان ، ومحاولاتهم أخونة الدولة ، عن أمر في غاية الأهمية . وهو أن الناس ، على اختلاف فئاتهم ، وإن أظهروا استعدادا للتماهي مع مظاهر لأيديولوجيا غير عصرية ، كالدشداشة وتقصير اللباس ، إطالة اللحية ، وحف الشارب ، إلا أنهم غير مستعدين مطلقا للتخلي عن مكاسب حياتهم الحضارية ، والعودة إلى عصر البداوة الجلفة والخشنة .
موجة ثالثة :
هكذا استدعت مجابهة الردة إلى ماضي البداوة ، نشوء تحالف جديد ، أظهرت حركة تمرد ، وتوقيعات الملايين على عريضتها ، اتساع قاعدته ، وإلحاحية الحاجة إليه . ولأن أخونة مؤسسات الدولة عبرت التعليم ، الثقافة ، القضاء ، الإعلام والإدارة المحلية ....الخ ووصلت إلى تخوم قوى الأمن ، والجيش في مقدمتها ، كان منطقيا أن تنضم هذه القوى إلى التحالف الجديد ، وبفعالية أكبر من سابقتها .
هكذا تشكل التحالف الجديد من القوى التالية : 1- قوى الشباب التي صحت من غفلتها ، وحازت على توصيف عاصري الليمون ، ومعها الأحزاب حليفة 25 يناير ، والقطاعات التي صدمتها تصرفات الإخوان وحلفائهم ، واستفزها فسادهم . 2 – من وصفوا بفلول حزب مبارك ، الحزب الوطني ، وأنصاره ومؤيدوه . 3 – الجيش وقوى الأمن المهددة بالأخونة والاستبدال بالحرس الثوري ، على الطريقة الإيرانية .
وأوضحت مظاهرات 30 يونيو - حزيران ، و 3 يوليو – تموز ، أن قاعدة هذا التحالف أوسع بكثير من قاعدة تحالف 25 يناير ، ومن قاعدة الإخوان وحلفائهم السلفيين . وأوضحت أن الجيش ، بتحالفه مع الداخلية ، يشكل قوة التحالف المنظمة والقادرة وحدهاعلى مواجهة تنظيم الإخوان وحلفائهم . هذا التنظيم الذي رفض الاستجابة لمطالب الجماهير ، متحصنا خلف ما وصفه بشرعية الانتخابات ، ومهددا بإغراق مصر في بحر من الدماء ، في حال المساس بسلطته .
لكل تلك العوامل كان ذلك التفويض الواسع ، وعلى بياض ، للجيش ، وتلك الشعبية الكاسحة لقائده ، المشير عبد الفتاح السيسي ، والذي أطاح ، وفي حركة جريئة ، بحكم الإخوان ، مخلصا مصر وشعبها من ذلك الكابوس الرهيب الذي كان في انتظارها . ولتلك العوامل ترجع النسبة العالية بالموافقة ، في الاستفتاء على الدستور الجديد ، وفي انتخاب السيسي رئيسا للجمهورية .
وبداية تفكك :
لم يتقدم السيسي ، كمرشح للرئاسة ، ببرنامج لتطبيق الديموقراطية ، أو لحل مشاكل مصر المستعصية . وهو ، كعضو سابق في المجلس العسكري ، يسنده الجيش ، لم يتبن شعارات شباب 25 يناير ، عيش ، حرية ، كرامة إنسانية وعدالة اجتماعية . وهو والجيش ، لا يتبنى إحداث تغيير عميق في النظام القديم ، وإنما إصلاح النظام . وهو ، والجيش ، لم يلمح إلى احتمالية الانقلاب على عضو التحالف الجديد ، أعضاء وأنصار ومؤيدي الحزب الوطني والنظام القديم . وقوى 25 يناير ، وقوى 30 يونيو الجديدة ، إضافة لمن كانوا عرفوا بحزب الكنبة ، و منحوه ذلك التفويض على بياض ، يعرفون كل ذلك .
ومن جديد ، وكما يحدث في كل ثورة ، وانطلاقا من اعتقاد بإنجاز الهدف الرئيسي ؛ الإطاحة بالإخوان ، وزج قادتهم في السجون ، فكت قوى من 25 يناير ومن 30 يونيو ، علاقتها بالتحالف ، وعادت ترفع شعارات الديموقراطية ، وتطالب بالعيش ، بالحرية ، بالكرامة الإنسانية ، بالعدالة الاجتماعية ، وبحق الشهداء . كما عادت تحذر من عودة حكم من ارتضتهم حلفاء ؛ أعضاء الحزب الوطني المنحل ، وأنصار ومؤيدي النظام القديم . وكما هو متوقع في مثل هذه الحالة ، وقعت هذه القوى في خانة قوى الثورة المضادة ، ردت عليه السلطة الجديدة بقمع ، بان في بعض وجوهه – الحكم على النشطاء – أقسى من نظيره ضد الإخوان المسلمين وحلفائهم .
وفي الختام :
لكن الإخوان المسلمين وحلفاءهم ، وقد انتقلوا لصفوف الثورة المضادة ، أوضحوا للكافة عدم التسليم بإقصائهم . وفي تطبيق دموي لشعارهم ؛ " يا نحكمكم يا نقتلكم " ، فجروا إرهابا في سيناء ومواقع أخرى ، وموجات من القتل والحرق والشغب المجنون ، في أغلب محافظات مصر . وهكذا تبلور برنامج النظام الجديد على النحو التالي : 1- محاربة الإرهاب والقضاء عليه كأساس للحفاظ على الدولة . 2 – استعادة الاستقرار والأمان . 3 – إنهاض الاقتصاد عبر المشروعات الكبيرة ، بدءا بقناة السويس . 4 – الاتكاء على النهضة المأمولة لعلاج المشاكل والأزمات المستعصية . 5 – إصلاح وتجديد النظام ، عبر تطوير متدرج ومحسوب للديموقراطية .
وفي الحساب الختامي ، يبدو برنامج الحكم الجديد ، بمثابة خطوات كبيرة إلى وراء ، قياسا بشعارات 25 يناير . وعليه بات مشروعا السؤال ما إذا كانت ثورة 30 يونيو ، ثورة على 25 يناير . لكن طارحي السؤال يتجاهلون حقائق شديدة الأهمية . أولاها أن الثورة وقت مصر من ردة إلى عصر البداوة ، وأوضحت أن برامج تيارات الإسلام السياسي للحكم ، ليس فقط غير قابلة ، بل ومستحيلة التطبيق . وثانيتها أنها كشفت حقيقة استحالة تقدم الوطن العربي في ظل هيمنة فكر هذه التيارات . وثالثتها أنها كسرت حلقة الإرهاب الفكري لهذه التيارات ، ودشنت معركة مواجهة ضارية مع هذا الفكر . ورابعتها أنها تعمل على استنهاض قوى متعددة ، والعمل في ميادين متنوعة ، لمواجهة هذا الفكر ودحره . وخامستها أنه ولأول مرة منذ عقود عديدة ، أخذ أمل حقيقي يلوح في أفق المنطقة ، ويبشر بالخلاص من بلادة الفكر ، وانغلاق العقل ، ومن ثم الانطلاق للحاق بركب أمم الأرض الأخرى ، صعودا على سلم الحضارة ، فزوال خطر الخروج من التاريخ والجغرافيا معا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحليل عميق
جميل السلحوت ( 2015 / 1 / 2 - 11:02 )
تحليل عميق يستحق قراءة متمعنة وفاحصة، مع تقديري أن الاخوان المسلمين لا يريدون اعادة بناء الخلافة بمقدار ما يسعون الى استلام الحكم.


2 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2015 / 1 / 2 - 16:55 )
تحياتي شيخ جميل .المشكلة أن الغموض ساد منهج الإخوان في كل شيء . هم مثلا لم يقولوا ولا مرة للناخب انتخبنا على كذا أو كذا . وحين تحدثوا عن الحكم تحدثوا عن العصر الذهبي الممثل في الخلافة الراشدية ، مع معرفتهم باختلاف عهد كل خليفة منهم عن الآخرين . كما قلت كان ذلك إيحاء وليس تصريحا . نعم هم سعوا لاستلام السلطة ، لكنهم أبدا لم يقولوا على أية صورة ستكون . هم كما تعلم يرون في الديموقراطية بدعة ، ويرون في تعدد دوائر القضاء وتخصص المحاكم بدعة أخرى ، ويرون علم الفلسفة كفر ومثله علوم الطبيعة ، ولكنهم أبدا لم يقولوا ما الذي سيفعلونه في التعليم مثلا بعد استلام السلطة ، وهكذا سائر الأمور الأخرى ، وحين اختارهم الناخب لم يختر برنامجا ، وإنما كراهية فيمن سبقهم . ولعلك تتذكر انتخاب حماس ومبررات الناخب الفلسطيني .


3 - تحياتي يا رفيق
عتريس المدح ( 2015 / 1 / 3 - 17:25 )
الاستخلاص الذي توصلت إليه في آخر المقال،هو ما يجب أن يراه الجميع في ظل الوضع القاتم الحالي،
نعم إن الايجابية في الحراك الثوري الحالي للجماهير العربية هي بادراك الجماهير بأن الاسلام و تياراته المختلفة ليست الحل
و أعتقد جازما هنا بأنها الانعطافة التي لن تقوم بعدها للتيارات الاسلامية أية قائمة، بعد أن يتم حسم موضوع داعش
تحياتي لك ولتلك الرؤيا العميقة التي تتحفنا بها دائما كبارق ضوء في آخر النفق المظلم

اخر الافلام

.. عشرات المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى


.. فلسطينية: العالم نائم واليهود يرتكبون المجازر في غزة




.. #shorts - 49- Baqarah


.. #shorts - 50-Baqarah




.. تابعونا في برنامج معالم مع سلطان المرواني واكتشفوا الجوانب ا