الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 2

عباس الزيدي

2015 / 1 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



الحروب والانتكاسات الداخلية

قام صدام منذ تسلمه السلطة بعد تنحية مُذِلَّة لأحمد حسن البكر(1) وبمباركة غربية بحملة إعدامات، لم يكن إعدام السيد محمد باقر الصدر أولها ولا آخرها، ولكي يكون الردع فعالاً ومخيفاً اعتقل شقيقة الصدر العلوية بنت الهدى التي ألقت خطبةً في حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد إعتقال السيد الصدر، ولم يعرف مصير بنت الهدى حتى الساعة، إذ لم يتم تسليم جثمانها مع جثمان أخيها، حسب المنقول عن السيد محمد الصدر الذي كان والده السيد محمد صادق الصدر هو الذي تسلَّم جثمان ابن عمه السيد محمد باقر الصدر ودفنه بنفسه برقابة صارمة من قبل أمن السلطة، والمظنون أن مصير العلوية بنت الهدى كان كمصير أخيها إلا أن النظام لم يسلمها كي لا تتأزم الأمور أكثر، لما للشهيدة بنت الهدى من مكانة دينية واجتماعية، وما قد يسببه من إثارة المجتمع العشائري العراقي الذي كان صدام يحاول بكل جهوده إبقائه على الحياد قدر الإمكان، والعشائر لا تستسيغ التعدي على إمرأة فضلاً عن تعذيبها وقتلها، إضافة إلى كون هذه المرأة تنتمي الى أسرة لها مكانتها الدينية والعلمية والإجتماعية ولم يكن نظام صدام يمتلك القوة الكافية تلك الفترة ليسيطر على انتفاضة جماهيرية كالتي حصلت بعد ذلك بأحد عشر سنة أي انتفاضة 1991.
لم تكن الإعدامات تطال المنظمين في حزب الدعوة وغيره من التنظيمات السياسية فحسب، بل إن الذين اُعدموا كانت غالبيتهم من غير ذوي الصلة بأي تنظيم سياسي كحزب الدعوة أو غيره من التنظيمات التي لم تكن تؤمن بالحركة الشمولية التي تستوعب كل طبقات المجتمع، وإنما اقتصرت على النخبة الممتازة التي تقوم بمهمة الإرشاد والهيمنة الفكرية والتوعية للآخرين، ولعل العذر في ذلك كون المجتمع العراقي الذي حاول صدام أن يبقيه تحت سطوة الجهل كانت نسبة الأمية فيه كبيرة، ناهيك عن المستوى الفكري الذي كانت تطمح إليه القيادة الإسلامية آنذاك، والحقيقة أن ذلك ليس تاماً فعلى الرغم من كثرة الأمية فقد كانت نسبة المتعلمين الواعين كبيرة أيضاً ويدل عليه بوضوح إيقاف زحف الشيوعية بعد صدور الكتابين الرائدين (فلسفتنا) و (إقتصادنا)، ومع ذلك فإن الطبقة التي كانت ولا زالت قادرة على قلب الموازين هي الطبقة الشعبية التي تستجيب للتأثير العاطفي بنفس الدرجة التي تستجيب بها الطبقة الواعية المتعلمة للفكر والعقيدة، والحل هو بالنزول الى مستوى هذه الطبقة وإيصال الفكر الاسلامي المتنور بطرق مبسطة. والحق أن السيد محمد باقر الصدر سعى الى ذلك وأرسل وكلاءه لكافة مناطق العراق حتى أقصى الريف العراقي، ولكن المشكلة كانت في نفس النخبة التي رأت في نفسها يوماً (ولا زالت) أن لها الاستقلالية ونفس المكانة للقيادة الإسلامية، واجتهدت فيما أدَّى الى إحراج القيادة الإسلامية، وقد لا نبالغ إذا قلنا إن بعض ما قام به حزب الدعوة كان من أسباب إستشهاد السيد محمد باقر الصدر، كالبيعة عام 1979 التي لم يكن السيد الصدر قد أمر بها حسب بعض المصادر القريبة منه، ويلقي البعض مسئولية دعوة وفود البيعة التي توافدت الى النجف على السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، بينما يؤكد محمد رضا النعماني أن البيعة خرجت بعد موافقة السيد الصدر بعد اجتماع
ضم مساعديه وخواص طلابه(2). وبالطبع ليس من السهل التأكد من دقة هذا الكلام بعد مرور كل هذه الفترة. ولكن ذكر السيد فاضل النوري الذي كان أحد وكلاء السيد الصدر آنذاك : ((بعد أن ساهمتُ مع مجموعة كريمة من أهل العمارة في عملية البيعة التي تَمَّت للشهيد الصدر الأول (رض) من كثير من الوفود المؤمنة الرسالية التي أقبلت من كل بلاد الرافدين الى ساحة المبايعة، حيث شعرتُ كغيري من المبايعين بالأنس الذي لا يوصف لهذا العمل الاستثنائي في تاريخ انجذاب الأمة الى زعيمها الفذ، وقبل عودتي الى العمارة التي كنتُ فيها وكيلاً لذلك القائد العظيم، وجدتُ من واجبي الأدبي والذوقي أن أسلِّم على أستاذي السيد محمد الصدر، وأُثلج صدره بما حصل من أمر البيعة... وحينما سمع كلامي في هذا الصدد واجهني بعدم ارتياحه لذلك، معلناً عدم ثقته بجدواه في هدف استراتيجي ضخم هو إعادة الأمور الى نصابها في رحاب الإسلام، وذكر أن عملاً يتم فيه إظهار الكوادر المؤمنة التي ربيناها بعد لأيٍ وعناء، ووضعها أمام شاشة الرقابة الظالمة التي تبحث جهد سعيها عن وسيلة للتعرف عليها وتصفيتها ـ هو عمل غير سليم ـ وليس فيه إلا الضرر على حركة الوعي الإسلامي صوب الغاية المرجوة، وأن العمل الوحيد الذي نستطيع به الوصول الى تلك الغاية هو التحرك نحو الأمة بالسبل المدروسة، لتحقيق إلتفافها حولنا، واسنادها الشامل لنا، وعند ذلك يمكننا أن نسعى بها الى غاية المرام من أوثق الأسباب(3))).
ويُنقل بكثرة عن السيد محمد الصدر أن من أهم الأسباب التي أدَّت الى إعدام السيد الشهيد هي هذه البيعة وبرقية السيد الخميني والبيانات التي كانت تصدر من الإذاعة الإيرانية الناطقة باللغة العربية، التي يعتبرها البعض الضربة القاضية التي توجهت الى الصدر الأول.
فالبيعة التي حُشِّدت من المحافظات كانت مفاجئة له ولم تكن عن أمره وعلمه حسب بعض المصادر المعاصرة له(4). وأما البرقية فهي بمثابة إعلان الحرب الرسمية ضد نظام صدام الذي دقَّ ناقوس الخطر عنده، وهناك من يقول إنها أرسلت الى الإذاعة الإيرانية من دون علم السيد الخميني، بل وحاول البعض أن يتهم بها أحد التنظيمات الإسلامية العراقية التي كانت تسيطر على الإذاعة والتلفزيون بعد الثورة الإسلامية (منظمة العمل الإسلامي)، وهو أمر مستبعد الحدوث أن تقوم جهة ما بهذه الخطوة الخطيرة واضحة الهدف أو غير محسوبة العواقب من دون سند قوي؟!، وبين هؤلاء وهؤلاء ضاعت الحقيقة وانتهى الأمر بإعدام واحد من أكبر القيادات والعقليات الإسلامية في القرن العشرين بتهمة صلته بإيران.
هناك مصادر أخرى قريبة تؤكد : ((أن البرقية صدرت وأذيعت بموافقة السيد الخميني، وتذكر هذه المصادر نقلاً عن السيد أحمد الخميني أن الوضع سيكون مربكاً في حال مجيء السيد محمد باقر الصدر الى إيران، لأن الخميني الذي كان كبيراً في العمر ويعاني من عدة أمراض منها سرطان في المعدة والسكري، ولم تكن خلافته محسومة أول الأمر لصالح الشيخ المنتظري، وبمجرد مجيء السيد الصدر ستكون هناك أزمة، لأن المنتظري لا يمكنه أن ينافس السيد الصدر على زعامة الثورة، وليست هناك مقارنة بينهما على الصعيد العلمي والفكري، وكان هناك شدّ سابق بين أطراف من ضمن قيادات الثورة وأهمهما طرفان الأول يتمثل بالسيد كاظم شريعة مداري والسيد رضا الصدر وأخيه السيد موسى الصدر، والطرف الثاني حاشية السيد الخميني. ويرى السيد موسى الصدر أن خير من يصلح لقيادة الثورة بعد وفاة السيد الخميني هو السيد محمد باقر، بينما هناك الطرف الآخر الذي يحمل ضغينة قديمة ضد السيد الصدر حتى أنهم اتهموه بالعمالة للإمبريالية(5)، ومنهم محتشمي ومحمد منتظري وخوئينها(6)، ولم يستسيغوا وجود السيد الصدر أساساً فضلاً عن قيادته للثورة، ولا يخفي البعض تعصبه لقوميته الفارسية وتفوقها على باقي البشرية خصوصاً العرب، فكانت هذه البرقية بمثابة إشعار لنظام صدام بعدم السماح للسيد الصدر بمغادرة العراق، ويبدو أن الإيرانيين فهموا من كلمة السيد الصدر (إني أتشرف أن أكون وكيلاً للإمام الخميني في قرية من قرى إيران)، التي وصلت عن طريق زوجته العلوية أم جعفر، أن هناك رغبة للسيد الصدر في القدوم الى إيران(7)، وهو ما نفاه السيد محمد باقر الصدر تماماً، بل واستغرب من هذه البرقية، وذلك كما يقول أحد مؤرخي حزب الدعوة :
((سرت في أوساط القادة الإيرانيين شائعة قوية مفادها أن آية الله السيد محمد باقر الصدر ينوي الهجرة خارج العراق، مما حمل الإمام الخميني على الإبراق للسيد الصدر طالباً إليه البقاء في النجف الأشرف :
((علمنا أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث. إنني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلامية، وإنني قلق من هذا الأمر .. آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتكم)).
فأبرق إليه السيد الصدر مجيباً :
((تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسَّدت أبوتكم ورعايتكم الروحية للنجف الأشرف الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة، وإني استمد من توجيهكم الشريف نفحة روحية، كما أشعر بعمق المسئولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الأشرف)).
وحقيقةً أن الإمام الصدر لم يكن ينوي ترك العراق مطلقاً، ولو كان في نيته ذلك لصرح لتلاميذه والمقربين إليه. وينقل الشيخ محيي الدين الفقيه قول أستاذه السيد الصدر في هذا الشأن : لقد ((سمعت إذاعة طهران تذيع برقية من الإمام الخميني موجهة لي يطلب فيها مني عدم مغادرة العراق، وأنا متى أردت مغادرة العراق؟! ومتى فكَّرتُ بذلك؟! ومن أين علم الإمام بهذا؟! .. إنا لله وإنا إليه راجعون))، ويتضح ذلك أيضاً من جواب السيد الصدر، والذي لم يتطرق فيه لقضية الهجرة أصلاً(8))).
ولكن للسيد محمود الهاشمي كلام آخر مغاير لما سبق، مع أنه كان خارج العراق وقتها، ويبدو من خلال حديث السيد الهاشمي الآتي أن العلاقة كانت متكدرة أو باردة بين السيد الشهيد والسيد الخميني لأسباب تاريخية، وهي تأييد السيد الشهيد لمرجعية السيد الخوئي بعد وفاة السيد الحكيم، ونفس الموقف اتخذه السيد موسى الصدر في لبنان، مما أثار حفيظة كادر السيد الخميني الذين كانوا ينتظرون الإشارة بأعلميته أو مرجعيته، وبعد أن خاب أمل السيد الشهيد بمرجعية السيد الخوئي لم يشر أيضاً الى السيد الخميني بل تصدى هو بنفسه للمرجعية. يقول الهاشمي :
((إن الحوادث التي أعقبت وفاة السيد الحكيم وإرجاع السيد الصدر الى السيد الخوئي قلبت الأمور رأساً على عقب، وقد فاقم الأمور ما جرى في لبنان من تصنيف السيد موسى الصدر للإمام الخميني بعد السيد الخوئي. وقد أثارت هاتان الخطوتان من السيدين الصدرين حفيظة الكثيرين، والحق معهم في عدم تقبُّل ذلك؛ لأن السيدين انطلقا من منطلق علاقة التلميذ بأستاذه ورفاقه(9). ومما ساعد على إبهام الأمورِ الانطباعُ الذي كان يحمله السيد الصدر حول السيد الخوئي وكونه منفتحاً من الناحية الفكرية، فقد سبق أن ذكرت أن من يجالسه يستهويه كلامه حول لزوم تشكيل الحكومة الإسلامية وإقامة الحدود، حتى أنه أفتى بعدم اختصاص إقامة الحدود بزمان المعصوم وحضوره، وأن المسألة من بديهيات الإسلام التي ينبغي إقامتها في كل زمان.
إن هذا الفكر المنفتح كان يجعل السامع يعتقد بأنه وبمجرد أن تذعن المرجعية له رقبتها فسيعمل على إقامة الحكومة الإسلامية. ومما عزّز هذه القناعة أنه كان قد أفتى بكفر الشاه وعدم شرعية الحكومات الفعلية التي اعتبر أموالها مجهولة المالك وأن ملكيتها لها فاقدة للشرعية. والذي يعلن وبكل شفافية فتاوى من هذا القبيل من الطبيعي أن تعقد عليه الآمال بأنه وبمجرد أن يستلم زمام المرجعية فسيعمل على إقامة الحكومة الإسلامية، والحال أن الذي حصل خلاف ذلك تماماً، فتلقى السيد الصدر ضربة قاصمة حيث أسقط بيده وخابت آماله، خاصة وأن السيد الخوئي لم يملأ حتى الفراغ الذي خلَّفه السيد الحكيم على صعيد التصدي الاجتماعي.
ومما زاد في الطين بلَّة ما تعرض له الإيرانيون من حملات تسفير شنَّها النظام البعثي، حيث كان أكثر طلاب السيد الصدر منهم فتلقى ضربة موجعة، ولم يعد ترميم الوضع بالأمر الهين على الإطلاق. ثم توالت الأحداث وتراكمت القضايا التي فاقمت الأمور وراحت تزيدها تعقيداً يوماً بعد آخر. أذكر على سبيل المثال حملات التسفير التي شنَّها النظام النظام البعثي ضدَّ الإيرانيين، والتي تزامنت مع سفر السيد الخوئي الى بريطانيا [لندن]، الأمر الذي أزعج السيد الصدر كثيراً، وعندما زاره في بغداد ]قبل سفره الى لندن[ طالبه بمبرر سفره في هذا الظرف، وذكر له أن مكتبه في النجف قد أعلن أن من أراد السفر فليسافر، وأن نتيجة هذا التدبير ستكون زوال الحوزة. فطلب منه السيد الخوئي أن يرجع أدراجه الى النجف وينقل عنه عدم رضاه بسفر أي من الطلاب، فرجع السيد الصدر الى النجف معلناً عن موقف السيد الخوئي، ولم يطلع صباح اليوم التالي حتى كذَّب مكتب السيد الخوئي ذلك، حتى قال السيد جمال الخوئي : إن هذا الكلام لم يصدر من والده.
والنتيجة أن السيد الخوئي سافر الى بريطانيا ]لندن[، ولولا وقوف الإمام الخميني والمرحوم السيد محمود الشاهرودي وثبات موقفهما لزالت الحوزة، ولكن مع ذلك فقد هاجر الكثيرون الى قم، وكان فضلاء الحوزة العلمية في النجف من الإيرانيين، وقلَّما تجد فيها فاضلاً عربياً، أما اللبنانيون فقد كان عددهم محدوداً. (10))).
((يُذكر هنا أنه في بداية الأمر كان السيد مصطفى الخميني يكنُّ للسيد الصدر معزَّة خاصة، ولكن إرجاع الأخير الى السيد الخوئي بعد وفاة السيد الحكيم قد عكَّر صفو هذه العلاقة الى حدٍّ ما، وكذلك الأمر بالنسبة الى علاقة السيد مصطفى الخميني بالسيد موسى الصدر. (11))).
ثم تحدَّث السيد محمود الهاشمي أنه قال للسيد الصدر بعد هروب الشاه من إيران : (( إن المنطقة ستشهد تحولاً ومنعطفاً مصيرياً بسبب الأوضاع الأخيرة، ومن المؤكد أن صدام حسين لن يدعكم تتفيؤون ظلال الراحة وتتقلبون بين أعطاف الدعة، بعد أن شاهد بأم عينيه سقوط نظام الشاه وعدم نجاحه في الحفاظ على ملكه، ولذا فلا بد أن تخرجوا من العراق بأي شكل من الأشكال، فكان رأيه أن أذهب أنا في الوقت الراهن.
فقد أخذتُ من النجف الى بغداد حيث تواريت عن الأنظار، وبسبب معرفتي بحقيقة البعثيين ومدى وحشيتهم وكونهم جرثومة الفساد قلت للسيد الصدر بأنهم سينغصون عليه عيشه؛ لأنهم كانوا يستهدفون القضاء على من كان خلف الأحداث الأخيرة التي جرت في العراق، الذي هو السيد الصدر. ولهذا السبب سارعت بالرحيل بمجرد أن اشتعل فتيل الأمور، كما أن السيد الصدر نفسه أوعز لي بذلك، وقال لي بأننا سنبحث لاحقاً من خلال تواصلنا كيف يمكن أن يخرج هو من العراق. فالسيد الصدر لم يكن في الواقع يرفض فكرة الخروج؛ لأن الأوضاع كانت في غاية الخطورة(12))).
ثم يذكر الهاشمي لقاءه بالخميني في قم في آذار 1979 وحديثه معه :
((استعرضت أمام الإمام الخميني أوضاع العراق وما آلت إليه الأمور، وذكرت له أن الخطر محدق بالسيد الصدر، وأن البعثيين سيقتلونه، ولكنه كان يرى أنهم لا يتورطون في إعدام مرجع، والحرب العراقية الإيرانية لم تكن قد بدأت بعد، فلم يكن واضحاً لدى الإمام مدى إجرام صدام حسين، ولذلك قال : إن من البعيد أن يقدموا على هذه الخطوة.
ثم يقول : يبدو أن وكالة الأنباء الإيرانية (فارس) كانت أول من أعلن الخبر وطيَّرت ذكره في الآفاق، ثم تناقلته بعض الصحف، وقد أدى ذلك الى شيوع الخبر وانتشاره. (13))).
ويختم الهاشمي توثيقه المهم هذا :
((في العراق كان النظام يحمِّل السيد الصدر مسئولية كل ما يجري، ولم يكن السيد الصدر في المقابل مكتوف اليدين، فمن دعمه الثورة الإسلامية في إيران مروراً بتطيير الرسائل الرسمية ـ من قبيل رسالته الى الشيخ الخاقاني ـ وصولاً الى إقامة الفاتحة للشهيد مرتضى المطهري، الى غير ذلك من الأعمال... لقد كان الوحيد الذي أقام للشيخ المطهري مجلساً في النجف، كما أنه وقف بنفسه ليتقبل التعازي. وقد اعتبرت السلطة هذه الأعمال بمثابة التحدي لها، وقد حاول بعض أصدقائه ومريديه أن يزيلوه عن خوض المعركة ويثنوه عنها، وكنتُ منهم، وكان هذا رأي الخواص. ولست أدري كيف شاع أمر خروجه عبر وكالة الأنباء والصحف، وقد اطلع الإمام على ذلك وكتب في ذلك [رسالته المعروفة] (14)، معتقداً أن البعثيين لن يقدموا على قتله. (15)).
تتضح لنا من حديث السيد محمود الهاشمي عدة نتائج :
ـ أن العلاقة كانت سيئة ومتوترة بين كادر السيد الخميني وبين السيد الصدر قبل الثورة بكثير بسبب إشارته بالرجوع الى السيد الخوئي بعد وفاة السيد الحكيم عام 1970م. وهذا يؤكد كلام السيد كاظم الحائري السابق، بل إن سوء العلاقة لا بدَّ أنه اشتد عند تصدي السيد الصدر للمرجعية بعد خيبة أمله بمرجعية السيد الخوئي، ولم يشر مرة أخرى الى مرجعية السيد الخميني، وهذا زاد الأمور تعقيداً.
ـ إن إعلان خبر خروج السيد الصدر من العراق خرج بشكل رسمي من السيد الهاشمي وليس من غيره، وانتشر الخبر من الأشخاص حوالي السيد الخميني لأن الكلام كان محصوراً بين الهاشمي والخميني لا غير، إضافة الى خواص السيد الخميني بالطبع. ولكن نلاحظ الغموض في كلام السيد الهاشمي، إذ لم يأت في طيات حديثه مع السيد الصدر أي رغبة ابتدائية بالخروج من قبل الأخير، وإنما كان الأمر بمثابة عرض من الهاشمي ولم يوافق السيد الصدر أو يقطع بالأمر وانما جُلُّ ما يُفهم من الحديث أنه وعد بأن يفكر بالعرض، وأن السيد الهاشمي هو رأس الأمر في عرض الفكرة على السيد الصدر ومن ثم عرضها على الإيرانيين ومن هناك انتشرت.
ـ من الواضح أن السيد الهاشمي ممن يذهبون الى نظرية (تفوق العنصر الفارسي) بنفيه وجود فضلاء عرب معتد بهم في حوزة النجف، ولا بد أن نتسامح مع السيد الهاشمي في رؤيته هذه بعد أن تخلى عن درسه باللغة العربية واتجه الى إلقاء بحثه باللغة الفارسية حتى هذه الساعة، وكونه أحد أركان السلطة في إيران كما هو واضح!!، وهذا الإتجاه كان ولا زال راسخاً في العقلية الإيرانية، بينما كان السيد الهاشمي الى ساعة استشهاد السيد الصدر يعتبره الأعلم من بين كافة العلماء حتى من السيد الخميني، فمن الغريب أنه يستهجن عدم إشارة الصدر الى مرجعية الخميني، وسنرى أن الهاشمي يذهب الى أبعد من ذلك عندما اعتبر كل الموجودين في النجف بعد استشهاد السيد الصدر عام 1980 من البعثيين ولم يستثن منهم أحداً، وهو تطرف جداً لصالح الإيرانيين في زعمه هذا المجانب للحق.
ـ من الغريب اللهجة التي أنهى بها الهاشمي حديثه حول أنه كان ممن يذهبون الى عدم صحة دخول السيد محمد باقر الصدر في معركة مع النظام، بينما يعتبر في نفس الوقت كل من لم يدخل في هذه المعركة من البعثيين؟؟!!.
ونختم الحديث عن هذه المسألة بما نُقل عن السيد محمد الصدر، أنه دار بينه وبين أستاذه السيد محمد باقر الصدر حديث الخروج من العراق، فكانت وجهة نظر السيد محمد الصدر أنه : ((إن كان يفكر بالخروج فليخرج الى لبنان، وإلا فإن الإيرانيين لن يستقبلوه)).
ونلاحظ دقة السيد محمد الصدر في هذا الأمر من ناحيتين، الأولى تشخيصه للنظرة العدائية لأستاذه من بعض الإيرانين، والثانية أن لبنان التي لا زالت تعيش أمجاد السيد موسى الصدر وتغييبه، ومقدار القوة التي تتمتع بها حركة أمل التي تعتبر السيد موسى الصدر والسيد محمد باقر الصدر رمزيهما الأولين بلا منازع، يضاف الى أن أعضاء حزب الدعوة هم المؤسسون الأوائل لحركة أمل، التي كانت ستحتضن السيد محمد باقر الصدر وما كانت لتتخلى عنه تحت أي ظرف، وقد اتضح بعد ذلك من خلال ردة الفعل من قبل إيران تجاه إعدام السيد محمد باقر الصدر، التي اكتفت بمقدار من الإعلام وإقامة مجالس تعزية هنا وهناك لا أكثر، وردة الفعل الشرسة من قبل حركة أمل على نفس الحدث صحة نظرة السيد محمد الصدر.



-------------------
(1) فقد بات واضحاً لدى الأمريكان والبريطانيين أن البكر لا يلبي طموحاتهم وأوامرهم، خاصة أن التسابق كان على أشده بينهم وبين الاتحاد السوفييتي للإستيلاء على منابع النفط، ناهيك عن الخطر الذي تشكله الحركة الاسلامية القوية في العراق، فقد رفض البكر التوقيع على أحكام الإعدام التي صدرت بحق القياديين الخمسة (قبضة الهدى) فقام صدام بالمصادقة على الحكم بصفته نائب الرئيس عام 1974، وختم الأمر بعد رفض البكر الموافقة على إعدام 300 شخصية من بينهم السيد محمد باقر الصدر وذلك باجتماع في 9 تموز 1979، فقام صدام وعناصره بتنحية البكر بانقلاب في 16 تموز 1979، وتسلم السلطة رسمياً. للتفصيل مراجعة علي المؤمن، ص 149 و231 و232.
(2) النعماني، محمد رضا، سنوات المحنة وأيام الحصار، ص 267.
(3) السيد الشهيد محمد الصدر، بحوث في فكره ومنهجه وانجازه العلمي، تأليف نخبة من الباحثين والمفكرين، ج1 ص70 ـ 71.
(4) كالسيد عبد الهادي الشوكي والسيد فاضل النوري وبعض الدعاة في مدينة قم.
(5) ((إثر إعلان السيد الصدر عن أعلمية السيد الخوئي، اتخذ بعض عناصر جهاز السيد الخميني موقفاً سلبياً منه، بينما بقي آخرون على وضعهم، خاصة السيد أحمد الخميني الذي كان يوافق السيد الصدر على موقفه نظراً الى الظروف، بينما يبدو الانطباع سلبياً عند السيد علي أكبر محتشمي حين تناول موضوع دعم علماء النجف مرجعية السيد الخوئي وتعرَّض الى موقف السيد الصدر، والسيد عباس خاتم يزدي الذي اعتبر السيد الصدر (استبصر) في الفترة الأخيرة، والسيد حميد روحاني. وكذلك اتسمت العلاقة تجاه السيد موسى الصدر : فبعد أن كانت العلاقة بين السيدين مصطفى الخميني وموسى الصدر علاقة طيبة وحسنة، مالت نحو الفتور إثر إعلان السيد موسى الصدر عن أعلمية السيد الخوئي. وقد كلَّف السيد موسى الصدر في إحدى المرات الدكتور إبراهيم اليزدي بالسفر الى النجف من أجل محاولة التقريب بين طرفي السيد الصدر والسيد الخميني، وكان السيد الصدر قد شدَّد على طلابه بعدم الرد بالمثل، كما أن السيد الخميني كان كثير التشدد إزاء الموضوع... ومن أمثلة هذا الانعكاس على العلاقة مع السيد الصدر أن الدكتور صادق الطباطبائي ـ ابن اخت السيد موسى الصدر ـ كان في زيارة الى النجف الأشرف قادماً من أوربا، وقد جمعه بالسيد حميد زيارتي (روحاني) مجلسٌ في منزل الشيخ الكروبي ـ أخي رئيس البرلمان السابق ـ ضَمَّ السيد علي أكبر محتشمي وآخرين، وقد جرى في المجلس حديث عن السيد الصدر، فحمل عليه السيد حميد روحاني وعلى ابن عمه السيد موسى الصدر، واتهمهما بالعمالة للإمبريالية والصهيونية، وقد استدل على ذلك بأمور : 1 ـ أنهما لم يطرحا مرجعية السيد الخميني ولم يدعموها، والسيد الصدر يريد طرح مرجعيته. 2 ـ أنهما ضغطا سابقاً على السيد محسن الحكيم للإفتاء بطهارة أهل الكتاب، وهذا ما يفعلانه حالياً مع السيد الخوئي، وهذه الفتوى عبارة عن مطلب إمبريالي. 3 ـ أن السيد الخميني عندما شرع في بحث الحكومة الاسلامية لم يبادر السيد الصدر الى بحث الموضوع، وإنما استمر في درسه الاعتيادي.
وبعد أن انفض المجلس، ذهب الدكتورالطباطبائي الى منزل السيد الصدر، ولما اجتمع به قال له :"لقد علمت للتو أنك إمبريالي"، فقال:"وماذا هناك؟!"، فسرد له ماذا جرى معه، فتبسم السيد الصدر وقال له:" أما أننا ضغطنا على السيد الحكيم والسيد الخوئي ليفتيا بطهارة أهل الكتاب، فلا أدري هل هذا ذَمٌّ لنا أم للمراجع الذين يمكن أن يفتوا تحت ضغوطات تمارس عليهم؟! وأما درس الحكومة الاسلامية فإنهم عندما طبعوا الكراسات ووزعوها على الدروس التي تقام في النجف الأشرف كل الدروس رفضتها وطردتهم إلا درسي، فقد استقبلتهم وشجعتهم ووزعت الكراسات، وقلت لطلابي إنه عندما ينتهي بحثنا فإننا سنبحث الحكومة الاسلامية. وأما أنني لم أطرح مرجعية السيد الخميني، فذلك لا يعني أنني لا أؤيد مرجعيته، بل لأن السيد الخوئي أكثر شهرة في العالم الإسلامي والعربي، وأنا أرى الآن أن من واجبي الدعوة الى مرجعيته، وإلا فلا شك بأن السيد الخميني مرجع.)). العاملي، أحمد عبد الله أبو زيد، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، ج3 ص364 ـ 365.
(6) فقد اتهمه مهدي الهاشمي ((بالعمالة لأمريكا، والى جانب مهدي الهاشمي وقف الشيخ محمد منتظري الذي كان في أول أمره متأثراً بهاشمي، وقد دفع به ذلك الى نشر مقال يتهم فيه السيد الصدر بالعمالة لأمريكا، وأنه إنما ألَّف (فلسفتنا) و (اقتصادنا) بإيعاز من أمريكا في سبيل تقويض النظام الشيوعي المناوئ لها يومذاك. وقد استند الى النقد التفصيلي الذي يوجهه السيد الصدر الى النظامين الماركسي والشيوعي، بينما يكتفي في نقاشه للنظام الرأسمالي بالقليل)). المصدر السابق، ج4 ص101. يبدو أن الشيخ محمد منتظري لم يطلع بشكل تام على كتابي السيد الصدر (فلسفتنا واقتصادنا)، فهو لم يعط الرأسمالية نفس حيز الماركسية والشيوعية، لأن الرأسمالية ليست لديها فلسفة تناقش من خلالها كما أسهب في ذلك السيد الصدر (قدس سره الشريف)، كما أن الرأسمالية لا تتعرض للجانب الروحي والديني للفرد أو المجتمع، بينما الإلحاد هو الصفة الرسمية للشيوعية، وما عشت أراك الدهر عجباً.
كما يؤكد السيد كاظم الحائري أن الشهادة كانت رحمة من الله بالسيد محمد باقر الصدر وإلا فإن الإيرانيين كانوا سيسقطونه. وعندما سُئل عن هوية هؤلاء الإيرانيين أجاب : (هم جماعة 15 خرداد). في لقاء مع السيد الحائري جمع كل من الشيخ عامر المنشداوي، والشيخ محمود الجياشي، والسيد عبد الجبار البعاج، والسيد فلاح العلوي، والشيخ عباس الزيدي، وذلك في منزله في مدينة قم بمناسبة عودته من الحج لسنة 1420 الموافق عام 2000.
(7) في حديث للسيد عمار أبو رغيف (أحد طلبة السيد محمد باقر الصدر من الجيل المتأخر الجديد) في منزله في مدينة قم عام 2000، بحضور عدد من الفضلاء منهم السيد هاشم السيد علاوي الهاشمي، والشيخ عزيز الساعدي، والشيخ محمود الجياشي، والسيد رضا الموسوي، والشيخ عباس الزيدي.
(8) المؤمن، سنوات الجمر، ص209 ـ 210. مع ملاحظ أن علي المؤمن أغفل صيغة الخطاب التي توجه بها الخميني إلى السيد الصدر حيث خاطبه بلقب (حجة الإسلام والمسلمين) وهو في عرف الحوزة لقبٌ لصاحب المرتبة العلمية الذي لم يبلغ الإجتهاد أو من هو دون مرتبة المرجعية. بينما لقبَّه الخميني بـ(آية الله العظمى) في خطاب التعزية الذي وجهه بعد استشهاده، وهو لقب يطلق على المرجع. أنظر النعماني، (سنوات المحنة وأيام الحصار).
(9) إن تبرير السيد الهاشمي بإرجاع السيدين الصدرين لمرجعية السيد الخوئي لمجرد كونه أستاذهما ليس صحيحاً، فلم يكن منطلقهما مجاملة لأستاذهما وإنما لأسباب واقعية، يضاف إليه أن السيد الصدر كان يرى نفسه الأعلم سواء من السيد الخوئي أو السيد الخميني، كما هو واقع الحال، ولكن عوامل داخلية وخارجية سبق أن مرَّ بعضها أدَّت الى تأييده مرجعية السيد الخوئي، بعد ذلك وعندما لم يرَ فيها ما كان ينشده تصدى بنفسه للمرجعية، في تلك الفترة التي كان طلبته وطبقة معتد بها في العراق وغيره ترجع إليه في التقليد، ومن هؤلاء بلا شك سماحة السيد محمود الهاشمي، وهنا يدور في الذهن سؤال وهو : لماذا هذا التركيز على السيد الصدر دون غيره من المرجعيات والكيانات الأخرى، التي لم تكن ملتفتة على الإطلاق للسيد الخميني وحركته؟، ومعظم هؤلاء من الإيرانيين، سواء في حوزة النجف أو حوزة قم، إذ لم يُسأل أحد منهم ما سُئل السيد الصدر، ولم يتحاملوا على أحد كما تحاملوا على السيد الصدر، ولم يطلب من أحد منهم تأييد أو إعلان مرجعية السيد الخميني؟، فيا حبذا لو تكرم علينا السيد الهاشمي بتوضيح.
(10) الاجتهاد والتجديد، العدد السادس ربيع 2007م. 1428هـ، ص 61 ـ 63.
(11) المصدر السابق، ص 64.
(12) المصدر السابق، ص65.
(13) المصدر السابق ص66.
(14) نلاحظ الإرتباك في حديث السيد الهاشمي ففي الوقت الذي ذكر فيه أنه كان الوحيد الذي يعلم بالأمر وأطلع عليه السيد الخميني، ها هو يعود مستغرباً عن كيفية معرفة وسائل الإعلام بالأمر، ويناقض ما قاله سابقاً بقوله : إن الخميني إطَّلع على الأمر عن طريق وسائل الإعلام؟.
(15) المصدر السابق، ص66 ـ 67.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم