الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أطفالنا يُسرقون منّا

رمضان عيسى الليموني

2015 / 1 / 11
الادب والفن


تجلت مخاطر العولمة في إحدى صورها في تلك العمليات المعرفية المتصلة والتي هدفت إلى تغيير الهويّات الثقافية لشعوب العالم، عبر الفيض الهائل من الصور الإشهارية والنصوص المرئية دائمة البث على مدار الوقت، وما استتبعه ذلك من تدمير واضح لمنظومات القيم الرمزية وأنماط العلاقات الاجتماعية ورؤية الإنسان للحياة، وفي ظل التمدد الهائل للوسائط التكنولوجية باتت الشعوب العربية عاريةً تماماً أمام هذا الكمّ غير المحدود للعلامات التي تحمل معها أبطالاً ورموزاً تشحن مخيلة المتلقي وتلقي به في شرنقة الرغبة الاستهلاكية المندفعة بلا هوادة بدءً بعروض الأزياء والموضة ونجوم الرياضة والفن والسينما وبرامج الطهي وبرامج الرشاقة والجمال والدراما العاطفية ومسابقات المواهب الفنية خاصة الغنائية والتمثيلية، والتي انطلقت النماذج الأوّلية لها من خطوط إنتاج الشركات متعددة الجنسيات داخل مراكز صناعة الثقافة المعولمة. وقد ظهرت تأثيراتها في تسليع الأنماط المعيشية والقيم السلوكية والرمزية وتشويه البنى الثقافية والتي ساهمت في الترويج للثقافة الاستهلاكية عبر آلة تجارية وإعلامية لا حدود لإمكاناتها المتعددة والمتغيرة في الوقت ذاته، فأدت إلى تغريب الإنسان عن قضايا مجتمعه وعزله عن الهموم العامة للطبقات المختلفة عن تلك التي ينتمي إليها، بل والوصول به إلى التشكيك في كافة القناعات الوطنية والقومية.
وقد سعت العولمة بكافة الآليات والوسائل الاتصالية والمعلوماتية والمعرفية النفاذ إلى عقول أبناءنا لتشكيل وعيهم بصور الإغراء والتأثيرات الإشهارية ببراعةٍ فائقةٍ، وتمثل دراما الأطفال وبرامج الرسوم المتحركة التي تبثّ عبر تلك الفضائيات المدبلجة ميداناً خصباً للشركات متعددة الجنسيات لتحقيق أكثر من هدفٍ في وقتٍ واحدٍ؛ فهي تعمل على تحييد الوعي الإنساني لتسهيل عملية استلابه والتلاعب بعواطفه بغرض زعزعة قناعات الفرد العربي بتراثه الثقافي والفكري والذي ينتهي بدوره إلى تهميش وطمس تلك الهويّة الثقافية تماماً ثم إزاحتها جانباً لصالح ثقافة العولمة التي جعلت الأفراد مهمشين داخل مجتماعاتهم ومعزولين عن قضاياهم الحقيقية التي تمسّ أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والساسية والثقافية، ومن جانب أخر يتحقق هدفٌ جوهري يتشكل عبر الإغراء الإعلاني لتوحيد القيم والتصورات والرؤى الوجودية والأهداف لتختزل الإعلانات التجارية العالم في صور سلع تُقدم بوصفها الحلّ الفوري لتخليص الفرد من سجن الهويّات الثابتة والمغلقة، ولا تحتاج تلك الصور الإشهارية إلى الخطاب اللغوي الشارح كي تنفذ إلى وعي المتلقي، فهي بذاتها خطاب ناجز مكتمل يمتلك كافة مقومات التأثير الفعّال والفوري في المتلقي والتي تعمل على دفع المستهلك لاقتناء كل ما يمكن أن يستعيض به عن هويّته المفقودة وذاته المغتربة داخل المجتمع، وتكمن مهمة الشركات متعددة الجنسيات في هذا الأمر ليس فقط مجرد البيع الكثير إلى ضمان تنمية تواجد المنتجات في ذهن المستهلك عبر خلق آليات مستمرة لزيادة الإقبال الشهره عليها فتعمل بكامل طاقتها لتقديم منتج يهدف بغايته الجمالية والإبداعية إلى استثارة الرغبات والعواطف وتحويل المنتجات التجارية إلى تمثلات رمزية لدى المستهلك.
إنّ من ضمن تلك التجليات ما نشاهده من تأثير دراما الرسوم المتحركة في الفضائيات المدبلجة التي تذاع على مدار الساعة في جميع الدول العربية على الأطفال، حيث يبدو للوهلة الأولى براءة تلك البرامج التي تبدو أنها تسعى إلى إكساب الطفل مهارات التفكير والاتجاهات والتقاليد السليمة وتنميه ميوله الإبداعية، وتمكينه من تذوق الجمال والتعبير عنه وتعويضه عن الخبرات البيئية الناقصة. لكننا لم ننتبه إلى حالة التغريب الاجتماعي والثقافي التي يعيشها أبناءنا نتيجة تعرضه لمزيج من الصور والحيل والخدع المنتمية ثقافياً ومعرفياً إلى إيديولوجية منتجيها في الأساس دون أن تمت بأدنى صلة للثقافة والتراث العربي اللهم إلا في استمالة الأطفال باستخدام لغة عربية فصحى يظل الأطفال يرددون محتواها الثقافي والمعرفي المشحونة بدلالات ثقافة الاستهلاك، وكان للتطور المذهل في مجال علم النفس التكويني، وتقدم علم النفس التعليمي أثرها في فعالية تلك المادة الدرامية على خصائص نمو الطفل وطبيعة تفكيره والتعلم الإنساني بحيث بدلاً من أن تحقق تكامل النمو المعرفي والوجداني والحركي للطفل النابعة من بيئته الاجتماعية والثقافية أصبح الطفل يتلقي محتوى معرفي لا علاقة له بجذوره وتراثه وتقاليده. والواقع أن الدراما المتحركة التي تقدّم للأطفال في الفضائيات المخصصة لهم ترتكز على إثراء جميع جوانب نمو الطفل نحو استهلاك هذا المحتوى الثقافي من جانب وتعزيز غريزته نحو استهلاك المنتجات والألعاب التي تصنّع كنماذج لأبطال المسلسلات والأفلام والتي سيطرت أفعالها وسلوكياتها على تطلعات الأطفال واستمالته نحو تقليدهم عبر اقتناء النماذج الشبيهة بهم، وهو ما نلاحظه بوضوح من كمّ الفقرات الإعلانية التي تُقدّم للأطفال فرص الحصول على الألعاب الترفيهية ونماذج أبطالهم الذين تعلّقوا بهم، وهي نماذج أبطال من صناعة العولمة الغربية التي لا تلقي بالاً بنماذج الأبطال في التاريخ العربي والوطني.
كنّا ونحن صغار نستمتع بشخصيات من قبيل " بوجي وطمطم" و" بلقظ " و حكايات " أبلة فضيلة".. إلخ، والتي كانت أهدافها تنبثق من الرغبة نحو ضرورة إثراء الجوانب المعرفية والوجدانية لنمو الطفل، والتي تتوجه إلى أطفال الطبقات الفقيرة والمتوسطة والطبقات الغنية الذين يتعرضون سويّاً لخبرات تعليمية وتربوية مكثّفة وتعويضهم عن الحرمان البيئي في التربية ومناهج التعليم، وقد ساهمت تلك البرامج ودراما الأطفال العربية النابعة من خصوصية البيئة المحلية والثقافية في إزكاء الروح الوطنية والقومية باستخدام الأناشيد والحكايات ونماذج الأبطال الوطنيين واستهلام التاريخ القومي والمعاصر بلغةٍ بسيطة معبّرة والتي مازالت أجيال كثيرة تتذكرها حتى الآن، بل وعند الاستماع إلى بعض تلك الأعمال الفنية- مثل حكايات أبلة فضيلة- تنتابنا الكثير من الذكرى الجميلة والبريئة في مرحلة الطفولة، فلم تكن تلك البرامج تستهدف دفع الأطفال نحو استهلاك المنتجات التي تروّج لها الشركات المنتجة لتلك الأعمال مثلما يحصل في البرامج الحالية على فضائيات الدراما المتحركة للأطفال، بل لقد انبرت نحو استخدام مواقف حياتية يعيشها الطفل كما توظف حاجاته البيولوجية والنفسية كدوافع للتعلم وكذلك اهتمامه بتطلعاته ورؤيته في الحياة التي يعشيها لا تلك التي تملى عليه وتتوغل في لاوعيه، فكثيراً ما استخدمت برامج " بلقظ " مع المبدعة نجوى إبراهيم التعلم بالملاحظة وبالاستكشاف والتعلم بالمحاولة والخطأ والتعلم بالتعزيز، والتعلم الحر والموجه والتعلم باللعب والتعلم الابتكاري والتعلم الإنساني بما ساهم في تحقيق تكامل النمو المعرفي والوجداني للأطفال الذين تلقوا هذا البرنامج على مدار سنوات عديدة، ولذا فكثير من تلك الأجيال لا تنسى هذه البرامج وغيرها، وفي الأسابيع الماضية قامت المبدعة " إسعاد يونس " في برنامجها " صاحبة الجلالة " باستضافة جميع مقدمي تلك البرامج والمواد الدرامية ومناقشتهم حول تلك الأهمية العظيمة التي حققتها في نفوس أجيال كثيرة، والإشارة إلى افتقاد هذا الكمّ الهائل من الفضائيات العربية ببرامج ودراما الأطفال المتحركة ذات الخصوصية الثقافية العربية " القومية والوطنية "، في حين لا تكاد تخلو تلك الفضائيات من برامج الطهي والموضة وعروض الأزياء والمسابقات الفنية الملقدة لنماذجها الأصلية التي طرحتها الفضائيات الغربية، وتسعى " إسعاد يونس " عبر برنامجها إلى محاولة إحياء هذه النماذج من البرامج والدراما وحث المنتجين وصنّاع الميديا في مصر والوطن العربي إلى ضرورة تبني تلك النوعية من المواد الترفيهة والتعليمية نظراً لخطورة ما تتعرض له أجيال من الأطفال منذ سنوات للتغريب وهجر ثقافتهم المحلية والقومية، وهي محاولة مهمة للغاية في هذه المرحلة التي قد لا يتذكر أحد من أطفالنا أسماء بعض أبطالنا التاريخيين في الحكايات الشعبية والتراث العربي بقدر ما يستطيعون سرد أسماء العديد من مسلسلات الدراما المتحركة مثل " جامبل "، وسلاحف النينجا"، و" العم جدو" ، و" فتيات القوّة " التي لا علاقة لها بأي حالٍ بثقافتنا وهويّتنا العربية.
إن تلك المحاولة التي يتبناها برنامج " صاحبة السعادة " جديرة بالاحترام ويجب بكل حالٍ الانتباه لها وتبنيها وتخصيص قدر من النفقات التي تهدر على البرامج المستهلكة يومياً على شاشات تلك الفضائيات دون أن تعود بنفعٍ يرتجى منها على المجتمع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد