الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التبصر الأعمق

رمضان عيسى الليموني

2015 / 1 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إنّ جوهر الملمح المتأصل في طبيعتنا الإنسانية يتجلى في حاجاتنا لأن ننتمي إلى تلك الحياة التي نرغب أن نبدع فيها وأن نطور أنماطها المختلفة وأن يفهم بعضنا البعض، ولا يتأتى ذلك الفهم إلا من خلال حركة استكشاف كلٌ منّا للأخر واستيعابه عبر الانفتاح على ذلك الآخر والوصول إلى تفهّم كل ما له معنى بالنسبة لأحد الأطراف وتقدير ما له معنى بالنسبة للطرف الآخر، وفي النهاية محاولة التوافق حول ذلك المعنى الذي يمكن أن يصل إليه كلا الطرفان معاً، إنّ ما يواجهنا في سبيل الوصول إلى تلك الحالة هي صعوبة التفرقة بين الأفكار في محتواها العام المجرد وبين وجهات النظر حول تلك الأفكار، لذا فإنّ ما يصنع مزيداً من التفهم المتبادل بين الأفراد هو بلورة ذلك " المعنى " المطروح في وجهات النظر عبر المناقشة وطرح التساؤلات الكاشفة، الأمر الذي يعزز الثقة والاطمئنان بين الطرفين المتحاورين ويسمح بوجود تواصل أعمق من شأنه أن يقيم جسوراً ممتدة بين المعتقدات المتعددة والقيم الإنسانية. كذلك فإنّ قيام كل فرد منّا بتفهم دوره المتبادل مع الطرف الآخر عندما نقف في موقعه لاستبيان الدوافع الخفيّة وراء وجهة نظره من شأنه أن يزيد من إدراكنا لأنفسنا كمخلوقاتٍ لها خصوصيتها الذاتية ورؤيتها المتفردة، الأمر الذي يمنحنا احتراما ًأعمق للاختلافات ويحثّنا لأن نتشارك في اختلافاتنا ومعارفنا وتبصرنا بحقائق المواقف الحياتية المتنوعة، إنّ ذلك التبصر يعكس درجات تفهمنا العميق أيّاً كان مستوى تباينّا في الخبرات والعلاقات الاجتماعية والقيم والمشاعر.
إنّ التحرك بعيداً عن التحيّز لوجهات نظرنا الجامدة وتصنيفاتنا الجاهزة يخلق لدينا تبصر أعمق لما تعودنا على الاعتقاد بأنه الحقيقة المطلقة، وذلك عندما نضع أفكارنا على طاولة التأمل والحوار لمحاولة استقراء معانٍ جديدة مختلفة ومشتركة بيننا في الأساس. إنّ التأمل والحوار يديره دائماً التساؤل والفضول نحو استكشاف حقائق الأمور ويبعث على الانفتاح نحو الآخر لنصل إلى تبصرٍ بالحاجات والقيم والدوافع التي تكمن وراء وجهات نظرننا، وهو ما يجعل الحوار بيننا ليس مجرد وسيلةً لتبادل وجهات النظر والآراء، بل إنه يشكل حركةً حلزونية نحو استكشاف طبيعة مواقفنا في الحياة ورؤتيتنا للوجود ولطبيعة الاختلافات بين بعضنا البعض.
إنّ كل واحد منّا يمتلك قوّة كامنةً للخير والشر، وبرغم أننا قد لا نكون دائماً على صوابٍ في كافة المواقف الحياتية ووجهات النظر إلاّ أنه يمكن بسهولة تحفيز جانب الصواب والخير في أفعالنا وسلوكياتنا، لذا فإن الحوار يعطينا قوّة دافعةً ونافذةً نحو اختيار تصرفاتنا التي تنبع من مبادئ الخير والحق والعدل بطريقة أكثر عقلانيةً وهادئة بدلاً من نزعتنا نحو فرض إرادتنا وتحطيم أحدنا للآخر.
قد نعرف أنه ينبغي علينا أن نستمع إلى الآخرين وأن نحاول فهم وجهات نظرهم لكنّ ما إن نشرع في الحوار حتى تتبدل تلك الأسس وننهال في هدم كل ما يعترضنا من اختلافٍ لوجهة نظرنا الذاتية خاصة فيما يتصل بالقيم والمعتقدات العامة والآراء الأخلاقية، وعليه فإذا ما أردنا بناء جسور الثقة والاطمئنان من أجل التوصل إلى التوافق بشأن اختلافتنا فإن ذلك يستلزم كخطوةٍ أولى أن نتساءل حول : ما الذي نرغب في تحقيقه من خلال الحوار؟، فإذا ما استطعنا أن نحدد ذلك الهدف، فإن فضول الاستشكاف وطرح التساؤلات يجعلنا أكثر استعداداً لمحاولة تفهم بعضنا البعض، ولتعميق مسار هذا الهدف فإن الأمر يستلزم إنصاتاً جيداً ومركزاً لكافة محتوى وجهات النظر والآراء التي نتلقاها، فإن آفة التوافق والتفهم هو ذلك الاستماع العابر والمتسرع لما نتلقاه دون أن نُعِمل فيه أدنى قدراً من التأمل والتحليل والتفسير، فتقف دائما الرسالة حائرة ككرة يتلقفاها كل طرفٍ ويلقي بها كيفما يدفعه هواه النفسي واستعداده الذهني.
إنّ الحوار يمثل حالةً جيدةً وذات مغزى في كل المواقف التي نحتاج للوصول فيها إلى توافق بغرض اتخاذ قرارٍ تشعر إزاءه جميع الأطراف المتحاورة بفوائده وإيجابياته، وعندما تشعر كذلك بالتقدير واحترام كل طرفٍ لمسئولية أفعاله، وهو الأمر الذي يزيل الغمامة من على أعين الناس ليروا العالم بمنظورٍ جديدٍ ومختلف ومتمركز حول الأشياء التي قد نتشاركها ونتعايشها سويّاً بعيداً عن أساليبنا الدائمة في الإصرار على إبراز التناقضات وكشف السلبيات. ولذا فإنّ الناس يشعرون برؤيةٍ مختلفةٍ للحياة عندما يستطيعون تفسير الخبرات المختلفة لوجهات نظرهم، خاصة عندما يعون جيداً أن ما نتصور أنه حقيقة في الحياة ليس كياناً جامداً أو شيئاً موضوعياً مجرداً، بل هو نتاج تفسيرنا الذاتي لما نمرّ به من خبرات وأحداثٍ تعمل كخارطةٍ توجه سيرورتنا في الحياة، ومن ثمّ فإنّ تفهمنا لكثيرٍ من الأمور يعتمد على تأملها واستكشاف طبيعتها وجذورها النابعة من هذا التراكم الضخم لخبراتنا وثقافتنا والأحداث التي مررنا بها وتفاعلنّا معها على مدار حياتنا والتي تؤثر في الافتراضات والقيم والمعايير والسلوكيات التي تبلور رؤيتنا للعالم، أي تبلور وجهات نظرنا، وهو ما يجعلنا لا نفرّق بين تأملنا وتفسيرنا للأشياء وبين إدراكنا لها " كما هي"، أو كما اعتدنا على فهمها دائماً، ولذا فإن ما يُحِدث أيضاً الاختلافات بيننا عند تواصلنا هو أننا نبذل جهداً في تفسير كافة ما نتلقاه بناءً على رؤيتنا للأمور( والتي تنبع من قيمنا ومعاييرنا ووجهات نظرنا)، لا بناءً على محاولتنا لتفهم ما تعنيه تلك الأشياء للطرف الآخر. مرة أخرى إن محاولة فهمّ معنى الأشياء بالنسبة للطرف الأخر تمثل فرصة مهمةً لأن نتعرف على خرائط مختلفة لرؤية الأشخاص للعالم، وتزيد من تبصّرنا للمواقف بشكلٍ جديدٍ ومختلف. ويُعد الوعي بطريقة تكوّن تلك الخرائط من أهـم خطواتنا واضحة المعالم لتغيرنا الواعي وزيادة فاعليتنا نحو تقبّل الآخر واكتسابنا لتلك المرونة الساحرة في تغيير أنماط العلاقات والنظم الاجتماعية المختلفة إلى الأمام وبناء قدرتنا على الفعل الإيجابي، وإذا ما تلاقت رغبتنا في هذا التغيير كلما أصبح شاملاً وجذرياً في حياتنا بشكلٍ عام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: حماس تمارس إبادة جماعية ورفضت جميع المقترحات المتعل


.. الدكتور مصطفى البرغوثي: ما حدث في غزة كشف عورة النظام العالم




.. الزعيم كيم يشرف على مناورة تحاكي -هجوماً نووياً مضاداً-


.. إيطاليا تعتزم توظيف عمال مهاجرين من كوت ديفوار وإثيوبيا ولبن




.. مشاهد جديدة وثقتها كاميرات المراقبة للحظة وقوع زلزال تايوان