الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 11

عباس الزيدي

2015 / 1 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003
الحلقة 11
عباس الزيدي – عبد الهادي الزيدي

مدرسته الأخلاقية (السيد محمد الصدر قدس سره)

وهناك جانب لم توله الحوزة ما يستحق عموماً، ولم تتوجه إليه أي من المرجعيات السابقة إلا القليل منهم، وهو العرفان، أو تهذيب النفس بمستويات تتجاوز المتعارف في الرسائل العملية والفهم السطحي لصحائف الأئمة من أدعية وتوجيهات أخلاقية.
تتلمذ لمدة عامين على يد الحاج عبد الزهرة الكرعاوي الذي يبدو أنه من تلامذة السيد علي القاضي العارف الكبير، أو أن الكرعاوي كان صاحب مدرسة خاصة، وهذا ليس متيسراً حالياً معرفته لنا. ويمكن معرفة نزر يسير من سيرة الكرعاوي من خلال ما ذكره السيد محمد حسين الطهراني في كتابه (الروح المجرد)، ولكن هذا القليل يدل على عظمته ومكانته.
من الواضح الإتجاه الإخلاقي عند السيد الصدر منذ فترة مبكِّرة جداً وقبل أن يأخذ من أي شخص، ويدل على ذلك كلماته المنثورة في كتبه الأولى مثل كتاب (نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان) عام 1962، ومنها:
((ثم أن للفرد بعد تقيّده بتعاليم دينه القويم، أن يفعل ما يشاء، وأن يقول ما يشاء، وأن يذهب الى حيث يشاء، لا حرج عليه في ذلك. إلاَّ أن يده لن تفعل، ولسانه لن ينطق إلاَّ الشيء الذي يرضاه الإسلام(1)، بعد أن يكون قد انصهر في بوتقة تعاليمه، وكوَّن في كيانه نفساً وضميراً إسلاميين يأمرانه بالخير وينهيانه ويؤنبانه على الشر والخروج على تعاليم الإسلام.
ولكن الشيء الذي ينبغي ملاحظته في المقام أن هذه الحرية التي ينالها الفرد في الإسلام لا تكون إلاَّ إذا أراد الإنسان أن يقتصر على إطاعته للواجبات واجتنابه للمحرمات الإسلامية، وإلاَّ فهو إنْ أراد أن يتابع الإسلام في جميع تعاليمه وإرشاداته، فإنه لا بد أن يلاحظ ذلك في كل نَفَسٍ من أنفاسه، وكل دقيقة من دقائق عمره، فإن للإسلام طائفة ضخمة من التعاليم والإرشادات لأجل تربية الإنسانية والفرد وتهذيبهما وجعلهما إنسانية وفرداً عادلين بجميع ما في هذه الكلمة من معنى. وإنما يتَّبع الفرد هذه التعاليم بمقدار إخلاصه الديني، وبمقدار توفيقه الى نيل الكمال الأعلى. (2))).
اتخذ مسلك الزهد حتى عاب عليه رفاقه ذلك، بل إننا نراه يتعارض مع رؤية أستاذه الكبير الصدر الأول بهذا الصدد، فمن المعروف عن أستاذه والكثير من طلبته رفضهم أو عدم وضوح العرفان عندهم، فعندما يقول أستاذه في معرض حديثه عن الصور الخاطئة لفهم الإسلام والتطبيقات المنحرفة للدين: (وأحد تلك الإتجاهات مما كان يفعله الصوفية من طقوس وشعائر ومظاهر خارجية وأفعال خارجة عن أصل الدين، وغالباً ما كانوا يبتغون من وراء ذلك خداع العامة وكسب ودِّهم وإكرامهم وتقديسهم، وكانوا يلبسون الخشن من الثياب كشعار لهم ورياءً أمام العامة(3)..).
فردَّ معلِّقاً على هذا الإتجاه:
((ينبغي الالتفات هنا الى عدة نقاط قبل التسرع بالحكم : بأن لبس الخشن وأكل الجشب يمثل إنحرافاً عن الإسلام:
النقطة الأولى: أنه يكاد أن يكون من ضروريات الدين وعليه عشرات بل مئات الروايات، وعليه أيضاً مسلك عدد مهم من علمائنا الأبرار "قدس الله أسرارهم" : استحباب الزهد بل تأكد استحبابه جداً، والاعراض عن أهمية الدنيا وملاذِّها وشهواتها وأهدافها، وقد ألّفت في ذلك العديد من الكتب، يكفينا من ذلك "نهج البلاغة" الذي ذمَّ الدنيا ووصفها بما تستحق من الأوصاف، وخطبته "عليه السلام" في لزوم اتباع سيرة الانبياء موسى وعيسى ومحمد "عليهم السلام" حتى أن موسى "عليه السلام" كان تظهر خضرة النبات من صفاق بطنه لهزاله، وعيسى كانت دابته رجليه وخادمه يديه....الخ، ثم يصف حال النبي "صلى الله عليه وآله" ثم يعرج على نفسه حتى يذكر مدرعته وأنه قد رقعها حتى استحيا من راقعها، ولا اشكال أن لنا بهم أسوة حسنة، وفيها ـ أو في غيرها ـ أن الدنيا لو كانت عند الله شيئاً لما حرَّمها نبيه وأولياءه وأعطاها لأعدائه...الخ.
النقطة الثانية: إنه ورد بعدة مضامين أن الأمر يدور بين الدنيا والآخرة وهما ضرتان لا تجتمعان بمقدار ما يزيد من أحدهما يقلُّ من الأخرى حتى أنه لا تنال سلامة القلب والنور الذي يمشي به في الناس وغير ذلك من الرحمات الخاصة إلا بدرجة مهمة من الزهد والإعراض عن الدنيا، وليس لأهل الدنيا أي حصة في عالم الملكوت، هذا على أن لا يكلَّف الانسان ما لا يطيق وأن يتصرف معها في حدود وسعها.
النقطة الثالثة: إن بين التصوف والزهد فرقاً كبيراً، فإن الزهد هو الإعراض عن الدنيا ومحاربة الشهوات والنفس الأمَّارة بالسوء، وأما التصوف فهو مسلك معين له محاسنه وعيوبه، قائم على تسلسل المشيخة بحيث لا يحصل أحد على نتيجة باعتقادهم إلا إذا أجازه شيخه في الطريقة، ويوجد منهم من يمارس الرقص، ومنهم من يترك العبادات الواجبة وغير ذلك، فالمسلك بمجموعه ليس بصحيح، وإن كانت بعض وجهات النظر لديهم قد تتفق مع غيرهم.
النقطة الرابعة: إنه وجدت اتجاهات مؤسفة تخلط بين الزهد والتصوف، بمعنى: أنه تنبز كل زاهد بأنه متصوف، مضافاً الى أن الكثير منهم أسقط الزهد عن نظر الاعتبار واعتبره انحرافاً وخارجاً عن الدين ونحو ذلك.
واتجاه الخلط هذا ناشئ من إحدى جماعتين:
الأولى: الاستعمار الاوربي الذي حاول أن يبعّد الناس عن دينهم ويقربّهم الى الدنيا، فإنه لعله أدرك أن المسلمين لو كانوا زهَّاداً لازداد صبرهم وشجاعتهم ضدّه وزاد إعراضهم عن تسويفه ورغائبه وخدمة أعراضه، وكان أفضل طريق له في الإبعاد عن الزهد هو أن يقرن بينه وبين التصوف الذي يكرهه الناس ويخافون منه.
وهذا الاتجاه الذي انطلق منه ـ من حيث يعلمون أو لا يعلمون ـ كل الكتَّاب المحدثين (العلمانيين) الذين كتبوا عن التصوف أو تعرضوا له أو ترجموا من هو زاهد أو متصوف، فلم يخلُ أحد من طعونهم ونقدهم.
الجماعة الثانية: اتجاه التدين الحديث الذي كان ولا زال ـ الى حدٍّ ما ـ ينبذ الزهد والتصوف بكل ما أوتي من قوة، ويعلن انسجام الدين مع الدنيا مائة بالمائة مستشهداً بالروايات التي ذكرتها في الكتاب.
ولكن يا حبيبي إن هذا على إطلاقه وبشكله الكامل خطأ ومخالف لكتاب الله وسنة الرسول "صلى الله عليه وآله" ووصيه وسيرة الأنبياء "عليهم السلام" والصالحين، بل ينبغي إعطاء كل شيء حجمه وحكمه الحقيقي كما يدلنا عليه الدليل الشرعي.
فإنك تعلم أن الناس يختلفون في مقدار الإدراك والثقافة، كما يختلفون في مقدار الصبر والتحمّل الى جانب اختلافاتهم الأخرى، فبعد أن نأخذ بنظر الاعتبار أن الزهد راجح ومطلوب حقيقة يمكن أن نستثني من ذلك عدة صور:
الصورة الأولى: في النقاش مع المادية الأوربية أياً كان اتجاهها، فإن الكلام معها ينبغي أن يقتصر في عرض قانون الإسلام العادل أو غير ذلك على ما هو واجب ومحرم في الاسلام وعلى الفتاوى الاعتيادية (الظاهرية) المتسالم على صحتها دون المسالك (الخاصة) التي تربي النفس والضمير، فإننا تجاههم أمام أصل العقيدة ولسنا بصدد تربية النفس.
وهذه الصورة هي التي تعطي ضوءاً وعذراً لاتجاه التدين الحديث في ابتعاده عن الزهد لأنه كان منازلاً للمادية الأوربية التي لا يجب تذكر الزهد أمامها، إلا أنهم مع الأسف تطرفوا في النقد العاطفي، حتى أن بعضهم كان يتعجب بل لعله يستهزئ بمن يقيم النوافل اليومية ويكثر الدعاء(4)، ولله في خلقه شؤون والحديث ذو شجون.
الصورة الثانية: في تربية العامة الذين يغلب عليهم قلة الصبر وقوة الشهوات والاندفاع بالاطماع الدنيوية، فإننا لا يجوز أن نكلفهم ما لا يطيقون ونأمرهم بالزهد الذي لا يتحملون، وإنما يجب توجيههم الى الواجبات والمحرمات العامة فقط.
الصورة الثالثة: حفظ الظاهر في عدة أشكال : إما لأن الفرد الزاهد لا يريد أن يعرف الناس عنه الزهد فهو يماشيهم على طباعهم، وإما لأن الفرد لا يريد من الناس اتباعه في الزهد لأنهم لا يطيقون، وإما لأن الفرد لا يريد توريط الناس بنقده والاحتجاج عليه وعلى مسلكه فهو يتصرَّف معهم بما يدركون ... وهكذا.
أقول: وعلى إحدى هاتين الصورتين ـ الثانية والثالثة ـ يُحمَل كلام الأئمة "عليهم السلام" في الروايات التي نقلتها في الكتاب، وبذلك يمكن الجمع ورفع التهافت بين ما دَلَّ على الزهد وبينها، وكذلك رفع التهافت بين فعلهم وفعل آبائهم كأمير المؤمنين "عليه السلام".
أقول: ولا ينبغي أن تفوتك تلك الرواية التي ذكرتها بنفسك وهي التي يلتقي فيها الإمام الصادق "عليه السلام" بأحد الزهاد فيجد أنه قد لبس الخشن ظاهراً وتحته ثوب رقيق، في حين أن الإمام "عليه السلام" كان بالعكس، فقال له الإمام "عليه السلام": هذا لله وهذا لكم. إذن فهؤلاء الأئمة "عليهم السلام" الذين كانوا يلبسون الملابس الفاخرة كانوا زهاداً لله فقط بدون عجب ورياء. (5))).

-------------------------
(1) قول السيد الصدر هنا "الذي يرضاه الإسلام"، يتعارض مع توجهاته اللاحقة، فالمهم هو ما يريده الله تعالى، وليس الإسلام كشريعة، فما يريده الله تعالى أعم وأدق مما يريده الإسلام كتشريع وُجد لكافة البشر، وهذا المستوى من التفكير السابق عند السيد الصدر سرى إليه من أستاذه (قدس سره) ومن الجو العام السائد تلك الأيام، التي شهدت توجهاً نحو محاولة إضفاء صبغة عقلانية تتوافق قدر الإمكان مع التطور الحاصل في العالم، أو محاولة عقد المقارنة على الأصعدة العلمية والسياسية والاجتماعية حينذاك، لذلك نراه يرفض بعد ذلك هذا التوجه ويعتبره مستوى متدني من التفكير، ففي مورد تعليقه على كلام لأستاذه جاء فيه (فكلنا نعلم أن الرسالة الإسلامية بوصفها رسالة عقائدية قد خططت لحماية نفسها ...الخ)، فقال تعليقاً على هذا الكلام ( هذا المجاز على أنه مستعمل في كثير من الاتجاهات إلا أنني لا أستسيغه، فإن الذي يخطط ليس هو الرسالة الإسلامية وإنما واضعها وقائدها، والبديل بنحو "الحقيقة" موجود عندنا وقريب فلم هذا المجاز، وأتذكر هنا ـ بلا تشبيه ـ كلمة لكارل ماركس يقول فيها: إن الشيوعية تعلم أنها هي الحل!!، إن هذا مما لا معنى له بالضرورة. اليعقوبي، دور الأئمة في الحياة الإسلامية، ص26.
(2) الصدر، محمد، نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان، ص 49 ـ 50.
(3) اليعقوبي، محمد، دور الأئمة في الحياة الإسلامية، ص131.
(4) رأينا عدداً من هؤلاء في مدينة قم ممن يحسبون أنفسهم على مدرسة السيد محمد باقر الصدر، فمنهم من يستهزئ بالاستخارة، ومنهم من يؤدي الصلوات اليومية الواجبة بتثاقل، ومنهم من تملك العقارات وحصل على الثروة بشتى العناوين، ومنهم من لا همَّ له سوى إرضاء السلطان للحصول على المناصب حتى نسوا أنفسهم وتاريخهم وأصبحوا أعداء لمن كان ولياً حميماً. عباس الزيدي.
(5) اليعقوبي، محمد، دور الأئمة في الحياة الإسلامية، هامش ص131 ـ 134.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. امتعاض واعتراض وغرامات.. ما رأي الشارع العراقي بنظام المخالف


.. عبد الله حمدوك: لا حل عسكريا للحرب في السودان ويجب توحيد الم




.. إسرائيل أبلغت دول المنطقة بأن استقرارها لن يتعرض للخطر جراء


.. توقعات أميركية.. تل أبيب تسعى لضرب إيران دون التسبب بحرب شا




.. إبراهيم رئيسي: أي استهداف لمصالح إيران سيقابل برد شديد وواسع