الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 13

عباس الزيدي

2015 / 1 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



ولعل المتتبع لتاريخ حزب الدعوة منذ أول التأسيس يجد أثر (الأخوان المسلمين) و (حزب التحرير) واضحاً على الصعيد الفكري والديني، فقد كان بعض المؤسسين والملتحقين بهم من هاذين الحزبين(1).
أما السيد محمد الصدر فقد كانت له فلسفته الخاصة بخصوص الأحزاب عموماً، ولكن النظام لم يكن يستطيع التفريق بسهولة بين المنتمي الى حزب الدعوة من غير المنتمي، إذ كل من ينتمي الى السيد محمد باقر الصدر بالملازمة يكون عضواً في الحزب :
((اعتقل خلال عام 1974 في مديرية أمن الديوانية حوالي أسبوعين، لكنه لم ينتمِ الى (حزب الدعوة) وقال (قدس سره) في سبب ذلك : إنني وجدت الحياة التي يجسدها المتحزبون فيها (أنانية حزبية) فما الذي جنيناه إذن حين نخرج من أنانية الفرد ونقع في أنانية الحزب. (2))).
وهناك جملة أسباب تجعل أي كلام عن انتماء أو صلة للسيد محمد الصدر بحزب الدعوة بمثابة أكذوبة الغرض منها إعطاء هذا الحزب شرعية ودعاية إعلامية، الهدف منها جذب أتباعه، إذ أن هذا الكلام إنما بدأ يقال هنا وهناك من بعض أعضاء حزب الدعوة بعد استشهاده وبعد سقوط النظام العراقي عام 2003.
ومن يتتبع ما آلت إليه الأحزاب الإسلامية بعد سقوط النظام عام 2003 يجد دقة الإنذار المبكر الذي أطلقه الصدر عن نتيجة التحزُّب أو الأنانية الحزبية، وهو جانب عملي حساس لم يكن تمييزه ممكناً إلا لعقلية متميزة، فهذه الأنانية لم تسحق نفس نظرياتها السياسية ومنظومتها الأخلاقية التي كانت تدَّعيها فحسب، بل وصل الأمر بها الى سفك دم كل من يخالفها حتى وإن كان يتفق معها في الدين العقيدة والتاريخ لمجرد تخوفها من المنافسة على تسلُّم السلطة (كما هو الحال مع هذا الحزب وغيره من المسميات المتشابهة بعد سقوط نظام صدام عام 2003)، وانتهى المطاف بهذه الأحزاب أن أصبحت أبواق لتسقيط كل من حولها، وأخيراً احتكارها من قبل أنفار فأصبح أحدها أشبه بمافيا من كونهم أعضاء في حزب طالما سفكت الدماء لمجرد الإشتباه بالانتماء إليه.
فكما تقتل الأنانية الفردية عند الإنسان كل تفكير بالغير ومشكلاته وإيجاد حلول لها والتضحية في سبيل إسعاده وانتشاله، فكذلك تقتل الأنانية الحزبية كل تفكير بغير رقي الحزب وحصوله على مكاسب سياسية وإعلامية، وتغدو الجماعات الأخرى أعداء، وفي أحسن الأحوال حلفاء أو (إئتلاف؟!)، ولكن حتى كلمة حليف هي الأخرى تعني المغايرة والآخر الذي يتفقون معه في مصلحة معينة أو هدف معين، وليس هذا ما أراده الله تعالى، (مثل المؤمنين كمثل الجسد الواحد) و (الخلق صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
ومن الغريب أن نجد أن السيد محمد باقر الصدر الذي يعتبرونه رمزهم ومنظِّرَهم ومرجعهم يؤكد منذ القدم أن مبدأ (حبُّ الذات) هو المحرك والدافع عند الإنسان، ولكن الصدر الأول ينطلق من مبدأ إسلامي، فحب الذات هو الذي يدفع الإنسان الى عمل الخير والإيثار، لأنه يحب الخير لنفسه التي ستنال جزاء تضحيتها وإيثارها وعملها للخير الثواب والسعادة اللامتناهية من الله، وتنجو من العقاب في الدنيا والآخرة، وقد نسف السيد الصدر الأول بهذا المبدأ مدَّعيات الماركسية التي تدَّعي أنها ستربي البشرية على نكران الذات وفي نفس الوقت لا تحصل على أي جزاء مقابل هذه التضحية، سوى أن البشرية ستقطف ثمار التضحيات ولو بعد أجيال، إذ أن أهم أسس الماركسية هو الإلحاد فلا يوجد خالق وعالم آخر، وهنا يكون تساؤل الصدر الأول من أجل أي شيء يضحي الإنسان بحياته وراحته وسعادته إذن؟، أي (أين أنا، وما الذي سأجنيه؟).
ويمكن اعتبار هذا المبدأ من أهم ركائز فلسفة التاريخ عند السيد محمد باقر الصدر، فإن البشرية كلما اشتد حب الذات عندها فإنها ستعمل من أجل رقيها وتكاملها وفنائها في سبيل الله وخدمة دينها ومجتمعها، وبالمقابل فهي ستحصل على السعادة والتقدم ولكن بشرط أن تعرف أن ليس مهماً ما ستحصل عليه من مكاسب دنيوية، فيكون الشرط هو الإيمان بالله وبالعالم الآخر. وهنا نجد التطابق بين مفهومي الصدرين، ومن هنا نفهم ما أراده السيد محمد الصدر بـ(الأنانية الحزبية). فهل نجد اليوم بعد نصف قرن على تأسيس هذا الحزب أي مفردة تضحية وإيثار وتقديم لمصلحة الأمة على مصلحة أفراد معينين في قاموسه؟.
والواقع أن فلسفة الصدر الأول هذه تجهض كل أساس للفلسفة الماركسية بإلحادها بمبدأه هذا، ولكن هذا المبدأ إنما يصح كردٍّ على الغرب الملحد، أما كتربية عليا للمجتمع فهو لا يصلح إلا على نحو التربية الابتدائية، أو الأولية، أو المتدنِّية، وهي لا يمكنها أن تصل بالمجتمع الى الأهداف العليا حسب عقيدة الصدر الثاني، فالأحكام (الحلال والحرام) لا تقدم للإنسان أكثر مما يقدمه أي قانون وضعي، الذي يضع مواده لمصالح دنيوية، وهو يتلخَّص بتقنين حياة الإنسان على أساس (إن اْلتزمْتَ فأنت مواطن صالح، وإلا فستواجه العقاب)، ومهما تصرَّفنا بالألفاظ فهو المحصل الأخير، لذلك وضع النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم) طرق وأساليب لا تعد ولا تحصى لتصل بالإنسان الى مراتب (الكمال)، وهذه المراتب لا متناهية، لأن الهدف هو الله تعالى، وهو تعالى لا متناهي، فتكون الرحلة إليه لا متناهية.
إن الذات في فكر وعقيدة الصدر الثاني يجب أن يضمحل، فمنطلق الإنسان لعمل الخير لا يكون لغرض مكسب دنيوي أو أخروي، إذ إن مبدأ العبادة وفعل الخير من أجل الحسنات والثواب والجنة هو مطلب تجاري وهدف متدني، ومبدأ الخوف من العقوبة كمحرك للعبادة أو تجنّب العمل المنهي عنه يشبه عمل العبد الذي يحركه الخوف من مولاه فيؤدي واجباته أو يبتعد عن نواهيه وسخطه، وهو مضمون لرواية مشهورة، عن أمير المؤمنين "عليه السلام": (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة الأحرار) (3).
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق "عليه السلام" : ( إن العُبَّاد ثلاثة قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلباً للثواب فتلك عبادة الأُجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حباً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة) (4).
فأي فضل للإنسان في فعل الخير مادام الموفق لهذا العمل هو الله تعالى؟، وأي فضل للإنسان في تجنب عمل السوء ما دام الله تعالى هو الذي منع بفضله ورحمته عن ارتكابه؟، وحتى شكر الله على نعمه هو فضل من الله يحتاج الى شكر كما في مناجاة الشاكرين للإمام علي بن الحسين "عليه السلام" : (فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر الى الشكر، فكلما قلت لك الحمد وجب عليَّ لذلك أن أقول لك الحمد(5)).
كان منهج أستاذه الصدر هو التعديل والتوجيه للقوانين والأساليب، واستخلاص مفاهيم متعددة (قد تكون متناقضة أو متفاوتة فيما بينها أو من حيث المنشأ) ومحاولة الربط بينها، وإخراجها بمفهوم جديد ولكنه في نفس الوقت ليس بجديد، فيتحصل عندنا (مركَّب) من المفهومين البشري والديني.
بينما كان هو يؤسس ويقنن، كما في مناقشته لأسلوب أستاذه في كتابه (البنك اللاربوي) الذي هو عبارة عن توجيه المعاملات الربوية بما يسمى (الحيلة الشرعية)، بينما هو رفض هذه المعاملات من أساسها وأسَّس لطرق معاملية شرعية مستنبطة من الأحكام الإسلامية خالصةً. ودافعُ أستاذه في منهجه هذا هو أن المجتمع ليس مهيئاً لاستقبال الأحكام الإسلامية فعلينا أن ننزل من سقف مطالبنا (مؤقتاً) ونوجهه وفق القوانين الوضعية التي تعوَّد عليها بعد استحداث تغيير شكلي يتناسب شكلياً (أيضاً) مع تعاليم الإسلام، أو لا يتعارض معها على أقل تقدير، كما سبق أن أوضحنا.
ولكن الصدر الثاني يرفض أصل المبدأ، أي التنازل عن الحكم الشرعي أو السعي للعثور على الأخف وقعاً على المجتمعات، وتشدَّد في ذلك، فتوَّجه بالنقد لهذه المنهجية ورأى : ضرورة ((تجاوز الحيل الشرعية خصوصاً بما يمس النظم الاجتماعية لأنها إحدى نتائج تضييق نظرة الفقيه للفرد المسلم دون أخذ الجانب الاجتماعي بنظر الاعتبار عند ممارسة الاجتهاد، ولأن فيها قبولاً ضمنياً بالنظم غير الإسلامية القائمة والتفكير بدلاً عنها بكيفية تغيير هذه النظم لا تبرير التعامل معها. مثلاً بالنسبة للبنوك الربوية كان من الممكن التفكير بتأسيس بنك إسلامي أهلي تتبناه المرجعية وتوضع فيه حسابات خاصة بحق الإمام والسادة والحقوق الأخرى وحسابات التوفير للناس ويقوم هذا البنك بالمساهمة في مختلف المشاريع الإصلاحية والتجارية والقروض ويدار من قبل خبرات متخصصة وملتزمة ويوضع له دستوره الخاص لعرضه على الزبائن، وعندئذ سيعم نفعه على الإسلام والمسلمين ويغني عن النظام الربوي ويحل كثيراً من المشاكل وتصبح المرجعية أكثر تدخلاً في الحياة الإسلامية(6))).
ونفس الأمر بخصوص فتوى السيد الخوئي في المصارف فقد انتقدها ورفضها لوجود عدة نتائج على إصدارها، منها :
(( ـ أنها تعتبر تنزيلاً للدين الى مستوى الناس بينما ينبغي علينا تصعيد الناس الى مستوى الدين.
ـ أنها ـ بشكل وآخر ـ تعتبر تنفيذ أو إجازة للوضع الظالم المفروض على البلاد الإسلامية من قبل أعدائه.
ـ أنها ـ بشكل وآخر ـ تعتبر سبباً لاستلام أموال مشبوهة ومجهولة المالك وغير ذلك .. الأمر الذي يسبب نتائج أخلاقية واجتماعية مؤسفة، منها : قساوة القلب وتعذر الوصول الى القلب السليم(7))).
وعلى نفس الخطى وبعد أكثر من عشر سنوات(8) انتقد منهجية السيد محمد حسين فضل الله بقوله : ((في حدود فهمي فإن هدفه (أي السيد فضل الله) أنه يريد تبسيط الشريعة وإفتاءهم بأسهل فتوى ممكنة تسهيلاً عليهم، ولأجل أن لا يشعروا في تصرفاتهم بمزيد من الذنوب التي لا مناص منها. وهذا اتجاه معقول وطيب، إلاَّ أنه ليس بالاختيار ما لم يساعد عليه الدليل، مضافاً الى نقطة أهم هي أنَّا من الناحية النظرية نجد أن الأفضل تصعيد المجتمع الى مستوى الدين وليس تنزيل الدين الى مستوى المجتمع... وما يريده ـ حسب فهمي ـ هو الثاني، وهو خاطئ(9))).
ونلاحظ أن أستاذه الصدر الأول في كتابه (اقتصادنا) لم يعبِّر بصورة كاملة عن فتواه ورؤيته الفعلية للاقتصاد الإسلامي، مع أن هذا الكتاب أفضل ما كتبه، فهو يقول صراحة أن ما جاء من أحكام وآراء فقهية أو فكرية في هذا الكتاب لا يعبِّر بالضرورة عن فتاواه أو أحكامه أو آراءه الخاصة. والسبب هو كما قلنا سابقاً أنه كان يحاول التوفيق بين كافة الاتجاهات الإسلامية منها والوضعية للخروج بـ(مظهر إسلامي) يتلاءم قدر الإمكان مع التوجهات البشرية من خلال الجدل والردِّ والإفحام ثم التصالح، لأن طور البشرية لم يصل الى المستوى الذي يؤهله لاستقبال الأحكام الإسلامية كما هي عليه.

---------------------
(1) أنظر كتاب صلاح الخرسان (حزب الدعوة حقائق ووثائق).
(2) اليعقوبي، محمد، الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه، ص 360.
(3) نهج البلاغة، ج4 ح237.
(4) الكافي، كتاب الايمان والكفر، باب العبادة ح5.
(5) الصحيفة السجادية الكاملة، ص351 ـ 352.
(6) اليعقوبي، محمد، الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه ص 102 ـ 103.
(7) المصدر السابق، ص96.
(8) لأن المراسلات المذكورة في كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه) كانت حوالي عام 1986، بينما كان نقده للسيد فضل الله حوالي عام 1997. ونلاحظ هنا بعض التطور في رؤية الشهيد الصدر الثاني أو الاختلاف بين فترات متباعدة من حياته، وهذا بسبب تراكم التجارب الى أن استقرت رؤاه خلال عقد الثمانينيات وظهرت في عقد التسعينيات، وهو ما يحتاج الى مصنف خاص لتوضيح ما قد يعتبر فيه تنافي أو تفاوت، لهذا لا بد من أن نلتفت الى ذلك من خلال معرفة تاريخ التاليفات التي ننقل عنها وهي مذكورة. ولكن هذا لا يعني عدم وجود ثوابت فكرية هي الطابع الغالب والأساس، وما حصل فيه هو العمق والابتعاد عن الضحالة أو المسايرة للفكر المعاصر، فقد عرفنا الصدر الثاني يشكل الاستثناء في جملة أفكاره وتغايره ودقته في أبسط المفاهيم.
(9) الزيدي، عباس، السفير الخامس، ص 295.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تفرض عقوبات جديدة على طهران بعد الهجوم الإيراني الأخي


.. مصادر : إسرائيل نفذت ضربة محدودة في إيران |#عاجل




.. مسؤول أمريكي للجزيرة : نحن على علم بأنباء عن توجيه إسرائيل ض


.. شركة المطارات والملاحة الجوية الإيرانية: تعليق الرحلات الجوي




.. التلفزيون الإيراني: الدفاع الجوي يستهدف عدة مسيرات مجهولة في