الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توظيف الروحي لسلب الإنسان

حميد لشهب

2015 / 1 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إذا استحضرنا إلى أذهاننا أهمية، و لربما ضرورة الجانب الروحي للإنسان، سيكون من السهل تصور ميكانيزمات استغلال هذا الروحي من طرف استراتيجيات السوق من أجلب استيلاب الإنسان. قد نبالغ إذا قلنا بأن للروحي سوقه الخاصة وديناميكياته الخاصة من أجل تطبيق مبادئ السوق في الميدان الروحي. فكلمة السر التي أنتجها مبدأ الإمتلاك هي كلمة "تسويق Marketing"، ومفاد ذلك هو أن كل شيء كيفما كان قابل للتسويق والترويج والبيع، شريطة خلق سوق وإيجاد تقلعة توهم بأن هذا الشيء ضروري من ضروريات الحياة: صحون مقعرة، هواتف نقالة إلخ. ففن مخادعة مبدأ الإمتلاك في تطبيقه لاستراتيجية التسويق هو خلق السوق من "عدم"، وترويج سلعة معينة فيها بإتقان.

نلاحظ في عالم اليوم استغلال الروحي من أجل تقوية مبدأ الإمتلاك، على الرغم من أن هذا الروحي ينتمي طبيعيا إلى عالم مبدأ الوجود. وهذا الإستغلال أدى بالعالم الروحي، في كل المجتمعات والحضارات المعاصرة، إلى انزلاق خطير، مفاده أن مضمون هذا الروحي لم يعد كما كان في السابق مركزا على الطهارة الروحية الداخلية والتنفيس الروحي للإنسان، بل أصبح أداة أيديلوجية لخدمة مصلحة دنيوية. وشعارات من قبيل محاربة "الشر" أو "الشيطان" في العالم هي شعارات جد ضبابية، تعني قبل كل شيء توظيف المقدس لإحكام السيطرة على عالم الأشياء الفانية. وهو توظيف مرفوض إنسانيا وحضاريا، لأنه يؤدي بالضرورة إلى "صدام الحضارات"، وهو صدام مفتعل ومرغوب فيه ومخطط له من أجل إقصاء كل الحضارات الأخرى، لكي نصل في الأخير إلى المثل الأعلى لمبدأ الإمتلاك، ألا وهو "نهاية التاريخ"، أي نهاية الإنسان، إذا ما استحضرنا إلى أذهاننا مرة أخرى واقعة كون مبدأ الإمتلاك يقود حتما إلى الملل والقرف، وبالتالي إلى إشعال فتيلة الطاقة الهدامة في الإنسان على شكل حروب.

لعل السؤال المطروح هو: ما العمل؟ كيف يمكن أن نخرج من هذه الدوامة التي نوجد فيها، وهذه الحلقة المغلقة التي أقحمنا فيها في تاريخنا البشري؟ أكدنا في أكثر من موضع بأن مبدأ الوجود القابع فينا لن يموت ولن ينتهي، لأنه ينتمي في الأصل إلى طبيعتنا الإنسانية. ومن أجل إزالة أي التباس، لابد من التأكيد بأن فروم لم يكن يعني بمبدأ الإمتلاك القطب الشرير فينا، وبمبدأ الوجود القطب الخير فينا، بل إن القطبين معا، في نظره، ينتميان للطبيعة الإنسانية، و"فن الحياة" الذي نادى له، هو المحافظة على توازن مقبول بين المبدأين.

هناك بدائل كثيرة في العالم المصنع كالبديل الأيكولوجي وحركات ضد العولمة وموجات التجارة العادلة إلخ، تعمل من أجل العدالة في العالم، لكنها حركات لم تتقو بما فيه الكفاية من أجل فرض نفسها، بل إن الكثير من هذه الحركات تسقط دون قصد في فخ منطق السوق، لتصبح إما أداة طيعة لخدمة هذه الأخيرة، أو فريسة سهلة لها تبتلعها متى تشاء.

لكل فرد بشري، كيفما كان وحيثما كان مسؤولية اتجاه ما يروج في العالم الكبير والعالم الصغير لكل واحد منا. وهي مسؤولية لا تفترض فقط حرية الفرد، بل وأيضا وعيه ورغبته من أجل العمل على تحقيق هذا المشروع الإنساني العظيم، المتمثل في تحرير الإنسان من كل القيود التي تسمح له بتطور آخر غير التطور التقني الإمتلاك. هذا الوعي وهذه الرغبة يتطلبان من بين ما يتطلبانه طلق العنان للعبقرية الإنسانية من أجل إيجاد حلول مقبولة من طرف البشرية جمعاء للمشاكل الشائكة والمعقدة التي أفرزها التطبيق المكثف لمبدأ الإمتلاك على حساب مبدأ الوجود.

سبقت الإشارة إلى أطروحة "نهاية التاريخ"، التي تبعت بأطروحة "صراع-صدام الحضارات"، وتبرير "الحرب العادلة" وكلها أطروحات ونظريات تدور وتتصارع في فلك مبدأ الإمتلاك وتصبو إلى مشروع القضاء النهائي على إنسانية الإنسان، الذي يريد مبدأ الإمتلاك هذا، إن على وعي أو دون وعي، تحقيقها كتتويج أسمى لسيطرته، لكي ينتهي التاريخ البشري بالفعل. وهي أطروحات ليست خطيرة على الإنسانية كإنسانية فحسب، بل وكذلك على الكون المعروف عندنا حاليا.

المطلوب حاليا هو قبل كل شيء وعي هذا الفخ المحكم الذي سقط فيه عالم اليوم في أتون الإستهلاك والشهوات المادية غير المعقلنة، ومحاولة تجاوز ضغط هذه الأيدي الخفية التي تدفعنا على الدوام للمزيد من الإستهلاك غير الواعي، وتصور لنا التبضع (لاحظ مكان بـ و ض في الكلمة واقلبهما = التضبع) واقتناء المستهلكات كمعاشات حقيقية في حد ذاتها في كنائس وجوامع ومعابد مبدأ الإمتلاك، المتمثلة في سلاسل المراكز التجارية المغرية. فالمركز التجاري أصبح بمثابة معبد إلاه الإمتلاك، حيث تقدم القرابين من أجل أخذ بركة الولي الصالح "مرجان"، "ماكرو"، "ميكرو" إلخ معنا إلى البيت. فالركن المخصص اليوم في البيت لجهاز التلفزة أو للحاسوب أو لأية آلة تيقنولوجية أخرى، أخذ المكان الذي كان في السابق مخصصا للرموز الروحية في الكثير من الثقافات والحضارات.

من بين ما نحن مطالبون به اليوم هو تقوية أسس الحوار والتعايش السلميين بين المعتقدات والحضارات والثقافات من أجل دعم حركات السلام في العالم بهدف الوصول إلى إنسانية أكثر إنسانية. ولعل خير ما يمكننا اقتراحه لختم هذا المقال هو قول فروم: "لقد كنت دائما نشيطا في حركة السلام، على الصعيد العالمي وعلى الصعيد الأمريكي" و"إنني أعتقد وآمل، مادامت هناك حياة، بأن ذلك الرصيد القابع في الإنسان سينفجر وسيعبر عن نفسه من جديد. وهذا الإعتقاد موقوف على مدى شعور وعيش كل واحد منا بهذا الأمل وتمريره بطريقة أو بأخرى للآخرين".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر | الأقلية الشيعية.. تحديات كثيرة يفرضها المجتمع


.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف




.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية


.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في




.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو