الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملحدون والمؤمنون وفلسفة النسبية والكوانتم

مهدي بندق

2015 / 1 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



في برنامج حواري بالتلفاز المصري سُئل الصديق المفكر د. سيد القمني : هل تؤمن بوجود روح بداخلك ؟ فأجاب بثبات : أفضل أن أسميها طاقة . وتلك إجابة أراها مستقيمة مع فكر الرجل القائم على المادية الواحدية ، بيد أنني وددت لو كنت أنا المحاور ، إذن لسألته : فما هي الطاقة ؟
يعرف د. القمني أن الفلسفة المثالية تقول بأسبقية الفكر على المادة وبالطبع هو يعرف أن هذا خطأ فادح إذ لولا المخ والفم واللسان ما قيل ذلك أصلا ً ؟! ونحن معه في هذا. لكن المشكلة تكمن في أن الفلسفة المادية تؤمن بالعكس من ذلك تماما ً ( لاحظ تعبير " تؤمن " !!) وقد حاولت المادية الجدلية Dialectical materialism أن تجمع بين الاثنين في مركـّـب واحد ، ولكنها أصرت على وضع المادة َ في مرتبة المعطى الأول في العلاقة بينهما ( لماذا ؟! لمجرد الرد على هيجل ؟! ) بيد أننا إذا شئنا أن نكون دياليكتيكيين حقاً فعلينا تجاهلُ ما يسمى بالمعطى الأول بحيث تكون الأشياء هي ظاهرها Phenomena دون إدخال متعسف لعنصر الترتيب في مكوناتها ، عندئذ لن ينظر إلى الروح ( التي يسميها القمني : الطاقة ) بحسبانها غريبة على المادة أو العكس ، بل ُترى المادة ُ نسيجاً للوعي ( وبذلك تعد كياناً حياً ) وُيرى الوعيُ باطناً للمادة ، ومن ثم يمنحها الحياة .
خذ مثلا ً الكوارك أصغر الجسيمات المكتشفة حتى الآن وسل ماذا في داخله ؟ طاقة ؟ وما الطاقة ؟
في التعريف الكلاسيكي الطاقة Energy هي كيان مجرد لا يعرف إلا من خلال تحولاته . يقول ماكس بلانك إنها مقدرة نظام ما على إنتاج قوة Power أو نشاط خارجي ، ويقول آخرون إنها كمية فيزيائية تظهر على شكل حرارة أو كحركة ميكانيكية أو كعامل ربط في أنوية الذرة بين البروتون والنيترون . أما معادلة آينشتاين الشهيرة E=mc² فتبين أن الطاقة تعادل الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء . من الواضح أن التعريفات السابق الإشارة إليها لا تتحدث عن " ماهية " الطاقة بل عن وظائفها، فتعريف ماكس بلانك هو أقرب إلى تفسير الماء بالماء ، أما صيغة آينشتين فهي تعبير عن سمة من سمات الطاقة لكنها لا تبين كنهها . قد تسألني من هذا الرجل ، فهل حين أقول " وزنه مائة كيلوجرام " أكون قد أجبتك ؟!
لقد أطلقنا على فعالية ما اسماً هو الطاقة ، فماذا يعني الاسم ؟ البرد يؤلم العظام فهل يتوقف الألم لو أسميناه دفئاً ؟! وينتج عن ذلك أن الأسماء ليست محايثة Inherent لمسمياتها بمقتضى كون اللغة اصطلاحية كما يقول المعتزلة ( ولو في الجانب اللفظي منها ) وهو ما يعني أن مجرد استخدام الاسم لا يعني الكشف عن ماهيته من وجهة النظر الموضوعية لا الذاتية ، أو حتى من وجهة نظر المسمـَّى نفسه .
إن أقصي ما يمكن قوله عن ماهية الطاقة إنها ليست مادة ملموسة ولا هي بجوهر Essence [ والجوهر هو ما لا يتغير ولا يقبل الانقسام ، بينما لا شئ عند علماء الفيزياء النووية لا يقبل الانقسام ] قل هي رمز ( وكذلك المادة ) يشير إلى ما وراء ، ومن ثم تكون – في حدود المعرفة البشرية - تصوراً ذهنياً ، لنقل إنها – كما نشعر بتأثيرها فينا - فعاليةٌ Agency وهي بما هي كذلك مصاحبةٌ للمادة من دون أن تكون مادية ، فهي كفعل دائم تمثل روح الأكوان التي لا تفنى ولا تستحدث من عدم ، وإن احتاجت بالطبع إلى فاعل ( فهي ليست إلهاً لكونها تتغير وتتبدل ، وإنما هي تجلٍ من تجليات أصل لا يتغير ) فإذا انتبهنا إلى أن وجود الأصل لا غرو ينفي العدم نفياً أبديا ً ومطلقاً لما استبعدنا أن موت البدن إنما هو مرحلة من مراحل تحولات المادة والطاقة ، لا ُتلغَي منها مرحلةٌ تالية مرحلةً سابقة بل تكون مهمتها إعادة تشكيل الأولى ، خاصة حين نضع في الاعتبار النظرية الديناميكية للهيولى Dynamic Theory of Chaos حيث كل الأنظمة الكونية يمكن رؤيتها في حالة انتظام وحالة عدم انتظام في الآن نفسه ، وليس في هذا تناقض فالعلم لابد أن يأخذ في حسبانه ما هو غير معروف جنبا إلى جنب ما هو معروف ، وله في النقد الأدبي الأسوة ، فالنقد الأدبي الحديث قد استبان أن المقال Discourse لا يمكن سبر أغواره من دون التركيز على المنطوق بجانب المسكوت عنه ( ما بين السطور ) حيث المعرفة الحقة لا تتوفر بغير جهد جهيد ، دونما استعلاء على الإسهامات البشرية من فلسفات وأديان وفنون وآداب وأساطير.




أما الدكتور سيد القمني فيبني فكره على موقف الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم من إبطال للدليل الأنطولوجي الذي سبق وقدمه القديس " أنسلم " Saint Ansleme ( دليل النظام الأكمل ) الذي اعتمد عليه فيلسوف القرن الحادي عشر للبرهنة على وجود الله ، فظل دليلاً مقبولاً تتباهى به فلسفةُ القرون الوسطى إلى أن قام هيوم في القرن الثامن عشر برصد مظاهر العشوائية والنقص والشر في الكون ، ليثبت أن كوناً كهذا لا يمكن أن يكون صنيعة إله كامل خيّرٍ كلىّ القدرة . بل وزاد هيوم على ذلك بإنكار " السببية " كمبدأ حاكم لأبستمولوجيا عصر نيوتن ذاته . ولنا في هذا المقام وقفتان :
الأولى أن دليل النظام ، أو ما يسمى بالدليل الأنطولوجي ، بفرض صوابه لا يبرهن منطقياً على وجود الإله ، فربما كان النظام هو سمة الطبيعة في حد ذاتها ومن ثم فلا حاجة لإله . ولكن بالمقابل فإن تخطئة الدليل الأنطولوجي – استناداً إلى وجود الشرور والأخطاء – ليس برهاناً على عدم وجود كائن متعال خالق ، فربما اقتضت مشيئته إدراج الشرور والأخطاء ضمن عملية الخلق لحكمة تعلو على إدراك البشر . فإذا جادلت في أن ذلك صعب على التصور، ومن ثم لابد من نفي وجود مثل هذا الخالق غير المفهومة أغراضه ؛ تكون قد ارتكبت ما يسمى في المنطق بالمغالطة الأصلية Genetic Fallacy ومضمونها محاولة البرهنة على عدم وجود شئ استناداً على عدم وجود شئ آخر. مثال : أن تؤكد لنفسك ولسكان العمارة أن الشقة المقابلة لشقتك غير مسكونة اعتماداً على أنك لم تر أحداً يدخلها أو يخرج منها لأيام خلت .
أما الوقفة الثانية فهي التي نتأمل فيها كيف ومتى يكون القول بإبطال السببية صحيحاً ومتى لا يكون .
في نظام نيوتن حين يقع حدث يتلوه آخر يسمى الأول سبباً والثاني نتيجة ، وقد حاول هيوم – كما ذكرنا آنفاً - نفي مبدأ السببية نفسه اعتماداً على نسق العلم التجريبي من حيث عدم استطاعة الباحث رؤية أو لمس المبدأ ذاته عن طريق الملاحظة والتجربة . أما حين تربعت النسبية على عرش ابستومولوجيا القرن العشرين ، فقد ثبت بالدليل الرياضي – وبعده بالدليل الفيزيائي أن السببية Causality تُنفَى ليس لأنها حسبُ تغيب عن إدراك الذات ، بل لأنها على مستوى أنطولوجيا الكون غير مؤكدة . مثلا لو أن راصداً على كوكب الأرض لاحظ وقوع الحدث ( أ ) تلاه وقوع الحدث ( ب ) لاستنتج أن ( أ ) هو سبب و ( ب ) نتيجة له . وسيكون ذلك صحيحاً ولكن على مستوى كوكب الأرض حسبُ . أما إذا تصورنا- تبعاً لنظرية الأكوان المتعددة - كوكباً توأماً لكوكب الأرض يتحرك في نظام زمانكيّ مختلف بحيث يتجه في زمانه الخاص ومكانه المحدد عكس اتجاه أخيه ، فلا شك في أن الراصد الموجود فوق هذا الكوكب التوأم سيرى ( ب ) تقع أولا يتلوها ( أ ) فهل من عجب لو تصور أن ( ب ) اللاحقة عندنا سببٌ لـ ( أ ) ؟ أين إذن الحقيقة ؟
الإجابة : في عالم الزمان / المكان الذي نعيش فيه لا توجد حقيقة مطلقة ، وإنما توجد – ليس إلا – حقائق ذاتية متاحة . وكل حقيقة متاحة تُنسب لملاحظها دون سواه ، ومن ثم فالأحداث في حد ذاتها لا تعرف – أنطولوجياً – ما يسمى مبدأ السببية ، أي وجود رابطة ضرورية ( منطقية ) بين السابق واللاحق .
فهل لنا أن نصادق على قول هيوم إن الكون إنما يخبط خبط عشواء ؟
ربما فعلنا لو أننا استسلمنا بمجامعنا لما يمكن تسميته الرؤية " العلماوية " للكون Scientism والتي هي محض أيديولوجيا وليست علماً ( فالعلم يوصّف ولا يقيّم ) أما إذا وجهنا بصائرنا تجاه ما وراء العلم Beyond Science فلسوف تلتقي نسقاً آخر من المعرفة هو الرؤية الدينية – والتي لا تنحصر في عقيدة معينة أو شريعة محددة – وقد تسلّم هذه الرؤية بحقائق العلم ( مثل التنازل عن فكرة مركزية الأرض ، والتغاضي عن الفهم الحرفي للنص القائل بأن الجنس البشري مبتداه رجل وامرأة هبطا من السماء عام 4004 ق. م ) إلا أنها تقول إن للعالم غرضاَ ، وإن له نظاماً أخلاقياً ، وإن العالم يحكمه عقل كوني متعالٍ على شروط الزمان والمكان والسببية . بالتالي فالكون لم يُصَمْم تبعاً لنموذج ميكانيكيّ خاضع لحتميةDeterminacy لا فكاك منها ، إنما هو كون أعظم من ذلك بكثير ، السببية فيه تُدرك لا بشكل مطلق ، ولكن داخل نظام معين لا تتعداه ( وهو ما حاول الإمام أبو حامد الغزّالي إثباته ) وقد اعترف بذلك من داخل دائرة العلم أصحابُ اتجاه الحتمية الجديدة أمثال الفيلسوف الأرجنتيني ماريو بونج Mario Augusto Bunge فالسببية عنده ليست خرافة ولا هي ترياق لكل داء Neither Myth nor Panacea إنما هي تُدرك فقط – بواسطتنا فقط - في عالمنا الكبير " الماكرو" ، لكنها غير معروفة في أنظمة ما دون الذرة حيث يتلاشى اليقين وتسود قوانين الاحتمالات بحسب مبدأ اللا تعيّن Principle of Indeterminacy الذي أرساه هايزنبرج .
ذلك غيض من فيض رحلة الفكر والفيزياء عبر هذا التاريخ المتأجج بالمتغيرات المعرفية ، ولذلك لا يحق لنا أن نجمد عند مرحلة " هيوم " التأملية المُكرِّسَة للعشوائية والمؤكدة بأن العالم لا معنى له ولا غرض، بناء على ما يُعرض علينا من صور للموت يجئ إلي كل بيت دون سبب ، وللأمراض تتوغل في كل جسد دون علة ، ولتدهور القوى الذهنية عند الناس في شيخوختهم ، وللخيانات ، وللفقر وللظلم ... الخ. وكلها أمثالٌ تشي بعدم وجود إله راعٍ لمخلوقاته .
لو كنا بصدد مناقشةٍ مع ديفيد هيوم لحاججناه بأن نقده انطلق من نفس تصور القديس " أنسلم " للخالق بأنه "شخص" مثل البشر وإن كان كبيراً بما لا يقاس ، لكنه في كل الأحوال شخص يصيب ويخطئ ، وهو تصور حسمت الداروينيةُ أمره – فيما بعد – بقولها إن الحياة لم تُخلق بصورة سابقة التجهيز كاملة الأوصاف بيد خالق مفارق ، صنع في البداية كل نوع على حدة بالهيئة التي هو عليها الآن . ولم يكن قولها مجرد رأي ، بل قدمت الأدلة على أن الحياة تطورت تدريجياً عبر عمليات لا تتوقف من التجربة والخطأ، ومن التغير والاختيار.
وإذا كانت الداروينية قد برهنت على صحة نظرية التطور في جانبها التقني بما يشجع على القول باستغناء الكون عن خالق مدبر، إلا أن هذا الزعم لم يكن أكثر من استخدام للاستقراء Induction ( الذي برهن فيلسوف المنهج كارل بوبر على تهافته ) للوصول بذلك الاستقراء إلى غاية مضمرة هي انتفاء الخالق ما دامت الطبيعة تعمل وحدها بآلياتها الخاصة . لكن ذلك الاستنتاج – على المستوى الإبستيميّ – خطأ فادح كما سنرى .
آية ذلك أن ليس فيما أتت به الداروينية ما يمنع وجودَ خالق يباشر عمله بأسلوب متعالٍ على أسلوب الخلق المباشر Creation -dir-ect الذي نراه عند صانع التماثيل . فما الذي يمنع أن يكون هذا الأسلوب المتعالي هو طريقة الخلق المستمر بواسطة قوانين طبيعية تصيب غالباً وتخطئ أحياناً - بحكم كونها مخلوقة – ومن ثم تتاح الفرصة لأرقى المخلوقات ( الإنسان ) أن يكافح لتصحيح ما هو خاطئ ، مكافحاً بالضد على الأوبئة والأمراض والكوارث الكونية وسائر الشرور ، وإلا فما هو دوره ؟!
ذلك ما كنا أحرياء بقوله لهيوم ، وليس للدكتور سيد القمني الذي يعرف يقينا أن عصر هيوم كانت له عقلية مرجعيتها نظام معرفيّ سمح لها بذلك .ولهذا خلا حواره- لحسن الحظ - من أية محاولة لإقناعنا بعبثية الكون وعشوائيته اعتماداً منه على إبستيمية نموذج Paradigm فيزياء ما قبل الكوانتم المادية الصرف .
فالفيزياء المعاصرة التي باتت تعمل في سياق قوانين الاحتمالات برهنت بالمعادلات الرياضية على وجود طبقة عميقة تحت متصل الزمان/ المكانSpatiotemporal فيها تكمن منابع الأحداث ، طبقةٍ تنقلنا من المادية إلى الذهنية الخالصة Purely Mentalالتي لا ترفض أن تتعطل السببية في ظروف معينة ( لا بتشنجات هيوم الدوجمائية بل على خلفية مبدأ هايزنبرج في اللا تعيّن بمعادلاته ذات النهج الإحصائي الاحتمالي ) ففي عالم ما دون الذرة تتراجع الحتمية المطلقة Absolute Determination ويُفسح المجال لقدر من الحرية للإلكترون ، ما يشي بإمكانية تواجدها في فعاليات العقل البشريّ ( ولا أقول المخ الذي هو نوع من الخردة البيولوجية ) العقل والمسمى في اللغة الدارجة : القلب البشريّ المنتمي للبرمجيات وللمبرمج الأصليّ.
كان الفيلسوف الألماني كانط Kant يقول ما معناه أن الحرية فكرة لا يدركها العقل ( بحكم وجودها في عالم الأشياء في ذاتها ) ولكن من جانب آخر فإن أقوى الفلسفات لا تستطيع انتزاعها من القلب الإنساني .

في عالم نيوتن القائم على الحتمية Determination كان للرجل المؤمن أن يقول : إذا كان لي أن أختار بين جبرية مطلقة فرضها الله على الكون بحكم علمه المطلق ، وبين جبرية مطلقة مصدرها الطبيعة الصمّاء فأنا لاغرو أنحاز إلى الأولى فهي على الأقل تتضمن الأمل في رحمة الإله ، وحكمته التي لن تسمح بفناء شئ فيه خير ، فضلا عن أن هذا الانحياز من جانبي يعني في التحليل الأخير أنني أملك القدرة على الاختيار وجودياً ومعرفياً .
مثل هذا التفكير كان حريّاً بجلب الاطمئنان إلى القلوب الحائرة ، حيث يغدو الجبر والاختيار وجهين لورقة واحدة ، الوجه الأول منها هو ثنائية الخالق والمخلوق ، والثاني هو وحدة الوجود لا بمفهوم اسبينوزا ( الذي أحل الله في الطبيعة ) ولا بالمعنى الذي أشار إليه ابن سبعين وليبنتز ( اللذان ألغيا العالم لحساب الله ) وإنما بالمفهوم الذي ألمح إليه ابن عربي في فلسفته الصوفية التأويلية الشاملة . تلك الفلسفة التي تقوم على منهج دياليكتيكي لا غش فيه .
لكن فلسفة العلم في عصر النسبية والكوانتم قادت إلى ما هو أبعد ، فالحتمية التي كانت رمزاً للعلم ، ما لبثت حتى أُطيح بها بواقع المكتشفات الفيزيائية الجديدة ، وأهمهما : انسحاب فكرة الزمان المطلق والمكان المطلق لصالح ابستمولوجيا الزمان والمكان النسبيين ، واستبيان استعصاء رصد سرعة وموقع الإلكترون في ذات الآن ، وانقضاء اليقين التنبئي بحركته القادمة مما يشي بامتلاك الطبيعة قدراً من " الحرية " . ومع اعتماد فلسفة العلم لإبستومولوجيا اللاحتمية Indetermination تم الازورار عن فكرة التكرار المفترض في عودة الكون إلي ما كان عليه بالضبط بعد الانسحاق الكبير Big Crush المنتظر ، حيث يتقلص الكون بكامله ليصبح مفردة Singularity يعقبها الانفجار العظيم Big Bung كما في المرة السابقة .
هذا الإلغاء للتكرار الآلي إنما يعني ميلاد كون جديد تماماً لا يعيد فيه المرء مصيره كما في الكون الأول الحافر على الحافر ، ويا لها من حقيقة لابد أن يهش لها المتطلعون إلى الحرية ، حقيقة تتسق مع المعنى الإيماني الوارد في القرآن " بل هم في لبس من خلق جديد " ( سورة ق ) بقدر ما سوف تغضب الماديين الواحديين الذين درجوا على نفي البعث ، أو بالأقل علي قبول فكرة العود الأبدي كما روّج لها نيتشه في القرن التسع عشر . لماذا تغضبهم ؟ لأنها تتضمن الحرية ، كما أنها تفسح الدرب لتقبل فكرة الإله الموجود لا بشرط ، العالِم بذاته وعلمُه ذاته ( كما يقول المعتزلة ) والقادر بقدرة مطلقة لا يشرط عليها قانون طبيعي أو غير طبيعي ، بمعنى قدرته على صنع مثلث زواياه أكبر من 180 درجة ، وخلق دائرة مربعة ، واستبدال نسق فيه يتلاقى المتوازيان ، بمسلمة إقليدس الخامسة ( وهو ما اشرأبت إليه هندسة ريمان للأسطح المحدبة ، وهندسة لوباتشيفسكي للأسطح المقعرة ) بل وفي إمكان الكائن العلوي القادر خلقُ بشر يتمتعون بالقدرة على الاختيار. وكيف لا والحرية لازمة لهم - فلا يكونون بدونها بشراً - بحسبانها الوسيلة الوحيدة لمعرفته ؟ وكل هذا لا ترفضه ابستمولوجية فلسفة العلم في القرن العشرين .
فالحرية إذن - التي تختار بالبديهة الإيمانَ بوجود خالق عظيم - هي الرد الأوفى على عقم النموذج الميكانيكي الحتمي للكون الذي " تأسس " على مبدأ العشوائية وعدم التدبير الواعي وانعدام الغرضية . ويكفي القول بتهافت مبدأ العشوائية الالتفات إلى ما يخص نشأة الحياة لنتبين أنه لا مجال للعشوائية والصدفة ، فمن أجل إنتاج كائن حي واحد من الميكروبلازما MYCROPLASMA.- وهو أصغر كائن حي على الإطلاق- يحتاج الأمر إلى عدد من القواعد النيتروجينية في الميكروبلازما يبلغ حوالي نصف مليون قاعدة نيتروجينية . ولترتيب نصف مليون قاعدة نيتروجينة بالصدفة فالاحتمال هو 10 أُس 250000 أي واحد مقسوم على واحد يمينه 025000 صفر ، وإن صح ذلك نظرياً فإنه من الناحية العملية احتمال محال تحققه لسبب بسيط هو أن عدد ذرات الكون كُله 10 أُس 80 أي واحد يمينه 80000 صفر فقط . كما أنه من المحال علمياً أُن تنشأ حياة على أسس سليكونية [ من مادة السليكون ] وذلك لافتقار هذه المادة لخاصية التشفير التكويدي الذي تتيحه القواعد النيتروجينية المعروفة لمادة الكربون التي بُنيت عليها الكائنات البيولوجية .
فالعقل إذن لو سلّم بالعشوائية – إصراراً منه على الخطأ - فإنه لا ريب سيُقاد إلى نفي وجود الإله ، ونفي وجود الإله يُلقي بالكون جميعاً في العشوائية وهكذا دواليك . تسلسل Vicious Circle ودَوَر منطقي نظل سجناءه – مخطئين - إلى الأبد .
وبالمقابل فالنهج الجدْليّ Dialectic Method ينجح في حل المعضلة بقدرته على دمج الدعوى thesis ( الخالق) بنقيضها ِAntithesis (المخلوق) في مركّب Synthesis لا يمكن فصله بعدُ ، مركّب يضم الاثنين معاً في وحدة وجودية شاملة حيث الكون هو الخالق والمخلوق معاً [ وهو نهج لا ترفضه ثيولوجية المعتزلة والمتصوفة عندنا ومعهم فيلسوفنا الراسخ ابن رشد ] وهذا المركّبُ هو ثمرة الحرية الكونية – مشيئة الإله - التي تعمل في الطبقة العميقة للوجود حيث منابع الأحداث ، كما تعمل في القلب الإنسانيّ سواء بسواء ، بل وفي كل إبداع فردي سواء تألق في التاريخ أو ظل لصيقاً بصاحبه وحده .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الطاقة
نصر ( 2015 / 1 / 22 - 21:26 )
السيد الكاتب..
الطاقة لها اساس مادي يرتبط بمركبات amp adp atp الخ.. كما انها مستخدمة و مدركة من فعلها المادي المباشر و لها مقاييس.. اما ما يسمي بالروح فهو بلا وجود و لا آثاره موجودة و هو مبهم بإعتراف الدين الذي ابتدعه (قل الروح من أمر ربي)..
ان كنت تريد المزيد من خرافات و اساطير و جنون الأديان فالحديث يطول..
مع الشكر.


2 - الطاقة
نصر ( 2015 / 1 / 22 - 21:26 )
السيد الكاتب..
الطاقة لها اساس مادي يرتبط بمركبات amp adp atp الخ.. كما انها مستخدمة و مدركة من فعلها المادي المباشر و لها مقاييس.. اما ما يسمي بالروح فهو بلا وجود و لا آثاره موجودة و هو مبهم بإعتراف الدين الذي ابتدعه (قل الروح من أمر ربي)..
ان كنت تريد المزيد من خرافات و اساطير و جنون الأديان فالحديث يطول..
مع الشكر.


3 - حكمة الإله
نصر ( 2015 / 1 / 22 - 21:33 )
تصور انك تعيش في عصر بدائي و قام وحش بإفتراس ابنك .. و مات هذا المخلوق العزيز الرئع ليكون عشاءا لاحد الوحوش... حقا يا له من تنظيم الهي !


4 - تعليق
عبد الله خلف ( 2015 / 1 / 23 - 01:19 )
تم التعليق في خانة الفيس بوك , و السبب : سعة مساحة الكتابة .


5 - ألى المعلق الأستاذ نصر
الكاتب ( 2015 / 1 / 23 - 05:48 )
إذا كان للطاقة أساس مادي ، لكان علينا أن نسأل عن المادة ذاتها ، فالنسبية والكوانتم ، يبرهنان على أن للضوء طبيعتين مادية (الفوتون) وموجية لا تتحيز في الفراغ ولا تلمس باليد أو ترى بالعين، فهذه الطبيعة تصور ذهني محض، بل ثبت بموجب الأبحاث الفيزيائية الحديثة أن المادة بأسرها محض تصورذهني أما قولك إن الروح بلا وجود ولا آثار فهو إنكار لكل إبداع إنساني أدبي وفني - بما فيها الأديان نفسها - والقضية التي اشتغلتُ عليها أنا هي قضية الخالق وليس الأديان ولعل افتراس الوحش لكائن بشري يبرهن على أن هذا الكون به شرور جمة فهل كنت تنتظر من الخالق أن يقدم كونا بلا نقص ولا شر إذن لخلق آلهة مثله وما كان لنا الآن أن نكون موجودين للبحث عن سر الوجود


6 - الطاقة
نصر ( 2015 / 1 / 23 - 06:37 )
نظرية الكونتم كشفت عن فراغ في المادة لا تكشفه النانو تكنولوجى بعد.. هو مجرد بعد جديد مادي ايضا.. اما ان المادة هي تصور فهي مجرد فرضية وليست نظرية مثبتة.. الفن من انتاج العقل الذى يتوقف عن الفن عندما يعطب بجلطة مثلا وليس هناك دليل علي اوهام الاديان كوجود روح... انت تخلط ايمانك الخالي من دليل بكلام علمي مادي لا علاقة به..
اما ان كان طفل برئ حياته ثمنا لمجرد عشاء ذئب فهذا ترتيب اله متخلف..


7 - ؟؟؟
أنيس عموري ( 2015 / 1 / 23 - 22:50 )
الكاتب يقول (تعلقيب 5) -بل ثبت بموجب الأبحاث الفيزيائية الحديثة أن المادة بأسرها محض تصور ذهني-، وبعد هذا الكلام بسطر يقول: -ولعل افتراس الوحش لكائن بشري يبرهن على أن هذا الكون به شرور جمة-.
فهل هذا الافتراس وهذه الشرور -محض تصور ذهني- مادام هذا الافتراس تقوم به مادة (المفترس) هي محض تصور ذهني-؟ هل الافتراس الذي تقوم به داعش محض تصور ذهني؟ هل تضمن لي أن أتصدى لقطار سريع ولا أتضرر، مادام كلانا، أنا والقطار، محض تصور ذهني؟


8 - العقل ليس المخ
الكاتب ( 2015 / 1 / 24 - 00:19 )
طبعا يتوقف العقل عن الادراك عندما يدمر المخ ، ولكن المخ هو الكيات المادي ( الهارد وير أو الخردة البيولوجية) بينما العقل بمثابة السوفت وير مضافا اليه المبرمج ، راجع حجة الغرفة الصينية لفيلسوف العقل جون سيريل


9 - اذا كان الشر جزءا من الكون
طلال الربيعي ( 2015 / 1 / 24 - 02:28 )
الاستاذ مهدي بندق المحترم
هنالك العديد من النقاط التي تستوجب التعليق, فمثلا تقول:
-ولعل افتراس الوحش لكائن بشري يبرهن على أن هذا الكون به شرور جمة-
اني لا ارى اي شر هنا, فالوحش, الاسد مثلا, يجب ان يأكل ليعيش و يطعم اطفاله حسب غريزة حب البقاء. فالحيوان لا يمكن ان يظلم الانسان, والانسان فقط يستطيع ان يقييد الحيوان ويعذبه ويظلمه.
كما اذا كان الشر جزءا من الكون, هل يعني هذا تقبله وعدم مقاومته؟
تحياتي


10 - العقل
نصر ( 2015 / 1 / 24 - 10:57 )
ليس هناك دليل اطلاقا ان هناك عقل منفصل عن المخ.. هذه اوهام دينية مثل كل خرافات الدين.. ارجو ان تنشر تعليقي عن الثعبان الاقرع و موسي و البراق


11 - فصل المقال بين الكاتب وصديقيه نصر وطلال
الكاتب ( 2015 / 1 / 24 - 13:37 )
الأستاذ نصر
ما دخل الأوهام الدينية بالحديث عن طبيعة العقل وصلته بالمخ؟ وكيف لك بهذا اليقين - المادي-؟ ألا ترى أن إلحادك نوع من الديانة ولكن بغير إله ؟
الأستاذ طلال
أوافقك الرأي ، فالشر مسألة نسبية وحكم أخلاقي لا علاقة له بأنطولوجيا الكون


12 - هو كذلك
نصر ( 2015 / 1 / 24 - 14:08 )
يا أستاذ أنا لن اجادلك في إدعائك ذو الجذور الدينية بأن هناك عقل يختلف عن المخ..
هذا كلام بلا اساس علمي..
كما انني غير ملحد ...و لكنني لا أؤمن بالخرافات..
لعل نقاشنا المكتوب هو ايضا (تصور) لا يحدث حسب معارفك العلمية التي بلا مصدر.
يا أستاذ نحن لسنا فلاحين نجلس علي مصطبة.


13 - تعليق
ايدن حسين ( 2015 / 1 / 26 - 06:57 )

تحية طيبة
الروح هل يمكن ان يكون طاقة
السيارة .. عندما يتكون فيها طاقة من حرق البنزين .. فهو يتحرك مثلا .. لكن هل تحس او تشعر او تفكر السيارة
الكومبيوتر .. المغذى عن طريق طاقة الكهرباء .. هل تشعر او تفكر او تختار
الروح حتى لو كانت طاقة .. فلابد ان تكون طاقة فريدة من نوعها
الطاقة هل هي محدودة المكان او غير محدودة
الطاقة الحرارية مثلا محدودة المكان .. لاننا لا يمكن ان نسخن جميع الكون عن طريق مدفاة او حتى عن طريق شمس واحدة
و الطاقة تنتقل من مكان الى اخر .. و هذا يثبت انها تشغل حيزا او تتواجد في منطقة واحدة
و تقبلوا سلامي
..


14 - تعليق
ايدن حسين ( 2015 / 1 / 26 - 08:08 )

تحية طيبة
الروح هل يمكن ان يكون طاقة
السيارة .. عندما يتكون فيها طاقة من حرق البنزين .. فهو يتحرك مثلا .. لكن هل تحس او تشعر او تفكر السيارة
الكومبيوتر .. المغذى عن طريق طاقة الكهرباء .. هل تشعر او تفكر او تختار
الروح حتى لو كانت طاقة .. فلابد ان تكون طاقة فريدة من نوعها
الطاقة هل هي محدودة المكان او غير محدودة
الطاقة الحرارية مثلا محدودة المكان .. لاننا لا يمكن ان نسخن جميع الكون عن طريق مدفاة او حتى عن طريق شمس واحدة
و الطاقة تنتقل من مكان الى اخر .. و هذا يثبت انها تشغل حيزا او تتواجد في منطقة واحدة
و تقبلوا سلامي
..


15 - فلسفة العلم في آخر طبعة
الكاتب ( 2015 / 1 / 31 - 06:58 )
،
أخيراً استبان العلماء أنه لا يمكن اختزال البيولوجيا والسيكولوجيا إلى اللفيزياء ، بل ولا يمكن حتى اختزال الفيزياء نفسها إلى مبدأ عام إمبريقي ، وقد فتح ذلك الاستبيان الباب أمام العلماء في شتي فروع العلم إلى التواضع ، فاللايقين صار المرجع أمام كل اكتشاف منذ أرسى هايزنرج مبدأ اللاتعين ومنذ عصف كارل بوبر بالاستقراء ، ومنذ ذهب تلميذه بول فييرا آبند إلى ما هو أبعد بتوضيحه أن المنهج العلمي لا يتعدى حبس المعرفة في نسق أيديولوجي ٌ، والأيديوجيا بالطبع هي وعي زائف ، كما أنه ليس وحده - المنهج العلمي - الجدير بالتوقف عنده فثمة مناهج أخرى ينبغي وضعها في الاعتبار . كل . هذا قد جعل فلسفة العلم في عصرنا ترتضي عبارة بول فييرا آبند الشهيرة - كله ماشي -والتي يمكن ترجمتها بتصرف إلى تعبير : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

اخر الافلام

.. مصادر: مقتل مسؤول في منظومة الدفاع الجوي لحزب الله بغارة إسر


.. قبيل عيد الفصح.. إسرائيل بحالة تأهب قصوى على جميع الجبهات| #




.. مؤتمر صحفي لوزيري خارجية مصر وإيرلندا| #عاجل


.. محمود يزبك: نتنياهو يفهم بأن إنهاء الحرب بشروط حماس فشل شخصي




.. لقاء الأسير المحرر مفيد العباسي بطفله وعائلته ببلدة سلوان جن