الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكرنفالية وتعدد الأصوات في رواية - كلما رأيت بنتًا حلوة أقول يا سعاد -

هويدا صالح

2015 / 1 / 26
الادب والفن


الكرنفالية وتعدد الأصوات في رواية " كلما رأيت بنتًا حلوة أقول يا سعاد "
د. هويدا صالح

صدرت رواية : " كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد " لسعيد نوح عام 1995 ، وقد لفتت حين صدورها انتباه النقاد لما فيها من مغامرات جريئة في السرد ، لم تكن مسبوقة بهذا الشكل قبل هذا التاريخ ، فبالإضافة إلى تعدد الأصوات ، هناك أيضا تعدد في مستويات السرد.
صحيح أن هذه الرواية حافظت إلى حد ما على وجود الحبكة الدرامية التقليدية ، كما حافظت على وجود الشخصيات ، إلا أن مغامراتها كانت في هذين المحورين السابقين ، الكرنفالية ، وتعدد طرائق السرد.
حدث وحيد فجر كل طاقات السرد في " كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد " هو موت سعاد الشخصية الرئيسة التي يدور حولها السرد.
منطلق السرد هو لحظة الموت التي افتتح بها الرواية ، فالبطلة عادت من العمل متعبة ،ثم ماتت ، هكذا هو محرك السرد في كل الرواية ، وبلحظة الموت تلك يبدأ السارد العليم نسج فضاء روايته. يتوهم القارئ حين يقرأ المفتتح أنه سيكون أمام سرد حيادي يراهن على سرد الحكاية الأهم ، حكاية موت البطلة ، فيقدم لنا الكاتب : " كمن يودع الموتى " بلغة تبدو حيادية وشفافة ، يقدم لنا ما يشبه التقارير الصحفية ، يثبت من خلالها مشهد الموت ، وينسج حوله تقاطعات الأبطال مع المشهد : " قال سعيد للرجل الذي يحاول أن يضع المروحة الكهربائية أمام وجه سعاد : لماذا ماتت سعاد ولم أمت أنا ؟
كان يوم الاثنين الثاني عشر من يناير 1993 يوما باردًا جدًا .. لم ينتظروا وصول كل أعمام سعاد وذهبوا بها في تمام الحادية عشر مساءاً ، هكذا أشار الشيخ مجدى أخوها الأكبر .
يوم الخميس الرابع عشر من يناير دخل الأب شقة ابنه الأكبر مجدى ، وجده يرقص وهو يبكي .. أمسك الأب بالفوطة وربطها على وسطه وابتدأ المبارزة .
يوم السبت الموافق 29 من يناير وقع سعيد على الأرض وخرجت الدماء من فمه ، ودخل حجرة الإنعاش . يوم الاثنين الموافق 31 من يناير تخلص الأطباء من حمل هويدا زوجة سعيد ." ( نوح ـ 1995 ـ ص 10 ) .
هذا هو المستوى الأول من السرد ، ولكن هل أكمل سعيد نوح روايته بهذه اللغة ، اللغة الشفافة التي تؤدي دلالة مباشرة ؟
في الحقيقة نوّع سعيد نوح بين طرائق السرد في هذه الرواية ، فنجد مستويات سردية أخرى ، مثل أسلوب الخطابات و اليوميات، كذلك القصائد الشعرية ، وتحليل الخطابات المعرفية .
لأول مرة في عمل سردي نجد قصائد شعرية لشعراء آخرين تُضمَّن العمل ، وتتناص مع حالة الموت التي قدمها الكاتب ،فها هو عماد أبو صالح الشاعر التسعيني ، الذي بدأ مشروعه الشعري في ذات التوقيت الذي بدأ فيه مشروع سعيد نوح الروائي ، وفي نوع جديد من الإيهام بالسيرذاتية ، ها هو يقدم مرثية لسعاد التي رحلت في مفتتح السرد : " سعاد
ضحكتها الأخيرة
ممتزجة بالملاءة الزرقاء
لو كنت مكانكم ما غسلتها أبدا
لتظل مجلجلة في فضاء الحجرة
هذه البنت المشاغبة
لا تقلقوا عليها
وقولوا لأمها تستكمل أدوات مطبخها
ألم تستحم جيدا وتلبس
- آخر مرة -
ثوباً أبيض ؟
إنها ذهبت لتوقع أحد الملائكة في حبائلها ،
لتعود به ذات يومً
وتغيظ بنات عمها
عماد أبو صالح " ( نوح ـ 1995 ـ ص 20 ) .
لا يدّعي سعيد نوح التخييل و الإيهام ، بل يكتب في نهاية القصيدة توقيع الشاعر عماد ابو صالح ، وهذا يُعتبر أحد تجليات جِدَّة وخصوصية هذه الرواية .
مستوى سردي آخر من مستويات السرد الشعري الكثيف يسوقه الكاتب على لسان أحد شخوصه ، وهو خالد هارون خطيب سعاد ، بل ويزيد الكاتب من توثيقه للسردية بذكر تاريخها كنوع آخر من الإيهام بالسيرذاتية والواقعية ، وكأن هذا الخطاب على لسان خالد هارون هو خطاب واقعي تماما موثق بالتاريخ والساعة
: " 7 فبراير 1993
خالد هارون – 21 يناير 1993
إني امتدادك يا سعاد فمزقي سفني إذا اختلطت عيوني بغير مائك . يا حزني عليك يا حبيبتي ! الآن أسترجعك .. كنت دمى ، كيف استطعت أن أطيع ذلك الرجل في القبر ولا أبوس خدك ... كيف لم تمتد يدي إلى شعرك ؟! أنا أبحث الآن في طيات قلبي عن خصلة لشعرك قد تركتها لدي" ( نوح ـ 1995 ـ ص 21 ) .
كما نقرأ مستوىً جديدا من مستويات السرد ، وهو تيمة اليوميات والاعترافات ، نجدها في أوراق سعاد المنثورة ، سرديات شعرية يقدمها الكاتب بلغة اليوميات : "
- الذي لم أقله – بعد – سأقوله يا ناس
أوراق سعاد محمد
ورقة أولي – 17 يناير 1991
إلي سعيد في حفر الباطن
كانت تغني لسعيد ، وسعيد يقبع خلف التل ، تردد أن عد يا صغيري ، فقد أحضرت لك قطارًاً ودبابة يجلس عليها العسس وأصدقاؤك يقفون تحت الشرفة، ينتظرون أن تهلّ عليهم .. أنا يا صغيري ما زلت أدفئ لك اللبن في الصباح والمساء .. وأضع عليه ثلاث قطع من السكر ، كل يوم أضع ثلاث قطع من السكر على اللبن في المساء والصباح ، وأقول للغد لا تتأخر كثيراً ياغد، فسعيد سيعود حتما يا غد" ( نوح ـ 1995 ـ ص 37 ) .
ثم يأتي المستوى الأخير من السرد ، وهو صوت المؤلف الذي يناقش القارئ الافتراضي ، ويثير دهشته بتساؤلات وفرضيات في السردية التي عنونها الكاتب يصل ويسلم ليد الراوي العليم ، ويأتي فيها السرد على لسان سعيد نوح المؤلف الحقيقي : " ماذا أكتب بعد ثورنتون وايلدر
العين تظهر كتماني وتبديه
والقلب يكتم ما ضمنته فيه
فكيف ينكتم المكتوب بينهما
والعين تظهر والقلب يخفيه" ( نوح ـ 1995 ـ ص 113 )
ثم نخلص إلى الكرنفالية أو تعدد الأصوات التي تجلت تماما في رواية سعيد نوح ، تلك الكرنفالية ظهرت حين أتاح سعيد نوح لشخوصه ديمقراطية في السرد في أن يتحدثوا بلغتهم الخاصة ، ويعرضوا وجهة نظرهم التي تتقاطع أحيانا أو تتفق في أحيان أخرى ، فنجد بالإضافة للتضمينات التي ساقها بتضمين قصائد شعرية كمرثيات لسعاد مثل قصيدة عماد أبو صالح أو قصيدة ياسر شعبان ، نجد الشخوص تتحدث بصوتها الخاص ، فنجد فروقا شديدة التباين بين صوت خالد هارون، أو صوت ماجدة محمد أخت سعاد ، أو صوت محمد علي خطيب ماجدة ، أو صوت الأم ، أو صوت الراوي العليم الذي يسرد أجزاءًا كثيرة من الرواية ، أو حتى صوت سعاد نفسها من خلال أوراقها الخاصة المنثورة أو مذكراتها الشخصية ، وأخيرا صوت سعيد نوح المؤلف الحقيقي للعمل .
نجد صوت الراوي العليم الذي يعلم كل شيء عن الشخوص والأحداث ، ويروي لنا ما لم نكن حاضرين هناك لرؤيته : " البنت تنام دون حراك . النفس الخارج منها تتلقفه الملائكة الذين يفتحون عيونهم جيداً خوفاً من أن تخطف منهم . أخو البنت يعدو في الشقة ما بين النظر إليها والخروج إلى الشرفة. شيء ما ينتظر هذا الولد . أم البنت تمسك بأطرافها الباردة وتقول : رب يروّق عنك ، أبو البنت يمسك بكتاب الله ، هذا ما لاحظته الملائكة" ( نوح ـ 1995 ـ ص 75 ) .
ثم تتغير اللغة تماما حين يأتي صوت ماجدة محمد الذي يكون مختلفا تماما في مستوى اللغة ، وفي مستوى الوعي الذي تتحدث به الشخصية :
" يا مه فين بنتك يا مه ؟ رحت فين يا عروسة .. ردوا على .. هي راحت عند ربنا ، طب ليه خدها هي .. طب سابني أنا ليه .هاتها يا رب .. والنبي رجعها يا رب أنا هاعمل زيها واتحجب وأصلي واحفظ القرآن بس رجعها لي يارب أنا باحبها خالص .. مش هاشتمها تاني والله العظيم وهاعمل شغل البيت كله .هات لي أختي يارب .. أنا عاوزة أختي يارب" ( نوح ـ 1995 ـ ص 28 ) .
يزداد البون بين لغة بعض الشخصيات ولغة سعاد الشعرية ، حين يأتينا صوت سعاد نفسها من خلال أوراقها المنثورة : " ورقة ثالثة – 4 مارس 1990
إلي خالد هارون : كن على حذر ، ما هي إلا خطوة أولى تخطوها نحو البداية ، لذلك النبع دوامات وللجبل قمة . حذار أن تجوب قلبي لاهيا، فلي أشيائي ولك أشياؤك وزغب الربيع لا يحب الشتاء والبرد والدفء يؤلفان قلبا واحداً " ( نوح ـ 1995 ـ ص 41 ) .
سنكتفي بهذا القدر من الاستشهادات على الكرنفالية وتعدد الأصوات ، ونذهب إلى المبحث الأهم في هذه الدراسة ، وهو تجليات صورة المثقف التي قدمها سعيد نوح في روايته : " كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد " .
شخصية المثقف المطروحة في الرواية هي شخصية المؤلف الضمني الذي يظهر بصوته ، ويُشير إلى المؤلف الحقيقي سعيد نوح ، فشخصية الكاتب أو الشاعر التي تطرح من قبل الروائيين تعتبر إحدى تجليات صور المثقف ، فله دور في مجتمعه حين يساهم بنشر المعرفة أو الثقافة بطريقة ما .
المؤلف الضمني والمؤلف الحقيقي يتناص مع نصوص أدبية يحللها ويناقشها. المؤلف الضمني ـ الذي يحكي عنه المؤلف الحقيقي ـ محب للقراءة ، شغوف بالأدبية ، حريص على أن يتناص مع سرديات لها خلفيات مرجعية ومعرفية في ذهن المتلقي. يناقش سعيد نوح المؤلف الحقيقي ، وضعية المؤلف الضمني مع القارئ الافتراضي ، يناقشه ويناقش رواية : " جسر سان لويس " لـ ثورنتون وايلدر : " أحداث كثيرة لا بد مرت به حتى وصل إلي هنا داخل الحجرة الرطبة . أهم حدث من وجهة نظره ونظري مر به وأحب أن أحدثكم عنه هو حبه للقراءة وللأدب . ومن هنا أقول عنه إنه إنسان طيب . لا شك هناك أشياء كثيرة ساعدت على وجود تلك الطيبة . مثل عوامل وراثية وعوامل مناخية وعوامل دينية قبل موت سعاد بشهور قليلة كان قد أعاد قراءة رواية جسر سان لويس لكاتب اسمه ثورنتون واريلدر . وضمن أحداث الرواية فصل يحكي عن أخوين توأم وجدا على باب كنيسة ونشأ دخل الكنيسة ..... " ( نوح ـ 1995 ـ ص 110 ) .
هذا الجزء الذي يناقشه فيه القارئ يُعيد إلى أذهاننا فكرة الميتاسرد أو مناقشة الكتابة ، ومناقشة النص الذي يتناص معه. يقارن بين بطل رواية جسر سان لويس استبان الذي سار في الشوارع الخلفية يتتبع جنازة أخيه ، ولم يستطع أن يودعه كما يليق به لأن جزءا هاما من روحه يموت بموت أخيه ، وبين سعيد المؤلف الضمني حين وقف في مواجهة ذاته بعد موت أخته سعاد : " ومضت الجنازة الرهيبة في شوارع المدينة والقسيسون في ملابسهم السوداء ينشدون مزاميرهم الحزينة والشموع ترسل أضواء لا تبين في رابعة النهار . وتبعها استبان في الشوارع المحاذية ، وهو يلمحها من بعيد بين حين وآخر . كأنه إنسان عاش طول حياته في البرية بعيدا عن الناس إن النائم في الحجرة الرطبة فعل شيء مماثل مع أخته ولكني لست مخولا عنه وسوف أتركه يخبركم بما حدث " ( نوح ـ 1995 ـ ص 111 ) .
ثم يناقش سعيد نوح المؤلف الحقيقي ما قام به المؤلف الضمني سعيد حين أورد أحداثًا كان لها دور كبير في حياة الكثير من مثقفي فترة التسعينيات ، بل كان للمثقفين موقف يبدو باهتًا منها، وهي معركة حرب الخليج ، التي أسماها سعيد نوح " حفر الباطن " ويُشير إلى مشاركة الجيش المصري في بداية التسعينيات في تحرير الكويت من احتلال جيش العراق له. هذا الخفوت لصوت المثقف في مقاومة اشتراك الجيش المصري مع الجيوش الأجنبية في محاربة العراق انعكس بشكل قد يكون واعيا أو جاء عن غير وعي ، فحفر الباطن لا تأتي في أوراق سعاد المنثورة إلا في بضع جمل ، حدث هام مثل هذا يختزله الكاتب في جمل قليلة. سعيد نوح المؤلف الحقيقي يلوم ويعيب على مؤلفه الضمني أنه ابتثر حدث " حفر الباطن سرديا. بقراءة بسيطة لهذا ربما نقول ـ على حذر ـ هذا ابتثار لصوت المثقف الخافت من هذا الحدث : " النقطة الثالثة :أنكم لا بد قد عرفتم بعض الأشياء من خلال الصفحات السابقة عن حياة النائم، فأرجو منه أن يأتي بجديد، وأتمنّى أن يتكلم عن أشياء جاءت مبتورة في الصفحات الكثيرة السابقة مثل حرب حفر الباطن ومثل شخصية لينا إبراهيم زميلة سعاد " ( نوح ـ 1995 ـ ص 111 ).
يعود سعيد نوح للحديث عن حفر الباطن في نهاية الرواية ، وهذا له دلالة واضحة ، فهذا الحدث الذي أشرنا إليه من قبل كان محل خلاف بين المثقفين والنظام في تلك الفترة ، فحتما كان المثقفون يدركون أن محاربة جيش عربي لجيش عربي مريع ومخزٍ ، وأن هذه الجهود كان أولى بها العدو الصهيوني ، وفي ذات الوقت لم يكونوا متحمسين تماما لأن يزج بأبناء مصر في معركة مثل حفر الباطن أو عاصفة الصحراء أو غيرها من المسميات التي أطلقت على حرب الخليج الأولى.
إذن سعيد نوح بوعي أو بلا وعي يختم روايته بحديث باهت عن مثقف مأزوم شارك في حرب بين أخوة : " ما علىّ إلا أن أقطف قلبي وأشيله في شجرة السرو حين تتجه بوجهك إلي حفر الباطن وتترك أفق الروح خالية من موجك الإلهي ، زبد شدقيك حين تحكي لي عن طيور لم تكن ، ومراكب لا تعرف لغة العائدين . الموت اصطناع الإله لكل الفرحين .. علىّ أن أقر مخالفة العابرين وأفتش عن رامبو جديد ليدي الضعيفة وأكثر الدخول والخروج من باب الشرفة" ( نوح ـ 1995 ـ ص 124) .
ثم يتناص في هذه السردية الصغيرة التي ختم بها روايته مع قصة فرعونية لها دلالاتها التي تحيل إلى المعنى الذي طرحته قبل قليل ، وهي قصة " باتا و آنوب " فكلاهما أخوان ، اقتتلا خطأ أو جهلا ، ويحزن أحدهما لفقد الآخر بيديه، ويأتي صوت الأم التي ربما تحيل ذهن القارئ إلى مصر، وتطلب من الأب أن يذهب ويبحث عن الابن ، فربما يقدر على أن يعود به ، فهل استطاع سعيد نوح أن يعود بمثقفه المأزوم إلى دوره الذي فقده : " حين أعثر في كتبك على قصة " باتا " و " آنوب " لا أستطيع احتمال قسوة البتر وحدي لا أستطيع . تتساقط الدموع حين يأمر الملك باقتلاع شجرة الصنوبر التي عليها قلب باتا،ولكن حين يعثر آنوب على قلب أخيه لا أستطيع أن أرد على أمك وهي تدعوني للعشاء المُعدّ، ولما يتحول ثورًا أجدني مهيأة لأسقط ما تبقي في العيون من ماء مملح وأقسم ألا أبتسم في وجه خالد على الإطلاق .وأعلن مقتي الشديد على كتبك وأقول لأمي إن سعيد غاب كثيراً فتبيض عينا أمي عليك وأسمعها في الليل تهمس لأبي : سافر لسعيد يا محمد .. يجوز تقدر ترجعه"( نوح ـ 1995 ـ ص 125 ) .
كما نرى أن السرد الجديد سعى إلى اكتشاف سياقات توظيفية تنهض بالخطاب الأدبي إلى مستويات الوعي بجعل اللغة ليست مجرد أداة لتوصيل المعاني المباشرة ، بل تصبح اللغة محملة بطاقات دلالية كبيرة ، تحتاج إلى إعادة قراءة وتفكيك الدلالات، فحين يعمد المؤلف إلى مناقشة الخطاب الثقافي الديني ، وفكر العامة حول رؤيتهم للعلاقة الشائكة بين الدين الإسلامي والدين المسيحي اللذين يشكلان قطبين أساسيين في المكونات الثقافية للمصري، في جملة واحدة يطرح فيها إشكالية رؤية العامة للآخر المسيحي في المجتمع المصري ، وكيف أن البسطاء يرون أنه لن يدخل الجنة غير المسلمين ، حتى وإن اتصف ذلك الغير بصفات أخلاقية تؤهله لدخول تلك الجنة.
يتساءل سعيد نوح المؤلف في إحدى سردياته عن دخول إحدى بطلاته الجنة من عدمه ، لينا إبراهيم صديقة سعاد ، والتي اتسمت شخصيتها بكل ما هو جميل من أخلاق وسلوكيات ، وتموت هذه البنت محترقة، فيتساءل بخبث هل يدخلها الله الجنة ؟! وهذا التساؤل إنما يناقش من خلاله فكر العامة بأن الجنة مقصورة على المسلمين فقط دون غيرهم ، لأن دينهم ـ بحسب رأي العامة طبعا ـ هو الدين الصحيح والصواب ، وأن أهل الأديان السماوية الأخرى عليهم أن يدخلوا الإسلام. يفجر النص هذا التساؤل : لينا إبراهيم التي تعاملت بكل هذه الإنسانية طوال حياتها ، والتي كانت بارة بأبيها وأمها ، وأحبت أصدقاءها ، هل تعتبر شهيدة وتدخل الجنة لأنها ماتت محترقة ؟!
أعتقد أن هذا النقاش مع القارئ هو شأن ثقافي معرفي ، ودور من أدوار المثقف ، وهو مراجعة الأفكار والقناعات.
يقول سعيد نوح في ورقة من أوراق سعاد : " ورقة رابعة – 19 إبريل 1992
إلي لينا إبراهيم بطرس
زميلتي في العمل التي توفيت أمس محروقة
لينا بنت تجرب غسل الملابس بمسحوق غسيل عادي ، وتقول للولد الذي يحاول ملامسة جسدها في الباص ( يا غلس ) وتجيد الحساب ومجادلة بائع الطماطم ، حين يقول لها بثلاثين قرشا فتأخذه بعشرة ، ولها ثلاث أخوات هي أجملهن، ولينا لا تستعمل الحفاضات حين تفاجئها الدورة الشهرية وتستغني عنها بالأقمشة القطنية ، وتحب القصص الحلو ، الرومانسي منه أكثر، منذ أعطاها ابن الجيران مذكرات " العاشق إليا " ورغم ذلك ترفض أن يبوسها ذاك الولد فوق سطح البيت وهي تحط لأوزاتها الذرة الصفراء وتقول إن الله يراها رغم أنها لا تصلي إلا أيام الآحاد.
ولينا لا تستعمل المكياج من يوم أن حطته في فرح صديقتها " مايسة " وبعد يومين كانت البثور تغطي وجهها ومن يومها لم تعد صديقة " لمايسة " على الإطلاق ، وللينا ثلاث بلوزات بيضاء وزرقاء ولون يشبه عيونها .
ومنذ أكملت التاسعة ترفض أمها دخول المطبخ وتحط الأعباء المنزلية عليها ، وهي لا تشتكي من ذلك وتعد الحمام الأسبوعي لأخواتها وتبكي لما يرمي أبوها بسيجارته من شيش النافذة ويوعدها بالروح القدس أن يطفئها فيي المرات القادمة ، وللينا أغنية يعرفها كل الجيران منذ قالتها في عرس "خديجة " يوم الجمعة الفائت .. لينا هذه قد أحرقها الله يوم السبت الماضي ، فهل يدخلها الجنة ؟( نوح ـ 1995 ـ ص 43 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جزء من كتاب صورة المثقف في الرواية الجديدة الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ عام 2011.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر