الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفشل في إدارة موارد المجتمع ( 1 2 )

سعد محمد رحيم

2015 / 1 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


أحسب أن التعريف المختزل والموحي، المشترك ( من بين تعريفات لا تعد ) بين السياسة والاقتصاد، يمكن تلخيصه بالعبارة التالية؛ ( علم وفن إدارة موارد المجتمع لتحقيق النفع العام ). والمعروف أن كلاً من علمي السياسة والاقتصاد يوفران معايير ثابتة، وأخرى متغيرة للتأكد من حسن أداء تلك الإدارة للموارد من عدمه، وفيما إذا كانت قادرة على الوصول إلى الأهداف المبتغاة، أو إلى نقطة قريبة منها، أو بعيدة عنها. وكلما كانت الموارد المتاحة للإدارة أكبر كلما زاد التحدي، وتعقد العمل، في مقابل اتساع هامش الحركة والمرونة، وفرص الابتكار والإبداع. وحين نعاين واقع حال الاقتصاد العراقي بعد نيسان 2003، وفي ضوء ما وضحناه آنفا، نجد صورة فشل إداري كبير، في الحقلين معاً، قد يكون الأكثر سوءاً في التاريخ المعاصر.
فالمرء لا يحتاج إلى ثقافة تخصصية متعمقة في نطاقي علمي السياسة والاقتصاد ليحكم على إدارة موارد المجتمع العراقي في مدة الاثنتي عشرة سنة الأخيرة بالإخفاق الكارثي. والأدهى أن ما أتيحت لتلك الإدارة، في غضون هذه المدة، من موارد مالية تعادل أكثر من ثلاثة أضعاف ما أتيحت للإدارات السابقة منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921، أي خلال تسعين سنة.. وتكشفت درجة هذا الفشل الذريع بعد الانخفاض السريع في أسعار النفط في السوق العالمية ( من أكثر من 100 دولار للبرميل إلى أقل من 50 دولار له )، إلى حد الاضطرار إلى وضع الميزانية العامة للعام الحالي بعجز يقترب من 50% من مبلغ الموازنة. وبطبيعة الحال فإن اي متابع للشأن الاقتصادي العراقي سيشير إلى أن العامل الأهم في هذا المآل غير السار هو الفساد، ونهب المال العام، من دون رادع أخلاقي أو قانوني صارم، من غير أن ننسى الورم السرطاني الخبيث الذي تمدد في جسمنا الاجتماعي والسياسي، وهو العنف السياسي والإرهاب، ولا شك أن الفساد نفسه يغذي هذا الورم الكارثي ويتغذى منه.. إلا أن الفساد لم يكن سوى تحصيل حاصل لجملة أسباب، أولها باعتقادي طبيعة الاقتصاد الريعي الذي هو التسمية المناسبة، للاقتصاد العراقي. فضلاً عن هشاشة الدولة التي تكونت بعد سقوط نظام صدام، واحتلال العراق، وعدم وجود فلسفة واضحة لها.
ظل الاقتصاد العراقي ببعد واحد، ولم تبادر الحكومات المتعاقبة إلى تنويع مصادر الدخل القومي بجدية كافية، بعد أن كانت إيرادات النفط الضخمة تغطي عجز النفقات العامة من دون بروز مشكلات كبيرة إلى السطح، تجعل تلكم الحكومات إزاء تحدٍ حقيقي يجبرها على تنمية الموارد وتوظيفها في قطاعات الإنتاج المختلفة. وكان التدفق المستمر لعائدات النفط المالية الضخمة يستر الفشل المتكرر في توظيف الأموال، والوصول إلى الاستخدام الأمثل للموارد، البشرية منها والمادية.
وما تحقق من منجزات نسبية في ميادين الاقتصاد الوطني، خارج قطاع استخراج النفط، منذ عشرينيات القرن المنصرم وحتى نهاية سبعينياته، جاءت الحروب الكارثية بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية لتنخر أسسها، حتى إذا ما سقط نظام صدام في ربيع العام 2003، مع دخول قوات الاحتلال، انهار كامل البناء، وتكشفت حقيقة الأزمة المركّبة والمستعصية في بنية الدولة واقتصادها.
وها نحن نعيش اليوم في دوامة حلقة كارثية مفرغة، حيث العوامل السيئة والمعيقة والمخرِّبة، يدعم بعضها بعضاً، ويديم استمراره، حتى ليغدو من الصعب تعيين النقطة التي منها يمكن كسر تلك الحلقة، ومعالجة المشكلات المتلاحقة الولود داخلها. والمعروف أن الحقل الاقتصادي في العراق لا يشتغل باستقلالية، حتى وإن كانت نسبية، عن غيره من الحقول الأخرى، لا سيما السياسي منها.
على عكس الدول المتقدمة اقتصادياً، حيث العامل الاقتصادي، والمصلحة الاقتصادية، هما محرِّكا السياسة إلى حد كبير، نجد العكس في الدول المتأخرة إذ تصبح السياسة والإيديولوجيا والثقافة هي الموجِّهة للحياة الاقتصادية التي تبقى، بسبب ذلك، في حالة وهن وعجز وارتباك طوال الوقت. وليس المقصود بكلامنا هذا هو أن الحل يكمن في ترك الحقل الاقتصادي لآليات السوق ومقتضياتها. فهذه الحالة الأخيرة تفضي حتماً إلى توسيع الهوة الطبقية، وتسيّد أقلية غنية على ثروات المجتمع ومقدراته. ولكن، حتى مع الخيار الرأسمالي تحت ضغط ظروف العولمة، وهي أضعف الإيمان بطبيعة الحال، لابد من جعل السياسة العقلانية أداة رقابة وتقويم وتصحيح لتقلبات السوق واختلالاتها واختناقاتها.
إن مشكلات السياسة هي الأكثر تأثيراً في العمق، بمفاصل الاقتصاد الوطني. وأن الوضع السياسي إن كان في حالة استقرار أو فوضى ينتقل بتأثيراته إلى حقل الاقتصاد وما يتصل به من عمليات إدارة وإنتاج وسياسات وبرامج اقتصادية. وبعد أن تحوّلت السياسة إلى دائرة صراع أزماتية للاستحواذ على مصادر الثروة التي هي الأساس في تعزيز السلطة واتساع دائرة النفوذ صار الاقتصاد في مهب الريح، ومعرَّضاً لصدمات متلاحقة. وإذا ما عرفنا أن ما تبقى من هيبة الدولة تسترها وتديمها الثروة النفطية المتدفقة بغزارة، فإن اضطراب ذلك التدفق سيؤدي منطقياً إلى تخلخل الوضعين السياسي والأمني معاً، ويهدد كيان الدولة نفسه، ما لم تجد لنفسها مخارج استراتيجية تنقذها من التفكك.
إن الوصول غير المشروع، السهل، إلى مصادر الثروة السائبة نسبياً، أرسى دعائم مؤسسات المجتمع الأهلي الدينية/ الطائفية والعشائرية على حساب مؤسسات المجتمع المدني، فيما أضحت الأخيرة نفسها أحياناً، ساحة لاغتناء فئات متسلقة انتهازية طارئة عليها، وجدت فرصتها في استثمار هذا المجال المقبول والمشروع، لمصالحها الأنانية الخاصة. وفي كلتا الحالتين كان المشروع المدني الديمقراطي الوطني، وتنمية الاقتصاد، والسلام المجتمعي، هو الضحية.
ما نعاني منه ليس أزمة عابرة، أو مشكلة طارئة مثل تلك التي من الممكن أن تتعرض لها أكثر اقتصاديات العالم قوة، ناهيك عن الاقتصاديات الأضعف.. بل هو تعبير عن اختلال بنيوي فادح كان بعيداً عن الأنظار، نوعاً ما، لمدة طويلة بسبب الإيرادات الكبيرة للنفط لاسيما خلال العقد الأخير.. تلك الإيرادات التي تخفي غالباً حقيقة المشكلات والأزمات المستعصية والمزمنة في الحياة الاقتصادية المعتمدة على هبات الطبيعة، لا على الفعل الإنساني الخلاق والمنتج.
الهدر في الاستخدام
الاستخدام يخص الموارد البشرية، والموارد المادية.. ويتكامل استغلال كلا الموردين ويتسق في الاقتصاديات المتقدمة، والآخذة بالنمو.. وإذا كان العراق يعد من الدول التي تمتلك احتياطيات نفطية ضخمة، وربما كان صاحب ثاني أكبر احتياطي لهذه المادة الاستراتيجية في العالم بحسب بعض التوقعات، فإنه بالمقابل يمتلك موارد وثروات أخرى لا تقل أهمية عن النفط، ومنها الأرض الواسعة الخصبة الصالحة لزراعة منتجات متنوعة، ووجود معادن أخرى في باطن أرضها كالكبريت والفوسفات، فضلاً عن الثروة البشرية النوعية التي لم توظف إبداعياً وإنتاجياً.. ونعرف إلى أي حد تراجع الإنتاج الزراعي في العراق، فيما تضاءلت الاستثمارات في مجال الصناعات الاستخراجية غير النفطية، وانكمشت في مجال الصناعات التحويلية حتى كادت أن تتلاشى. وتوقفت معامل ومصانع كثيرة عن الإنتاج، سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص، لتشكل معامل ومصانع القطاع العام عبئاً ثقيلاً على ميزانية الدولة، بسبب وجود أعداد كبيرة من القوى العاملة فيها يتقاضون أجوراً ورواتب من غير مساهمة تذكر في العملية الإنتاجية. إلى جانب عن عدم قدرتنا على مواكبة التطورات في حقل الاقتصاد الناعم المتمثل بالمعلوماتية، والذي يعد مجالا استثمارياً هائلاً في وقتنا الحاضر.. ولا أعتقد ان ثمة دولة تعاني من بطالة مقنّعة كتلك التي نعاني منها في العراق. ونعرف أن نسبة عالية من السكان تحصل اليوم على دخول من غير أن تؤدي أية وظيفة إنتاجية. وبذا فإن جزءاً كبيراً من الميزانية التشغيلية تذهب إلى فئات ليس لها اي دور في خلق القيمة الفائضة.
لم نواكب التقدم النوعي الحاصل في ميادين التقنية والمعلوماتية، ليس من ناحية الاستفادة من جانبها الفني وحسب، وإنما من ناحية تدريب اليد العاملة التخصصية الماهرة لإدارتها، وجعلها حقلاً إنتاجياً يدر دخلاً كبيراً.. وفي الوقت الذي يتجه فيه العالم إلى خلق الحكومة الإلكترونية والحكومة الذكية فإن البيروقراطية العراقية التي ما تزال تتوسل في أداء عملها بتقنيات وأساليب أكل الدهر عليها وشرب، تعيق تقدم ميادين الاقتصاد كافة وتعد عامل هدر كبير للوقت والموارد.
في الاقتصاد الريعي، ومع عدم وجود سلطة قوية، وأرضية قانونية مستقرة، وجهاز قضائي فعال فإن النتيجة المنطقية هو استشراء الفساد في مفاصل الدولة الاقتصادية كافة. لاسيما وأن ثروات المجتمع تغدو مالاً سائباً غير محمي بسلطات أمنية وقضائية، وإجراءات ومؤسسات رقابة، وقوانين فعالة.
إن اقتصادنا ريعي اتكالي، يوفر المناخ لخلق فئة طفيلية شرهة، وشرائح اتكالية واسعة، تسعى للحصول على دخول من غير أن تفكر بأداء عمل إنتاجي نافع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال


.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟




.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال


.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق بشأن المقابر الجماعية في مستشف