الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنْ نعيد الاعتبار للحياة

سعد محمد رحيم

2015 / 2 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في زمن الخوف والعنف والخراب، أي لغة تفي بالغرض غير لغة الحياة؟. فالحياة لغة أيضاً. إنها لغة الطبيعة. لغة عالية لها نحوها وصرفها وبلاغتها؛ استعاراتها وتشبيهاتها ومجازاتها.. وهي قصيدة الطبيعة الكبرى.. القصيدة الجارية كنهر، الدائرة كالزمن؛ القصيدة الأبدية. لكننا فقدنا هذه اللغة، كما لو أننا تنازلنا عن حقنا في المقاومة.. حقنا في أن نستعيد ما تبقى من فرصتنا على هذه الأرض.. ولمصلحة من؟ لمصلحة أولئك الذين يفخخون حياتنا بالقلق والهموم والعتمة، ويضعوننا طوال الوقت تحت طائلة التهديد.
أترانا مسؤولين عما آلت اليه أحوالنا؟. أنستحق مصيرنا هذا؟. وإلاّ لماذا لم نعد نصغي لهمس الحياة؟، لصوتها الدافئ العذب المتطلب؟. لماذا صرنا نعيش الخوف من كل ما يمت بصلة للفرح والحب والجمال؟. لماذا بتنا نهدر طاقة الحياة الخلاقة، ونذعن لدعوات اليأس والإقرار بالخسران؟. لماذا علينا أن نستنزف فرصتنا الوحيدة في الحياة بالخوف والكراهية والكآبة؟. ما الذي جعلنا سلبيين إلى هذا الحد، حيث نرى عالمنا ينهار من حولنا من غير أن نمد يدنا لنوقف الكارثة؟. كيف جعلنا ثقافة الموت تسطو على عقولنا، وكأننا لسنا سوى أضحيات تنتظر دورها على مذبح قدر أعمى؟. لماذا ننقاد مستسلمين لما يريدونه لنا، أولئك الذين أعلنوا علينا الحرب كي نستقيل من وظيفة الحياة؟. لم علينا أن نغادر إنسانيتنا ودورنا ونكون أشباحاً، وأشباه موتى، غارقين في البؤس والتعاسة؟. كيف سمحنا لقوى الموت والظلام بالتسلل إلى نسيج حياتنا؟. ما الذي غفلنا عنه حتى نمكِّن ثقافة التخلف والانحطاط والجهل أن تزيح ثقافة التنوير والتحديث والحرية والمدنية؟.
هل فقدنا القدرة على أن نحيا على وفق طبيعتنا وفطرتنا السليمة بسبب العنف الذي يحيطنا والذي يتخذ اليوم له اسماً ذا رنين مرعب هو ( الإرهاب )؟ أم لأننا فقدنا القدرة على أن نحيا على وفق طبيعتنا وفطرتنا السليمة نما في تربتنا، جراء ذلك، هذا الفطر السام؟.
خوفنا من الحياة هو الذي يذلّنا في النهاية، هو الذي يجعلنا على غير ما نحن عليه.. الخوف من أن نكون أبناء الحياة، وجزءاً من الطبيعة؛ ذلك الجزء العاقل والمنظّم، والأخلاقي، والخلاّق. وبمرور الوقت ترشّح عن التمادي في توسيع مساحة الممنوع والمحرّم حولنا وإعلاء أسيجته الخوف من خوض المغامرة الكبرى؛ مغامرة الإبداع التي غالباً ما تصنع الحضارات، وكان ذلك دليلاً على الهزيمة، إقرارنا بالهزيمة.
خلاصة الأمر أن كثراً منّا يفتقرون إلى تمثل مبادئ الحياة؛ أو أنهم لا يفقهون من فن الحياة شيئاً.. وهذا باعتقادي لا يحتاج إلى شهادات أكاديمية وثقافة علمية وإنسانية عالية. ويمكن أن يكون شخص أمي مدركاً لها أكثر من آخر تخرّج في الجامعة، ونال شهادة كبيرة، لكنه يفتقر إلى ثقافة الحياة وفن الحياة. فهما، في النهاية، نتاج الفطرة السليمة وجزء من طبيعة البشر الداخلية. وإن كانت الثقافة تشذِّبها، وتجذِّرها، وتعطيها أناقتها ومعناها.
ثقافة الحياة هي إحدى أمضى وسائلنا لمواجهة ثقافة التدمير والموت.. ولا أقصد بثقافة الحياة؛ الثقافة الرومانتيكية العاطفية الحالمة، وإن كنت لا استبعدها أيضاً كجزء من موجِّهاتنا النفسية والقيمية والجمالية والمعرفية. فالرومانتيكية بزغت ردّ فعل على خشونة المدرسة الكلاسيكية وجفافها.. كما لست أعني بفن الحياة الاستسلام الأعمى للغرائز، ولا الفوضى، ولا العدمية، بل احترام حاجات الإنسان البيولوجية منها والنفسية والعقلية.. حاجاته إلى الأمان والطعام والحب والمشاركة، وتحقيق الذات والجمال. وفن الحياة، لا يعني كذلك نسيان القدر الحتمي؛ الموت، بل تقبّله كجزء من قوانين الوجود.. يستشهد أريك فروم في كتابه ( فن الوجود ) بمقولة لميستر إيكهارت في صيغة سؤال؛ "كيف بإمكان أي شخص أن يعيش دون أن يتلقى تعاليم فن الحياة والموت؟".
كانت الظروف التي عصفت بنا غير إنسانية وغير منصفة.. كان ضغطها أكبر من قدرة أجهزتنا العصبية، وكوننا النفسي والعقلي على احتمالها والتكيف معها. وكان هذا سبباً لحدوث عصاب جماعي، معقد، يعاني الآن منه الكثيرون. ولا أظنني أمتلك الأدوات المنهجية العلمية الدقيقة لتفسيره بعمق وشمولية كافيين. لكنه واقع حالنا للأسف. وهذا ما أدى إلى هروب جماعي إلى الدين.. لا إلى الرحابة الهادئة الرحيمة المشعّة لمغزى الدين، وإنما إلى الدين الشعبي.. الدين الذي تدعو إليه بعض من الفئات الطائفية.. فئات تجد استمرار نفوذها وسلطتها في إدامة حالة الأزمة والخلاف والاقتتال، بتعاليمها الحاقدة الخانقة والقاتلة.
إن من يحطمون بنيان حياتهم إنما يسمحون لشياطين الكراهية والشر والإرهاب أن تولد بين أنقاض ذلك البنيان.. فالإرهابيون، ومعهم المتعصبون جميعاً بمختلف أشكالهم ومسمياتهم، مهما أوتوا من وسائل عنف وقوة لا يستطيعون أن يهدموا سوى ذلك الجزء من بنية حياتنا التي جعلناها هشة، ضعيفة، قابلة للانكسار والتحطم. في مقابل حقيقة مؤدّاها؛ أن من يشعلون الحروب هم الخائفون من الحياة والكارهون لها..
في مقدمة كتابه الآنف الذكر يطرح أريك فروم الإشكالية بطريقة واضحة ودقيقة، وعبر أسئلة أساسية، هي أسئلة الوجود الأولى.. الأسئلة البكر المخصبة، المفعمة بالقدرة على الإزهار:
"الحقيقتان اللتان لا تحتاجان إلى تفسير هما: ( نحن نرغب بالحياة ) و ( نحن نحب أن نحيا الحياة ). لكن الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة هي: ( كيف نرغب أن نعيش؟ ). ( ما الذي نبتغيه من الحياة ). ( ما الذي يجعل الحياة ذات معنى بالنسبة لنا )".
ستخذلك الحياة إن لم تفهمها جيداً. والحياة غالباً لا تقدِّم نفسها جاهزة.. إنها موجودة، لكنها بحاجة إلى من يبتكر طريقته للوصول إليها.. إنها تزدهر بقدر ما تجد من أرواح مفعمة بالصبوات والأمل.. لست أدعو إلى التفاؤل الساذج، بل إلى إحياء فكرة الأمل الميتافيزيقية.. الأمل بأن شيئاً جديداً لابد من أن يكون قابعاً في رحم الواقع، وسيولد حتماً غداً، أو بعد سنة، أو بعد عقد من السنين أو أكثر.. الأمل الذي مادته شيء من الصعب تفسيره لكنه ينتمي لمنطق الحياة وجوهرها.. الحياة الحية، المعطاء، الولود. وهنا تحضر مقولتا الإرادة والفعل.. أقتبس من كتاب ( أثر الفراشة ) لمحمود درويش: "أترك الجانب الاخر من حياتي حيث يريد الإقامة، وأتبع ما تبقى من حياتي بحثاً عن الجانب الآخر منها".
نحن نمنع أنفسنا من أن نفكر، ونمنع أنفسنا من أن نحس ونتشرب جمال الحياة.. نمنع أنفسنا من أن نحيا، ونمنع أنفسنا من أن نبدع في أفق من الحرية والمتعة والجمال.. لا لأن الحياة تفشل في أن تهبنا معناها وكنوزها، وإنما نحن الذين نفشل في أن نكتشف فيها ما نحتاجه منها.. وإذا كنا نحب الحياة حقاً، فإن الهرب منها علامة جبن مقنّع.. وأحياناً، في التعاطي مع الحياة نخون طبيعتنا في سبيل مُثل زائفة، لسنا مؤمنين بها بجدية، وإنما تبنيناها لنتمم نكهة نفاقنا الاجتماعي.. مُثل تعادي، في حقيقتها الظاهرة أو الخفية، الخير والمحبة والجمال، وتسوِّغ العنف الرمزي منه والمقنّع والواقعي.. خوفنا من الحياة ليس شيئاً ورثناه عبر جيناتنا، وإنما هو شيء اكتسبناه بوساطة ثقافة وتربية خاطئتين.
لا يمكن لمجتمع كاره للحياة أن يبني حضارة، ويبدع ثقافة.. الحضارة والثقافة ابنتا الحياة الحيّة الحارة، الخصبة، الفوارة، المفعمة بالجمال.. إن كره الحياة هو نوع من العوَق النفسي، ونتاج للشعور بالنقص. وخطورته حين يتحوّل إلى خارج الذات.. أن تنكر على الآخرين حب الحياة، وأن تمنعهم من أن يعيشوا تجاربهم الخلاقة، وقصص حبهم، واتحادهم مع طبيعتهم الأصلية.
الخروج من سوداوية حياتنا وكآبتها لا يستدعي منّا افتعال كرنفالات فرح، والضحك في غير أوانه، على الرغم منّا.. وإنما ممارسة فن الحياة على وفق مبادئ عملية واقعية وصائبة؛ التغلب على مخاوفنا الزائفة أول المبادئ.. بناء الثقة في العلاقة مع الآخرين مبدأ ثانٍ.. الإيمان بالعلم والعمل وبقيم الحرية والعدالة مبدأ ثالث.. السلوك المدني في التعاطي مع المشكلات الشخصية والاجتماعية مبدأ آخر.. الأمل مبدأ أساس، وقطعاً، ليس هو الأخير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشدد مع الصين وتهاون مع إيران.. تساؤلات بشأن جدوى العقوبات ا


.. جرحى في قصف إسرائيلي استهدف مبنى من عدة طوابق في شارع الجلاء




.. شاهد| اشتعال النيران في عربات قطار أونتاريو بكندا


.. استشهاد طفل فلسطيني جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي مسجد الصديق




.. بقيمة 95 مليار دولار.. الكونغرس يقر تشريعا بتقديم مساعدات عس